logo
فيروز تتلقى العزاء في نجلها ولبنان يودع زياد الرحباني

فيروز تتلقى العزاء في نجلها ولبنان يودع زياد الرحباني

BBC عربية٢٨-٠٧-٢٠٢٥
انطلقت مراسم تشييع الفنان المسرحي والموسيقي اللبناني الكبير زياد الرحباني الذي توفي السبت عن 69 عاما، فيما ظهرت والدته الفنانة فيروز في الكنيسة أثناء المراسم برباطة جأش لافتة وهي تودع نجلها وسط حضور فني وشعبي كبير.
يمكنكم مشاهدة الحلقات اليومية من البرنامج الساعة الثالثة بتوقيت غرينيتش، من الإثنين إلى الجمعة، وبإمكانكم أيضا الاطلاع على قصص ترندينغ بالضغط هنا.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين
زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين

العربي الجديد

timeمنذ 19 ساعات

  • العربي الجديد

زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين

يمثّل زياد الرحباني في نشأته الفنية ومراحل تطوره، موهبةً بزغت في بيئة ملائمة ضمن مسار نموّ طبيعي. تبقى في جيناتها بصمات وراثية من المنبع، ولا تلبث في جوهرها ومظهرها أن تكتسب هوية خاصة. كتب الكلمات، ولحّن، ووزّع الموسيقي، وألّف المسرحيات. زياد أخرج مسرحياته، أما تلك التي كتبها الأخوان رحباني، فكان إخراجها بتوقيع صبري الشريف، ثم برج فازليان. وفي الحالين، لم يكفّ عاصي عن التدخل الفني. لم يتولَّ زياد قيادة الأوركسترا لانشغاله بالتمثيل، وفي الحفلات الموسيقية تولّى مهمة العزف على البيانو. في البدايات، دخل هذه الفضاءات الموسيقية الغنائية والمسرحية من باب الأخوين رحباني ، ثم ما لبث أن صنع أبوابه، وأصبح يدخل ويخرج منها. لم يكن إنجاز الأخوين رحباني رجعياً، لينكره زياد حين أصبح الفنان الملتزم بالتوجّهات التقدمية، أو ليعلن الحرب عليه. حتماً لم يكن لديه موقف معادٍ لمجموعات روائع الأخوين عن فلسطين، ولم يستنكر الأغاني التي صاغاها عن الفلاحين والمعاول ومواسم الحصاد وجبهة العامل السمراء، والمواطن - الجندي الذي "راح مع العسكر" وأصبح برجاً مسوّراً (وسيرجع بأصوات البلابل وأغاني الحصادين وكتب المدارس). لم يستهجن النبرة المرحة في أغاني الشاويش، أو "بويا بويا" أو "جدي يا بو ديب". لم يرفض أغاني الحب من لون "طريق النحل". الخلاف كان واضحاً بشأن الأغاني التي اتُّفق على تسميتها "الوطنية"، ومردّه إلى أسلوب النظم. لم يستسغ زياد المبالغة في التغنّي بجمال لبنان إلى حد الطوباوية، خصوصاً عندما ترسّخت لديه نظرة واقعية تجاه المجتمع، يوم بدأ لبنان يفقد جماله مع اندلاع الحرب سنة 1975 وحدوث الانهيارات السياسية والاجتماعية والثقافية. في مقابلة صحافية أجرتها منى غندور (سنة 1980) قال بالحرف الواحد: "بعد الحرب بدأ الخط الرحباني "يعصّبني" وأتعب من سماعه. أحبّه في بعض الأحيان، لكنه حين يزيد أختنق. لا أفهم أن يقال بعد الحرب حكايات عن الغيمة الزرقاء والعصفور والسمّاعة التي تبكي. يجب أن يجرب الرحابنة نوعاً آخر". وفي جلسة معه في مطلع التسعينيات، أتينا على ذكر هذا النمط، فاستعاد ختام مغناة "موسم العز" وتساءل بسخرية: "معقول نغني اليوم: بعد الله اعبدوا لبنان؟ الناس مش عم يعبدوا الله بدك ياهم يعبدوا لبنان؟ معقول نرندح: القوي لبنان، الغني لبنان، الهَنا والجنى بسما لبنان. أي قوي؟ ما عاد عنده رجلين يمشي، وأي غني والفقر عم ينهش الناس؟ وأي هَنا بالسما وما في غير رصاص وقذايف وطائفية عم تكبر متل غول متوحش؟". صحيح أن الأخوين رحباني في البدايات بمهرجانات بعلبك، نظرا إلى لبنان بمثالية، وتغنّيا بصورة له كما يتمنّيانه، ليس كما هو عليه. والصحيح أيضاً أن هذه النظرة لم تقتصر عليهما، في مرحلة أنشد فيها وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما"، وغنّت صباح "يسلم لنا لبنان جنة أمانينا" (الأغنيتان للشاعر يونس الابن) وصدح صوت نجاح سلام بقصيدة أمين تقي الدين "الله يا لبنان ما أجملك". وبدءاً من "بياع الخواتم"، وصولاً إلى "بترا"، لم تكن مسرحيات الأخوين رحباني تحمل سمات لبنان المثالي الوهمي، بل لم تخلُ من نقد ومن غمز ولمز، كما هو الحال في "هالة والملك" و"الشخص" و"يعيش يعيش" و"ناطورة المفاتيح" وسواها. وفي "جبال الصوان"، هناك موقف صريح مؤيد للمقاومة ضد الاحتلال. تغنّى الأخوان عاصي ومنصور بلبنان الوطن وليس بلبنان النظام. وفي الإطار نفسه، أبدع زياد لاحقاً لحناً جميلاً، زاد من جماله صوت فيروز وهي تغني كلمات جوزف حرب "من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج". ليس الخلاف هنا بين زياد وأهله على حبّ لبنان، بل على طريقة حبّه، كأنما لهم لبنانهم وله لبنانه. نشأ زياد رحباني في بيت مفعم بالشعر والأنغام. وتعلم العزف ونظم قصائد وهو في عمر المراهقة، ثم خاض تجربة التلحين بأغان لخالته هدى حداد ولمروان محفوظ، إلى أن ظهر بقوة في المشهد الغنائي عندما أُعلن أن فيروز ستغني لحنه "سألوني الناس" في مسرحية "المحطة". كان زياد قد كتب ولحن أغنية لينشدها مروان محفوظ مطلعها "أخدوا الحلوين قلبي وعينيي/ أخدوا الليالي العشناها سوا"، لكن فيروز ومنصور طلبا اللحن، وعلى نغماته كتب منصور كلمات "سألوني الناس". ونجح اللحن نجاحاً كبيراً، واعتُمد زياد رحباني ملحناً أصيلاً يساهم في مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز. لم تغنّ فيروز ألحان زياد مجاملة لابنها، بل اعترافاً منها بموهبته الأكيدة. آنذاك، غنّت فيروز في ما غنّت: "قديش كان في ناس" و"ع مفرق دارينا" و"حبّو بعضن" و"يا جبل الشيخ"، وكانت تحمل بصمات زياد الرحباني الجميلة وتعبّر عن ذائقته الخاصة، لكنها في إطار الإبداع الرحباني العام. كذلك الحال وزياد لمّا يزل في الفريق الرحباني الكبير، فبقيت ألحانه لغير فيروز ضمن تقاليد الغناء الرحبانية مع احتفاظها بأسلوبه الخاص، مثل "خايف كون عشقتك" (مروان محفوظ) و"دلوني على عيون السود" (جورجيت صايغ) و"الحالة تعبانة يا ليلى" و"قلتي لي تاركتك ماشي الحال" و"أنا اللي عليك مشتاق" (جوزف صقر). شهد عام 1975 خروج زياد التدريجي من الانتداب الرحباني بقيادة عاصي ومنصور، إلى الاستقلال الذاتي. كان في عمر التاسعة عشرة، في مرحلة الرفض التي يعيشها الشباب (صراع الأجيال) وما ينجم عنه من شعور فطري غريزي لديهم بضرورة الثورة على تقاليد الآباء وعلى الأعراف التي مشت بوحيها الأجيال الماضية، مع عدم إغفال الظروف السائدة في المجتمع اللبناني، من تفاقم حدة الطائفية، والتشظي السياسي، ودويّ قذائف المدافع. في هذا الإطار، بدأ زياد الرحباني بتكوين قناعاته الفكرية والسياسية التي قادته إلى موقع مختلف. وبعد انفصال فيروز الفني عن الأخوين رحباني سنة 1979، تعاونت مع الملحنين: فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد محسن (بعض الموشحات). وتبنّت آنذاك ألحان زياد بإعجاب أكيد، وقالت عنها: "أحب فيها الجديد في التعبير الموسيقي والأدائي. للماضي أغنياته وذكرياته ومجده. المرحلة الرحبانية كانت ذهبية، أنا اليوم أجدد مع زياد". حملت أغاني تلك المرحلة بصمات زياد في "وحدن" (شعر طلال حيدر) و"حبيتك تا نسيت النوم" و"زعلي طوّل أنا ويّاك" (شعر جوزف حرب) و"أغنية الوداع" (شعر زياد)، لكنها لم تقطع الصلة بتقاليد الأخوين رحباني، ربما لتجنّب المخاطرة وصدم مَنْ اعتاد خلال عقود لوناً فيروزياً معيّناً. تدريجياً، بدأ الجمهور يتذوق التوليفة الجديدة: فيروز بثوب غنائي "زيادي" مبتكر. من أولى الأغاني التي تُنسب ألحانها إليه وحده وليس لسواه: "عودك رنان" و"اشتقت لك" وتنويعات "يا ليل". ويدرك المستمع ألحانه من النوتة الأولى تقريباً. 80% منها من روحه ومزاجه، وبها شيء من النغم المصري ومن الجاز. كان يحب سيد درويش وزكريا أحمد وتشعر بأطيافهما تحوم حول "بعتت لك" و"سلّم لي عليه". وتشعر بحب زياد لأغاني نجم-إمام في أغان من إبداعه التام، تسلك درباً مشابهة، مثل: "شو ها الإيام اللي وصلنا لها" و"بهاليومين" (رح ينقطع البنزين والماء والحليب، إلخ) و"الله يساعد الله يعين" و"أنا مش كافر" و"أمريكا مين". تقبّل الجمهور أغنية "البوسطة" لجمال لحنها، وطرافة فكرتها وصياغتها، وفيها فيروز تصف آخرين "واحد عم ياكل خس، ولوه شو بشعة مرته". هذه كلها تعابير واقعية من الحياة اليومية، لا صلة فنيّة تربطها بكلمات شعرية مثل "تعا ولا تجي". لكن ذلك الجمهور تفاجأ بصوت فيروز تغني "معرفتي فيك، إجِت عَ زعل، ما كانت طبيعية من بعد ملل"، وتختم الأغنية بقولها "حبيبي، مش إنت حبيبي". فضلاً عن التجديد اللفظي، ثمة تغيّر تمثّل بجرأة المرأة على قول رأيها الصريح، هي التي كانت كلمات العتاب الرصين أقصى تعابير التمرّد لديها. كانت المفاجأة الثانية في قول فيروز: "كيفك إنت، ملّا إنت". أثارت سجالات لدى الجمهور، الذي ما لبث أن اقتنع، لأن هذا الكلام مقتلع من منطق التخاطب الحقيقي، وليس منتمياً إلى الخيال الأدبي. في إطار الأغاني المعبّرة عن صور الحياة الواقعية تُصَنَّف "كان غير شكل الزيتون" و"إن شالله ما به شي" و"شو بخاف دقّ عليك". وفي إطار أغنية المرأة الحرّة، أضع مجموعة مثل "ضاق خلقي"، و"عندي ثقة فيك"، و"في شي عم بيصير". أسلوب زياد في كتابة الأغاني يهتم بالواقعية وبالتأثير المباشر لدى الجمهور. وينطبق القول تماماً على أغانيه السياسية، وما أجملها، وهي من فرط صدقها أصبحت كلماتها على كل الشفاه. كانت مسرحية "سهرية" بألحانها الجميلة وحواراتها الطريفة، من النمط الإبداعي الرحباني التقليدي. وفي "نزل السرور" ظهرت إرهاصات التحول. والمسرحيتان من صنعه قبل 1975. بعد ذلك ولد مسرحه المختلف عن مسرح الأخوين في الشكل والمضمون. إبداعهما في باب المسرح الغنائي، وإنجازه مسرحيات درامية واقعية وإنْ تخلّلها بعض أغان. مسرحياته أقرب إلى مسرح بريشت التحريضي، الذي يجعل المتفرج في مواجهة الإشكالية ويدفعه إلى مناقشتها. في مسرحه، كما في أغانيه السياسية، كان ابن عصره. تناول مواضيع المجتمع الذي يعيشها المتفرج - المواطن ويعاني من آثارها. من "بالنسبه لبكره شو؟" إلى "لولا فسحة الأمل" وبينهما "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد". تشريح بالكلام الصريح لا يلجأ إلى التلميح. بالكلام الساخر المرير، المضحك الموجع في آن واحد. هي الكوميديا السوداء. لم ينس زياد الرحباني التأليف الموسيقي البحت، مثل افتتاحية "ميس الريم" ومقطوعات مثل "ضيعانُه" و"تل الزعتر"، وموسيقى تصويرية مثل "آثار على الرمال". وكانت مناسبة أعتز بها شخصياً، لأنني كاتب سيناريو هذا المسلسل. وقتها (1973) عرفته من كثب. هي موسيقى تصويرية فعلاً، وجمالية مرهفة، من إبداع فتى كان في السابعة عشرة من عمره! وهي رائدة في التلفزيون اللبناني، إذ لأول مرة يُلجأ إلى موسيقى مؤلّفة خصيصاً لمسلسل تمثيلي. سخر زياد من مسرح الأخوين رحباني في "شي فاشل"، ومن تغنّيهما بالريف الجميل، المنقرض في زمن الحرب وما تلاها. هجاء للون غنائي "كلنا أخوة، بالمحبة والإيمان، رح نرجع نبني لبنان". وواصل الوخز في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، بدءاً بعنوانها، في زمن أخذ فيه المجتمع يفقد كرامته، والشعب يصبّ عناده في مستنقع الطائفية. ومع ذلك، ظلّ زياد رحباني معجباً بإبداع أبيه وعمه الفني. زرته سنة 1994 فأسمعني شريطاً جديداً عنوانه "إلى عاصي". أعاد فيه توزيع ألحان مجموعة من أغاني الأخوين، ومنها "بحبك ما بعرف" فقال لي: "انتبه. هذا لحن ليس به مذهب وكوبليهات. هو سحبة واحدة". لولا شغفه بألحانهما لما أعاد توزيعها. فضلاً عما أنجزه لاحقاً بتوزيعات جديدة: "تراب عينطورة"، و"حبيتك بالصيف" وفي إعادة إبداع "بكتب اسمك يا حبيبي" إذ بلغ الإعجاب والوفاء الذروة: "بتِرْجَع ذكرى يا حبيبي، عن عاصي ومنصور/ ع انطلياس العتيقة، وكل شي حولها جسور/ وبكره بتشتّي الدنيي، والطرقات مزيَّحَه/ بيبقى إسمُنْ قدّ الساحة/ ما عاد ينمحى". إنجاز الأخوين جميل، وكذلك إنجاز زياد، وسيبقى كلاهما خالداً. وإزاء إبداع الكبار، لا مجال للمفاضلة.

ذكريات مع صوت زياد الرحباني
ذكريات مع صوت زياد الرحباني

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

ذكريات مع صوت زياد الرحباني

كان هناك مُسجِّل صغير وسط صالة الضيوف، حيث كنّا نسكن في حي وادي عدي بمسقط، في الثمانينيّات، ويتميّز هذا الحي (وادي عدي) بأن جميع بيوته صغيرة ومتشابهة ومصفوفة، تتكوّن من غرفتَين ومجلس وصالة، وسطح طبعاً. والسطح بالنسبة إلى عائلة كبيرة نسبياً كعائلتنا، بإخوتي السبعة وأبي وأمي وجدّتي، علاوة على من يزوروننا من القرى ويمكثون أياماً، هو متنفّس الأطفال ومسرح الركض واللعب والحركة والصعود والهبوط، والباب الخارجي يكون عادة مفتوحاً كبقية أبواب بيوت حارات وادي عدي. لذلك، يدخل أطفال الجيران ويتّجهون رأساً إلى السطح للمشاركة في اللعب، وبدورنا نخرج إلى بيوتهم وأعيننا على السطوح. وفي الشتاء، تكون هذه الأسطح أماكنَ للنوم. المُسجِّل الذي في صالة الضيوف كثيراً ما يصدح بأغانٍ متفرّقة، أو يضبط على تردّد الإذاعة العُمانية الزاخرة بأغاني ذلك الزمان، ولكن حين صدر ألبوم زياد الرحباني "أنا مش كافر"، الذي لا أعرف كيف وصل إلي، ظلّ هذا الكاسيت يدور في هذا المُسجِّل الصغير طوال الوقت وبصوت مرتفع، حتى إن الأطفال كانوا يلتقطون الكلمات ويبدأون في ترويجها: "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس المرض كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر.. أنا مش كافر، لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين". يستغرب الكبار حين يسمعون هذه الأغنية التي بدأت بالانتشار في الشارع انطلاقاً من بيتنا، ولكن التسامح كان كبيراً مع الأغاني حينها، إلى أن راجت بعد ذلك خطب الداعية الكويتي أحمد القطّان بصوته المُزلزِل، وانتشرت خطبه بقوة النار في الهشيم، ما شكّل فاصلاً بين مرحلة متسامحة مع الفنون، وأخرى متّجهة نحو التجهّم والترهيب. استُبدلت بأشرطة الأغاني مثل هذه الأشرطة الوعظية عالية الصوت، ومواضيع من قبيل "عذاب القبر"، و"مطالب أهل النار"، و"حال المؤمن والكافر يوم القيامة"، و"سهام إبليس"، و"انتبهوا أيها الغافلون"، وغيرها من مواضيع لا تبدي أدنى تسامح، حتى مع الطرب الأصيل الهادئ، بكلماته البليغة مثل صوت محمّد عبد الوهاب وفيروز وأم كلثوم، وطبعاً لن يكون هناك أدنى مساحة لصوت زياد الرحباني، الذي ينطلق من القاع، ومن مفارقات الحياة، ونقد الفساد بأنواعه، وخاصّة أغنية "أنا مش كافر" ببعدها الإنساني الساخر، وهي تخاطب المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وكان ضمن كلماتها: "يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة.. وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة.. هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال.. راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر". نستمع الآن إلى صوت فيروز في السيارات أكثر، وفي الصباحات، وفي مختلف الإذاعات، دائماً ثمّة أغنية لفيروز، لا بدّ أن زياد بعبقريته الممزوجة بحسّ نقدي ساخر، كان يدرك أنه لا يمكن أن يضيف كثيراً لو ظلّ متتبعاً خطّ والدته وأعمامه، لأن سماءهم ملأت الوجود العربي بكلّ سلاسة ومحبّة، لذلك اختار أن ينطلق من الأرض، أي أن تكون شعبيته بعيدة عن تلك الصرامة والأناقة الفيروزية المميّزة والعظيمة، فشقّ طريقاً ممزوجاً بالجنون والسخرية. وإن كان وجد في المسرح مساحته الأكبر في الانتشار، إلا أن أغانيه كذلك لها ذواقها. هناك من لا يتفق مع بعض قفشاته في مقابلاته الإذاعية، ولكن لا يمكن الاختلاف حول إنسانيته ونزاهته، وفي هذا يشترك أيضاً مع السيدة فيروز والدته، التي رفضت أن تغنّي للأفراد والأشخاص. زياد أيضاً ربّما كان في إمكانه أن يكسّب كثيراً من المال لو شقّ هذا الطريق، نظراً لإمكانياته الموسيقية الكبيرة. مرّة سمعت لقاءً في برنامج طربيات بإذاعة صوت الخليج القطرية، وكان اللقاء مع الملحّن الكويتي المعروف أنور عبد الله، وحين ورد اسم زياد استغرق أنور في الحديث عن عبقريته، وأضاف بعض التفاصيل من قبيل أن زياد يعلّق في صالة منزله فقط صورة الشيخ زكريا أحمد، وأحياناً حين يدخل بعض الضيوف يظنونها صورة أحد أقاربه أو جدّه. وأذكر مرّة حين كنت طالباً التقيت الراحل كوكب حمزة في الرباط في التسعينيّات، وأجريت معه لقاءً في مقهى باليما (ضاع مني هذا اللقاء للأسف)، سألته عن رأيه بأغاني زياد، فأشاد أكثر بألحانه، وقال لي إن كثيراً من المغنّين يتمنّون أن يلحّن لهم زياد ولو أغنية واحدة، ولكن زياد يرفض أن يلحّن لأحد إن لم يكن مقتنعاً به. برحيل زياد الرحباني تخسر سماء الذائقة العربية مدرسة موسيقية شعبية، انفتحت بهدوء على السخرية والجنون الخلّاق.

الفتى الفيروزي وجداريات المدائح العقيمة
الفتى الفيروزي وجداريات المدائح العقيمة

القدس العربي

timeمنذ يوم واحد

  • القدس العربي

الفتى الفيروزي وجداريات المدائح العقيمة

ناسنا في لبنان، لم يتركوا كلاماً إلا ورَثوا به زياد الرحباني، الفنان المُبدع المُبتكر، الذي قارب واقعهم من رؤية فنية وجدتْ لها جمهورها الخاص، ولا يمكن تجاوزها أو إغفالها في التاريخين الفني والمسرحي اللبناني، لكن مراتب مراثيهم تخطت منطق المجاملات إلى المغالاة في المحاباة، فأنستنا المناسبة وأخذتنا إلى أمداء أخرى، هي في الواقع مفارقات غريبة من جمهور نعرفه ونتابعه أحيانا، لم يرفع معظمهم منشوراً افتراضياً واحداً منذ سنين لأغنية، أو لحن، أو موقف، أو مشهد مسرحي لزياد! نحن أمام جداريات البكاء العقيمة، تراجيديا الرثاء المزيفة، وثرثرات الكلمات المكررة. قليل من الاهتمام مسيء لزياد الرحباني، وكذلك الكثير المُبالَغ فيه! فواحدة «تلعن الحياة» لأنه مات، وأخرى تلوم الله جل جلاله لأنه «رحل في الوقت الغلط»، وثالثة ترى أن دورة الكون توقفت، ثم هناك رابع يقول: «كسرتلي ظهري» وخامس قائل: «يا ريتني متت أنا ولا سمعت هالخبر، دخيلك يا الله ليش تحرمنا منو»، وقائل: « لمن تركتنا يا زياد ؟»!، ولا ننتهي عند إحداهن التي تقرر أن «زياد هو الذي قرّر الرحيل»! أما المضحك المبكي فأن تطلب إحداهن منه أن يفتش على والديها المتوفيَين ويسلم عليهما في العالم الآخر، ولو أتعبه التفتيش عنهما، وهكذا إلى ما لا نهاية من سرديات ما يفعله اللبنانيون دائماً وهم «يركبون الموجة»، متبارين في تدبيج الكلمات، قبل أن يناموا قريري العين في «الويك أند» بعدما أدوا واجبهم «الثقافي» و الاجتماعي. قد يقول قائل، إن حملة الرثاء والتمجيد لزياد هي من حقوق كل أحد، لكن ذلك يجب أن لا يتعدى إلى خطاب إشهاري يهمّش حرمة الموت وكينونة الإبداع، لاسيما أن بعض هؤلاء وربما معظمهم، كانوا خارج حسابات الفقيد الفلسفية، كفنان إنساني، بل خارج مزاجه؛ فإذا كان كلُّ هذا الشعب راثياً باكياً لزياد، فمن هم الذين بقوا منه لينتقدهم «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»؟ وأين هم الذين لطالما هاجمهم وهو يقول: «في ناس بينهم وبين الفهم، سوء فهم»، أو يقول: «شعب بيشرب قهوة كتير، لازم يكون أوعى من هيك»، أو يقول: «الله خلقك إنسان، ليش مصرّ عالحيونة؟»، أو يقول: « في ناس مش بس بيمثلو علينا، بيمثلو علينا وبيصدقو حالن»، أو غير ذلك من مقولات موجهة لبقايا هذا الشعب العنيد، من دون إنكار أن البعض يرى في كلامه «بُعد نظر»، وهذا طبعا حقهم الطبيعي، وإن كان يمكن رصده كخطاب مزدوج تحت سلطة المجاملة، والسير مع التيار مهما كان متطرفا في المحاباة، مع العلم الذي لا يجهله أحد، أن جملة هؤلاء لم يتذكروا زياد إلا عند وفاته، تماما كما فعل أفيخاي أدرعي، اللعين، الذي تذكره ورثاه بكلام جميل! إلى ما رشح من دوافع بكائيات البعض، كي يخبرنا أنه التقاه مرة، أو يعلمنا بصداقته الحميمة، ولو من خلال صورة يتيمة شاركه بها بالصدفة في مناسبة ما، أو يقول لنا أنه رآه ذات يوم وسأله عن آخر أعماله، إلى البعض الآخر الذي يؤكد دائماً أنه «أم الصبي» كرافعة للإعجاب والاهتمام بالتجربة الرحبانية على مستوى البلد، وهؤلاء كُثُر. نعم كان زياد فنانا مناضلا، غير متملق، لكن علاقتنا به مهما كانت ضعيفة وبعيدة، فهي لا تشترط منا أن نحبه ونقدسه، فهناك أمور أخرى تغنينا عن كل ذلك، كاحترام نتاجاته والثقة بها، والإحساس المشترك بحاجتنا للوطن الصحيح الذي نريده. نحن نطمئن إلى حظنا الجيد بأنّ لدينا قامات إبداعية كزياد، لكنه إنسان يصيب ويخطئ، يضحك ويحزن ويغضب، ويغدو ويروح كغيره من بني البشر، وهو كان يأكل ويشرب، ويمرض ويصح، وهو أيضاً يقاطع والدته فيروز لعامين ثم يصالحها. يمكن مثلا فهمه كشخصية فنية أرادت التحرر من إرث عاصي وفيروز، إلا أنه لم ينجح في ذلك بعدما وقع في فخّ العودة إلى التركة الإرث التي تدر مالا، مانعا وشقيقته ريما أي أحد وتحديدا أبناء عمهما منصور وورثته من التصرف بأي أعمال فنية شارك بها الوالد عاصي من دون موافقتهما، الأمر الذي كسر الصورة المثالية للرحابنة، وكتاريخ فني ثقافي متاح للجميع ممارسته، والتأثر به كمدرسة للمحبة والتسامح والوطنية والإخاء. زياد لم يكن فقيرا معدماً، ولا جائعا، ولا محروما، ولا كان صاحب معاناة بالمباشر وغير المباشر مع السلطة الفاسدة، وهو وإن كان تحدث عن واقع كل ذلك في مسرحه، إلا أنّ كثيرين أيضاً حملوا الرسالة نفسها بين مسرح وتلفزيون وآداب ونضالات ثقافية، وأنا أسارع للقول، إنني لا أقلّل هنا من شأن زياد، فمسرحه، بالمناسبة، من النماذج التي اعتمدتها في أطروحتي للدكتوراه، وأنا أستشكل علاقة المسرح بالحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة. رحل زياد، رحل الفتى الفيروزي وعوده الرنان يصدح حولنا، لكن، وفي كل حال وحين، ومهما قلنا وكتبنا، فإنّ كل أمانينا سخيفة حتماً في مواجهة الموت. كاتب لبناني

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store