
التشابه بين نظام هتلر ونظام صدام -2-
عندما نتحدث عن التشابه بين نظام هتلر ونظام صدام فأننا نجده من عدة جوانب, بعضها يتعلق بالسلطة، واخر بالسيطرة، وثالث بالتنظيم الاجتماعي، ورابع بالشأن الاقتصادي, رغم أن كلا النظامين ينتمي إلى سياقات تاريخية وسياسية مختلفة، حيث ان كلا النظامين كانتا استبداديتين، استخدم هتلر وصدام سلطتهما لتعزيز حكمهما من خلال القمع والعنف, استخدم هتلر جهاز الأمن ومخابرات الدولة لقمع المعارضين والفئات المستضعفة، بينما استخدم صدام جهاز الأمن والمخابرات (مثل جهاز الأمن العام والمخابرات العسكرية) لترهيب وتحجيم خصومه السياسيين.
و كل من هتلر وصدام استغلا الحروب لتعزيز سلطتهما. هتلر شن الحرب العالمية الثانية كوسيلة لتعزيز نفوذه وفرض الهيمنة، بينما أدت حرب العراق مع إيران (1980-1988) في الثمانينات والغزو الكويتي في 1990 إلى تكثيف السيطرة العسكرية والسياسية لدى صدام.
وكل هذه الخطوات تهدف في السيطرة وخلق الولاء المطلق للطاغية. ونكمل اليوم تشابه النظامين:
كان لكل من هتلر وصدام القدرة على استخدام وسائل الإعلام للأغراض الدعائية, لدعم خطابهم الحماسي وتعزيز سلطتهم، وبناء صورة إيجابية عن نفسيهما، وتعزيز الأيديولوجيات التي تبناها كل منهما, استخدم هتلر البروباغندا بشكل واسع عبر الإذاعة والسينما لنقل رؤى نظامه إلى الشعب , بالمقابل شكل صدام آلة إعلامية ضخمة تقودها وزارة الإعلام، حيث كان يتم تصويره كقائد عظيم ومخلص، في حين كانت الحقائق تُخفي أو تُحرف, حيث تم استغلال المؤسسات الاعلامية الحكومية للتلاعب بالرأي العام والسيطرة على المعلومات المتاحة للشعب.
وقد كانت ادوات هتلر للتأثير بالشعب الالماني هي:
1- الإذاعة:
كانت الإذاعة في فترة الثلاثينيات والأربعينيات وسيلة فعالة لنشر الأخبار والمعلومات, وقد استخدم هتلر الإذاعة لنشر خطبه وكلماته الحماسية، مما سمح له بالوصول إلى أعداد كبيرة من الناس في منازلهم, لقد كانت الخطابات تُبث بشكل دوري وتُصاغ بلغة تحفيزية, تلهم الحماس الوطني وتعزز شعور الوحدة.
كانت تُستخدم الملصقات بشكل واسع لنشر الرسائل الداعمة للنظام، حيث كانت تتضمن شعارات تحث على الوطنية وتُظهر 'العدو' في حالة ضعف، مما يُسهم في تعزيز الشعور القومي.
4-
تم دمج البروباغندا في النظام التعليمي، حيث تم تعليم الأطفال والشباب على قيم النظام النازي وتاريخ العرق الآري، مما ساعد على تشكيل جيل كامل من الألمان يؤمن بأفكار هتلر.
اما آلة الإعلام في العراق في عهد الطاغية صدام, فاعتمدت نظامًا إعلاميًا يعتمد على مبدأ السيطرة والدعاية، مستخدمًا أجهزة الدولة كمركز للتحكم في المعلومات وبث الرسائل الداعمة لنظامه, وأبرز خصائص هذا النظام تشمل:
كانت وزارة الإعلام هي المسؤولة عن ضبط المحتوى الإعلامي وإصدار البيانات الرسمية, تم استخدامها لتنفيذ الدعاية، وكان يتم التحكم بشكل صارم في جميع وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، مما يضمن عدم وجود أي معارضة.
2- التلفزيون والإذاعة:
لعبت وسائل الإعلام هذه دورًا هامًا في تصوير الطاغية صدام كقائد عظيم ومخلص, وكانت تُبث على مدار الساعة أخبار عن إنجازات النظام وتجسس وتضليل عن الأعداء. تميزت هذه البرامج بالعاطفية والمبالغة في الثناء على القيادة.
3- الصحافة والمطبوعات:
تم إغلاق الصحف المستقلة، وتم دمج الصحف الحكومية في مشروع سياسي يستهدف تلميع صورة النظام. كانت تُكتب المقالات بطريقة تحرض على الوطنية وتعزز الصورة المثالية لصدام.
واعتمد النظامان على:
اولا: إخفاء الحقائق: كان المسؤولون في كلا النظامين يمارسون الرقابة على الأخبار والمعلومات التي تُعتبر غير مرغوب فيها. كانت الصحف ووسائل الإعلام تمتنع عن نشر أي أخبار تُظهر العيوب أو الفشل، مما يخلق صورة إيجابية زائفة للنظام.
ثانيا: تحريف الحقائق: في بعض الحالات، كان يتم تحريف الحقائق لإظهار إنجازات النظام. على سبيل المثال، تم تصوير الفشل في الحرب على أنه انتصار، بينما كان يتم إخفاء الأرقام الحقيقية عن الضحايا والمعاناة.
ثالثا: فرض الخطاب الرسمي: أي شخص يخالف هذا الخطاب الرسمي يُعتبر خطرًا على الأمن الوطني، مما يُكرس مناخ الخوف الذي يمنع حتى التفكير في الانتقادات.
نتائج التضليل الإعلامي:
هناك العديد من النتائج المترتبة على استخدام هتلر وصدام للخطاب الحماسي والتضليل الإعلامي، منها: اولا: تشكيل الرأي العام: أدت البروباغندا المدروسة إلى تشكيل آراء الجماهير وتعزيز الشعور بالولاء للنظام، مما جعل الناس أكثر تقبلاً لسياسات القمع.. ثانيا: إضعاف المعارضة: من خلال السيطرة على المعلومات، تم تهميش جميع الأصوات المعارضة وتخويف المجتمع من التعبير عن الآراء المختلفة.. ثالثا: تعزيز الهوية الوطنية المزيفة: تم بناء صورة عن القائد كرمز للوطنية، مما جعل المواطنين يشعرون بأن مشاركتهم في الاحتفالات والانتصارات المدعومة إعلاميًا هي واجب وطني.
ثانيا: الرمزية والتقديس الشخصي
شجع كلا النظامين عبادة الشخصية, كان هتلر متمركزًا بشكل كبير في الثقافة والشعار النازي، حيث تم تصويره كمخلص للأمة, كذلك، بنى صدام حسين صورته كرمز للبطولة والفخر العربي، حيث كانت هناك تماثيل وصور له في كل مكان، مما ساهم في خلق صورة زائفة عن القائد الذي لا يُهزم.
عبادة الشخصية هي إحدى الأساليب التي استخدمها كل من أدولف هتلر وصدام لتعزيز سلطتهم وترسيخ نفوذهم على المجتمعات التي حكموها. اعتمد كلا النظامين على الرمزية والتقديس الشخصي لبناء صورة مثالية عن الزعيم، مما ساهم في خلق ولاء أعمى وغير مشروط للنظام, عبر هذه الرمزية، وقام كلاهما بتطوير شخصية مهيمنة تُعتبر مركز القوى والهوية الوطنية.
كان هتلر يمثل تجسيدًا للقوة والنقاء العرقي، حيث تم تصويره بمثابة المخلص للأمة, واعتمد على:
اولا: الخطاب الزائد: استخدم هتلر لغة تحريضية في خطاباته، حيث كان يتحدث عن تجسيد الشعب الألماني وأحلامه في بناء 'الإمبراطورية الثالثة'. استخدم مركزيته في الخطاب كوسيلة لتقوية ارتباط الجماهير بشخصه.
ثانيا: الرموز الثقافية: تم تناول رموز نازية مثل الصليب المعقوف والشعار النازي في كل مكان، حيث كانت هذه الرموز وسيلة لتوحيد الشعب الألماني حول أفكار هتلر، مما ساهم في ترسيخ صورته في الوعي الجماهيري.
ثالثا: السينما والتصوير الفوتوغرافي: أُنتجت العديد من الأفلام الوثائقية التي تروج لهتلر كقائد عظيم، مما ساعد في خلق صورة زائفة عن قوة غير قابلة للهزيمة. كانت الصور تُعاد صياغتها لتظهر هتلر كقائد تاريخي مخلص يعمل من أجل مصلحة الشعب.
في العراق، اختار صدام حسين طرقًا مشابهة لهتلر لبناء صورته الشخصية والتقديس الذاتي.. واهمها:
اولا: الصور والتماثيل: انتشر في أنحاء العراق العديد من التماثيل والصور لصدام حسين، مما جعل من الصعب على المواطن العراقي تجنب الرمزية المرتبطة بشخصه. كانت هذه الصور تجسيدات للبطولة والفخر العربي، مما أعطاها صبغة دينية تقريبًا في نظر بعض الناس.
ثانيا: الخطابات والدعاية: كان صدام يروج لنفسه من خلال وصف نفسه كقائد بطولي يدافع عن الأمة العربية في وجه التحديات. استخدم خطاباته كوسيلة لتحفيز الحماس الوطني وتعزيز الشعور بالفخر، حيث كان يتم تقديمه كقائد يحارب من أجل الكرامة والسيادة.
ثالثا: احتفالات وعروض ضخمة: كانت تُنظم احتفالات ضخمة تُبرز قوة نظامه، حيث تُستخدم الموسيقى والتصوير الضخم لنقل انطباع عن عظمة القيادة, كانت هذه الفعاليات تُبرز صورة صدام كقائد، مما يعزز من ولاء الجماهير.
أدت جهود هتلر وصدام في تأسيس عبادة الشخصية إلى عدد من العواقب العميقة على المجتمعات التي حكماها: وهي: تآكل القيم الديمقراطية, حيث أضعفت عبادة الشخصية من عملية الحوار السياسي والتنوع، حيث أصبح أي شكل من المعارضة يُعتبر خيانة للوطن. هذا أسس لثقافة الخوف وعزز القمع. وثانيا: تفشي الفساد, حيث تركت عبادة الشخصية أثرًا عميقًا على المؤسسات الحكومية، حيث تركزت معظم القوى حول القائد، مما أضعف الهيئات الحكومية وساهم في زيادة الفساد وعدم الكفاءة... وثالثا: فقدان الهوية الفردية, حيث عاش الكثير من المواطنين تحت وطأة صورة القائد المتعالي، مما أدى إلى تآكل الهوية الفردية, أصبح الناس يرون أنفسهم في ضوء القائد، مما شجع على عدم التفكير النقدي, ورؤية الأمور من منظور مهيمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب/ اسعد عبدالله عبدعلي
العراق – بغداد
موبايل/07702767005

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اذاعة طهران العربية
منذ 37 دقائق
- اذاعة طهران العربية
ما هو رد المقاومة على دعوة نائب أمريكي لقصف غزة بالسلاح النووي؟
واعتبرت حماس أن هذه الدعوة تمثل "جريمة مكتملة الأركان" ودليلاً على "العنصرية الفاشية" التي تحكم تفكير بعض الساسة الأميركيين، مما يستوجب الإدانة من الإدارة الأميركية والكونغرس، الذي أصبح منصة لتبرير جرائم الاحتلال. وأشارت الحركة إلى أن هذه التصريحات تمثل "انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني" وتحريضاً على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أكثر من مليوني مدني. من جهتها، عبّرت حركة الجهاد الإسلامي عن استنكارها وغضبها من تصريحات فاين، معتبرةً إياها دعوة علنية لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. واعتبرت الحركة أن تشبيه سكان غزة بالنازيين أو اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية يُعد تحريضاً مباشراً على الإبادة الجماعية. كما دانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هذه التصريحات، واعتبرتها "جريمة حرب مكتملة الأركان" تعكس العقلية الأميركية المتطرفة. بدورها، حركة المجاهدين أدانت تصريحات فاين، ورأت فيها امتداداً للسياسة الأميركية المساندة للإرهاب، داعيةً أحرار العالم إلى رفض هذه التصريحات ومناصرة الشعب الفلسطيني. وكان النائب الجمهوري قد صرّح خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" بأن "القضية الفلسطينية قضية شريرة"، مشيراً إلى أن الحل يجب أن يكون مماثلاً لما حدث في الحرب العالمية الثانية.


ساحة التحرير
منذ 19 ساعات
- ساحة التحرير
منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري!كاظم نوري
منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري! كاظم نوري خطوة كانت في مكانها ولوانها جاءت متاخرة عندما اعتبرت روسيا انشطة 'منظمة العفو الدولية ' بانها جهة غير مرغوب فيها. ويفترض ان تكون هذه المنظمة ومقرها لندن فاعلة في مجال حماية حقوق الانسان لكنها تعمل بالضد من ذلك خدمة للاجندات الغربية؟؟ هذه المنظمة التي تحمل صفة ' دولية' زورا اخذت تبرر جرائم النازيين الجدد في اوكرانيا وتدعوا الى زيادة تمويلهم وتصر على عزل روسيا سياسيا واقتصاديا؟؟ لقد عرف عن هذه المنظمة ان اعضاءها يدعمون الجماعات المتطرفة ويمولون انشطة عملاء اجانب؟؟ وهناك منظمات عديدة ولجان تحمل اسماء ' دولية ' لكنها تنفذ اجندات امريكية وغربية منها مثلا اللجنة الدولية للطاقة الذرية ومقرها 'فينا' فان معظم مفتشيها الذين يحملون ' صفات دولية' يقدمون معلومات الى الدول الغربية خلال نشاطاتهم وزياراتهم للدول الاخرى المستهدفة غربيا ويقدمون تقارير ومعلومات كاذبة وقدحصل ذلك مع العراق وليبيا وحتى ايران. ومنذ وجدت هذه المنظمات التي تحمل اسماء ' دولية زورا' بهدف التزام الدول الاخرى بقراراتها فهي تنفذ اوامر واشنطن ولندن وقد حرصت الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية على ان تكون مقراتها في دول تسير على النهج الامريكي كما ان معظم كبار المسؤولين فيها يتم اختيارهم وفق رغبات الغرب وان نشاطاتهم لاتخرج عن اهداف دول الغرب الاستعماري ؟؟ موسكو كما هو معروف من الدول المؤسسة للامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية باتت تشعر ان هذه المنظمات التي يفترض ان تنشط باستقلالية بعيدا عن التعليمات الامريكية والغربية تمارس نشاطات بعيدة كل البعد عن النهج الدولي المستقل وكانت احدى هذه المنظمات' محكمة الجنايات الدولية' قد اصدرت حكما ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وامرا بالقاء القبض عليه في حال زيارة بلد ما وان على ذلك البلد ان ينفذ قراراتها كما اصدرت حكما ضد رئيس حكومة العدو الصهيوني نتن ياهو جراء المجازر التي ارتكبها ضد شعب غزة الا ان احدا لم يكترث بقراراتها فقد زار نتن ياهو هنغاريا دون ان تهتم بقرار المحكمة بالقاء القبض عليه. على روسا ان تلتفت الى بقية المنظمات والهيئات التي تحمل اسماء دوليية وتنفذ اجندات غربية وما اكثرها وان منظمة العفو الدولية التي اعتبرت موسكو قراراتها غير شرعية واحدة من تلك المنظمات التي يستغلها الغرب من اجل تنفيذ مشاريعه الاستعمارية في العالم بمنحها صفة دولية زائفة ؟؟ 2025-05-23


موقع كتابات
منذ يوم واحد
- موقع كتابات
مأساة الناصرية وإشكالية العقيدة التدريبية في الكليات العسكرية العراقية
قبل يومين، شهد موقع التدريب الميداني للكلية العسكرية الرابعة في محافظة ذي قار جنوب العراق مأساة مزدوجة تمثلت في وفاة متدربين اثنين وإصابة أكثر من 100 طالب بالإعياء وحالات إغماء نتيجة تعرضهم لاختبارات بدنية قاسية في ظروف مناخية قاسية تجاوزت فيها درجات الحرارة حدود التحمل البشري. وبينما سارعت وزارة الدفاع إلى إقالة عميد الكلية وآمر الفوج المختص وتشكيل مجلس تحقيقي، يبقى السؤال الأهم دون إجابة: ما الذي يدفع مؤسسات عسكرية إلى تكرار نفس الخطأ البنيوي في زمن تغيّرت فيه طبيعة الحروب والجيوش؟ الحدث لا يُقرأ كحادثة ميدانية معزولة، بل كعرض صارخ لأزمة أعمق في العقيدة التدريبية العسكرية العراقية، التي لم تواكب بعد متغيرات القرن الحادي والعشرين. فالمناهج التدريبية لا تزال أسيرة نماذج استنزافية بدنية تعود إلى عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت الجندية تقاس بمدى صلابة الجسد وقسوته. غير أن الجيوش الحديثة، في سياق التحول نحو الرقمنة العسكرية، والسيطرة السيبرانية، والأنظمة الذكية الموجهة عن بعد، باتت تُدار بعقول متخصصة ومهارات تكتيكية رقمية أكثر مما تُدار بعضلات تقاوم الصهد والتراب. إن ما حدث في استقبال الدورة الجديدة ليس فقط سوء تقدير ظرفي، بل فشل في استيعاب التحول الجذري في وظيفة الجندي. فبينما تتجه المؤسسات العسكرية الاحترافية في العالم إلى تقسيم برامج الإعداد وفق التخصصات الدقيقة – بين الميداني، والاستخباري، والرقابي، والتقني – لا تزال بعض الكليات في العراق تُخضع كل طالب للنوع نفسه من التدريب، دون اعتبار لفروقات التخصص، أو الفروق البيولوجية، أو حتى المؤشرات الحيوية المباشرة لحالته الصحية. هذه ممارسة لا يمكن وصفها إلا بأنها تدريب قسري لا يراعي لا المناخ ولا الإنسان. إن العقيدة العسكرية الحديثة، كما تبلورت في جيوش الدول المتقدمة، تقوم على التمييز بين الجهد البدني المطلوب لبناء اللياقة العامة، وبين الكفاءة العقلية والتخصصية المرتبطة بأدوار العمليات المستقبلية. فليس مطلوبًا من ضابط سيتولى قيادة طائرة بدون طيار أن يتحمل مسيرًا قاسيًا في حرارة 50 درجة، كما لا يُفترض أن يُجبر ضابط استخبارات على الركض لساعات في ميدان ترابي مكشوف وهو سيتعامل لاحقًا مع تهديدات رقمية معقدة تتطلب هدوءًا ذهنيًا، لا إرهاقًا عضليًا. والخطر الأكبر أن التدريب البدني القاسي – حين يُفرض بشكل شمولي وغير علمي – يتحول من أداة تأهيل إلى أداة قتل رمزي أو فعلي. وهو ما وقع بالفعل في الناصرية: اثنان من أبناء العراق سقطا قتلى لا في ميدان قتال، بل تحت سياط تدريب عقيم، فيما أصيب أكثر من مئة طالب بالإجهاد، بعضهم بأعراض حرجة. كل هذا في وقت يفترض فيه أن تكون الكليات العسكرية هي مراكز الاحتراف والانضباط والجاهزية، لا مراكز إرهاق عشوائي. الإقالات الإدارية – وإن كانت ضرورية من باب المساءلة – لا تمثل حلاً جوهريًا ما لم يُعاد النظر في الفلسفة التعليمية للمؤسسة العسكرية العراقية. لا يتعلق الأمر فقط بضبط توقيت التمارين أو توفير الظل والماء، بل بإعادة تعريف التدريب العسكري نفسه: هل ما زال الجهد البدني القاسي معيارًا لبناء الضابط؟ أم أن المعركة اليوم تحسمها المعرفة، والجاهزية السيكولوجية، والقدرة على التحليل الفوري في بيئات هجينة ومعقدة؟ إن مؤسسات التدريب العسكرية في الدول المتقدمة أصبحت تدمج بين التقنية، والطب الحيوي، والذكاء الاصطناعي، لتحليل قدرة المتدرب لحظيًا وتحديد حدود جهده القابل للتحمل. التدريب هناك لا يتسم فقط بالصرامة، بل بالدقة. أما في الحالة العراقية، فغالبًا ما يُفهم الانضباط على أنه التحمّل المطلق، وتُفهم القوة على أنها استنزاف، لا فعالية. من هنا فإن ما جرى في الناصرية يجب أن يُقرأ بوصفه لحظة اختبار حقيقية لمدى رغبة المؤسسة العسكرية العراقية في إجراء مراجعة جذرية لعقيدتها التدريبية. لا يكفي تغيير الأشخاص، ولا تقديم اعتذار بيروقراطي. المطلوب هو إعادة صياغة فلسفة الإعداد العسكري من جذورها، على قاعدة التفريق بين الرجولة العسكرية وبين الانتحار النظامي المقنن. ومثل هذه المراجعة لا تتطلب فقط شجاعة في الاعتراف، بل جرأة في التغيير الجوهري للمناهج، وللغايات، ولأدوات القياس. ففي عصر تحسم فيه الحروب عبر الأقمار الصناعية والهجمات السيبرانية والطائرات المسيّرة، لا تزال بعض الكليات في العراق تختبر جنودها عبر قسوة الشمس، لا عبر اختبارات الذكاء أو الجاهزية الذهنية. وإذا لم تتحول هذه المأساة إلى نقطة انعطاف في وعي المؤسسة، فسنظل نودّع أبناءنا لا في المعركة، بل في ميدان 'الاستقبال'.