
جولييت بينوش وتدجين الإبادة
إيطاليا تلغراف
عائشة بلحاج
صحافية وشاعرة مغربية.
أعادت النّجمة الفرنسية جولييت بينوش، في كلمتها في افتتاح مهرجان كان، تذكيرنا بنموذج التعاطف المنقوص الذي يفصلُ الضّحية من سياقها، لتنفرد بالمشهد مع تغييب المجرم، الذي لولاه لما كانت الضحيةُ ضحيةً. معاذ الله! ( في هذه المواقف) أن تكون إسرائيل دولة مجرمة يستحقّ قادتها جميعهم المحاكمة على جرائم الحرب التي ارتكبوها. فتحضر الطفلة هند رجب والمصوّرة الشابة فاطمة حسّونة مع كلماتهما الأخيرة، على ألسنة نجوم ونجمات سينما، في تعاطف مؤثّر لكن من دون تنديد.
الغزّاويون ضحايا؟… نعم. الإبادة حقيقة؟… نعم. تتعرض غزّة لهجوم وحشي؟… نعم. لكن من خلفَ ذلك كلّه، لا يهمّ. هكذا يحدث التعاطف مع أطفال فلسطينيين أُزهقت أرواحهم البريئة، وهكذا تتضامن شخصيات عالمية مع صحافيين اغتيلوا. لكن، من دون التطرّق إلى السياق، إلى القاتل.
تدجين الإبادة هذا أقلّ ما يوصف به هذا السلوك. فعندما تقصّ الضحية من المشهد، وتسحبها خارجاً، تحرمها من الحقّ في الإنصاف حتى بعد الموت، كأنّ موتها حدث عشوائي، كما قد يقصّ أحدهم ضحية من الحرب العالمية الأولى أو الثانية، من لائحة ضحايا حرب ضخمة بين دول كبيرة، في سياق الحديث عن آثار الحرب. ولو أن المجرم الأكبر في هذه من وجهة النظر الغربيّة هو هتلر وحده لا غير.
لكنّ الحرب على غزّة حربٌ من طرف واحد، على منطقة محاصرة ممنوعة من كلّ شيء. كيف تنتقي ضحية منها لتخصّها بالتعاطف؟… لو على الأطفال، فهم بعشرات الآلاف، لو على النساء فهنّ أيضاً كذلك، لو على الصحافيين فهم بالمئات. لا نقص في مخزون الضحايا، ويصعب الإلمام بظروف استشهادهم، لكنّ القاتل واحد ومعروف اسمه وفصله. وبالتالي، هو أدعى إلى الذكر، والإشارة إليه بإصبع واحدة تكفي لخلق الأثر المطلوب.
ربّما لو حدث هذا في بداية الحرب لكان مقدّراً. لكن الآن، هناك شيء أخطر يحدث في هذه اللحظة بالذات، وهو التجويع الكامل. وحين كنّا نظنّ أنه ما من شيء أكثر هولاً من القتل المجنون، جاء هذا الحصار ليقتل ما تبقّى، ولهذا هو أدعى للحديث عنه الآن لإيقافه. الموت جوعاً أسوأ من الموت بالقصف. على الأقلّ هذا الأخير يحدث في لحظة، بينما موت الجائع بطيء وطويل الأمد، في رحلة عذاب مهولة. فكيف إذا كان طفلاً؟
بالطبع، يحدُث هذا مع سكوت دول عربية تغضّ الطرف، وتواصل عقد الاتفاقيات مع الكيان المجرم، أمر مخزٍ، ودرجة انحطاط لم تحدث قط في تاريخ المنطقة العربية. حتى في أحط مراحلها، وفي فترات الاستعمار. مع ذلك، كان هناك موقف وسعي إلى إدانة المجرم. هذا الانخراط العربي كلّه في حلّ أزمة سورية، وهي أزمة عاش معها السوريون الأهوال (لا شكّ)، لكن ماذا عن أهوال غزّة، هل من مُنخرِط؟ وهل من دولة 'شجاعة'، أو من دولة تقول إنها ذات ثقل دولي وتمنح مئات المليارات من أجل أرواح غالية ونفسية تبقّت في غزّة.
عودة إلى الشخصيات المتعاطفة مع غزّة، بعضها وقف بالحرف ضدّ إسرائيل مع غزّة، وهي شخصيات كان لها موقف معاكس في الفترة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، مثل النجمة نتالي بورمان الأميركية الإسرائيلية التي رفضت أخيراً جائزةً إسرائيليةً لهذا السبب. لكن في السياق العام، عندما يريد المتعاطف أن يكسب الطرفَين، فهو يختار قصّةً مؤثّرةً يرويها وينجو من انتقاد المجرم، في موقف غريب يمسك فيه بيد القاتل والمقتول. مع أن أول ردّة فعل إنساني بعد حدوث جريمة، هو البحث عن القاتل، وتحويل مشاعر الحزن إلى سعي حثيث لمعاقبة المجرم. هذا الفعل الوحيد الطبيعي، أمّا اللجوء إلى الالتفاف على الجريمة فهو أمر لا يقلّ بؤساً. الضحية لا تحتاج إلى تعاطف مجزّأ، بل إلى إنقاذها إذا أمكن ذلك، أو منع تكرار الجريمة، التي لا تنفكّ تتكرّر كلّ لحظة.
المثال الذي ضربته عشرات من الأسماء الكبيرة في السينما العالمية بإدانتها 'صمت' العالم الثقافي في مواجهة الحرب في غزّة، وذلك في مقال رأي نُشر عشيّة افتتاح مهرجان كان السينمائي، خير نموذج للموقف الكامل الذي لا يلعب على الحبلَين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 12 ساعات
- الشروق
الرئيس تبون يستقبل الكاتب الجزائري 'ياسمينة خضرا' (فيديو)
استقبل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يوم الإثنين، الكاتب والروائي العالمي محمد مولسهول، المعروف بـ'ياسمينة خضرا'، الذي أهداه أحد كتبه. وحسب ما يظهره مقطع فيديو نشرته صفحة الرئاسة على فيسبوك، فقد أهدى مولسهول إلى الرئيس تبون روايته 'Les vertueux'، الصادرة عام 2022. وتحكي الرواية قصة شاب جزائري يحمل السلاح عام 1914 للقتال في صفوف الجيش الاستعماري، باسم ابن 'القايد'. مقابل تكفّل هذا الأخير بعائلة المجنّد الشاب في فترة الحرب العالمية الأولى. وفي 19 فيفري الماضي، عبّر الروائي الجزائري محمد مولسهول الشهير باسم 'ياسمينة خضرا'، عن 'فخره وامتنانه بتهنئته من قبل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون'، على الفوز الذي حققه بالجائزة العالمية للرواية في إسبانيا. وقال 'ياسمينة خضرا' في تصريح للتلفزيون الجزائري إنه 'يشكر رئيس الجمهورية، ويشيد باهتمامه بالثقافة والمثقفين'. مضيفا:'الرئيس تبون أول رئيس أتلقى منه التهاني، وهذا ما أشعرني بالفخر والسعادة'. ووصف الرئيس تبون الروائي المتوّج في تهنئته بأنه 'ابن الجزائر البارّ'، وقال إن تتويجه من قبل 'الدولة الصديقة' إسبانيا، 'يبرز قداراته العالية في مجال الرواية'. وأُعلن فوز ياسمينة خضرا بجائزة 'بيبي كارفاليو' الإسبانية للرواية البوليسية، نهاية جانفي الماضي. وتوّج بها يوم الخميس 13 فيفري بمناسبة مهرجان الرواية السوداء في برشلونة.


الشروق
منذ 2 أيام
- الشروق
'بابا نويل' الذي يأخذ ولا يُعطي
لو يرتدي الرئيس الأمريكي، لباسا و'شاشية' حمراء، ويطلق لحيته البيضاء، ما فرّق الناس، بينه وبين الصورة النمطية لـ'بابانويل' الذي، يقول أهل الغرب، أنه يطلّ في كل رأس سنة ميلادية، ليمنح الناس والأطفال والفقراء الهدايا والأمل، لدخول عام جديد من التفاؤل، ولا نظن بأن 'بابا' ترامب، يرى نفسه أقل شأنا من 'بابا' نويل، خاصة عندما يسافر إلى هنا أو هناك، ويجتمع بزعماء العالم، حيث يرى نفسه الخير كله، ويرى في معارضيه الشرّ، حتى ولو كان من هؤلاء الرئيس الأمريكي السابق، الذي يبدو أنه سيعيش في خطاب الرئيس الجديد إلى غاية نهاية العهدة الرئاسية. الفارق بين 'بابا نويل' وبابا ترامب، لا يعني الشكل، وإنما المضمون، فالرجل الثاني يظهر في كل الشهور والأماكن، والفارق الأهمّ أنه لا يُعطي أبدا، وإنما يأخذ وبشراهة، ويقول: 'هل من مزيد'؟ من جلسته الاختبارية مع زيلينسكي إلى جلسته مع القادة الخليجيين، كان الرجل يبدو وأنه مقتنع بأنه هو العالم، هو العدل والحق والخير، وليس أمام غيره سوى تطبيق تعليماته، أو دعونا نقول أوامره. يمثل ترامب نموذجا فريدا من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، هو رأسمالي نظريا ولكنه شيوعي التطبيق، يؤمن إلى حدّ النخاع بشعار الفيلسوف كارل ماركس: 'لا إله والحياة مادة'، فالرجل أحيانا عندما يتسلّم الكلمة، لا يسلّم على أحد، ويدخل مباشرة في حكاية صارت تتكرر، عن حاجة الولايات المتحدة الأمريكية للمال الغزير بمئات مليارات الدولارات، لأجل أن تحمي العالم من الإرهابيين، الذين يراهم أحيانا مثل البعوض، يمكن القضاء عليهم بأي مبيد في العالم، ويراهم تارة أخرى جبابرة، لا يمكن القضاء عليهم إلا بإغداق ملايير الدولارات على حامي العالم وحافظه من الأذى، الولايات المتحدة الأمريكية. الذين تساءلوا ذات مواعيد انتخابية أمريكية: لماذا لا تشارك شعوب العالم في الانتخابات الأمريكية؟ يبدو أنهم كانوا على حق، أو ربما استشرفوا ما هو قادم؛ فالرجل الذي طمع في بحر بنما وأرض غرينلند وسماء إيران، وأموال الخليج وصمت بقية بلدان المعمورة، سجّل تغيرا واضحا في السياسة الأمريكية، وقد يسير على نهجه من يخلفونه، ليدخل العالم في أحادية ظن كثيرون بأنها كانت تلفظ أنفساها الأخيرة عندما عصفت جائحة كورونا واندلعت حرب أوكرانيا والتهب سعر الغاز وجرف طوفان الأقصى ما كان في طريقه. في رسالة وداع سنة 1799 قال جورج واشنطن مؤسس الدولة الأمريكية إنه خائف على مستقبل الأمة الأمريكية. وفي اشتداد الحرب العالمية الأولى سنة 1918 قال الرئيس الأمريكي ويليام هاوارد تافت: 'الرؤساء يأتون ويذهبون، لكن محكمة الرب تبقى إلى الأبد'، وفي الحرب العالمية الثانية قال الرئيس الأمريكي روزفلت سنة 1942: 'ليس بإمكاننا دائما أن نبني المستقبل لشبابنا، لكن يمكننا بناء شبابنا من أجل المستقبل'. وقال جون كينيدي في سنة 1961 في عز الحرب الباردة: 'لا تسأل عما يمكن لبلدك أن يفعله لك، اسأل عما يمكنك أن تفعله لبلدك'. ويقول دونالد ترامب في سنة 2025: والعالم يدخل في نفق مظلم: 'أنا أتأسف لكم أيها التافهون، لكن معدل ذكائي عال جدا، لذلك أرجوكم لا تشعروا أنكم أغبياء أو حمقى، فهذا ليس ذنبكم'. ولكم أن تقارنوا بما قالوه.. وما قاله!


إيطاليا تلغراف
منذ 5 أيام
- إيطاليا تلغراف
جولييت بينوش وتدجين الإبادة
إيطاليا تلغراف عائشة بلحاج صحافية وشاعرة مغربية. أعادت النّجمة الفرنسية جولييت بينوش، في كلمتها في افتتاح مهرجان كان، تذكيرنا بنموذج التعاطف المنقوص الذي يفصلُ الضّحية من سياقها، لتنفرد بالمشهد مع تغييب المجرم، الذي لولاه لما كانت الضحيةُ ضحيةً. معاذ الله! ( في هذه المواقف) أن تكون إسرائيل دولة مجرمة يستحقّ قادتها جميعهم المحاكمة على جرائم الحرب التي ارتكبوها. فتحضر الطفلة هند رجب والمصوّرة الشابة فاطمة حسّونة مع كلماتهما الأخيرة، على ألسنة نجوم ونجمات سينما، في تعاطف مؤثّر لكن من دون تنديد. الغزّاويون ضحايا؟… نعم. الإبادة حقيقة؟… نعم. تتعرض غزّة لهجوم وحشي؟… نعم. لكن من خلفَ ذلك كلّه، لا يهمّ. هكذا يحدث التعاطف مع أطفال فلسطينيين أُزهقت أرواحهم البريئة، وهكذا تتضامن شخصيات عالمية مع صحافيين اغتيلوا. لكن، من دون التطرّق إلى السياق، إلى القاتل. تدجين الإبادة هذا أقلّ ما يوصف به هذا السلوك. فعندما تقصّ الضحية من المشهد، وتسحبها خارجاً، تحرمها من الحقّ في الإنصاف حتى بعد الموت، كأنّ موتها حدث عشوائي، كما قد يقصّ أحدهم ضحية من الحرب العالمية الأولى أو الثانية، من لائحة ضحايا حرب ضخمة بين دول كبيرة، في سياق الحديث عن آثار الحرب. ولو أن المجرم الأكبر في هذه من وجهة النظر الغربيّة هو هتلر وحده لا غير. لكنّ الحرب على غزّة حربٌ من طرف واحد، على منطقة محاصرة ممنوعة من كلّ شيء. كيف تنتقي ضحية منها لتخصّها بالتعاطف؟… لو على الأطفال، فهم بعشرات الآلاف، لو على النساء فهنّ أيضاً كذلك، لو على الصحافيين فهم بالمئات. لا نقص في مخزون الضحايا، ويصعب الإلمام بظروف استشهادهم، لكنّ القاتل واحد ومعروف اسمه وفصله. وبالتالي، هو أدعى إلى الذكر، والإشارة إليه بإصبع واحدة تكفي لخلق الأثر المطلوب. ربّما لو حدث هذا في بداية الحرب لكان مقدّراً. لكن الآن، هناك شيء أخطر يحدث في هذه اللحظة بالذات، وهو التجويع الكامل. وحين كنّا نظنّ أنه ما من شيء أكثر هولاً من القتل المجنون، جاء هذا الحصار ليقتل ما تبقّى، ولهذا هو أدعى للحديث عنه الآن لإيقافه. الموت جوعاً أسوأ من الموت بالقصف. على الأقلّ هذا الأخير يحدث في لحظة، بينما موت الجائع بطيء وطويل الأمد، في رحلة عذاب مهولة. فكيف إذا كان طفلاً؟ بالطبع، يحدُث هذا مع سكوت دول عربية تغضّ الطرف، وتواصل عقد الاتفاقيات مع الكيان المجرم، أمر مخزٍ، ودرجة انحطاط لم تحدث قط في تاريخ المنطقة العربية. حتى في أحط مراحلها، وفي فترات الاستعمار. مع ذلك، كان هناك موقف وسعي إلى إدانة المجرم. هذا الانخراط العربي كلّه في حلّ أزمة سورية، وهي أزمة عاش معها السوريون الأهوال (لا شكّ)، لكن ماذا عن أهوال غزّة، هل من مُنخرِط؟ وهل من دولة 'شجاعة'، أو من دولة تقول إنها ذات ثقل دولي وتمنح مئات المليارات من أجل أرواح غالية ونفسية تبقّت في غزّة. عودة إلى الشخصيات المتعاطفة مع غزّة، بعضها وقف بالحرف ضدّ إسرائيل مع غزّة، وهي شخصيات كان لها موقف معاكس في الفترة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، مثل النجمة نتالي بورمان الأميركية الإسرائيلية التي رفضت أخيراً جائزةً إسرائيليةً لهذا السبب. لكن في السياق العام، عندما يريد المتعاطف أن يكسب الطرفَين، فهو يختار قصّةً مؤثّرةً يرويها وينجو من انتقاد المجرم، في موقف غريب يمسك فيه بيد القاتل والمقتول. مع أن أول ردّة فعل إنساني بعد حدوث جريمة، هو البحث عن القاتل، وتحويل مشاعر الحزن إلى سعي حثيث لمعاقبة المجرم. هذا الفعل الوحيد الطبيعي، أمّا اللجوء إلى الالتفاف على الجريمة فهو أمر لا يقلّ بؤساً. الضحية لا تحتاج إلى تعاطف مجزّأ، بل إلى إنقاذها إذا أمكن ذلك، أو منع تكرار الجريمة، التي لا تنفكّ تتكرّر كلّ لحظة. المثال الذي ضربته عشرات من الأسماء الكبيرة في السينما العالمية بإدانتها 'صمت' العالم الثقافي في مواجهة الحرب في غزّة، وذلك في مقال رأي نُشر عشيّة افتتاح مهرجان كان السينمائي، خير نموذج للموقف الكامل الذي لا يلعب على الحبلَين.