logo
جون أوثرز يكتب: هل تنجح إسبانيا فى مواجهة ثلاثية السياحة والهجرة والسكن؟

جون أوثرز يكتب: هل تنجح إسبانيا فى مواجهة ثلاثية السياحة والهجرة والسكن؟

البورصة٢٩-٠٦-٢٠٢٥
على السياح الذين يقصدون مدينة برشلونة توخي الحذر، فقد يهاجمهم الإسبان بمسدسات مائية تارة، أو يلقون شرارات في المناطق المكتظة بالسياح تارة أخرى، في مشهد بات يتكرر على طول الساحل الإسباني الساحر المطل على البحر المتوسط.
يرفع بعض المحتجين لافتات تحمل عبارات من قبيل :'شقتك على (إير بي أن بي) كانت بيتي!' وأخرى، كتبوا عليها ببساطة :'عودوا إلى بلادكم'.
امتدت هذه الاحتجاجات إلى وجهات أوروبية أخرى جاذبة للسياح، وإن بقيت سلمية حتى الآن.
تسلّط هذه التحركات في إسبانيا ، الضوء على تناقضات تعافيها الاقتصادي اللافت على مدى العقد الماضي منذ أزمة منطقة اليورو، الذي جعل منها نموذجاً مصغّراً لثلاثة من أبرز التحديات التي تواجه الدول الغنية اليوم، هي الهجرة، وأزمة السكن، والتحوّل في قطاع الطاقة.
في بعض الجوانب، قد تبدو إسبانيا بمثابة النقيض للولايات المتحدة. ففيما تواجه الدولتان تداعيات الفقاعات العقارية التي انفجرت قبل نحو 20 سنة، ورغم تعافي كلّ منهما، فإن السياسات التي اتُبعت كانت متباينة إلى حدّ بعيد، وترزح الدولتان اليوم تحت وطأة ضغوط متزايدة.
كانت السياحة ركيزة أساسية في تعافي الاقتصاد الإسباني.
لكن البلاد لم تعد محصورة بشعار 'عطلات رخيصة تحت أشعة الشمس' الذي طالما جذب البريطانيين، فقد استقطبت العام الماضي 134 مليون زائر، بزيادة قدرها 10 ملايين عن عام 2023، أي نحو ثلاثة أضعاف عدد سكانها البالغ 48 مليون نسمة.
هذا رقم قياسي لم يُسجّل حتى في سنوات ما قبل الجائحة، ولم تتفوّق عليها سوى فرنسا، بينما جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة.
نشأ عن هذا النمو توسّع كبير في الخدمات الموجّهة للسيّاح، من بينها، كما يوضح رافاييل أورتادو من شركة 'أليانز' مستشفيات فاخرة، مثل عيادة 'بوشينجر فيلهلمي ' للصيام العلاجي في ماربيا، التي تستقطب الزوّار من مختلف أنحاء العالم بهدف خسارة الوزن.
لكن هذا الازدهار فاقم التوتّرات الناجمة أصلاً عن أزمة السكن التي يعاني منها السكان المحليون في المناطق السياحية، لا سيما مع الارتفاع الحاد في أعداد المهاجرين، الذي شجّعته الحكومة بشكل مباشر.
فقد استقبلت البلاد أكثر من مليون مهاجر خلال العام الماضي وحده.
وفي ظلّ هذه الأوضاع، تبدو الضغوط الاجتماعية حتمية لا مفرّ منها، وقدرة إسبانيا على التعامل معها قد يقدم درساً قيماً لبقية العالم.
الفقاعة العقارية
كانت إسبانيا الدولة الوحيدة التي عانت من فقاعة عقارية تجاوزت في حدّتها ما شهدته الولايات المتحدة.
فوفقاً لمؤشر 'إس آند بي كايس-شيلر'، ارتفعت أسعار المنازل في الولايات المتحدة بنسبة 130% بين عامي 1995 و2005، فيما قفزت في إسبانيا بنسبة 213%، وبلغت ذروتها بعد عامين.
الأسباب كانت متشابهة: أنظمة مالية ضعيفة التنظيم أغرقت السوق بالقروض السهلة، وتدفّقات عالمية ضخمة من الأموال تجاوزت قدرة القطاع العقاري على الاستيعاب.
كما أسهمت أسعار الفائدة المتدنية بمنطقة اليورو في جذب المصارف الألمانية إلى قطاع البناء الإسباني بحثاً عن عوائد لا تقدمها السوق الألمانية.
وبعد انهيار 'ليمان براذرز' في 2008، لجأت كل من إسبانيا والولايات المتحدة إلى زيادة الدين العام لاحتواء الأزمة.
وبعد خمس سنوات، بلغ دين القطاع العام نحو 100% من الناتج المحلي في البلدين.
لكن على عكس الولايات المتحدة التي تسيطر على عملتها ويمكنها طباعة المزيد منها، وجدت إسبانيا نفسها مقيّدة بعضويتها في منطقة اليورو، ما أجبرها على اعتماد سياسة تقشّف لتجنّب التخلف عن السداد.
واليوم، وبعد جائحة كورونا، تبلغ نسبة الدين العام 101.8% في إسبانيا و124.3% في الولايات المتحدة، ما يجعلها أكثر عرضة لضغوط متداولي السندات الذي يعاقبون الحكومات على سياساتها المالية، وسبق أن دفعوا إسبانيا نحو الأزمة.
قال إينيجو فرنانديز دي ميسا، رئيس شركة 'روتشيلد' في مدريد الذي شغل منصب وزير المالية الإسباني إبّان الأزمة: 'نحن اليوم في وضع مريح جداً لأننا اتّخذنا الخطوات اللازمة قبل عشر سنوات.. كلّ الدول الأوروبية التي تشهد نمواً، مثل اليونان وقبرص وإيرلندا وإسبانيا، أجرت إصلاحاتها قبل عقد' لأنها كانت مضطرة.
وأضاف في مؤتمر نظمته شركة 'يونيجيستيون' في مدريد الأسبوع الماضي، إلى أن تلك الضرورة تحوّلت إلى 'فرصة هائلة'.
أجرت إسبانيا إعادة هيكلة جذرية لقطاعها المصرفي.
ففي 2007، كان لديها 45 مصرفاً ادخارياً تعرف باسم 'كاخاس'، مملوكة بشكل تعاوني وغالباً ما كانت خاضعة لسيطرة سياسيين محليين.
واليوم، لم يتبقَّ منها سوى اثنين. في المقابل، تفادى القطاع المصرفي الأمريكي إعادة هيكلة مشابهة، فيما ازدهر القطاع المالي غير المصرفي، ويبدو أن مزيداً من التحرير في الطريق مع ترامب .
أما على صعيد العقارات، فقد تجاوزت أسعار المنازل في الولايات المتحدة اليوم ذروة فقاعة 2008 بنسبة 75%، ما فاقم أزمة القدرة على تملّك السكن.
أما في إسبانيا، فلا تزال الأسعار أدنى من مستويات 2007، غير أن المعروض لا يلبّي الطلب في المناطق التي يفضّل الناس العيش فيها، رغم كثرة أعمال التطوير العقاري في السابق.
فالمشاريع السكنية الضخمة التي شُيّدت في أماكن غير مرغوبة بقيت خاوية، بينما يتردّد المستثمرون الذين خسروا كثيراً خلال أزمة 2008، في البناء على نطاق كافٍ لتخفيف الضغط عن المدن والمناطق السياحية، ما يؤجّج الغضب الذي تنفجر على إثره الاحتجاجات.
الهجرة
في الوقت الذي تمضي فيه الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات صارمة تهدف لإعادة المهاجرين إلى بلدانهم، تسلك اسبانيا مساراً معاكساً تماماً.
فقد وصفت إلما سايث، وزيرة الهجرة في حكومة الأقلية اليسارية، عام 2025 بأنه سيكون 'محطة تُكرّس مكانة إسبانيا كمنارة للاندماج والتعايش مع المهاجرين'، مشيدة بإصلاح شامل دخل حيّز التنفيذ الشهر الماضي، يهدف إلى تسوية أوضاع نحو 300 ألف مهاجر غير موثّق سنوياً.
في الولايات المتحدة، تدفع الهواجس الثقافية نحو التضييق على المهاجرين القادمين من أمريكا اللاتينية، في ظل الاعتقاد أن السكان من أصول لاتينية يواجهون صعوبة في الاندماج.
أما في إسبانيا، فتنظر الحكومة إلى التقارب الثقافي مع أمريكا اللاتينية كأداة فاعلة لاستقطاب شباب موهوبين، ولا يطرح الاندماج قضية إشكالية بسبب اللغة، في حين لا يتوفر لدى أي دولة أوروبية أخرى مصدراً مشابهاً للوافدين الجدد.
حتى في الحالات التي تكون أكثر تعقيداً ثقافياً، تواصل إسبانيا تبنّي نهج ليبرالي لافت. فجزر الكناري تحوّلت إلى نقطة عبور رئيسية للوافدين من أفريقيا، في وقت بدأ فيه أبناء الجاليات الأفريقية يرسّخون وجودهم، كما يظهر في نجاحات لاعبي كرة قدم مثل لامين يامال وأنسو فاتي.
وفي 2024، وقّعت مدريد اتفاقات مع جامبيا وموريتانيا حول 'الهجرة الدورية'، تسمح للعمال بالقدوم والعمل بشكل قانوني ثم العودة إلى بلدانهم.
مع ذلك، فإن المسعى الجريء لتشجيع الهجرة يواجه معارضة.
فإسبانيا، على غرار باقي الدول الأوروبية الكبرى، تشهد صعود حزب شعبوي مناهض للهجرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقدّماً سريعاً لحزب 'فوكس'، الذي بلغ تأييده نحو 15% هذا العام، رغم أن حجم تأييده لا يزال جدّ بعيد عن المستويات التي حققها 'التجمّع الوطني' في فرنسا أو 'البديل من أجل ألمانيا'.
فالذاكرة الجمعية لحكم 'فرانكو' الديكتاتوري، الذي استمر حتى عام 1975، لا تزال حاجزاً أمام تمدّد أقصى اليمين، بخلاف ما يحدث في فرنسا.
لكن تدفّق المهاجرين بلغ مستويات غير مسبوقة. ففي عام 2013، خلال الركود الذي أعقب أزمة اليورو، غادر أكثر من 450 ألف شاب إسباني البلاد بحثاً عن فرص عمل في الخارج، وهو ما يزيد بأكثر من الضعف عن عدد المهاجرين الوافدين آنذاك.
وسرعان ما انقلبت المعادلة، فبحلول 2019، قبيل الجائحة، استقبلت إسبانيا 666 ألف مهاجر. وفي عامَي 2022 و2023، وصل عدد الوافدين إلى نحو 1.1 مليون شخص في كل عام.
ورغم هذا التدفّق الكبير، لم تتفجّر توتّرات اجتماعية كتلك التي شهدتها دول أوروبية أخرى، إذ ما تزال سوق العمل الإسبانية توفّر فرصاً كافية للوافدين.
ويضاف إلى ذلك أن انخفاض معدّلات الخصوبة، وهو اتجاه عالمي، يبدو أكثر حدة في إسبانيا، إذ سجّلت ولادة 1.19 طفل لكل امرأة في 2023، مقارنة بـ1.66 في الولايات المتحدة.
ومن هنا، قد تشكّل الهجرة رافعة ضرورية للنمو الاقتصادي في إسبانيا. لكن الدرس الأهم الذي قد تقدّمه التجربة الإسبانية للآخرين هو أن نجاح هذا النموذج يتوقّف على قدرة الوافدين على الاندماج، دون صدامات ثقافية.
الطاقة
تظهر إسبانيا بصورة متناقضة مع الولايات المتحدة في جانب آخر أيضاً، هو الطاقة.
فاليوم، توفر المصادر البديلة نحو 77% من الكهرباء في البلاد، في مقدمتها طاقة الرياح والطاقة الشمسية، إلى جانب الطاقة النووية. إذ قطعت إسبانيا شوطاً أبعد من أي دولة أوروبية أخرى في هذا التحوّل، واضعة هدفاً طموحاً يتمثّل في الوصول إلى كهرباء نظيفة بالكامل بحلول عام 2050.
ويستند هذا التحوّل إلى مزايا طبيعية تمتاز بها إسبانيا، مثل وفرة أشعة الشمس وساحلها الطويل.
كما يُسهم في التغلّب على إحدى نقاط ضعفها الجغرافية، المتمثلة في بعدها عن أبرز الدول المصدّرة للنفط، مثل روسيا.
وفي ظل افتقارها إلى احتياطات كبيرة من الوقود الأحفوري، تبدو الطاقة النظيفة خياراً أكثر جاذبية بالنسبة لإسبانيا مقارنة بالولايات المتحدة.
يُنظر في إسبانيا إلى أمرين باعتبارهما من المسلّمات: أولاً، أن تغيّر المناخ تهديد جدي، وثانياً، أن الاستثمار في مصادر الطاقة الجديدة قادر على تحفيز الاقتصاد.
إلا أن منتقدي الطاقة البديلة سجلوا نقاطاً لصالحهم، بعدما شهدت معظم أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية انقطاعاً كاملاً للتيار الكهربائي استمر 19 ساعة.
ورغم صعوبة تحميل مصادر الطاقة المتجددة وحدها مسؤولية ما حدث، فإن التقرير الحكومي الذي صدر الأسبوع الماضي والمؤلف من 182 صفحة، فشل في تقديم إجابات شافية على جميع التساؤلات.
وتشير المعطيات إلى أن الانهيار سببه مشاكل في ربط الشبكة الكهربائية الوطنية، لا خلل مباشر في مكوّنات الطاقة النظيفة.
ومثلما تحوّلت الهجرة إلى اختبار حاسم للسياسات، تضع هذه الحادثة إسبانيا في موقع اختباري لقياس جدوى أحد أكثر السياسات إثارة للجدل عالمياً: التحوّل في قطاع الطاقة.
المضي قدماً
من أجل تحقيق النجاح، على إسبانيا تسريع بناء المساكن التي هي في أمس الحاجة إليها، ومعالجة ضعف الاستثمار المزمن في شبكة الكهرباء، وإثبات أن فتح الباب أمام العمالة المهاجرة يمكن أن يحقق مكاسب للجميع.
يبدو أن اسبانيا تغرد خارج السرب في ملفات أخرى أيضاً، منها خلافها مع بقية دول الاتحاد الأوروبي إزاء خطّة 'الناتو' لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي، في حين لم يتجاوز إنفاقها الدفاعي 1.28% عام 2024.
ورغم تعرض الحكومة لفضيحة فساد، إلا أن عامل الوقت يصبّ في صالحها، إذ إن الانتخابات العامة غير مقرّرة قبل عام 2027.
ومع ذلك، فإن أيّاً من هذه القضايا قد يكون كفيلاً بتقويض الهامش الضئيل الذي أبقى رئيس الوزراء بيدرو سانشيز في السلطة.
حتى الآن، بقيت الاحتجاجات محدودة رغم أنها لافتة.
ففي برشلونة، لم يتجاوز عدد المتظاهرين أمام كاتدرائية 'ساجرادا فاميليا' 600 شخص، أي أقل بكثير من التوقّعات.
وذكرت صحيفة 'لافانجوارديا' أن من بين الحالات القليلة التي تطلّبت تدخّل الشرطة، واقعة إنقاذ سائح تعرّض لهجوم لفظي من متظاهرين كانوا يهتفون 'النازيون اخرجوا!' بعدما أثار غضبهم ارتداؤه قبعة 'لنعد لأمريكا عظمتها' المؤيدة لترامب. : إسبانياالاقتصاد العالمىالسياحةالعقارات
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الحروب والجغرافيا السياسية وأزمات الطاقة.. كيف ينجو الاقتصاد من كل كارثة؟
الحروب والجغرافيا السياسية وأزمات الطاقة.. كيف ينجو الاقتصاد من كل كارثة؟

البورصة

timeمنذ 6 أيام

  • البورصة

الحروب والجغرافيا السياسية وأزمات الطاقة.. كيف ينجو الاقتصاد من كل كارثة؟

حينما اجتاحت قوات أدولف هتلر، فرنسا عام 1940، ساد اعتقاد واسع بأن أوروبا واقتصادها يوشكان على الانهيار الكامل. لكن المستثمرين البريطانيين لم يشاركوا هذا التشاؤم. ففي العام الذي تلا الغزو، ارتفعت بورصة لندن، وبحلول نهاية الحرب، كانت الشركات البريطانية قد حققت عوائد حقيقية للمساهمين بنسبة بلغت 100%. ربما بدوا حينها وكأنهم فقدوا صوابهم، لكنهم أثبتوا صواب رهانهم وجنوا أرباحاً كبيرة، ورغم أن التهديدات المعاصرة لا تضاهي فداحة حرب عالمية، إلا أنها تبقى جسيمة. يتحدث المحللون عن ما يُعرف بـ'الأزمة المتعددة' التي بدأت مع جائحة كوفيد-19، والحرب البرية في أوروبا، وأشد أزمة طاقة منذ سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى التضخم العنيد، والهزات المصرفية، وأزمة العقارات في الصين، والحرب التجارية. أحد مؤشرات المخاطر العالمية يظهر زيادة بنسبة 30% عن متوسطه طويل الأجل، وتشير استطلاعات ثقة المستهلك إلى أن الأسر في الولايات المتحدة وغيرها باتت متشائمة بشكل غير معتاد حيال الأوضاع الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، تتهافت البنوك الكبرى في 'وول ستريت' على توظيف مستشارين في الشؤون الجيوسياسية لتحليل تطورات إقليم دونباس أو سيناريوهات غزو صيني محتمل لتايوان، حسبما نقلته مجلة 'ذا إيكونوميست' البريطانية. ورغم الفوضى، يواصل الاقتصاد العالمي طريقه بثبات، فمنذ عام 2011، حافظ معدل النمو العالمي على نسبة تقارب 3% سنوياً. حتى في ذروة أزمة اليورو عام 2012، استمر النمو، وكذلك في عام 2016، الذي شهد تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وحتى في عام 2022 مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ظل النمو عند حدود 3%. الاستثناء الوحيد كان في عامي 2020 و2021 خلال الجائحة، حين أدت عمليات الإغلاق الحكومية إلى توقعات بانكماش شبيه بالكساد الكبير. غير أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي حافظ على نمو سنوي بنسبة 2% خلال تلك الفترة، مع سنة من الانكماش أعقبها تعافٍ قوي. أثبت الاقتصاد العالمي، أنه أكثر قدرة على امتصاص الصدمات. وسلاسل التوريد، التي لطالما وُصفت بأنها نقطة ضعف، أثبتت مرونتها، كما أسهم التنوع في مصادر الطاقة، وتراجع الاعتماد على الوقود الأحفوري، في تقليص أثر تقلبات أسعار النفط. وعلى نطاق واسع، تحسنت السياسات الاقتصادية. وفقاً للرواية التقليدية، فإن مرحلة 'الاعتدال الكبير' التي اتسمت بالنمو المستقر والسياسات المتوقعة، استمرت من أواخر الثمانينيات حتى الأزمة المالية العالمية في 2007-2009، لكن ربما لم تنتهِ مع انهيار 'ليمان براذرز'. تشير بيانات صندوق النقد الدولي ، إلى أن 5% فقط من الدول تتجه نحو الركود هذا العام، وهو أدنى مستوى منذ عام 2007. بينما يبلغ معدل البطالة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أقل من 5%، مقترباً من أدنى مستوياته على الإطلاق، وفي الربع الأول من عام 2025، ارتفعت أرباح الشركات العالمية بنسبة 7% على أساس سنوي. أما الأسواق الناشئة، التي كانت عرضة سابقاً لهروب رؤوس الأموال، فأصبحت أكثر قدرة على تجنب أزمات العملة أو الديون، وبينما يدعي المستهلكون حول العالم شعورهم بالإحباط، إلا أنهم يواصلون الإنفاق، وبكل المقاييس، الاقتصاد يبدو على ما يرام. لا غرابة إذن أن يكون المستثمرون متفائلين، فعلى مدار السنوات الخمس عشرة الماضية، وبينما كانت الأزمات تتوالى، واصلت الأسهم الأمريكية ارتفاعها. واليوم، تتداول أكثر من نصف بورصات الدول الغنية بالقرب من أعلى مستوياتها التاريخية، ويواصل مؤشر 'فيكس' لقياس تقلبات سوق الأسهم الأمريكي الانخفاض إلى ما دون متوسطه طويل الأجل. ورغم تراجع الأسواق في أبريل الماضي عقب إعلان ترامب عن فرض رسوم جمركية تحت شعار 'يوم التحرير'، فإنها سرعان ما استعادت عافيتها، وكثير من المستثمرين باتوا يتبعون قاعدة واحدة عند انخفاض السوق: 'اشترِ عند التراجع'. حتى الشركات المعرضة مباشرة للمخاطر الجيوسياسية لا تثير قلقاً كبيراً، فالشركات الأمريكية المتأثرة بالرسوم الجمركية، مثل شركات الأدوات الرياضية، لم تتراجع كثيراً عن أداء السوق العام. وحينما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه عام 2022، انهارت بورصة أوكرانيا، لكنها عادت وحققت ارتفاعاً بنسبة 25% هذا العام. أما في تايوان، فالتباين صارخ بين تقييم المحللين والسوق، فبينما تُظهر المؤشرات التي تعتمد على المقالات الصحفية أن مضيق تايوان يمر بمرحلة حرجة، فإن المؤشر المستند إلى أسعار الأسهم لا يُظهر قلقاً كبيراً. إما أن يكون المستثمرون سذّجاً، أو أنهم – كما حدث في 1940 – يملكون حدساً أكثر دقة حول كيفية تطور النزاعات. هنا يكمن اللغز، جغرافيا سياسية فوضوية واقتصاد يبدو ساكناً. وهذا أمر غير معتاد تاريخياً، فالباحثون الاقتصاديون غالباً ما يربطون بين الاضطرابات الجيوسياسية وتدهور الأداء الاقتصادي. وأظهرت دراسة أعدها داريو كالدرا وماتيو ياكوفييلو من مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن ارتفاع المخاطر الجيوسياسية 'يُنذر' بتراجع في الاستثمار والتوظيف. بينما وجدت دراسة أخرى لصندوق النقد الدولي أن الزيادات في حالة عدم اليقين تؤدي إلى 'انخفاضات كبيرة في الإنتاج'. لكن ربما تغير شيء ما، إذ يقدم هيتس أهير وزملاؤه في صندوق النقد الدولي أدلة على ذلك. فمنذ عام 1990، أصبحت تداعيات حالة عدم اليقين على النمو الاقتصادي أقل حدة من السابق، وتشير التطورات الحديثة إلى استمرار هذا الاتجاه. المستثمرون يراهنون على أن الساسة والمنظمين والبنوك المركزية سيواصلون دعمهم في الأزمات وقد يكون السبب هو بروز نوع جديد من الرأسمالية، يمكن تسميته بـ'اقتصاد التفلون'، نسبة إلى المادة غير اللاصقة. فمن جهة، أصبحت الشركات أفضل من أي وقت مضى في التعامل مع الصدمات، مما يعني أن الأسواق تواصل عملها حتى عندما تنهار السياسة، ومن جهة أخرى، باتت الحكومات توفر مستويات غير مسبوقة من الحماية لاقتصاداتها. خلال السنوات الأخيرة، تعرضت سلاسل الإمداد لعدة صدمات، لكن السردية التقليدية التي تزعم أنها عرضة للفشل خاطئة إلى حد بعيد. خلال الجائحة، ارتفعت أسعار بعض السلع بشكل كبير، لكن ذلك كان نتيجة ارتفاع حاد في الطلب، وليس بسبب انخفاض المعروض. فعلى سبيل المثال، شحنت شركات صناعة الرقائق الإلكترونية 1.2 تريليون وحدة في عام 2021، بزيادة 15% عن العام السابق، ولم تكن هناك أزمة عرض، بل استجابة فعالة لطلب هائل. يُظهر مؤشر ضغط سلاسل الإمداد الصادر عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن الاختناقات ظلت ضمن المستويات المعتادة، حتى خلال الحرب التجارية التي أطلقها ترامب. كما أظهرت مراجعة لأداء 33 ألف سلعة استوردتها أمريكا بين عامي 1989 و2024، أن نسبة السلع التي انخفض استيرادها بأكثر من 20% رغم ارتفاع أسعارها بأكثر من 20%، وهي علامة على فشل فعلي في سلاسل التوريد، قد تراجعت بمرور الوقت. تتمتع سلاسل الإمداد الحديثة بالمرونة بفضل إدارتها الاحترافية، إذ تعمل شركات الخدمات اللوجستية المتخصصة على مستوى عالمي، مدعومة بمرافق تخزين ونقل متطورة. وأتاحت وسائل الاتصال الحديثة إعادة التوجيه السريع عند الحاجة، كما ارتفع عدد مديري سلاسل الإمداد في الولايات المتحدة بنسبة 95% خلال العقدين الماضيين. يعتقد بعض المستثمرين أن التحولات الهيكلية في الاقتصاد تلعب دوراً أيضاً. يقول ريك ريدر، مدير الاستثمار في أسواق الدخل الثابت لدى 'بلاك روك'، إن 'الاقتصاد القائم على الخدمات يتمتع باستقرار ملحوظ'. فمنذ عام 1990، انخفض إنفاق الأمريكيين على السلع خلال 27 ربعاً، بينما انخفض إنفاقهم على الخدمات خلال 5 أرباع فقط. كذلك، أسهم التوسع السريع في إنتاج النفط والغاز الصخري الأمريكي في تقليص اعتماد العالم على روسيا والشرق الأوسط. فعندما شنت روسيا حرباً ضد أوكرانيا، لم تحدث الركود العميق المتوقع في أوروبا. وأنتجت 'أوبك' العام الماضي أقل من 33 مليون برميل يومياً، بزيادة 12% فقط عن إنتاجها عام 1973، في حين تضاعف إنتاج باقي دول العالم إلى 64 مليون برميل يومياً منذ أزمة السبعينيات. كما أن كثافة استخدام النفط، أي الكمية المستهلكة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي، انخفضت بنسبة 60% منذ 1973، ولهذا، فإن أحداثاً مثل القصف الإسرائيلي والأمريكي لإيران بالكاد أثرت على أسعار النفط. ورغم أن مرونة سلاسل التوريد أمر مهم، إلا أن الأهم هو ألا ينهار الطلب الاستهلاكي مع كل موجة تشاؤم، والفضل في ذلك يعود بدرجة كبيرة إلى تدخلات الحكومات. ففي زمن الجائحة، أنفقت حكومات الدول الغنية أكثر من 10% من الناتج المحلي على حزم إنقاذ، وفي 2022، خلال أزمة الطاقة، أنفقت الحكومات الأوروبية ما يعادل 3% من ناتجها المحلي. وفي 2023، وسعت الحكومة الأمريكية بشكل كبير من ضمانات الودائع المصرفية، وعندما تسوء الأخبار، تسرع الحكومات إلى الإنفاق. بل حتى في غياب الأزمات، تواصل الحكومات الإنفاق تحسباً لأي طارئ، وتشير البيانات إلى أن متوسط العجز المالي في الدول الغنية يفوق 4% من الناتج المحلي، وهو أعلى بكثير من مستويات التسعينيات والعقد الأول من الألفية. كما تمتلك العديد من الدول التزامات ضخمة خارج الميزانية، أي التزامات محتملة قد تمثل عبئاً ضخماً مستقبلاً. وتبلغ قيمة الالتزامات غير المباشرة للحكومة الفيدرالية الأمريكية أكثر من خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن الدعم الحكومي للاقتصاد بات أشبه بشبكة أمان دائمة، تقلص من احتمالات حدوث ركود. ويحمل هذا النهج مزايا واضحة، فمن الأفضل العيش في عالم نادراً ما ترتفع فيه البطالة. وحتى خلال الجائحة، لم تتجاوز نسبة البطالة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نسبة 7%، كما أن خسارة الوظيفة يمكن أن تترك ندوباً نفسية واقتصادية طويلة الأمد، وتجنبها يعزز مستويات الدخل والصحة. أما أسعار الأصول المرتفعة باستمرار، فتصب في مصلحة من يمتلكون محافظ استثمارية أو حسابات تقاعد. إلا أن لهذا النظام تكلفة أيضاً، إذا نجحت الحكومات والبنوك المركزية في تأجيل الانهيارات المالية، فإنها بذلك تشجع على سلوك أكثر تهوراً، مما يزرع بذور ركود أعمق في المستقبل. في الأسواق الناشئة، تحقق تقدم كبير أيضاً، فأسعار الصرف المرنة أصبحت أكثر شيوعاً، والمصارف المركزية باتت أكثر احترافاً في تجنب الصدمات. وارتفع عدد البنوك المركزية التي تستهدف التضخم من خمس إلى 34 بين عامي 2000 و2022. كما أن أسواق السندات المحلية أصبحت أكثر تطوراً، ما مكن الدول الفقيرة من الاقتراض بعملاتها المحلية بمعدلات معقولة، وتقليص تعرضها للتقلبات العالمية. ورغم تراكم الأزمات، فإن نسبة الدين السيادي المتعثر في الأسواق الناشئة (باستثناء الصين) لم تتجاوز 1.2% من الناتج المحلي في 2023، مقابل 11.7% خلال أزمة عام 1987. رغم أن دولاً مثل مصر وباكستان تعاني من صعوبات، إلا أنها تتفادى التخلف عن السداد. غير أن لذلك ثمناً، إذ إن صعود الصين كدائن رئيس أعاق عمليات إعادة الهيكلة، بينما بات صندوق النقد الدولي والدائنون الرسميون يفضلون تقديم قروض تدريجية بدلاً من فرض التخلف عن السداد. ورغم أن حالات التخلف عن السداد قليلة، إلا أن 59 دولة كانت تحت ضغط مالي في 2024، وفقاً لتقديرات صندوق النقد والبنك الدولي، وهو رقم قياسي. يبدو أن العديد من مظاهر 'رأسمالية التفلون' ستبقى، سواء كان ذلك إيجاباً أم سلباً، فلا يبدو أن السياسات الاقتصادية في الأسواق الناشئة ستتراجع، ولا أن الصين ستسهل عمليات التفاوض مع الدول المتعثرة. كما أن الدول الغنية، التي تشهد شيخوخة سريعة، باتت تطالب بمزيد من الأمن الاقتصادي، بدفع من سياسات شعبوية. أما المستثمرون، فأصبحوا يتوقعون تدخلات إنقاذية عند أول إشارة أزمة، وسيواصلون 'الشراء عند التراجع'، لكن هناك خطرين كبيرين في الأفق، الأول هو ارتفاع أسعار الفائدة، ما يجعل من التوسع المالي أمراً مكلفاً. فمن المتوقع أن تنفق الولايات المتحدة هذا العام أكثر من 3% من ناتجها المحلي على خدمة الدين، أي أكثر مما تنفقه على الدفاع، وفي نهاية المطاف، ستضطر الحكومات إلى التقشف. أما الخطر الثاني فهو تصاعد الصدمات الجيوسياسية إلى درجة تفوق قدرة سلاسل التوريد الحالية على التحمل، مثل غزو صيني محتمل لتايوان، والذي قد يؤدي إلى انهيار إمدادات الرقائق الإلكترونية المتقدمة للغرب. في عام 1940، راهن مستثمرو لندن على أن انتصارات هتلر لن تدوم، أما مستثمرو 2025، فيراهنون على شيء أكثر تعقيداً، وهو أن الساسة والمنظمين والبنوك المركزية سيواصلون دعمهم في الأزمات، لكن الخطر الحقيقي هو أن تأتي الأزمة التالية ومعها فاتورة هذه الحماية الدائمة، وقد تكون باهظة.

العريان: باول يؤخر خفض الفائدة لتجنب ضغوط ترامب
العريان: باول يؤخر خفض الفائدة لتجنب ضغوط ترامب

المشهد العربي

time١٣-٠٧-٢٠٢٥

  • المشهد العربي

العريان: باول يؤخر خفض الفائدة لتجنب ضغوط ترامب

ذكر الخبير الاقتصادي محمد العريان أن هناك مخاوف من أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لا يتحرك لخفض الفائدة، حتى لا يقال عنه إنه تحرك تحت ضغوط سياسية من الرئيس دونالد ترمب. أوضح كبير المستشارين الاقتصاديين لدى "أليانز" في مقابلة مع "الشرق بلومبرج" أن باول ربما يريد أن يُذكر كمصرفي مركزي دافع عن استقلالية الفيدرالي. وأشار إلى أن الخطر هنا يكمن في أن تظل السياسة النقدية مشددة للغاية لفترة طويلة جدًا. جاء ذلك بعدما نشر العريان عبر منصة "إكس" رابطًا لمحضر اجتماع السياسة النقدية للفيدرالي، حيث أشار إلى انقسامات رئيسية داخل لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة.

خبير اقتصادي: الفيدرالي لا يرغب في خفض الفائدة لعدم الرضوخ لضغوط ترامب
خبير اقتصادي: الفيدرالي لا يرغب في خفض الفائدة لعدم الرضوخ لضغوط ترامب

bnok24

time١٠-٠٧-٢٠٢٥

  • bnok24

خبير اقتصادي: الفيدرالي لا يرغب في خفض الفائدة لعدم الرضوخ لضغوط ترامب

أكد الخبير الاقتصادي 'محمد العريان' أن هناك مخاوف من أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي 'جيروم باول' نفسه لا يتحرك لخفض الفائدة، حتى لا يقال عنه أنه تحرك تحت ضغوط سياسية من الرئيس 'دونالد ترامب'. وأوضح كبير المستشارين الاقتصاديين لدى 'أليانز' في مقابلة مع 'الشرق بلومبرج': أن 'باول' ربما يريد أن يذكر كمصرفي مركزي دافع عن استقلالية الفيدرالي، وأشار إلى أن الخطر هنا يكمن في أن تظل السياسة النقدية مشددة للغاية لفترة طويلة جدًا. وذلك بعدما نشر 'العريان' عبر منصة 'إكس' رابطاً لمحضر اجتماع السياسة النقدية للفيدرالي الذي عقد على مدار السابع عشر والثامن عشر من يونيو، وأوضح أنه يشير للانقسامات الرئيسية داخل لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة. موضحًا أن الانقسامات حول المدى المحتمل لتأثير التعريفات الجمركية على الأسعار، وعن كيفية تأثير الغموض على الآراء حول العدد المناسب لتخفيضات الفائدة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store