
ماذا فعلت إسرائيل في السودان؟
د. ياسر يوسف إبراهيم
كاتب في العلاقات الدولية
(في كمبالا سلّمت السفارة الإسرائيلية رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، هنأته فيها وحكومته وشعب الله المختار وأطفال إسرائيل على الانتصار على العرب في حرب 1967)،
من مذكرات الفريق جوزيف لاقو أحد مؤسسي حركة التمرد في جنوب السودان.
في السياسة، يحتاج قادة الدول إلى امتلاك فكر إستراتيجي يحيط بطبيعة التحديات التي يواجهونها، ومعرفة البيئة الدولية والداخلية التي تُبنى على أساسها الخطط.
وبهذا المعنى، ينطبق عليها تعريف الفيلسوف الألماني أرنست هيجل بأن 'السياسة هي علم الأحياء التطبيقي'. ولأن علم الأحياء يساعد على فهم البيئة ودورها في نمو الكائنات الحية، فإن فهم البيئة السياسية بصورة واقعية يساعد على إنتاج الأفكار التي تمكّن القادة من التعامل مع الظواهر السياسية بواقعية وعقلانية.
ومن الظواهر التي غشيت العقل العربي وسيطرت عليه لعقود طويلة، نظرية المؤامرة التي تفترض وجود جهة ما تكيد للدول العربية بانتظام. وخطورة سيطرة ذلك النوع من التفكير أنه أفضى إلى إعفاء الذات من تحمّل نتائج التقصير والفشل من ناحية، كما أفقد العقل العربي ميزة التفكير الموضوعي لمعالجة الظواهر السياسية بعقلانية دون 'تهويل أو تهوين'، كما يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي.
وفي هذا المقال، الذي نعالج فيه أسباب استمرار الحروب في السودان بصورة حيّرت المراقبين، سنحاول تلمّس الأسباب الجوهرية لهذه الظاهرة، مع التركيز على أصابع خفية ظلّت تحتفظ بدور بارز وكبير في تحريك الأحداث. وإذ نفعل ذلك، سنحاول تجنّب التفسيرات الباطنية التي تُعظّم نظرية المؤامرة وتستسهل من خلالها الوصول إلى النتائج.
ما نعنيه بالأصابع الخفية في حروب السودان، التي امتدت منذ العام 1955 قبل سنة من إعلان استقلال السودان وإلى الآن، هي التدخلات الخارجية التي يُمثّل فيها الكيان الإسرائيلي رأس الرمح والماكينة التي تُحرّك الأحداث من وراء المشهد، وذلك دون إغفال الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها النخبة السودانية بجميع توجهاتها الفكرية وانحيازاتها السياسية.
واحدة من هذه الأخطاء هي عدم الإدراك الصحيح للدور الإسرائيلي في حروب السودان، وعدم إيجاد المقاربات الناجعة للتعامل معه. فقد حرصت إسرائيل باكرًا على فهم السودان وتعقيداته، وبلورت إستراتيجية للتعامل معه، مدفوعة بمخاوف أمنية وتفسيرات أسطورية قديمة، تعتقد أن تابوت نبي الله موسى، عليه السلام، دُفن في كنيسة أكسوم الحبشية، وأن الملوك الإثيوبيين الذين حكموا السودان في زمان غابر تجري فيهم دماء يهودية من نسل نبي الله سليمان، عليه السلام، وأن هناك سبطًا من بني إسرائيل ضاع في منطقة البحيرات وجنوب السودان ولا بد من العثور عليه.
أما النص الحاكم للسياسة الإسرائيلية تجاه السودان، فيتلخص في التصريح الشهير لديفيد بن غوريون الذي يقول فيه:
'نحن شعب صغير وإمكاناتنا محدودة، ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها، وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية، حتى نضخّم هذه النقاط إلى درجة التحول إلى معضلة يصعب حلها أو احتواؤها'.
يؤسس هذا 'النص الحاكم' للنهج الإسرائيلي في التعامل مع الدول العربية، حيث صاغت من خلاله الدولة العبرية نظرية 'شد الأطراف' للدول العربية أو 'بترها' إذا لزم الأمر، كما حدث في جنوب السودان.
وتقوم تلك النظرية على إحداث القلاقل في أطراف البلدان العربية، إما استثمارًا للخلافات العرقية، أو تحريكًا للنزاعات الحدودية، وهو ما يحقق الهدف المركزي بإشغال هذه الدول بأنفسها حتى لا تكون جيوشها عامل دعم لدول المقاومة التي تقاتل إسرائيل.
وللتأكيد على قِدم المخطط الإسرائيلي، نستعين بمحاضرة رئيس الموساد مائير عاميت عام 1959 والتي قدمها بمناسبة تخريج دفعة جديدة، حيث يقول:
'لِمحاصرة التهديد الذي جسدته حركة المد القومي، كان لا بد أن ننجح في إثارة النوازع النفسية لدى الجماعات غير العربية داخل الدول العربية، وخاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، والسودان'.
ولتتبّع حجم الخراب الذي قامت به 'الأصابع الخفية' في السودان، نحتاج إلى دراسة عدد من الوثائق على النحو التالي:
وثيقة 'كيفونيم' التي قدّمها آرييل شارون 1983 لاجتماع وزراء حلف الناتو، والتي لخّصت إستراتيجيات إسرائيل في التعامل مع دول العالم العربي والإسلامي.
وفيما يتعلق بالسودان، ورد ما يلي: 'السودان أكثر دول العالم العربي والإسلامي تفككًا، فإنه يتكوّن من أربع مجموعات سكانية كلٌّ منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سُنيّة تسيطر على أغلبية غير عربية، إلى وثنيين، إلى مسيحيين.' وتقرّر تلك الوثيقة في خاتمتها مؤكدة: 'إن دولًا مثل ليبيا والسودان لن يكون لها حضور بصورتها الحالية'.
في العام 2008، ألقى آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، محاضرة لكبار القادة الأمنيين، وورد فيها ما يلي:
'السودان شكّل عمقًا إستراتيجيًا لمصر في حربها حيث تحوّل إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، وأرسل قواته لمنطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف. لذلك، كان لا بد أن نعمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه، ومنعه من بناء دولة قوية موحدة، فهذا ضروري لدعم وتقوية الأمن القومي الإسرائيلي'.
في كتابي (مهمة الموساد في جنوب السودان) لعميل الموساد ديفيد بن عوزيل، والمعروف باسمه الحركي 'الجنرال جون'، وكتاب (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان) للكاتب الإسرائيلي والعميد المتقاعد من جهاز الموساد موشيه فرجي، ترد تفاصيل مخيفة عن حجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الذي قدّمته إسرائيل لحركة التمرد في جنوب السودان، حيث شمل إرسال شحنات السلاح، وإرسال الخبراء، وتدريب عشرات الآلاف من الجنود، والمساهمة في تفجير الكباري واحتلال بعض المدن، وتعطيل مشاريع التنمية. يقول موشيه فرجي في كتابه إن التحرك الإسرائيلي نجح في جنوب السودان لعدة عوامل، أبرزها:
إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية.
توقيف العمل في قناة جونقلي التي كان من المؤمل أن توفر 5 مليارات متر مكعب من المياه تتقاسمها مصر والسودان، حيث حذّرت إسرائيل الجنوبيين من أن ذلك المشروع سيكون وبالًا عليهم.
كما أن إسرائيل نجحت في تنمية المشاعر القومية لدى الجنوبيين، مما ساعدهم على حسم خيار الانفصال عن الشمال.
نستخلص من هذه الوثائق أن إسرائيل صنّفت السودان منذ البداية باعتباره عدوًا إستراتيجيًا، ولذلك تعاملت معه على هذا الأساس في مخططاتها التي هدفت إلى إشغاله طوال الوقت بالنزاعات الداخلية.
يقول وزير الأمن الإسرائيلي السابق، آفي ديختر:
'أقدمنا على إنتاج وتصعيد بؤرة دارفور لمنع السودان من إيجاد الوقت لتعظيم قدراته. إستراتيجيتنا، التي تُرجمت على أرض الجنوب سابقًا وفي غربه حاليًا، نجحت في تغيير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزّم والانقسام. الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلًا أو آجلًا بتقسيمه إلى عدة دول أو كيانات'.
ونستطيع تلخيص الرؤية الإسرائيلية تجاه السودان في النقاط التالية:
استهداف مصر عبر جارها الجنوبي، والعمل الجاد على تعطيل استفادتها من جهود هذا الجار.
إشغال السودان بإشعال النزاعات فيه، وتأجيج روح الخلاف بين المكونات المختلفة.
السعي لعدم استفادة السودان من موارده الهائلة حتى لا يتحول إلى دولة مركزية.
إضعاف السودان عبر سياسة شد الأطراف أو بترها، وهو ما يؤكده آفي ديختر: 'سودان هش ومجزأ خير من سودان قوي وفاعل'.
ولم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي للسودان على إشعال النزاعات وإشغاله بالحروب فقط، بل تواصلت المساعي الإسرائيلية في المجالات الدبلوماسية والمنظمات الدولية لخنق السودان وتشديد الحصار عليه.
ففي أوج أزمة دارفور، أنشأت المنظمات اليهودية تحالفًا ضم أكثر من 180 منظمة حول العالم للترويج لفكرة الإبادة الجماعية في دارفور، وانطلقت أنشطة تلك المنظمات من متحف الهولوكوست بواشنطن تحت رعاية منظمة 'أنقذوا دارفور' والوكالة اليهودية للخدمة الدولية، وتوجت تلك الجهود بإحالة ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية.
في الحرب الحالية التي اندلعت بعدما شنّت مليشيا الدعم السريع هجومًا مباغتًا على القوات المسلحة، قبل أن توسّع تكتيكاتها الحربية إلى استهداف البنية التحتية وتدمير المؤسسات العامة والخاصة بغرض إعادة السودان قرونًا إلى الوراء، كانت إسرائيل الحاضر الخفي الأبرز في المشهد.
فقد اندلعت الحرب بعد نشاط إسرائيلي محموم في البلاد بعيد تطبيع العلاقات مع السودان وتوقيع حكومة الفترة الانتقالية برئاسة حمدوك على 'الاتفاقيات الأبراهامية'، حيث انخرطت إسرائيل في نشاط دبلوماسي مكثف تجاه الخرطوم، ركّز على الانشغالات الإسرائيلية الخاصة بجمع معلومات حول منظومة الصناعات الدفاعية السودانية و'تجنيب السودان مخاطر الخلايا الإيرانية'، كما صرّح مسؤول إسرائيلي بعد زيارة للعاصمة الخرطوم 2020. ولإخفاء نواياها الحقيقية بإطالة أمد الحرب، عرضت إسرائيل وساطة بين الجيش والدعم السريع.
وفقًا لبيان أصدره وزير الخارجية وقتها إيلي كوهين، الذي أكّد أن إسرائيل تعمل عبر عدة قنوات من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار، لكن لم يرد أيّ ذكر لتلك الوساطة مرة أخرى، مما يشير إلى أن الدولة العبرية تساهم في إطالة أمد الحرب لإضعاف الطرفين، تنفيذًا لنظرية الأكاديمي الصهيوني إدوارد لوتواك 'امنحوا الحرب فرصة'.
كما أن المعلومات بدأت تتكشّف عن حجم العلاقات الكبيرة بين إسرائيل وحميدتي، الذي حرص على فتح قنوات تواصل مستقلة عن الجيش والدولة منذ فترة مبكرة. ففي تقرير نشره موقع 'واللا' الإخباري، قيل إن طائرة رئيس الموساد حطّت في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2021، وكان على متنها قيادات من الموساد التقت بحميدتي وقادة من الدعم السريع.
بعد نشوب الحرب، نشر موقع 'ميدل إيست آي' مقالًا بعنوان 'كيف ستكسب إسرائيل الحرب في السودان؟'، أكّد فيه أن إسرائيل حريصة على كسب الدعم السريع للحرب، بالنظر إلى الخدمات التي قدّمها حميدتي في ليبيا بمحاربة الإسلاميين هناك، وتعهّده بـ'تفكيك الإسلاميين داخل الجيش السوداني'.
وفي الفترة الأخيرة، وبعد أن مالت كفة الانتصار لصالح الجيش، وبدا أن الجيش قادر على حسم المعركة، تعالت أصوات إسرائيلية تتهم السودان بالتعاون مع إيران، وتنادي بالتدخل الإسرائيلي المباشر، لأن الجيش السوداني أصبح 'حماس أفريقيا' حسب تلك المزاعم.
تحتاج القيادة السودانية إلى إعادة تكييف علاقاتها الخارجية بما يضمن محاصرة المخططات الآثمة ووأدها قبل أن تواصل تدمير المقدرات السودانية.
وفي هذا الخصوص، فإن السودان بحاجة إلى جهود أصدقائه للمساهمة في دعم الشرعية التي يمثلها الجيش السوداني والحكومة المدنية برئاسة الدكتور كامل إدريس، كما أن القيادة السودانية بحاجة إلى مجهودات تعزز تماسك الجبهة الداخلية وتُفوّت على المتربصين مخططاتهم الآثمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 11 ساعات
- إيطاليا تلغراف
وفاة الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش شيخ الزاوية القادرية البودشيشية
إيطاليا تلغراف توفي إلى رحمة الله، زوال اليوم الجمعة 8 غشت 2025، الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش، شيخ الزاوية القادرية البودشيشية، عن عمر يناهز 83 سنة، بعد مسار روحي وعلمي حافل في خدمة التصوف السني والتربية الروحية. ويُعد الشيخ جمال الدين أحد أعلام التصوف المغربي المعاصر، وهو نجل الشيخ الراحل سيدي حمزة القادري بودشيش، وقد تولى مشيخة الزاوية خلفًا لوالده سنة 2017، بناءً على وصية مكتوبة ومختومة تعود لسنة 1990، أوصى فيها الشيخ حمزة بنقل 'الإذن في تلقين الذكر والدعوة إلى الله' إلى ابنه جمال الدين ثم الى ابنه مولاي منير بعد وفاته. وُلد الراحل سنة 1942 بقرية مداغ (إقليم بركان)، وتلقى تعليمه الأولي في الزاوية، قبل أن يُكمل دراسته بثانوية مولاي إدريس بفاس، ومنها إلى كلية الشريعة، ثم دار الحديث الحسنية بالرباط، حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية، قبل أن يناقش سنة 2001 أطروحة دكتوراه بعنوان 'مؤسسة الزاوية في المغرب بين الأصالة والمعاصرة'. عُرف الشيخ جمال الدين بتواريه عن الإعلام، وبتفرغه الكامل للسلوك الصوفي والتربية الروحية، مقتفيًا أثر والده في ترسيخ قيم التزكية، والتواضع، والربط بين الأصالة والتجديد. ولم يظهر للعلن إلا في المناسبات الروحية الكبرى، خاصة في ذكرى المولد النبوي. وقبيل مرضه، أعلن الشيخ مولاي جمال الدين خلال الذكرى الثامنة لوفاة الشيخ حمزة القادري في يناير 2025، عن وصية صريحة بنقل الأمانة الروحية إلى ابنه الدكتور مولاي منير القادري بودشيش. كما أوصى في كلمته بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الرابطة الروحية، والتشبث بامارة المؤمنين و العرش العلوي المجيد، باعتباره ميثاقًا دينيًا وروحيًا ضامنًا لوحدة الوطن واستقراره. وبرحيله، يفقد المغرب أحد كبار علمائه في ميدان التصوف، ورمزًا بارزًا في مسار تحديث الزوايا وتطوير أدائها التربوي والفكري. فقد جمع الشيخ جمال الدين بين التكوين الأكاديمي الرصين والخبرة الميدانية العميقة، وأسهم في توسيع إشعاع الطريقة القادرية البودشيشية على المستويين الوطني والدولي، مما جعله مرجعًا معتمدًا في قضايا التربية الروحية والفكر الصوفي المعاصر.،. إنا لله وإنا إليه راجعون. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ 11 ساعات
- إيطاليا تلغراف
إعفاء بدون سبب - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف د. عبد اللطيف البغيل بعض الفضلاء استثقل ما علقت به على بيان وزارة الأوقاف في موضوع إعفاء رئيس مجلس علمي محلي، وخاف علي من أن ينالني من مطرقة الوزارة ما نال الرئيس المشار إليه، وأنا أقدر خوفهم وأشكرهم على عاطفتهم، وأخبرهم وأخبر الجميع بأنني قد ضربت فعلا بمطرقة الوزارة منذ تاريخ: 01/01/2025 وبذلك لم أعد عضوا بالمجلس الذي كنت مكلفا فيه بالمهام التي أسندت لي كمنسق للجنة الدراسات والبحوث والتكوين، وكمنسق لفريق العمل في منطقة التجريب رقم : 7 و 8 في إطار تنزيل خطة تسديد التبليغ، ثم عضو في اللجنة الجهوية بالمجلس العلمي الجهوي لطنجة تطوان الحسيمة، الخاصة بالدراسات والبحوث والنشر، بالإضافة إلى تكليفات أخرى وأعمال قمت بها على مدى أربع سنوات من أكتوبر 2020 إلى مستهل 2025، وقد قمت بمعية شيوخ أجلة وإخوة كرام بعمل دقيق وشاق في بعض الفترات الحرجة، وخصوصا في فترة الحجر الصحي بسبب وباء كورونا، وهو ما يشهد به كل من عاين أعمالنا في تلك الفترة من ساكنة الإقليم، وعموم المتابعين للشأن الديني بالجهة وغيرها. وأما عن سبب إعفائي من هذا المجلس، فإنني والحق يقال لا أعلم السبب، لأن القرار الذي قضى بإعفائي لم يحمل سببا ولا تبريرا، فهو قرار مشابه تماما للقرار الذي أعفي بمقتضاه الرئيس المشار إليه، ولعل هذا الشبة بين القرارين هو الذي حرك في داخلي كوامن متناقضة كنت أعمل جاهدا على ألا أخرجها، وكنت أعيش حرها وقرها، وألمها وقهرها بصبر، لكن للصبر حدود، فمن ذا الذي يطيق صبرا على آثار ضرب بمطرقة ثقيلة صادرة عن الوزارة وعلى حين غرة ولا سابق تنبيه أو إعلام؟ وحيث إن مطرقة الوزارة لم تحمل جوابا ولا سببا لإعفائي، فإنني حاولت جاهدا تخمين هذا السبب، فما وجدت إلا ما سيعلمه القارئ الكريم مما سيأتي بعد، في منشورات لاحقة، وهو على كل حال سبب واه لا يتدرع به لطلب إعفائي من الوزارة، إلا من كان وجودي يشكل له مرضا نفسيا ووسواسا قهريا، وخوفا من أن أكون في يوم من الأيام بديلا محتملا له، أو حاجبا فعليا يحجبه عن الأضواء ويأخذ منه الألباب والأهواء. وهذا ضرب من الجنون الذي يصاب به من لا عقل له، أو من غفل عن حقيقة عَقَدية، وهي أن الأرزاق بيد الله، وأن الخافض الرافع هو الله، وأن كل شيء بقدر ومن قدر الله. ولله عاقبة الأمور. هذا ما يتعلق بإعفائي من عضوية مجلس علمي محلي وهو مجلس معروف، لكنني لن أسميه اقتداء ببيان الوزارة التي لم تسم المجلس الذي أعفي رئيسه، لحكمة تراها هذه الوزارة. إيطاليا تلغراف الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
هذا هو أسوأ يوم في تاريخ المسجد الأقصى
إيطاليا تلغراف د. عبد الله معروف كاتب فلسطيني أستاذ دراسات بيت المقدس بجامعة إسطنبول 29 مايو، ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة السابق بالمسجد الأقصى لا نبالغ إن قلنا إن يوم الأحد الثالث من أغسطس/ آب الجاري، كان أسوأ يوم يمر على المسجد الأقصى المبارك منذ احتلاله في السابع من يونيو/ حزيران 1967. فهذا اليوم شهد تغييرات جذرية غير مسبوقة في المسجد الأقصى، لم تكن متخيلة منذ احتلاله، وثبّتت واقعا جديدا أنهى الوضع القائم في المسجد واقعيا، ولا يمكن تصور وضع أو يوم أسوأ منه إلا فيما لو تمكن الاحتلال من تقسيم المسجد، أو بناء كنيس داخله، لا قدر الله. هذا اليوم شهد أكبر عدد من المقتحمين في يوم واحد في تاريخ المسجد الأقصى منذ الاحتلال، حيث اقتحمه 3969 مستوطنا حسب إحصاء دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس. وللمفارقة، فإن جماعات المعبد المتطرفة اعترضت على هذا العدد، حيث اعتبر المتطرف (أساف فريد) أن هذا العدد أكبر من عدد المقتحمين الحقيقي الذي سجله اتحاد منظمات المعبد، وهو 3527، أي بفارق حوالي 400 مستوطن. وفي الحقيقة فإن تعداد دائرة الأوقاف الإسلامية أكثر دقة؛ لأنها تحتسب المقتحمين جميعا بمن فيهم الذين يقتحمون المسجد باعتبارهم 'سياحا'، لا من نشطاء جماعات المعبد المتطرفة فقط، كما تفعل هذه الجماعات. وهذا حق، لأن ما يسمى 'السياحة' في المسجد الأقصى تتم منذ 2003 برعاية جيش الاحتلال دون أي موافقة أو ترتيب مع الأوقاف الإسلامية. لكن ما تمكنت جماعات المعبد المتطرفة من إنجازه في هذا اليوم لم يكن مقصورا على العدد الأكبر من المقتحمين في تاريخ الأقصى، بل تعداه إلى الكيفية التي جرى بها هذا الاقتحام؛ حيث حفل اليوم بأحداث في غاية الخطورة من المقتحمين؛ فقد استولوا على ساحات المسجد الأقصى المبارك بشكل كامل، واختاروا إقامة ما يسمى 'صلاة شماع' التي تعتبر الصلاة الأساسية في الديانة اليهودية في ساحة المصلى المرواني، إلى جانب الجامع القِبلي لأول مرة في تاريخ الصراع أيضا. وأقيمت صلوات 'بركات الكهنة' وصلاة الصباح والظهيرة في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى المبارك، والتي بات الاحتلال اليوم يعاملها باعتبارها كنيسا معنويا غير معلن، ويَمنع المسلمين من الصلاة فيها أو الاقتراب منها حتى في غير أوقات الاقتحامات. كما كررت جماعات المعبد المتطرفة في هذا اليوم المحاولات المحمومة لإدخال أدوات خاصة للصلاة وعلى رأسها لفائف التوراة، وقد نشر المتطرف (تومي نيساني) زعيم منظمة 'بيدينو' المتطرفة صورة لنفسه، وهو يحمل لفائف التوراة الكبيرة ويدور بها في البلدة القديمة؛ احتجاجا على عدم تمكينه من إدخالها إلى المسجد الأقصى. وبادر بعض أعضاء هذه الجماعات إلى إدخال أداة 'التيفلين' التي تلف على الأيدي والرؤوس وتستعمل للصلاة إلى داخل المسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى أداء ما يسمى 'السجود الملحمي' الجماعي. إلى جانب هذه النقاط المتعلقة بالشكل الديني للمناسبة، باعتبارها تتعلق بذكرى خراب المعبدين؛ الأول والثاني حسب الأسطورة الدينية، جنح المستوطنون إلى 'قومنة' هذا اليوم الديني؛ أي صبغه بصبغة قومية، وهذا يجري للمرة الأولى، في مقابل حرصهم المسبق على صبغ المناسبات القومية بصبغة دينية. فقد لوحظ هذا العام رفع الأعلام الإسرائيلية بشكل جماعي داخل المسجد الأقصى، الأمر الذي يختص به في العادة ما يسمى 'عيدَ الاستقلال' ذا الطابع القومي. إن وضعنا هذه العملية في سياق ما يتم خلال الأعياد القومية بالمقابل كما ذكرنا، فإننا نجد أنفسنا أمام عملية منظمة لخلط طبيعة المناسبات التي يحتفل بها المستوطنون في المسجد الأقصى، وصبغها بشكل موحد جديد 'ديني- قومي'. وهذا يهدف لجعل قضية السيطرة على المسجد مسألة لا تخص التيارات الدينية في إسرائيل فحسب، وإنما تجتذب حتى بعض أنصار التيارات القومية العلمانية التي تعتبر مسألة المعبد رمزية تاريخية قومية فقط. بمعنى آخر: نحن الآن أمام نقطة تحول تاريخية عملت فيها جماعات اليمين الإسرائيلي وتيار الصهيونية الدينية على تحويل الصراع على المسجد الأقصى ليشمل الكل الإسرائيلي بشقيه: المتدين والعلماني، الذي تجمعه قومية الدولة اليهودية حسب رؤية هذه الجماعات. وذلك بعد أن كان صراعا يبدو محدودا مع قسم صغير من تيار متدين في دولة الاحتلال، كانت تمثله جماعات المعبد المتطرفة المعزولة عن المجتمع والحكم، وبعيدا عن التدخل المباشر للمستوى السياسي في إسرائيل. هذا التحول الإستراتيجي في شكل الصراع مثّله حرص المقتحمين على أن يكون ممثلو المستوى السياسي الإسرائيلي موجودين على رأس كافة محطات الاقتحام؛ فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قاد بنفسه عملية الاقتحام من ثلاث نقاط: بدأها بمنطقة باب القطانين مع المتدينين الحريديم، ثم انتقل لقيادة الاقتحام بل وقيادة صلاة جماعية داخل المسجد الأقصى، وختمها بالانتقال إلى أداء الصلوات في منطقة حائط البراق. وأما عضو الكنيست عن حزب الليكود، عميت هاليفي، وهو عراب مشروع تقسيم المسجد الأقصى الذي قدمه للكنيست قبل عملية طوفان الأقصى بثلاثة أشهر، فقد قاد عملية رفع الأعلام الإسرائيلية داخل المسجد الأقصى، وذلك برفقة عضوة الكنيست السابقة عن حزب البيت اليهودي شولي موعلام التي قادت غناء النشيد الوطني الإسرائيلي 'هاتيكفا' في الأقصى. بينما قاد عضو الكنيست عن حزب الليكود أيضا أوشر شيكليم عملية السجود الملحمي داخل المسجد. هذا المستوى غير المسبوق من التداخل الإسرائيلي بين الرسمي والشعبي والقومي والديني في قضية المسجد الأقصى المبارك، يجعل أي حديث عن الوضع القائم في المسجد اليوم مجرد وهم. فمكتب بنيامين نتنياهو الذي اعتاد العبث بهذه القضية لم يتأخر في سخريته المعهودة بإصدار بيان بعد كل ما جرى في المسجد- برعاية المستوى السياسي- ليدعي أن إسرائيل 'متمسكة بالحفاظ على الوضع القائم' في المسجد الأقصى. وهذا التصريح لم يعد اليوم أكثر من هراء لا يهدف إلا لذر الرماد في العيون، حيث يبدو واضحا أن تفسير مكتب نتنياهو لفكرة 'الوضع القائم' يختلف عن المعنى القانوني لهذا التعبير، إذ يشير نتنياهو إلى أن فهمه للوضع القائم هو كل واقع جديد يفرضه الاحتلال في المسجد الأقصى، وبالتالي فلا معنى لادعاءات مكتبه بالحفاظ على الوضع القائم والتمسك به. لا ننسى هنا أن قراري السماح للمستوطنين بأداء الصلوات علنا في المسجد الأقصى عام 2024 ثم السماح بالرقص والغناء علنا في المسجد عام 2025، كلاهما صدرا عن الحكومة الإسرائيلية التي يرأسها نتنياهو- ممثلةً بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- فعن أي وضع قائم يتحدث مكتب رئيس الحكومة؟ هذا المنطق الإسرائيلي لا يمكن فهمه إلا في نطاق استخفاف نتنياهو بالمستوى الرسمي العربي والإسلامي الذي يهتم بالتصريحات كما يبدو أكثر مما يهتم بالوقائع على الأرض. وهذا أمر لم يعد مقبولا ولا مفهوما، إذ لا بد أن يكف المسؤولون العرب والمسلمون عن وضع الرؤوس في الرمال والادعاء أن ما يجري مجرد 'سحابة صيف' يمينية متطرفة ستزول مع سقوط حكومة نتنياهو الحالية. أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل بات يحكم الدولة بالكامل، وشكل الآن فيها دولة عميقة عبر التغييرات الجذرية التي قامت بها حكومة نتنياهو الحالية على مدى السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة. وينبغي أن نعلم أن المسجد الأقصى ليس بعيدا عن هذه التغييرات التي تستهدفه الآن بشكل مباشر، وقد بات الاحتلال يشعر بالراحة في تنفيذ هذه الأجندة؛ لأنه لا يجد أي مقاومة في المكان أو في الإقليم كاملا، وهو لا يخفي هذه الراحة. ففي السابع عشر من شهر يوليو/ تموز الماضي انتشر فيديو لعضو الكنيست السابق عن حزب 'زيهوت' موشيه فيجلين، الذي أعتبره للحقيقة أوضح من يكشف نوايا الاحتلال وطبيعة نظرته للمسجد الأقصى دائما، حيث قال في كلمة له في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى: (إن أول من أدرك أننا انتصرنا في هذه الحرب- في المسجد الأقصى- هي الأوقاف الإسلامية). وأضاف: (قيل لنا على مدار سنوات إن صعودكم إلى جبل المعبد 'المسجد الأقصى' سيشعل الشرق الأوسط، والواقع أنه كلما زاد صعودنا إلى المكان وأداء الصلوات بصوت مرتفع بالغناء والرقص، فإن الوضع في الأقصى يصبح بالنسبة لنا أكثر هدوءا، فلم ينفجر الشرق الأوسط ولم يحترق شيء). محصلة كل هذه الحقائق أن الاحتلال نجح في هذا اليوم في تسجيل محطة انتقالية مركزية في الصراع على المسجد الأقصى المبارك باتجاه فرض هوية يهودية موازية تماما للهوية الإسلامية للمسجد، بل وتسمو عليها في حالات الصراع، وذلك تمهيدا لإيجاد موطئ قدم دائم في المسجد الأقصى يكون بداية السيطرة الكاملة على المسجد، كما جرى في المسجد الإبراهيمي في الخليل. لن نمل من تكرار أن الحل الوحيد لهذه القضية يبدأ من التأزيم، وكلام فيجلين الذي نقلناه يؤكد هذه الحقيقة، فتأزيم الوضع في القدس شعبيا ورسميا على حد سواء هو الطريق الوحيد- وليس الأمثل فقط- ليشعر الاحتلال أن الاقتراب من الأقصى يجب أن يكون له ثمن مرتفع لا يستطيع دفعه. وإلا فإنه سيتقدم بسرعة غير مسبوقة مستغلا الحضيض الذي تعيشه المنطقة والإقليم إلى أبعد حد قبل أن نستيقظ من الصدمة على واقع جديد لا نحب حتى أن نتخيله، وعند ذلك لن ينفع الندم. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف