logo
حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة ...أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]

حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة ...أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]

الرباط١٥-٠٥-٢٠٢٥

حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة …أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]
الرباط نيوز
إن كتاب: 'البورناوت' Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية..
كتب / ماجدة غرابو
لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى. عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض 'الاحتراق المهني' المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر.
فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية…
الجامعة…
أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا
وبدون سابق إنذار أصبحت طالبة بشعبة 'علم الاجتماع' بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمارتيل، جامعة عبد المالك السعدي. وقد سبق لي قبل حوالي ثلاث سنوات مضت وبعد إلحاح من زميلة لي في العمل أن نعبئ طلبا من أجل متابعة الدراسة الجامعية، فرفضت بحجة: «أننا لن نستطيع أن نجمع وأن نوفق بين العمل والدراسة ورعاية أسرنا وأطفالنا وهم في مراحل حرجة من عمرهم -مراهقتهم- فهم أحوج إلى وجودنا معهم في أي لحظة أكثر من أي وقت مضى»، لكنها ألحت علي في أن نجرب فقط، ونختبر هل وزارة التربية الوطنية والتعليم ستسمح لنا بذلك أم لا؟ أي هل ستسمح لنا بممارسة هذا الحق؟
وأتذكر أنه في استمارة الطلب من المفروض علينا تحديد الشعبة المرغوب في دراستها، فسألتها حينها عن الشعب المتوفرة في كلية الآداب والعلوم الانسانية بمارتيل ومن بين ما قالت: «أن هناك بالإضافة إلى الشعب المألوفة -وسردتها علي- هناك شعبة جديدة وهي شعبة علم الاجتماع». فحددت رغبتي مباشرة وبدون أدنى تردد مني، وكتبت هذه الشعبة نفسها في استمارة الطلب، وجاءنا الرد على طلباتنا من أجل الدراسة الجامعية بالقبول، لكني لم أكلف نفسي عناء المحاولة أو الذهاب للكلية لسببين اثنين، لظني أن مرضي بالسكري سيعوق دراستي لأن نفسيتي لن تتحمل الإرهاق الدراسي أو ترقبي للنقط وما يشوب ذلك من خوف وانتظار وتوتر فصحتي في غنى عنهم، ثم لاحتياج أولادي لكل وقتي وطاقتي ظانة أنني بدراستي سأنشغل عنهم وسأهملهم، لما تحتاج الدراسة من تفرغ وعناء وقد كنت جد واهمة ومخطئة في ذلك. لم أظن حينها أن المرض سيغير طريقة تفكيري، لم أظن يوما أن حزني الشديد وأن كرهي لعملي وحياتي وبيتي والعالم كله، سيحيي رغبتي في الدراسة، لم أظن أن قراري الحاسم في عدم متابعة دراستي بسبب أسرتي ومرضي سينقلب رأسا على عقب، لم أظن أن المسافة من طنجة إلى مارتيل لن تثنيني عن رغبتي في الدراسة، وكأن قوى خفية أصبحت تدفعني وتحركني، وتحرضني على تحقيق أحلام عمري المؤجلة!
لم يتحمس زوجي كثيرا لذهابي لمارتيل من أجل الدراسة، هو لا يرفضها لكن يفضل أن أدرس بطنجة وأن أكتفي بالشعبة المتاحة بها بالنسبة لي وهي دراسة القانون، هو نفسه عشق دراسة شعبة أصول الدين -رغم تخصصه في العلوم الرياضية- لكن تواجد هذه الشعبة بتطوان منعه من تحقيق رغبته في متابعة دراسته لما يحبذ. وكنت أستغرب لتواجد كل شعب العلوم الإنسانية بمارتيل مع أن مدينة طنجة هي المدينة الدولية، وهي الكبرى، كنت أستنكر ذلك التقسيم الجهوي في دراسة الشعب، قبل أن أحبه وأتشبت به فيما بعد، كأحد المقومات الحاسمة في دراستي وفي علاجي. فبعد أن كنت أبحث دون وعي مني عن أي هروب، حيث أنني مرارا خرجت بدون وجهة محددة. فمرة كانت وجهتي المدرسة، لأغيرها وأرتمي في الشاطئ على الرمال باكية، لا أعلم لماذا؟ باكية كالطفل الصغير الذي حرم من حضن أمه لسنين ليذهب للمدرسة، أكيد هو نفس إحساسي حينها وأنا ذاهبة للمدرسة لعملي 'التدريس'.
ووجدت نفسي بمارتيل بكلية الآداب والعلوم الانسانية أبحث عن استعمال الزمن، فقد تسجلت متأخرة جدا، لم أنتظر أخذ توصيل تسجيلي حتى تستكمل الإجراءات الإدارية لأعرف الفوج الذي انتمي إليه – وهذا سيكلفني فيما بعد – لم أكن أعلم أن طلبة شعبة السوسيولوجيا كثر وبأن هناك فوجين في هذه الشعبة، وأن عدد طلابها والراغبين فيها أكثر من ألف طالب وبأن لها مريدين ومحبين وعاشقين مثلي.
وها أنا ذي طالبة في شعبة 'علم الاجتماع'، يا لها من صفة جديدة. ياه! عشتها قبل أكثر من عشرين سنة مضت كطالبة في شعبة الأدب العربي بالدار البيضاء، بكلية الآداب والعلوم الانسانية بابن امسيك. وكان أول ما شرعت فيه أنني بحثت عن استعمال الزمن الذي استوقفني كثيرا وأنا أقرأ فحواه ومواد شعبة 'علم الاجتماع'، وخصوصا أسماء الأساتذة الذين سيدرسونني، دهشت كثيرا، ما هذا؟ أي زمن أعيش؟ وفي أي فترة زمنية بعثت فيها لأدرس مواد هذه الشعبة في هذه المدينة الشاطئية الصغيرة مارتيل وفي هذه الكلية بالضبط اللتين اخترتهما؟، ما هذه المصادفات الغريبة العجيبة؟ هذا الاندهاش والانبهار وما حللته حينها يدعوني إلى استحضار ما درسته في شعبة 'علم الاجتماع' فيما بعد بالفصل الثالث بمادة 'سوسيولوجيا الثقافة' والتي من محاورها (الثقافة والهوية)، وعرفت أن الهوية تبدأ بالاسم الشخصي واللقب، وبأن هناك أسماء مرتبطة بالزمن وأيضا هناك أسامي لها مرجعية إحيائية للشرف أو التاريخ، كما أن الهوية هي عنوان الانتماء وهي ما أعرف به ذاتي وأنتظر من الآخرين الاعتراف بها . أو كما يقول مختار الهراس : «الاسم الشخصي يسبقنا إلى الوجود ويستمر بعدنا وهو يكشف عن تداعيات الآخر الذي يختار لنا اسمنا الشخصي، ومن تمة عن نسبية حريتنا الفردية واستقلالنا عن الجماعة الأسرية… ويتميز الاسم الشخصي بثقل الأشياء ويصمد أمام تيارات التحول والتلاشي، ويتعذر أو ترفض ترجمته الى لغات أخرى».
تساءلت عن أي زمن سأحياه بهذه الكلية ومع من؟ فقد قرأت في استعمال الزمن في الفصل الأول بشعبة 'علم الاجتماع' أنني سأدرس مادة الفكر الفلسفي عند أستاذ اسمه المعتصم ، فدهشت وتساءلت: 'أتراني بعثت في العصر العباسي؟؟!'
وامعتصماه! أنجدني، لم أسمع قط في عصر العولمة هذا وطمس الهويات، وزمن التكنولوجيا السريعة هذا اللقب، مع أنني أشتغل بمهنة التدريس لأكثر من عشرين سنة، وأدرس كل سنة أكثر من أربعين تلميذا في كل فوج (أدرس فوجين) ولسنين عديدة، لم أصادف لقبا كهذا أو أي لقب من العصور القديمة التي شهدت ازدهارا عربيا وفكريا وثقافيا كذاك الزمن.
آه، أين نحن الآن من العصر العباسي وما تفتقت عنه بطون وأرحام النساء العربيات من شعراء وأدباء، وما كان خلال ذاك العصر من عطاءات وإبداعات لا زلنا نعيش على أطلالها حتى عصرنا هذا، أترى هذا الأستاذ الجامعي من أحفاد مفكري العصر العباسي؟؟؟ إن الاسم يشكل الهوية، واسم هذا الأستاذ اسم عربي قح منحدر من عهد العباسيين.
بعدها ستقع عيناي على اسم: الغزالي ! يا الله، الغزالي وهو من سيدرسني مادة علم النفس، ما هذه المصادفة المبهرة لي، أكيد أنه رجل كبير في السن وقور حامل لنظارة سميكة من كثرة بحوثه وقراءاته، ويضع ربطة عنق، وبطنه بارزة نوعا ما، هكذا تخيلت حتى لا أتخيله يضع عمامة ويحمل كتابا قديما تحت إبطه، ويلبس لباسا عربيا قديما أي لباسا منسدلا، حسب ما يتلاءم وبيئة وجو شبه الجزيرة العربية. إنه الغزالي أحد أعلام عصره، ذو البصمة الواضحة في علوم الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والمنطق، رحل إلى بغداد بطلب من نظام الملك، ليدرس في المدرسة النظامية في عهد الدولة العباسية، هو أيضا عاش العصر الذهبي العباسي في أواخره، شتان بين بغداد اليوم وبغداد الأمس، خربت بغداد اليوم وحطمت حضارتها من طرف أمريكا، وأصبحت أرض دجلة والفرات ومهد أولى الحضارات في خبر كان، يوم كانت مدينة شيكاغو الأمريكية لم تر النور بعد بقرون عديدة، يا لمهازل التاريخ!
وفعلا فهؤلاء الأساتذة اسم على مسمى، فلا يمكن للغزالي إلا أن يدرس مادة 'علم النفس' المنبثقة من الفلسفة، ولا يمكن للمعتصم إلا أن يدرس مادة 'الفكر الفلسفي'. بعدها سألحظ اسم الأستاذ الشتوكي مدرس مفاهيم فلسفية، قلت في نفسي: 'أكيد هو منحدر من منطقة شتوكة التي تتواجد بمنطقة دكالة'، ربما هو على شاكلة قامات الدكاليين، سيكون طويلا ضخما كما هي قامات أهل دكالة، وهذا اسمه مغربي دكالي واضح، ليس كما هو الغزالي والمعتصم فهما معا اسمان عربيان بادية هي هويتهما العربية من اسميهما. بعدها سألاحظ اسم الاستاذ بوطالب وهو مدرس مادة 'أسس علم الاجتماع'، لم أكون عليه فكرة واضحة، وكون أن هذا الاسم من الأعلام الفاسية الوازنة في بلدنا، كنت منبهرة خصوصا باسمي المعتصم والغزالي، بعدها ستقع عيني على اسم الزياني مدرس 'ميادين علم الاجتماع'، فأدركت بفطنتي وبسرعة ودون أدنى تردد مني أنه من 'اولاد زيان'، أحد المناطق القريبة من الدار البيضاء، فأكيد أنه من هناك، حتى أن محطة السفر الكبرى بمدينة الدار البيضاء تحت مسمى ' اولاد زيان'، فغالبا سيكون بيضاويا منحدرا من ضاحية أولاد زيان، وهي المنطقة المعروفة بما تزخر به من فلاحة وخير وكرم أهاليها مثل جهة دكالة، كان هذا هو انطباعي عنهم من خلال أسمائهم أي هوياتهم. فالهوية تبدأ بالاسم الشخصي واللقب. وهي ما أعرف به ذاتي وأنتظر من الآخر أن يعترف لي بها. هكذا درسنا في مادة 'سوسيولوجيا الثقافة'!
لأدخل أول حصة كانت أمامي ذاك اليوم الغريب عني، وأنا أحس بالخجل لكبر سني ظانة أنني أكبر طالبة بالجامعة، متواجدة في مكان غريب، وكل من حولي غرباء، لا أعرفهم كلهم، أغلبهم صغار السن، فأول تلاميذي الذين درستهم أكبر منهم! وتساءلت: هل سأجلس بجوار هؤلاء الشباب الصغار الذين هم كلهم حماس وحركة وإرادة وقوة؟؟ هل سأستطيع مجاراة اجتهادهم هم الحاصلون على الباكالوريا حديثا؟؟ وقد تكلست بالمقابل معلوماتي وعلاها الغبار، طيلة هاته السنين؟ هل… وهل… وهل… العديد من الهلهلات، التي تطرق رأسي. ودخلت أول حصة وهي مادة الفكر الفلسفي للدكتور المعتصم.
أحاسيس كثيرة خالجتني حينها، الخوف، الفرح، الخجل، الرهبة، التردد… وخاصة الرغبة في أن أخرج من المدرج هاربة إلى طنجة دون أوبة إلى هذه المدينة مارتيل وهذه الكلية، ليدخل أمامنا شاب أنيق ويقول لنا بعد إلقائه للتحية : «سأعود بعد قليل، لأننا نتدارس مواعيد اختباراتكم 'للدورة الخريفية'»، خفق قلبي بقوة وخوف من كلمة 'اختباراتكم' وأنا برحاب المدرج أول حصة، بعد سكونه لسنين وألمه، هذا القلب الذي لم يخفق من مدة طويلة بهذه الطريقة من مثل هذا الحدث، هذا القلب الحزين الذي لم يعد يعرف إلا التضخم والتصلب والإحساس بالوخز، كأن مقدمة سكين حادة منغرسة فيه، سأعرف هذا نتيجة إحساسي بالألم وببعض التحاليل الطبية، فقد كان بين الحين والآخر يعطيني الطبيب المتخصص في 'داء السكري' تحاليل سنوية منها إجراء فحص على قلبي، وفي إحدى الفحوصات كتب لي الطبيب المختص في القلب 'رسالة' مغلقة إلى طبيب 'داء السكري' والذي بمجرد اطلاعه على فحواها، سألني مستنكرا: «ما بك قلقة إلى هذا الحد؟ ما يؤلمك؟» وسأل زوجي نفس السؤال: «ما بها؟» فاستغربت سؤاله! وكان معي زوجي كعادته، فهو يرافقني أثناء كل فحص عند أي طبيب وعند إجرائي لكل التحاليل لحرصه على ذلك ولخوفي الشديد من الحقنة، بل لرعبي منها. فطبيبي هذا يعرف جيدا مؤازرة زوجي لي لذلك سأله مستغربا. فلم أجد أي جواب في جعبتي لأجيبه به، غير أنني أتأثر بأي خبر مؤلم يمكن أن أشاهده على وسائل التواصل أو أقرأه في جريدة أو أسمعه في بعض برامج الواقع وخصوصا إن تأكدت من صحته، فإنني أسقطه مباشرة على حياتي أو على أولادي، وقد أمضي أسبوعا بعد ذلك أو أكثر متألمة، وبمجرد وضعي لرأسي على وسادتي حتى أبدأ في اجترار واستعراض واستحضار كل تلك الآلام. فنصحني طبيبي بأن أقاطع مشاهدة كل الأخبار المؤلمة عبر جميع وسائل الاتصال والتواصل، المسموعة منها والمرئية، وإن أردت البحث عن الآلام الواقعية اليومية والحقيقية والمرئية مباشرة، فيكفيني الذهاب للمحكمة والوقوف ببابها حتى أرى شابات صغيرات تجاوزن العشرينات بقليل وهن يمسكن بأطفال صغار، يعانين من مشاكل لا حصر لها مع أزواج يرفضون تطليقهن أو هاربون عن أداء نفقاتهن ونفقات أطفالهن… وأضاف الطبيب: «وهذا كاف لكي تشبعي قلبك مباشرة بمشاكل واقعية حزنا وألما». لكن هذا القلب سيتحرك بشكل آخر وأنا داخل الحرم الجامعي.
خالجت قلبي أحاسيس كثيرة وخفقان على حين غرة حين سماعي من الأستاذ كلمة اختبارات، وما لهذه الكلمة من وقع على النفس، وبمجرد انصراف الأستاذ عن المدرج، ألقيت نظرة على استعمال الزمن، فسألت أحد الطلبة بجواري: «هل هذا الذي يتكلم، هو الأستاذ المعتصم ؟»، أجابني الطالب بالإيجاب!
فاستنجدت داخل صدري، وا معتصماه! ما هذا؟ أنجدني يا معتصماه! هل في أول حصة بالنسبة لي ستعلن امتحانات الدورة الخريفية؟! هل سأستطيع استجماع الدروس وفهم ما فاتني من هؤلاء الأساتذة الأجلاء؟! هكذا أراهم، وهكذا أحس وأنا أقف أمامهم، نعم أجلاء! فهم على أعلى قمة في الهرم الاجتماعي يتربعون كما يقول بذلك أفلاطون وكما قسم المجتمع، فمهما تدهور حال التعليم ببلادي، ومهما اختلفت المقاييس عبر الزمن، فأغلب الأساتذة بالنسبة لي: هم أهل فكر، وهم أشرف الناس، وأهمهم في المجتمع، أحب من أحب وكره من كره.
ومهما تكالبت مجموعة من الظروف لهز صورة الأستاذ في مجتمعاتنا، فقيمته تستمد منه شخصيا، ومن مهنته الشريفة التي يشوبها نوع من القدسية والقداسة والشرف والصدق، على عكس ما يعارضها ويخالفها من مجموعة مهن، فمهما ارتقت بصاحبها ماديا ومجتمعيا، ومهما ذرته من أموال طائلة على ممارسيها كالرقص وتجارة المخدرات…. فتبقى مثل هاته المهن إذا اعتبرناها كذلك مع أنها حاضرة في مجتمعنا شئنا ذلك أم أبيناه أو هي ممارسات موصومة بالدناسة وفي خانة التدنيس.
ولا يهمني مهما سمعت عنهم، فهم أساتذتي الذين أحترمهم، وكل ما يهمني منهم هو علمهم ومعرفتهم وما سأستفيد من خبرتهم، ولا تهمني حياتهم الخاصة أو انزلاقاتهم أو انتماءاتهم الدينية أو الحزبية أو ايديولوجياتهم…!!
عاد الأستاذ المعتصم سليل العصر العباسي المنظم في هندامه، والملقي لمحاضراته دون الخروج عن الموضوع ولو للحظة واحدة، فهو ليس كما تخيلته من خلال اسمه / هويته، بل أصغر بكثير من خيالاتي. في حركاته وكلامه يظهر حسه الديناميكي الهائل، وأكيد وواضح أنه كان مجدا خلال دراسته وشديد التنظيم. أو هكذا بدا لي، وبمجرد دخوله للمدرج أخبرنا بمواعيد الاختبارات بعد حوالي أسبوعين فقط!!
وبعد انتهاء الحصة، لحقت به مسرعة، والخفقان بقلبي! هل لازال قلبي يعرف الخفقان؟ ياه! من مدة طويلة وقلبي جامد لا يخفق لا يعرف إلا الوخز، وقد تكلست عروقه. ولا يعرف غير الألم. أخذ قلبي يخفق وكأنني تلميذة صغيرة أمام أستاذها، وليس امرأة ناضجة، وربما تقارب أستاذها سنا، وبعد إلقائي التحية عليه، قلت له: «كان لي شرف سماع محاضرتك»، وقبل أن أتمم كلامي، عقب علي بسرعة: «أنا من كان له الشرف بذلك!» وامعتصماه، أنك لا تدري وقع مثل هذا الكلام على نفسيتي، وعلى قلبي ولا تدرك أنك بهذا الرد طردت عني فكرة الهروب والانسحاب من الكلية وأنك بهذا الرد الجميل تنقدني من براثين الحلكة المظلمة التي أعيشها، كيف يعقل هكذا كلام؟ أي دكتور بجلالة قدره -ولو أنه لازال شابا- يقول لي: «هو من له الشرف أن أحضر لمحاضرته؟» أي تواضع هذا؟ وأي تعامل في قمة النبل، وقمة الأخلاق؟ هي الأخلاق التي أتغنى بها عند غالبية رجال التعليم. وبعد الخوف والوجل والخجل والرهبة والتردد، سيقفز قلبي بين أضلعي فرحا، لأتم سؤالي: «هل يمكنني أن أساير وأفهم وأن أتدارك ما فاتني، ونحن على أبواب الاختبارات، مع أنني لن أفوز إلا بحضور القليل من المحاضرات المتبقية خلال هذا الفصل الأول؟» وبكل ثقة وسرعة أجابني: «أجل، إنك تستطيعين ذلك بالتأكيد…!» لا أذكر بقية الكلام الذي كان كله تشجيعا لي وكله في هذا السياق، لأنني بدأت أحلق بأحلامي هائمة في ملكوت جديد يبزغ منه شعاع بريق قادم نحوي. وفرحت جدا، فلا غرابة ولا عجب، فأكيد هذه هي أخلاق سلف العصر العباسي ورجالات فكره الأجلاء.
بعدها مباشرة وفي الحصة الموالية، أذكر أنني حضرت محاضرة للأستاذ 'بوطالب' ! الشخصية الكارزمية الأكثر شهرة في الكلية بالنسبة لشعبة السوسيولوجيا، أو هو الشخصية الأكثر إثارة للجدل، وهو من بين الأساتذة الذين يدرسون في أغلب الفصول الستة لهذه الشعبة لمدة الثلاث سنوات لنيل الإجازة، يتعاقب فيها على الطلبة بشخصيته الحازمة مع الرعب الذي يخلفه لدى الطلبة خصوصا أيام الاختبارات. لم أكن حينها قد عرفت عنه كل هذا بعد! فبدا لي ذي سحنة تطوانية، ولم أعرف لماذا غيبت في تحليلي هوية اسمه، وكنت لمدة ليست بالهينة -وحسب ملامحه – ظننته تطوانيا، فلون شعره أشقر، وعينيه مائلتين للون الفاتح فلونهما ليس أسودا، مع أنه لا يتكلم بلكنة شمالية حين يتكلم اللهجة الدارجة، فينطق القاف كما ينطقها 'أهل الداخل'، هكذا يلقبنا أهل الشمال حين يكون أمامهم من هو ليس جبليا أو ريفيا، لكن في غيابنا نحن غير الشماليين يلقبوننا 'العروبية'، ولو كان القادم للشمال من مدينة الدار البيضاء أو الرباط أو فاس.. أو غيرها من المدن المغربية الأكثر تحضرا!
لكن كان مترسخا في ذهني أنه تطواني، لا أعرف لما؟؟، مع أن اسم بوطالب من أعرق الأسماء الفاسية ونواحيها، ويمثل هذا الاسم أكبر رجالات السياسة بالمغرب والفكر أيضا.
ونفس ما حدث لي مع الأستاذ المعتصم، وربما لكوني لازلت لم أسمع تعاليق الطلبة عنه، لم أتردد لحظة فتقدمت اليه، وقلت له نفس ما قلته لمعتصماه (منقدي الأول في الكلية بمارتيل)، ليجيبني بنفس الأدب، وبنفس التواضع: أنني يمكنني المسايرة، رغم ضيق الوقت، وقال لي: ما اعتبرته المفتاح السري في تعاملي مع كل الاختبارات فيما بعد، «أننا نكون طلبة باحثين وليس طلبة يردون لنا ما نلقنهم إياه في المحاضرات».
فأحيانا انطباعاتنا المغلوطة عن الأشخاص وأحكامنا المسبقة عنهم قد تجعلنا مترددين للوهلة الأولى في التعامل معهم، أو قد نمتنع عن التعامل معهم نهائيا!! وهذا يمكنه أن يضيع علينا معرفة الكثير من الناس وخسارة التعامل معهم لمجرد أحكام مسبقة قد لا تمت للحقيقة بصلة وقد تحول دون التواصل معهم والتعرف عليهم عن قرب.
سمعت الدكتور بوطالب يردد مرارا هذا الكلام -أننا نكون طلبة باحثين- مرارا في محاضراته خصوصا في الأيام الاخيرة قبل كل الاختبارات، فاستنتجت من نصيحته هاته، أنه لا يجب أن أكتفي بمحاضرات الأساتذة التي يلقونها علينا، بل يجب البحث في كتب أخرى أو عبر الشبكة العنكبوتية عن إضافات جديدة في كل مادة. ثم استطرد بعد تشجيعه لي، أنه يمكنني الذهاب عنده لمكتبه للاستشارة وطرح كل تساؤلاتي في أي وقت شئت!
يا الله ما هذا النعيم الذي أعيشه، فقد دخلت للكلية بعد عناء طويل من المرض وعدم الرغبة في الخروج من البيت أو محادثة أي شخص، لتبدأ لحظات الانتعاش النفسي عندي بهذه الكلمات من أستاذ جامعي له وزنه.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [ ومضات من حياتي ]
حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [ ومضات من حياتي ]

الرباط

timeمنذ يوم واحد

  • الرباط

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [ ومضات من حياتي ]

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [ ومضات من حياتي ] الرباط نيوز إن كتاب: 'البورناوت' Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية.. ماجدة غرابو لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى. عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض 'الاحتراق المهني' المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر. فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية… ومضات من حياتي يوم من أيام مارس 2018، أظن يوم الثامن عشر منه، يوم مر علي عصيبا أغلبه، لأن زوجي تركني قبل ذهابه للعمل وبي مغص خفيف لأنني حامل في سني الذي تجاوز الأربعين ومريضة بداء السكري ذاك القاتل الصامت، لم أدر متى وأين وكيف حبلت وبشكل مفاجئ؟؟ فقد أجريت الاختبار الأولي المنزلي ليعطيني النتيجة إيجابا، مع أنني وزوجي نحتاط بشتى الأساليب حتى لا أحبل بعد إصابتي بمرض السكري، لم أصدق عيني ولم أصدق فهمي للكلمات 'الحمل إيجابي' المكتوبة باللغة الفرنسية، لم أصدق تواجد الخطوط الحمراء القانية التي يزداد لونها وضوحا بمرور الدقائق، فخرجت من الحمام ووضعت أمامه أنبوب الاختبار الأبيض بعلاماته الحمراء ليكتشف مثلي أنني حامل. فزوجي غالبا هو الذي يلح دائما عند غياب دورتي الشهرية أن أقوم بمثل هذا النوع من الاختبارات، وهو الواثق وبشدة في قدرتي المستمرة على الإخصاب على عكسي أنا التي كنت أظن بل مقتنعة إلى حد كبير أن غياب الطمث في سني هذا هو بداية الإعلان عن سن اليأس كما يسمونه أو سن الأمل كما يحلو لبعضهم تسميته أو سن انتهاء الخصوبة والإعلان عن توقف الدورة الشهرية، وعلى أن الرحم أصبح كالأرض الجرداء المتشققة الجافة التي لا نبات ولا ماء ولا طير يقترب منها، وقال لي كرد فعل أولي: «أن هذا ما كنت تريدينه، ارتحت الآن؟». أعدت ترديد كلماته واجمة شاردة، هذا ما كنت أريده؟ ارتحت الآن؟ وأسرعت إلى قاعة الاستقبال ذاهلة. فقد كنت أريد الحمل منذ عشر سنين مضت أو أكثر وليس الآن، إنني في سني هذا مريضة بالسكري وابنتي البكر في قسم البكالوريا وابني الصغير سنه تجاوز الإثنا عشر سنة، هل من الممكن أن أصبح حبلى في مثل هاته السن؟ الأفكار تتصارع في ذهني، كل فكرة تفر هاربة لتلحق بها الأخرى أسرع وأقوى وألعن. تبعني زوجي وابنتي التي سمعت الحدث. وجلس بعدها زوجي مبتسما ببراءة كالطفل الصغير، ربما مزهوا بفحولته، أو تدغدغه فكرة أنه سيصبح لدينا طفل صغير أو… أو… لا يهمني، بل أنا في ذلك الزلزال أو الإعصار الذي ألم بي في ذهني، كيف أحبل وقد سقطت سقطة قوية في الدرج عند أمي صدفة قبل شهر، حتى ارتج دماغي مع الجدار وكاد يتهشم وكدت أن أكسر من عدة أماكن لولا لطف الله؟ كيف أحبل وقد تناولت مضادات حيوية وأدوية كثيرة بعد نزلة برد قاسية ألمت بي؟ كيف أحبل وأنا أتناول عقاقير عن مرض السكري؟ وهي ممنوعة في حالة الحمل وتصبح الحقنة معه إجبارية؟ الحقنة التي تخيفني وعندي منها رعب الى درجة الفوبيا، ولأجل الحقنة ألغيت فكرة الحمل نهائيا من دماغي مدة عشر سنين مضت وهي الفترة التي أصبت فيها بمرض السكري منذ انتقلت إلى مدينة طنجة؟ كيف أحبل وأنا أتابع دراستي الجامعية؟ كيف سأذهب للكلية وبطني منتفخة أمامي وأمام أنظار الأساتذة؟ وأمام الطلبة الشباب وهم بعمر أولادي؟ كيف سأتم دراستي وقد أصبح عندي حلم بمتابعة دراستي حتى آخر رمق؟ وأحلم أن أطبع بحث إجازتي في كتاب؟ كيف سأسترجع طرق التعامل مع طفل صغير جدا؟ كيف… وكيف؟ هذا هو الإحساس الذي كان يعتريني حين تغيب عني دورتي الشهرية، هذا ما فهمته منذ صبايا، بعد الأربعين قد تظهر علامات سن اليأس، رغم ضمور صدري ورغم بعض علامات الحمل فإنني لم أستحضر في ذهني نهائيا أنني حبلى أكثر من أني اقتربت من ذلك السن اليائس! ذهبت اليوم الموالي لإجراء تحاليل الدم للتأكد أو تكذيب جهاز الاختبار الأولي المنزلي، فثبت أنني حامل ما بين الأسبوع السابع والثامن وهرمونات الحمل عندي مرتفعة أرقامها جدا، ومباشرة حملنا تقرير التحاليل الطبية أنا وزوجي إلى الطبيبة التي أكدت الحمل عبر جهاز الأشعة بالصدى، وأرادت أن تتأكد من دقات قلب الجنين عبر الجهاز المهبلي فرفضت لأن لي ذكريات أكرهها مع هذا الجهاز حين أجهضت قبل ثلاث سنوات مضت، ألحت علي لكنني صممت على الرفض، وأمام رفضي أعطتني موعدا بعد أسبوعين، لم أستطع الصبر ذهبت عند أكثر من طبيبة. فعند الطبيبة الثانية وهي تخصص طب عام قالت: أنني حامل في شهر ونصف ونصحتني بالذهاب عند اختصاصية في أمراض النساء. فهل لاحظت شيئا سيخيفني أو لم تستطع التشخيص؟ هل لاحظت عدم وجود دقات القلب؟ أم لاحظت علامات وجود طفل مشوه بسبب كبر سني أو عدم وجود الجنين أو أكلت القطة لسانها؟ أم هل فقط لإجراء الاختبار المهبلي كما قالت والتي لا تملك جهازه في عيادتها؟ ثم ذهبت عند الطبيبة الثالثة لتقول لي: بكل سرعة وببساطة أنني حامل لكن بدون جنين، كيف؟ وبنفس الإعصار الذي تلقيت به نبأ كوني حبلى، بعد إجراء تحاليل دمي وتأكيد الطبيبة أن في رحمي جنين ذي السبع أسابيع فما فوق، بنفس الهزة والارتجاج والصدمة تلقيت خبر أنني حامل لكن بدون جنين، استفهمت الطبيبة كيف؟ قالت لي: يوجد حمل لكن كالبيضة الفارغة!؟ قلت: إذن هي بيضة فاسدة!؟ قالت لي: بل فارغة!!؟. لم أستوعب شيئا، فالعديد من الدكاترة في بلادي وأقصد الأطباء، يعاملون المرضى وكأنهم درسوا معهم في نفس كلية الطب، فمن المفروض أن يفهم المريض وبكل سرعة حالته وكأنه درسها لسنين أو لا يفهم، فليس مهما عند الطبيب فهم أم لا! المهم ان يخرج ويدفع ليحتل مكانه مريض آخر. وبلغة الطب قالت لي ما يسمى Sac mode!؟ لم أستوعب شيئا من هذه الطبيبة صاحبة التشخيص والتي هي من تكلفها 'تعاضدية التعليم' بالكشف على جميع نساء رجال التعليم والنساء الموظفات بهذا القطاع أيضا، وتوليدهن في جميع الحالات سواء في حالة الولادات الطبيعية أو الولادات القيصرية الحرجة أو الولادات المتعسرة، ولحسن حظي أو ربما لأنني من الفئات الشبه محظوظة نسبيا كما يقول بذلك الدكتور تمحري في كتابه 'سوسيولوجيا التربية' فقد استطعت أن أكرر الفحص عند أكثر من طبيبة في ظرف أسبوع أو اثنين وأن أدفع لهن ثمن الفحص الطبي الباهض! حتى بالنسبة للطبيبة صاحبة خبر حمل بكيس فارغ والتي تحملها المسؤولية 'وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي' لتوليد النساء وإخراج عدد كبير من النشئ المغربي من أرحام المنتمين لقطاع التربية والتعليم في الشمال خصوصا والمسؤولة هي عنها، فقد استدرجتني لعيادتها الخاصة لأدفع ثمن الكشف الطبي المرتفع مقابل الكشف بمصحة تعاضدية التعليم بطنجة بدعوى أن الأجهزة هناك قديمة ومتهالكة جدا ولا توضح أي شيء بعد أن كشفت علي بها، وحتى العاملين بمصحة تعاضدية التعليم يبذلون قصارى جهدهم وبكل وسائل الإشهار والدعاية لدفع المنخرطات لتتبع حالاتهن عند الطبيبة في عيادتها الخاصة بدل دفع الثمن الرمزي سبعون درهما المحدد في تعاضدية التعليم كخدمات توفرها الدولة بعد الاقتطاعات الشهرية لنساء ورجال التعليم العاملين بهذا القطاع. تلك الليلة وعند سماعي لهذا الخبر لم أبتعد عن الشبكة العنكبوتية لمعرفة كل الحيثيات الممكنة عن هذه الحالة 'حمل بكيس فارغ' أو (Sac mode)، ويا ليتها أي الطبيبة المختصة في طب النساء كانت مصيبة في تشخيصها! لأنني بعد أن أجهضت وخرج من رحمي الجنين الصغير! وكانت دمائي حينها لا تخرج مني فقط بل تتفجر وتندفع بقوة! حينها استحضرت كلامها أي كلام هاته الطبيبة المنتمية لتعاضدية التعليم وبي رغبة ملحة لو استطعت حينها أن أحمل جنيني الصغير جدا وملابسي الملطخة بالدماء وأرميها في عيادتها وأخرج بدون أن أنطق بكلمة لنفيها لوجود ذلك الجنين! كيف يشخص بعض أطباء وطني بعض الحالات الحرجة أو الخطيرة وأحيانا حالات مصيرية كخروج إنسان إلى الوجود بهذا العبث؟ وبتلك السرعة وتلك الثقة في النفس، لا لشيء إلا لمجرد أن الزبون أمامهم أهم ما يميزه أو أحسن ما فيه نقوده التي سيدفعها نظير ما يتفوهون به من ترهات وأخطاء فادحة لا يحاسبون عليها. فهل كل نساء ورجال التعليم المنخرطين في تعاضدية التعليم لهم القدرة المادية للذهاب عند أربع طبيبات للتشخيص في مدة لا تتجاوز الأسبوعين وقبل توصلهن بالراتب الشهري؟ -ما وقع لي كان في منتصف الشهر- وللتأكد من الطبيبات أيهن على صواب عبر تناقض تشخيصهن وتضاده. فكما يقال من ضدها تعرف الأشياء. فهل لو كنت اعتمدت على تشخيص هذه الطبيبة التي قالت: أنه حمل بكيس فارغ ولا أعرف هل الفراغ برحمي أم بدماغها؟ ولو لم أقم بالتحاليل الطبية اللازمة في حالة الإجهاض والتي طلبتها مني الطبيبة في حالة النزيف مثل مدى تختر الدم عندي ومدى إصابتي بفقر الدم وغيرها من الاحتياطات اللازمة عند كل إجهاض. وكنت أجهضت مثلا وأنا أعاني من عدم التوازن في إحدى هذه التحليلات بناء على صاحبة الدماغ عفوا الكيس الفارغ! ألن يكون مصيري حينها على الأقل نزيف حتى الموت؟ أو حتى إذا حملت بقدرة قادر إلى المستشفى وأردوا تزويدي بالدم، مع جهلهم لفصيلة دمي ألن يكون مصيري نفس الشيء أيضا!!؟ مع أني أثناء الوضع في المرتين معا التي أنجبت فيهما أولادي، أحقن بعد الوضع مباشرة ليكف نزيف دمي الذي يخبرونني به ويقومون بكل الاحتياطات اللازمة حتى لا أنزف فيما بعد، ومنها إضافة ليلة مبيت أخرى استثنائية لي على خلاف النساء اللواتي يضعن مثلي بطريقة طبيعية ويخرجن اليوم الموالي مباشرة. فأبيت في المستشفى والحقنة مغروسة في ظهر يدي للتدخل السريع في حال النزيف والذي يمثل أول أسباب الوفيات عند النساء الحوامل، يضع بلادنا في مصاف الدول الرائدة من كثرة الوفيات أثناء الولادات، ومن أواخر الترتيب العربي وخصوصا العالمي. أم أن هذا الترتيب قضاء وقدر فقط!! يا ويلاه ويا حسرتاه عليكن يا نساء وطني! ويا ثكلي على القوارير وما يتربص بكن على أيدي بعض ممتهني مهنة الطب، والأخطاء الفادحة المرتكبة بعبثية مجانية في بلادي! مع أنه في الموروث الشعبي وحتى طبيعة الأنثى ورغبتها في الأمومة سبب تواجدها في هاته الحياة يدفعانها للإنجاب والبحث عن طفل بكل الطرق حتى بالنسبة للواتي استعصى أو طال عندهن الأمر، فإنه والحال كذلك لا مفر من أيدي بعض العابثين والمستسهلين لمهمة ومهنة الطب. هذا عن النساء المحظوظات!! اللواتي يعملن بالأماكن الحضرية أو اللواتي أزواجهن يعملون بالمدن! فماذا عن التعيينات التي تطال رجال ونساء التعليم في الأماكن المهمشة حيث لا طرق ولا وسائل نقل ولا مستشفيات وماذا عن المغرب العميق! أي مصير؟ وأي إنجاب؟ وأي إجهاض؟ فهناك يعيشون على الطبيعة أقرب منهن إلى الحياة الحضرية، ويلدن بالفطرة في الألفية الثالثة حتى زمننا الذي ننتمي إليه، في زمن التكنولوجيا المتوحشة هذا، الذي تحول العالم بفعلها إلى قرية صغيرة. وأستحضر هنا حكاية رجل تعليم ابتدائي عين بمناطق ثلجية وهو لا يفقه في هذا المناخ وهذه التضاريس شيئا لأنه لم يعش حياته في مناطق جبلية بها ثلوج، وحظه العاثر ربما جعله يمتهن هذه المهنة، فشاءت الأقدار أن يعمل ويعيش بمناطق ثلجية من أجل التدريس، فألم المخاض بزوجته وذهب ليبحث لها عن مولدة أثناء عاصفة ثلجية وليست له أدنى خبرة في التعامل مع هذا النوع من العواصف، فوقف تحت شجرة حتى تهدأ العاصفة الثلجية فتجمدت أوصاله وهو تحتها، فمات وهو لا يعلم أن ما يقي الإنسان من الأمطار ليس هو نفس ما يقيه من الثلوج، ولا يعلم أن سكان مثل هاته المناطق يواصلون السير بسرعة حتى لا تتجمد دورتهم الدموية وحتى لا تتجمد أوصالهم، ومات قبل أن يرى طفله أو يحمله بين يديه. فرغم سني الذي تجاوز الأربعين ورغم ما أمضيته من عمري من تجارب حياتية ومن إنصات لحكايات الناس، لم أسمع قط عن حمل بدون جنين، فأين الجنين؟ الذي أثبتت الطبيبة المختصة الأولى وجوده؟ هل ابتلعه رحمي؟ هل ذاب مع خلايا دمي؟ هل طار بأجنحة في السماء وأنا غافلة من أمري أو نائمة!؟ هل الطبيبة الأولى درست الطب والثانية درست الدجل أو العطارة؟ أم العكس الطبيبة الأولى تخيلت الجنين هي ومختبر الدم الذي أثبت الحمل بارتفاع هرموناتي أم الطبيبة الثانية هي من على صواب!! يا ربي ما هذا الذي يلم بي؟ وما هذا الصراع الذي خلقه الأطباء عندي؟ والذي زاد الطين بلة أن جل علامات الحمل التي تعاني منها أغلب النساء عادة كالقيء لا أعاني منها حين أكون حبلى، حتى ذلك التثاقل والوحم الذي أسمع عنه لم أجربه قط حتى حين أنجبت ابنتي وولدي فلم أعاني منه كثيرا! وأنا في هذه الصراعات وهذا الزخم من الأفكار المتلاحقة وإحساسي بجنيني في بطني وصدري يؤلمني حين أتحرك في سريري، وفرحة ابنتي القصوى وسعادتها الفائقة بخبر حملي وهي تقول: ستلدين هذا الطفل الصغير على خير وسيكون أروع وأجمل وأذكى منا أنا وأخي وسيكون سليما إن شاء الله، وسأتكفل بكل احتياجاته وكل رغباته وسألبسه بذوقي وسأعلمه الموسيقى التي أحب، وكل ما يريده وكل ما حرمتموني منه سأعلمه إياه، أما أنت أمي لا تتحركي فكل طلباتك سأنفذها لك. وفي كل هذا اليم الهائج من الأحداث والأفكار، وزوجي الذي بعد سماعه أن في رحمي حمل بدون جنين تفاجأ وأخذ يحاجج الطبيبة ويسألها دون أدنى اهتمام منها، فخرجنا من عيادتها مذهولين صامتين، بقينا كذلك إلا إذا نطقنا ببضع كلمات، رددت إليه سماع كلماته حين عرفنا أول الأمر عدم وجود الحمل وقلت له «أليس هذا ما أردته، ارتحت الآن!؟» غضب مني وصمت ولامني فيما بعد. ألم يدرك ألم وقع نفس الكلمات علي حين اكتشفنا الحمل أول مرة؟ حتى حين وصلنا إلى البيت بقينا على حالتنا، بعدها أخذ يسألني: «ما بك؟ لماذا أنت صامتة؟ تكلمي معي! ماذا ألم بك؟!». أحسست وكأنه يستهزئ مني؟ ما بي!؟ وكأنه لا يعلم ماذا ألم بي! فأنا مجرد وعاء كان يحمل جنينا فخلقت السعادة لمن حولي، وبدأ كل ينسج أحلامه الوردية في استقبال المولود الجديد. وبعدها أنا نفس الوعاء الذي لم يعد يحمل ذلك الجنين! فأنا لا أهم! كل ما يهم هو ذلك الوعاء والجنين! بعدها وقفنا صامتين، باردين جامدين مستبلدي الأحاسيس. فقمنا بعدة فحوصات أخرى عند طبيبة مختصة أخرى -الرابعة- تأكدت أن الجنين موجود وقد توقف عن النمو ودقات القلب متوقفة أيضا، وبالنسبة لي معناها الإجهاض مرة أخرى، بعد ثلاث سنوات من إجهاضي الأول ونفس المعاناة أو أكثر لأن هذا الجنين الثاني أكبر ذو أسابيع أكثر من الأول ومعناه جزء مني سيتمزق وسيفصل عن رحمي وسيتساقط إربا إربا أو بشكل كامل لست أدري؟؟ فزوجي كان دائما يفضل أن لا أحبل بعد أن أنجبت ابنتي وولدي، أي أنجبت ما يختاره الملوك حسب التعبير الفرنسي 'le choix du roi'، ولأنني احترمت رغبته هاته فلم استعمل ما تستعمله النساء من حيل لتحقيق رغباتهن في الإنجاب، مثل ادعاء أن حبوب منع الحمل لم يعد لها مفعول أو بكل بساطة ادعاء نسيان تناولها أو بعض الحيل الأكثر دهاء من طرف أجيال سابقة كاستعمال حيلة 'الراكد' في مواقف كثيرة، وأكثرها براءة هو تحقيق رغبة المرأة في الحمل في حالة الرفض. لم أستعمل أية حيلة لأنني متعلمة وأحترم زوجي ولا أحتاج للحيل في التعامل معه بل قد أنحو إلى الاصطدام في حالة لو كنت صممت على الإنجاب، فأحيانا التعلم والأخلاق يجعلان الإنسان أكثر اصطداما مع الآخرين في مواقف كثيرة من أمور حياته، بينما الجهل وقلة الوعي وأحيانا الجهل الماكر يقي صاحبه الكثير من المعيقات والمشاكل والاصطدامات اتجاه الكثير من المواقف والأشخاص خصوصا المقربين منه. كل ما سبق كتبته كان قبل لقائي بأستاذي تمحري في آخر الحصص في الفصل الرابع الذي يدرسني مادة سوسيولوجيا التربية، والذي كنت أقصى ما أتمناه أن أدرس عنده ولو لمرة واحدة خلال تحصيلي الجامعي من كثرة ما سمعت عنه. قبل أن أحصل إجازتي، وكذلك كان. فقد أخبرتني إحدى زميلاتي الطالبات أننا سندرس عنده إحدى مواد الفصل الرابع لهذه السنة 2017/2018 حتى أنها قالت لي: «أبشري إنك نلت ما تتمنين!» وعرفت حينها أنني أعبر عما أحسه مهما حاولت إخفاء ذلك! هذا كان من حسن حظي طبعا لكن من سوء حظي أنه وقع لي ما وقع -الحمل- حال دون أن أحضر عند أستاذي كل الحصص والأساتذة الآخرين حوالي شهر من الغياب، حتى أنه في الحصة الثانية لي عنده التي ذهبت فيها للكلية بعد أن عرفت من الطبيبة أنه لا مفر من الإجهاض وإسقاط الجنين لتوقف دقات قلبه، استفسر مني عن سبب طول غيابي عن الحصص، فخجلت أن أقول له ما ألم بي، وأنني جئت فقط ذلك اليوم لحضور حصته الأخيرة قبل أن أدخل غمار إسقاط الجنين. وأنني مباشرة في اليوم الموالي وكان يوم أحد بدأت أخذ الأدوية التي تساعد على الإسقاط مع أن الطبيبة أكدت علي أخذها قبل ذلك لكني أجلت أخذ الدواء حتى أحضر للمادة التي يدرسنا إياها الأستاذ وهي 'سوسيولوجيا التربية' لآخر حصة في الفصل الرابع. لا أعرف هل الحياة هي صدف غريبة إلى حد المستحيل أو الخيالي؟ فالإنسان له مواقف في حياته وكأنها مسطرة مرسومة بكل دقة، وتلك الدقة خارقة للتخطيط الإنساني بل هي دقة من قوى خفية تحركنا إلى حيث لا ندري، ندرك من حين لآخر أن أيادي خفية تحبنا تكرمنا من حين لآخر أو تقودنا لما نحلم به أو نرتجله في تفكيرنا. ففي الفصل الثالث وأنا أستعد لاختبارات الدورة الخريفية في ليلة من ليالي شهر كانون الأول وحوالي الساعة الثالثة قبل الفجر توقف دماغي عن الاستيعاب، فأنا من عشاق الليل أحب سكونه وأحس أنني أكون بذروة نشاطي بعد نوم الجميع حين لا نسمع إلا طنين آذاننا، فأمسكت القلم ووجدت نفسي أكتب عن 'الموت المهني' دون أن يتوقف القلم عن الكتابة لم أستطع كبح جماحه أو مداده الذي يسيل على الدفتر الذي أقوم فيه بتلاخيصي وأبحاثي الخاصة عن كل مادة أدرسها وكتبت ما كتبت منذ حوالي ثلاثة أشهر. وحين جاء الحدث (أنني حبلى) وجدتني أكتب مرة أخرى لأنه حدث غير جسدي هرمونيا وعضويا وزلزل تفكيري، ومع هذا النوع من الأحداث اللاعادية واللامتعمدة واللامخطط لها، وجدت نفسي أكتب لأفاجأ في آخر حصة ذهبت فيها للكلية بعد أن سألت أستاذي عن منهجية البحث، يقول لي: أحضري لي أي شيء مكتوب من طرفك. استغربت كلامه! واستطرد: ولو نصف ورقة! هذا البحث الذي اقترح علي عنوانه -أستاذي- منذ الفصل الأول عن طريق الصدفة بعد حوار بيننا لم يتجاوز من الساعة إلا ربعها، ليقول لي بحنكة دكتور متمرس وعين ثاقبة لمحلل وأستاذ علم نفس ضليع، ومفتش تربوي سابق وهذه الصفة الأخيرة اكتشفتها صدفة بعد قراءتي لروايته 'مارتيل' الواقعية، هذا العنوان أقصد عنوان البحث الذي تفاجأت به منه وأنا لا زلت في الفصل الأول بعد أن عرف بعض التفاصيل عن عملي ووضعي حينها وهو: 'المعوقات السيكوسوسيولوجية لدى المدرس المغربي بالتعليم الأساسي'. وعقبت: «أريد أستاذي أن أتكلم عن خصوصية المرأة» فوافق على الفور وقال: «اكتبي المرأة نموذجا». لم أعرف حينها لماذا ركزت على المرأة؟ ربما لأن ما وقع لي من موت مهني كنت أرى خصوصية المرأة حاضرة فيه وبقوة وهي خصوصية أراها مختلفة عن خصوصية الرجل، ولها من المؤثرات السيكولوجية والسوسيولوجية التي تعيشها أغلب النساء والتي لا يمكن أن يحس بها الرجل أو أن يلمس مدى عمقها، ولا يمكن حتى أن يكتب عنها لأنها مثل الإحساس 'بالموت المهني'أو الاحتراق المهني' لا يحسه إلا من عاشه. وما كنت أقصده حين ذكرت خصوصية المرأة، ما للمرأة من خصوصية خاصة جدا، فهل للرجال أثداء؟ وهل للرجال أرحام؟ وهل للرجال عائق مادي ونفسي يحدث كل شهر كالدورة الشهرية عند جميع النساء؟ هل من يضع الطفل متعة كالتي تضعه كرها؟ لا أوجه للتشابه بين الرجل والمرأة أو حتى أوجه تقارب، أو حتى أنه يمكنه أن يحس بأحاسيسها مهما حاول فهمها أو فهم سيكولوجيتها، لا أظن أنه يمكن أن يفهم المرأة إلا المرأة، حتى أن أكثر المبدعين الذين سبروا أعماق المرأة من ذكور، لا أظن أنهم عبروا إلا عما سمحت لهم به الأنثى أن يعبروا عنه، حتى 'نزار قباني' الذي تذوب جل النساء في إبداعات أشعاره، لا أظنه عبر إلا في محيط ما سمحت له به الأنثى رغم ما جادت به قريحته في أرقى إبداعاته ربما حتى حين كتب أروع قصائد الرثاء في حق زوجته ومحبوبته بلقيس. ولا أظن أن المعوقات السيكوسوسيولوجية التي تعرفها المرأة إذا أحصيناها كميا ودرسناها كيفيا ستكون هي نفسها تلك التي يعرفها الرجال أو بنفس حجمها ولو امتهنوا نفس المهنة وهي التدريس وتشاركوها في نفس المكان ودرسوا نفس المناهج. – فهل للرجال أثداء يرضعون بها الأطفال؟ – وهل للرجال طمث كل شهر؟ – وهل للرجال أرحام تقتحم؟ وهل للرجال أرحام تخرج منها الحياة بعد أن تكون داخلها؟ – وهل للرجال غشاء بكارة تمزق؟ وهل الرجال يضعون رجلا في الدنيا وأخرى في الآخرة عند كل وضع أو إجهاض؟؟ – وهل للرجال دم نفاس؟ وهل الرجال يضعون الأجنة في الأرحام كرها وألما؟ – وهل النساء يضعن الأجنة من الأرحام متعة؟ – وهل يضعن الأجنة دوما في هذا الوجود فرحة وحبورا بعد تحمل أثقال الحمل وآلام الوضع بقوة وصبر كبيرين؟ ألا يتوانين عن وأدهم باستمرار في مجتمعاتنا اضطرارا؟ فزمن الوأد لم ينته بعد ولن ينتهي في مثل مجتمعاتنا بشكل يومي، هل الوأد يكون عن وعي أم عن اضطرار؟ في بلدان ينتفض فيها الذكر ويغتسل من آخر قطرة عرق بمجرد قذفه بالنطفة التي قد ينهي بعدها علاقته مع الأنثى إلى الأبد إذا أراد ذلك مع عدم الزواج؟ هي نفس النطفة التي تصبح جنينا ثم طفلا أو طفلة جميلة نفرح بها وننظر إليها بكل الحب وبكل السعادة وبكل الخيلاء بتحقيق أمومة أو أبوة منشودة بعد الزواج، وكأحلى ثمار نجنيها من هذه الدنيا، وكأشد المصائب قسوة إذا كتب لأحدنا فقدانها وهو مازال على قيد الحياة. ولأهون على المرء منا أن تأخذ المنية عمره على أن تسلبه لأحد فلذات كبده وهو على قيد الحياة، فذاك من أشد مصائب الدنيا التي لا يمكن أن يتحملها أحد في مشارق الدنيا ومغاربها، وذاك إحساس كوني يتشارك فيه الإنسان والحيوان على حد سواء. فكيف لقطة هادئة أليفة ترنو إلى لمسات ناعمة أن تتحول إلى قطة هوجاء شرسة إذا حاول أحد ما الاقتراب من صغارها؟ كيف لهذه القطة أن تكون أكثر ذوذا عن صغار لا حول لهم ولا قوة وأن لا تفارقهم حتى يشتد عودهم؟ كيف يمكن أن يكون الحيوان أرحم من بشر يرمي بفلذات أكباده بعد الوضع مباشرة في كثير حالات، بالأماكن المظلمة على الأرض أو على التراب مباشرة أو في القمامات أو في أقذر الأماكن دون رحمة في مجتمعات لا ترحم ولا تتحمل أمهات وأطفال موصومين برذيلة لم يكن لهم فيها أي نصيب من اقترافها غير حظهم العاثر ووجودهم بالخطأ وليس بالاختيار في أرحام إناث لم يحترمن المساطر القانونية المسنونة في مجتمعاتهن، ولم يحترمن الشرع، بل الأكثر تمردا منهن لم يحترمن مجتمعات تضع نواميسا للتواجد بها وللاعتراف بأفرادها، في مجتمعات قد ترى وتسمع بها يوميا عن أطفال ازْرقَّ جلدهم، عراة مغروسة هي أوجههم في الوحل، كما رأيت يوما في إحدى الجرائد الإلكترونية التي وبكل قسوة تضع هكذا صور ويسمح لهم بنشرها والتي طردت النوم عن جفني لليال عديدة، لازلت أتذكرها وكأن الذي رمى بالطفل بالظلام يتبرأ من وجهه ومن جسده الذي غُرس نطفة في رحم ثم نما وكبر لتكبر الفضيحة، ويتنكر لها ذكر وتئدها أنثى في مجتمعات ليست كغيرها من المجتمعات التي تربي ذكورها على الاعتراف بالخطأ وتحمل كامل المسؤولية في مثل حالات كهاته، وحتى إن لم يتحملها أحد وتنصل منها الطرفين فإن المجتمع يتحملها ويتبناها ويوفر لها كل شروط الحياة الكريمة ليتحول ذاك الخطأ إلى فرد صالح في مجتمع يدعو إلى الاعتراف بدل مجتمع يدعو إلى النكران، وينشئ ذكوره على الانتشاء بالفحولة وعلى الفخر بالذكورة وعلى التفنن في التملص من أخطاء قد تتحول إلى إنسان يُرمى به بكل بشاعة على ناصيات الطرقات وفي الأماكن والأوقات المظلمة، خوفا من فضيحة أنثى تلد بدون ذكر بعد أن حبلت منه. كنت أتأسف وأغضب عند ملء ملفات التلاميذ البرتقالية اللون آخر السنة حين ألمح في أحدها أمام خانة اسم الأب كلمة «لقيط»، ولا أعلم كيف هو مسموح لموظفي مكاتب الحالة المدنية بكتابة كلمة هي سوط دائم اللسع لحياة إنسان حتى الممات، نحن لا نعتذر له ولا نكتفي بوصمه «بولد الحرام» بل يجلد باستمرار مدى الحياة من طرف كل من طلب منه شهادة ميلاد، ورمْقها من طرف كل من هب ودب. وبمجرد تعلمه وفهمه لأبجديات الحروف حتى يطلع على حقيقته المرة، وكون هويته/ لقيط، فحتى إن نجى بقدرة قادر من الوأد وهو حي يرزق فلن ينجو قطعا من سوط العقاب مدى الحياة بهذا الوصم الملتصق به والذي لا ذنب له فيه غير أنه من أب موقوف الأبوة بمجرد اغتساله من آخر نقطة عرق بعد الوطء ومن أم موقوفة الأمومة بعد الإنجاب مباشرة، ومن مجتمع بمجرد عدم الاعتراف به، لتضيع كل حقوقه وإنسانيته وهويته وحياته ككل. عشت حياتي لا أدرك الفرق بين شخص معترف بهويته وبين غامض ليس ذنبه أن لا يعترف له بها/ هويته! لأنني عشت أغلب أيام عمري أتقاسمها بين العيش في بيتنا وبيت غير بعيد عنا حيث يعيش اللقطاء أو الفضلاء الذين أحبهم وأحترمهم أيما احترام، كانت إحداهن صديقتي المفضلة التي درست معي وأصبحت الآن تتبوأ أحد المناصب المهمة في المجتمع ولنا معا صديقة ثالثة كانت أكثر حرصا منا معا على دراستها، وحصلت على شهادة جامعية لكنها بقيت فريسة للبطالة إلى أن تزوجت ورحلت إلى الديار الإيطالية حيث أنجبت خمسة أطفال، كانت تردد دائما أنها تريد أن تنجب إخوة لها من بطنها، لأن لا إخوة بيولوجيين لها. فقد سمعت من الفاضلة التي تبنتها أن أمها البيولوجية منحتها إياها وهي عابرة سبيل تحت طائلة الفقر -حصلت هذه الواقعة في الستينات- وبأن لها إخوة آخرين لم تتوصل لمعرفة سبيلهم طيلة حياتها رغم محاولاتها العديدة لذلك، وشاءت الأقدار أن تفقد في حالة غرق مأساوية -تحدث عنها الإيطاليون طويلا- ثلاثة من أطفالها كانوا يحاولون إنقاذ بعضهم البعض وهم يسبحون ويمرحون بإحدى البحيرات الإيطالية بمدينة تسمى (Modena). حضرت الأم من أجل دفن اثنين في المغرب هي والأب، وبقي الثالث بالديار الإيطالية على أمل أن يتجاوز مرحلة الخطر لكنه لحق بإخوته وهو يتصارع والموت. هي لم تئدهم لكنهم ماتوا غرقا ولم تختر أمها وأدها بتخلي ذكر/ شريك عن الاعتراف بها، بل هو الفقر من جعلها تتخلى عن فلذة كبها أو أن تمنحها لمن رأت أن ظروفه أفضل من ظروفها رغم وجود أب معترف بأبنائه، ولم يجعل منهم لقطاء بزواجه لكنه هو الفقر من جعل إحدى بناته تصبح لقيطة بل هي فاضلة مثل كل إنسان هو فاضل وحر وغير مستعبد، وكونه إنسان يستمد إنسانيته من أنه خلق في أحسن تقويم. اقترحت على زوجي بعد إجهاضي لثاني مرة دون علمي بحملي أو التخطيط له أن أتبنى طفلا من أحد «دور الأيتام» يطلق على هذه المؤسسات هذا الاسم رحمة بنزلائها على مناداتهم ووصمهم بلقطاء، فرفض ذلك بشدة واستغرب رغبتي هاته، كرغبات كثيرة نطمرها ونئدها بزواجنا مستنكرا عليّ ذلك وقد أنعم علينا الله بذرية من صلبنا! ولأنني لم أعد أقوى على الصراع والجدال الكثير رأفة بصحتي التي لم تعد تتحمل فقد وأدت رغبتي بعد استشارتي مع بعض الأشخاص منهم طبيبة العائلة الذين استنكروا عليّ هم أيضا مثل زوجي هذه الرغبة/ هذا الجرم! أردت التبني، ورغبت فيه بقوة وتوسلت لزوجي لذلك ولكنه رفض بشدة، فلم ألب رغبتي ووأدت فكرتي في مهدها. فهل سلوكاتنا تكون دائما عن وعي أم عن اضطرار؟ فالأبناء كالصحة فوق رؤوس الأصحاء، فهم تاج فوق رؤوس الولودين لا يراه إلا العقيمون أو من تأخروا في الإنجاب. هكذا عايشت مع إحدى صديقاتي الأستاذات مأساة عمرها وهي تبحث عن طفل، وبكائها الشديد نهاية كل شهر عند لمحها لعلامات الطمث، وخسارتها لأموال طائلة خلال عملية التنقيب عن الذرية عبر عمليات زرع باءت كلها بالفشل، أو بشراء عقاقير تساعد على الإخصاب لم تَفِ بالغرض، أو بالتنقل من مدينتها التي تنعدم فيها مثل هذه التخصصات إلى مدينة الدارالبيضاء والرباط ومراكش باستمرار، فلم تتوان في بذل كل غالٍ ورخيص من أجل أن تحبل إلى أن انتهى بها الأمر إلى التبني بعد صراع مرير مع زوجها الذي كان يرفض الفكرة، فلمست مدى ألم ومعاناة ومأساة من تخونهن أرحامهن بعدم الإنجاب، ومن يخونهم المجتمع لإخصابهن من طرف ذكور/ شركاء معصومين من الاعتراف إن لم يرغبوا بذلك، وعشت عمري كله فخورة لمصادقتي لأرقى النماذج الموصومة في مجتمعاتنا بكلمة لقيط. بعد أن سلمت الأستاذ تمحري ما كتبته وذلك بعد طلبه لي بأن أمده بأي كتابة لي عن موضوع بحثي ولو نصف ورقة، ليقول لي: «انطلقي من الأسئلة الثلاثة الأخيرة كموضوع لبحثك» حين تساءلت في مسودتي هل للنساء والرجال نفس «الاحتراق المهني»؟ وبأي معنى يكون الاحتراق مهنيا عند النساء وما هي تجلياته؟ وبأي معنى يكون الاحتراق مهنيا عند الرجال وما هي تجلياته؟ وما هي المعوقات السيكولوجية والسوسيولوجية لدى كلا الجنسين بالتعليم الأساسي؟ ثم قال لي أيضا: «اكتبي أكثر عن ذاتك لتحرريها من آلامها». وكذا كان فقد بدأت أكتب لكن عن ذاتي فقط، وأهملت الكتابة عن موضوع بحثي «الاحتراق المهني» حتى فاقت الكتابة مجرد صفحات عن الأسباب الذاتية لاختيار موضوع بحثي، وتحولت كتابتي تلقائيا إلى سيرة ذاتية دون دراية أو تعمد مني، أو هي بالأحرى سيرة عن كل ما يتعلق بمهنة التعليم وعن علاقتي به، أكثر منها سيرة ذاتية عن شخصي بالذات. **

حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة ...أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]
حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة ...أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]

الرباط

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • الرباط

حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة ...أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ]

حكاية انعتاق طالبة أستاذة منوالجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [الجامعة …أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ] الرباط نيوز إن كتاب: 'البورناوت' Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية.. كتب / ماجدة غرابو لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى. عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض 'الاحتراق المهني' المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر. فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية… الجامعة… أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا وبدون سابق إنذار أصبحت طالبة بشعبة 'علم الاجتماع' بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمارتيل، جامعة عبد المالك السعدي. وقد سبق لي قبل حوالي ثلاث سنوات مضت وبعد إلحاح من زميلة لي في العمل أن نعبئ طلبا من أجل متابعة الدراسة الجامعية، فرفضت بحجة: «أننا لن نستطيع أن نجمع وأن نوفق بين العمل والدراسة ورعاية أسرنا وأطفالنا وهم في مراحل حرجة من عمرهم -مراهقتهم- فهم أحوج إلى وجودنا معهم في أي لحظة أكثر من أي وقت مضى»، لكنها ألحت علي في أن نجرب فقط، ونختبر هل وزارة التربية الوطنية والتعليم ستسمح لنا بذلك أم لا؟ أي هل ستسمح لنا بممارسة هذا الحق؟ وأتذكر أنه في استمارة الطلب من المفروض علينا تحديد الشعبة المرغوب في دراستها، فسألتها حينها عن الشعب المتوفرة في كلية الآداب والعلوم الانسانية بمارتيل ومن بين ما قالت: «أن هناك بالإضافة إلى الشعب المألوفة -وسردتها علي- هناك شعبة جديدة وهي شعبة علم الاجتماع». فحددت رغبتي مباشرة وبدون أدنى تردد مني، وكتبت هذه الشعبة نفسها في استمارة الطلب، وجاءنا الرد على طلباتنا من أجل الدراسة الجامعية بالقبول، لكني لم أكلف نفسي عناء المحاولة أو الذهاب للكلية لسببين اثنين، لظني أن مرضي بالسكري سيعوق دراستي لأن نفسيتي لن تتحمل الإرهاق الدراسي أو ترقبي للنقط وما يشوب ذلك من خوف وانتظار وتوتر فصحتي في غنى عنهم، ثم لاحتياج أولادي لكل وقتي وطاقتي ظانة أنني بدراستي سأنشغل عنهم وسأهملهم، لما تحتاج الدراسة من تفرغ وعناء وقد كنت جد واهمة ومخطئة في ذلك. لم أظن حينها أن المرض سيغير طريقة تفكيري، لم أظن يوما أن حزني الشديد وأن كرهي لعملي وحياتي وبيتي والعالم كله، سيحيي رغبتي في الدراسة، لم أظن أن قراري الحاسم في عدم متابعة دراستي بسبب أسرتي ومرضي سينقلب رأسا على عقب، لم أظن أن المسافة من طنجة إلى مارتيل لن تثنيني عن رغبتي في الدراسة، وكأن قوى خفية أصبحت تدفعني وتحركني، وتحرضني على تحقيق أحلام عمري المؤجلة! لم يتحمس زوجي كثيرا لذهابي لمارتيل من أجل الدراسة، هو لا يرفضها لكن يفضل أن أدرس بطنجة وأن أكتفي بالشعبة المتاحة بها بالنسبة لي وهي دراسة القانون، هو نفسه عشق دراسة شعبة أصول الدين -رغم تخصصه في العلوم الرياضية- لكن تواجد هذه الشعبة بتطوان منعه من تحقيق رغبته في متابعة دراسته لما يحبذ. وكنت أستغرب لتواجد كل شعب العلوم الإنسانية بمارتيل مع أن مدينة طنجة هي المدينة الدولية، وهي الكبرى، كنت أستنكر ذلك التقسيم الجهوي في دراسة الشعب، قبل أن أحبه وأتشبت به فيما بعد، كأحد المقومات الحاسمة في دراستي وفي علاجي. فبعد أن كنت أبحث دون وعي مني عن أي هروب، حيث أنني مرارا خرجت بدون وجهة محددة. فمرة كانت وجهتي المدرسة، لأغيرها وأرتمي في الشاطئ على الرمال باكية، لا أعلم لماذا؟ باكية كالطفل الصغير الذي حرم من حضن أمه لسنين ليذهب للمدرسة، أكيد هو نفس إحساسي حينها وأنا ذاهبة للمدرسة لعملي 'التدريس'. ووجدت نفسي بمارتيل بكلية الآداب والعلوم الانسانية أبحث عن استعمال الزمن، فقد تسجلت متأخرة جدا، لم أنتظر أخذ توصيل تسجيلي حتى تستكمل الإجراءات الإدارية لأعرف الفوج الذي انتمي إليه – وهذا سيكلفني فيما بعد – لم أكن أعلم أن طلبة شعبة السوسيولوجيا كثر وبأن هناك فوجين في هذه الشعبة، وأن عدد طلابها والراغبين فيها أكثر من ألف طالب وبأن لها مريدين ومحبين وعاشقين مثلي. وها أنا ذي طالبة في شعبة 'علم الاجتماع'، يا لها من صفة جديدة. ياه! عشتها قبل أكثر من عشرين سنة مضت كطالبة في شعبة الأدب العربي بالدار البيضاء، بكلية الآداب والعلوم الانسانية بابن امسيك. وكان أول ما شرعت فيه أنني بحثت عن استعمال الزمن الذي استوقفني كثيرا وأنا أقرأ فحواه ومواد شعبة 'علم الاجتماع'، وخصوصا أسماء الأساتذة الذين سيدرسونني، دهشت كثيرا، ما هذا؟ أي زمن أعيش؟ وفي أي فترة زمنية بعثت فيها لأدرس مواد هذه الشعبة في هذه المدينة الشاطئية الصغيرة مارتيل وفي هذه الكلية بالضبط اللتين اخترتهما؟، ما هذه المصادفات الغريبة العجيبة؟ هذا الاندهاش والانبهار وما حللته حينها يدعوني إلى استحضار ما درسته في شعبة 'علم الاجتماع' فيما بعد بالفصل الثالث بمادة 'سوسيولوجيا الثقافة' والتي من محاورها (الثقافة والهوية)، وعرفت أن الهوية تبدأ بالاسم الشخصي واللقب، وبأن هناك أسماء مرتبطة بالزمن وأيضا هناك أسامي لها مرجعية إحيائية للشرف أو التاريخ، كما أن الهوية هي عنوان الانتماء وهي ما أعرف به ذاتي وأنتظر من الآخرين الاعتراف بها . أو كما يقول مختار الهراس : «الاسم الشخصي يسبقنا إلى الوجود ويستمر بعدنا وهو يكشف عن تداعيات الآخر الذي يختار لنا اسمنا الشخصي، ومن تمة عن نسبية حريتنا الفردية واستقلالنا عن الجماعة الأسرية… ويتميز الاسم الشخصي بثقل الأشياء ويصمد أمام تيارات التحول والتلاشي، ويتعذر أو ترفض ترجمته الى لغات أخرى». تساءلت عن أي زمن سأحياه بهذه الكلية ومع من؟ فقد قرأت في استعمال الزمن في الفصل الأول بشعبة 'علم الاجتماع' أنني سأدرس مادة الفكر الفلسفي عند أستاذ اسمه المعتصم ، فدهشت وتساءلت: 'أتراني بعثت في العصر العباسي؟؟!' وامعتصماه! أنجدني، لم أسمع قط في عصر العولمة هذا وطمس الهويات، وزمن التكنولوجيا السريعة هذا اللقب، مع أنني أشتغل بمهنة التدريس لأكثر من عشرين سنة، وأدرس كل سنة أكثر من أربعين تلميذا في كل فوج (أدرس فوجين) ولسنين عديدة، لم أصادف لقبا كهذا أو أي لقب من العصور القديمة التي شهدت ازدهارا عربيا وفكريا وثقافيا كذاك الزمن. آه، أين نحن الآن من العصر العباسي وما تفتقت عنه بطون وأرحام النساء العربيات من شعراء وأدباء، وما كان خلال ذاك العصر من عطاءات وإبداعات لا زلنا نعيش على أطلالها حتى عصرنا هذا، أترى هذا الأستاذ الجامعي من أحفاد مفكري العصر العباسي؟؟؟ إن الاسم يشكل الهوية، واسم هذا الأستاذ اسم عربي قح منحدر من عهد العباسيين. بعدها ستقع عيناي على اسم: الغزالي ! يا الله، الغزالي وهو من سيدرسني مادة علم النفس، ما هذه المصادفة المبهرة لي، أكيد أنه رجل كبير في السن وقور حامل لنظارة سميكة من كثرة بحوثه وقراءاته، ويضع ربطة عنق، وبطنه بارزة نوعا ما، هكذا تخيلت حتى لا أتخيله يضع عمامة ويحمل كتابا قديما تحت إبطه، ويلبس لباسا عربيا قديما أي لباسا منسدلا، حسب ما يتلاءم وبيئة وجو شبه الجزيرة العربية. إنه الغزالي أحد أعلام عصره، ذو البصمة الواضحة في علوم الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والمنطق، رحل إلى بغداد بطلب من نظام الملك، ليدرس في المدرسة النظامية في عهد الدولة العباسية، هو أيضا عاش العصر الذهبي العباسي في أواخره، شتان بين بغداد اليوم وبغداد الأمس، خربت بغداد اليوم وحطمت حضارتها من طرف أمريكا، وأصبحت أرض دجلة والفرات ومهد أولى الحضارات في خبر كان، يوم كانت مدينة شيكاغو الأمريكية لم تر النور بعد بقرون عديدة، يا لمهازل التاريخ! وفعلا فهؤلاء الأساتذة اسم على مسمى، فلا يمكن للغزالي إلا أن يدرس مادة 'علم النفس' المنبثقة من الفلسفة، ولا يمكن للمعتصم إلا أن يدرس مادة 'الفكر الفلسفي'. بعدها سألحظ اسم الأستاذ الشتوكي مدرس مفاهيم فلسفية، قلت في نفسي: 'أكيد هو منحدر من منطقة شتوكة التي تتواجد بمنطقة دكالة'، ربما هو على شاكلة قامات الدكاليين، سيكون طويلا ضخما كما هي قامات أهل دكالة، وهذا اسمه مغربي دكالي واضح، ليس كما هو الغزالي والمعتصم فهما معا اسمان عربيان بادية هي هويتهما العربية من اسميهما. بعدها سألاحظ اسم الاستاذ بوطالب وهو مدرس مادة 'أسس علم الاجتماع'، لم أكون عليه فكرة واضحة، وكون أن هذا الاسم من الأعلام الفاسية الوازنة في بلدنا، كنت منبهرة خصوصا باسمي المعتصم والغزالي، بعدها ستقع عيني على اسم الزياني مدرس 'ميادين علم الاجتماع'، فأدركت بفطنتي وبسرعة ودون أدنى تردد مني أنه من 'اولاد زيان'، أحد المناطق القريبة من الدار البيضاء، فأكيد أنه من هناك، حتى أن محطة السفر الكبرى بمدينة الدار البيضاء تحت مسمى ' اولاد زيان'، فغالبا سيكون بيضاويا منحدرا من ضاحية أولاد زيان، وهي المنطقة المعروفة بما تزخر به من فلاحة وخير وكرم أهاليها مثل جهة دكالة، كان هذا هو انطباعي عنهم من خلال أسمائهم أي هوياتهم. فالهوية تبدأ بالاسم الشخصي واللقب. وهي ما أعرف به ذاتي وأنتظر من الآخر أن يعترف لي بها. هكذا درسنا في مادة 'سوسيولوجيا الثقافة'! لأدخل أول حصة كانت أمامي ذاك اليوم الغريب عني، وأنا أحس بالخجل لكبر سني ظانة أنني أكبر طالبة بالجامعة، متواجدة في مكان غريب، وكل من حولي غرباء، لا أعرفهم كلهم، أغلبهم صغار السن، فأول تلاميذي الذين درستهم أكبر منهم! وتساءلت: هل سأجلس بجوار هؤلاء الشباب الصغار الذين هم كلهم حماس وحركة وإرادة وقوة؟؟ هل سأستطيع مجاراة اجتهادهم هم الحاصلون على الباكالوريا حديثا؟؟ وقد تكلست بالمقابل معلوماتي وعلاها الغبار، طيلة هاته السنين؟ هل… وهل… وهل… العديد من الهلهلات، التي تطرق رأسي. ودخلت أول حصة وهي مادة الفكر الفلسفي للدكتور المعتصم. أحاسيس كثيرة خالجتني حينها، الخوف، الفرح، الخجل، الرهبة، التردد… وخاصة الرغبة في أن أخرج من المدرج هاربة إلى طنجة دون أوبة إلى هذه المدينة مارتيل وهذه الكلية، ليدخل أمامنا شاب أنيق ويقول لنا بعد إلقائه للتحية : «سأعود بعد قليل، لأننا نتدارس مواعيد اختباراتكم 'للدورة الخريفية'»، خفق قلبي بقوة وخوف من كلمة 'اختباراتكم' وأنا برحاب المدرج أول حصة، بعد سكونه لسنين وألمه، هذا القلب الذي لم يخفق من مدة طويلة بهذه الطريقة من مثل هذا الحدث، هذا القلب الحزين الذي لم يعد يعرف إلا التضخم والتصلب والإحساس بالوخز، كأن مقدمة سكين حادة منغرسة فيه، سأعرف هذا نتيجة إحساسي بالألم وببعض التحاليل الطبية، فقد كان بين الحين والآخر يعطيني الطبيب المتخصص في 'داء السكري' تحاليل سنوية منها إجراء فحص على قلبي، وفي إحدى الفحوصات كتب لي الطبيب المختص في القلب 'رسالة' مغلقة إلى طبيب 'داء السكري' والذي بمجرد اطلاعه على فحواها، سألني مستنكرا: «ما بك قلقة إلى هذا الحد؟ ما يؤلمك؟» وسأل زوجي نفس السؤال: «ما بها؟» فاستغربت سؤاله! وكان معي زوجي كعادته، فهو يرافقني أثناء كل فحص عند أي طبيب وعند إجرائي لكل التحاليل لحرصه على ذلك ولخوفي الشديد من الحقنة، بل لرعبي منها. فطبيبي هذا يعرف جيدا مؤازرة زوجي لي لذلك سأله مستغربا. فلم أجد أي جواب في جعبتي لأجيبه به، غير أنني أتأثر بأي خبر مؤلم يمكن أن أشاهده على وسائل التواصل أو أقرأه في جريدة أو أسمعه في بعض برامج الواقع وخصوصا إن تأكدت من صحته، فإنني أسقطه مباشرة على حياتي أو على أولادي، وقد أمضي أسبوعا بعد ذلك أو أكثر متألمة، وبمجرد وضعي لرأسي على وسادتي حتى أبدأ في اجترار واستعراض واستحضار كل تلك الآلام. فنصحني طبيبي بأن أقاطع مشاهدة كل الأخبار المؤلمة عبر جميع وسائل الاتصال والتواصل، المسموعة منها والمرئية، وإن أردت البحث عن الآلام الواقعية اليومية والحقيقية والمرئية مباشرة، فيكفيني الذهاب للمحكمة والوقوف ببابها حتى أرى شابات صغيرات تجاوزن العشرينات بقليل وهن يمسكن بأطفال صغار، يعانين من مشاكل لا حصر لها مع أزواج يرفضون تطليقهن أو هاربون عن أداء نفقاتهن ونفقات أطفالهن… وأضاف الطبيب: «وهذا كاف لكي تشبعي قلبك مباشرة بمشاكل واقعية حزنا وألما». لكن هذا القلب سيتحرك بشكل آخر وأنا داخل الحرم الجامعي. خالجت قلبي أحاسيس كثيرة وخفقان على حين غرة حين سماعي من الأستاذ كلمة اختبارات، وما لهذه الكلمة من وقع على النفس، وبمجرد انصراف الأستاذ عن المدرج، ألقيت نظرة على استعمال الزمن، فسألت أحد الطلبة بجواري: «هل هذا الذي يتكلم، هو الأستاذ المعتصم ؟»، أجابني الطالب بالإيجاب! فاستنجدت داخل صدري، وا معتصماه! ما هذا؟ أنجدني يا معتصماه! هل في أول حصة بالنسبة لي ستعلن امتحانات الدورة الخريفية؟! هل سأستطيع استجماع الدروس وفهم ما فاتني من هؤلاء الأساتذة الأجلاء؟! هكذا أراهم، وهكذا أحس وأنا أقف أمامهم، نعم أجلاء! فهم على أعلى قمة في الهرم الاجتماعي يتربعون كما يقول بذلك أفلاطون وكما قسم المجتمع، فمهما تدهور حال التعليم ببلادي، ومهما اختلفت المقاييس عبر الزمن، فأغلب الأساتذة بالنسبة لي: هم أهل فكر، وهم أشرف الناس، وأهمهم في المجتمع، أحب من أحب وكره من كره. ومهما تكالبت مجموعة من الظروف لهز صورة الأستاذ في مجتمعاتنا، فقيمته تستمد منه شخصيا، ومن مهنته الشريفة التي يشوبها نوع من القدسية والقداسة والشرف والصدق، على عكس ما يعارضها ويخالفها من مجموعة مهن، فمهما ارتقت بصاحبها ماديا ومجتمعيا، ومهما ذرته من أموال طائلة على ممارسيها كالرقص وتجارة المخدرات…. فتبقى مثل هاته المهن إذا اعتبرناها كذلك مع أنها حاضرة في مجتمعنا شئنا ذلك أم أبيناه أو هي ممارسات موصومة بالدناسة وفي خانة التدنيس. ولا يهمني مهما سمعت عنهم، فهم أساتذتي الذين أحترمهم، وكل ما يهمني منهم هو علمهم ومعرفتهم وما سأستفيد من خبرتهم، ولا تهمني حياتهم الخاصة أو انزلاقاتهم أو انتماءاتهم الدينية أو الحزبية أو ايديولوجياتهم…!! عاد الأستاذ المعتصم سليل العصر العباسي المنظم في هندامه، والملقي لمحاضراته دون الخروج عن الموضوع ولو للحظة واحدة، فهو ليس كما تخيلته من خلال اسمه / هويته، بل أصغر بكثير من خيالاتي. في حركاته وكلامه يظهر حسه الديناميكي الهائل، وأكيد وواضح أنه كان مجدا خلال دراسته وشديد التنظيم. أو هكذا بدا لي، وبمجرد دخوله للمدرج أخبرنا بمواعيد الاختبارات بعد حوالي أسبوعين فقط!! وبعد انتهاء الحصة، لحقت به مسرعة، والخفقان بقلبي! هل لازال قلبي يعرف الخفقان؟ ياه! من مدة طويلة وقلبي جامد لا يخفق لا يعرف إلا الوخز، وقد تكلست عروقه. ولا يعرف غير الألم. أخذ قلبي يخفق وكأنني تلميذة صغيرة أمام أستاذها، وليس امرأة ناضجة، وربما تقارب أستاذها سنا، وبعد إلقائي التحية عليه، قلت له: «كان لي شرف سماع محاضرتك»، وقبل أن أتمم كلامي، عقب علي بسرعة: «أنا من كان له الشرف بذلك!» وامعتصماه، أنك لا تدري وقع مثل هذا الكلام على نفسيتي، وعلى قلبي ولا تدرك أنك بهذا الرد طردت عني فكرة الهروب والانسحاب من الكلية وأنك بهذا الرد الجميل تنقدني من براثين الحلكة المظلمة التي أعيشها، كيف يعقل هكذا كلام؟ أي دكتور بجلالة قدره -ولو أنه لازال شابا- يقول لي: «هو من له الشرف أن أحضر لمحاضرته؟» أي تواضع هذا؟ وأي تعامل في قمة النبل، وقمة الأخلاق؟ هي الأخلاق التي أتغنى بها عند غالبية رجال التعليم. وبعد الخوف والوجل والخجل والرهبة والتردد، سيقفز قلبي بين أضلعي فرحا، لأتم سؤالي: «هل يمكنني أن أساير وأفهم وأن أتدارك ما فاتني، ونحن على أبواب الاختبارات، مع أنني لن أفوز إلا بحضور القليل من المحاضرات المتبقية خلال هذا الفصل الأول؟» وبكل ثقة وسرعة أجابني: «أجل، إنك تستطيعين ذلك بالتأكيد…!» لا أذكر بقية الكلام الذي كان كله تشجيعا لي وكله في هذا السياق، لأنني بدأت أحلق بأحلامي هائمة في ملكوت جديد يبزغ منه شعاع بريق قادم نحوي. وفرحت جدا، فلا غرابة ولا عجب، فأكيد هذه هي أخلاق سلف العصر العباسي ورجالات فكره الأجلاء. بعدها مباشرة وفي الحصة الموالية، أذكر أنني حضرت محاضرة للأستاذ 'بوطالب' ! الشخصية الكارزمية الأكثر شهرة في الكلية بالنسبة لشعبة السوسيولوجيا، أو هو الشخصية الأكثر إثارة للجدل، وهو من بين الأساتذة الذين يدرسون في أغلب الفصول الستة لهذه الشعبة لمدة الثلاث سنوات لنيل الإجازة، يتعاقب فيها على الطلبة بشخصيته الحازمة مع الرعب الذي يخلفه لدى الطلبة خصوصا أيام الاختبارات. لم أكن حينها قد عرفت عنه كل هذا بعد! فبدا لي ذي سحنة تطوانية، ولم أعرف لماذا غيبت في تحليلي هوية اسمه، وكنت لمدة ليست بالهينة -وحسب ملامحه – ظننته تطوانيا، فلون شعره أشقر، وعينيه مائلتين للون الفاتح فلونهما ليس أسودا، مع أنه لا يتكلم بلكنة شمالية حين يتكلم اللهجة الدارجة، فينطق القاف كما ينطقها 'أهل الداخل'، هكذا يلقبنا أهل الشمال حين يكون أمامهم من هو ليس جبليا أو ريفيا، لكن في غيابنا نحن غير الشماليين يلقبوننا 'العروبية'، ولو كان القادم للشمال من مدينة الدار البيضاء أو الرباط أو فاس.. أو غيرها من المدن المغربية الأكثر تحضرا! لكن كان مترسخا في ذهني أنه تطواني، لا أعرف لما؟؟، مع أن اسم بوطالب من أعرق الأسماء الفاسية ونواحيها، ويمثل هذا الاسم أكبر رجالات السياسة بالمغرب والفكر أيضا. ونفس ما حدث لي مع الأستاذ المعتصم، وربما لكوني لازلت لم أسمع تعاليق الطلبة عنه، لم أتردد لحظة فتقدمت اليه، وقلت له نفس ما قلته لمعتصماه (منقدي الأول في الكلية بمارتيل)، ليجيبني بنفس الأدب، وبنفس التواضع: أنني يمكنني المسايرة، رغم ضيق الوقت، وقال لي: ما اعتبرته المفتاح السري في تعاملي مع كل الاختبارات فيما بعد، «أننا نكون طلبة باحثين وليس طلبة يردون لنا ما نلقنهم إياه في المحاضرات». فأحيانا انطباعاتنا المغلوطة عن الأشخاص وأحكامنا المسبقة عنهم قد تجعلنا مترددين للوهلة الأولى في التعامل معهم، أو قد نمتنع عن التعامل معهم نهائيا!! وهذا يمكنه أن يضيع علينا معرفة الكثير من الناس وخسارة التعامل معهم لمجرد أحكام مسبقة قد لا تمت للحقيقة بصلة وقد تحول دون التواصل معهم والتعرف عليهم عن قرب. سمعت الدكتور بوطالب يردد مرارا هذا الكلام -أننا نكون طلبة باحثين- مرارا في محاضراته خصوصا في الأيام الاخيرة قبل كل الاختبارات، فاستنتجت من نصيحته هاته، أنه لا يجب أن أكتفي بمحاضرات الأساتذة التي يلقونها علينا، بل يجب البحث في كتب أخرى أو عبر الشبكة العنكبوتية عن إضافات جديدة في كل مادة. ثم استطرد بعد تشجيعه لي، أنه يمكنني الذهاب عنده لمكتبه للاستشارة وطرح كل تساؤلاتي في أي وقت شئت! يا الله ما هذا النعيم الذي أعيشه، فقد دخلت للكلية بعد عناء طويل من المرض وعدم الرغبة في الخروج من البيت أو محادثة أي شخص، لتبدأ لحظات الانتعاش النفسي عندي بهذه الكلمات من أستاذ جامعي له وزنه.

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والاديبة ماجدة غرابو [ المستر جيكل…والمستر هايد وبداية الدخول الدراسي سنة 2016/ 2017.]
حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والاديبة ماجدة غرابو [ المستر جيكل…والمستر هايد وبداية الدخول الدراسي سنة 2016/ 2017.]

الرباط

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • الرباط

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والاديبة ماجدة غرابو [ المستر جيكل…والمستر هايد وبداية الدخول الدراسي سنة 2016/ 2017.]

حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والاديبة ماجدة غرابو [ المستر جيكل…والمستر هايد وبداية الدخول الدراسي سنة 2016/ 2017.] الرباط نيوز إن كتاب: 'البورناوت' Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية.. …………….. .ماجدة غرابو لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض 'الاحتراق المهني' المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر. فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية… المستر جيكل…والمستر هايد وبداية الدخول الدراسي سنة 2016/ 2017 . اقترب الموسم الدراسي أكثر، حتى حل يوم توقيع الدخول المدرسي، فذهبت للتوقيع آخر اليوم، حتى لا ألتقي بأحد ممن يدرسون معي، لأجد نفسي، وقد قررت عدم الذهاب يوم التنظيم التربوي، وهو اليوم الموالي ليوم التوقيع الذي نلتقي فيه جميعا مع مدير المؤسسة والأطر التربوية، ويجرى فيه أول اجتماع لتحديد المستوى الذي سيتم تدريسه من طرف كل أستاذ منا، واستعمال الزمن الذي سنعمل به خلال السنة، وغيرها من الأمور الترتيبية، كأهم يوم تنظيمي لمجموعة من الأمور الدراسية، ليتم الشروع الفعلي بعده في استقبال التلاميذ والدخول المدرسي. مؤكدة دوما على أهمية هذا اليوم لزوجي وعدم غيابي عن حضوره يوما منذ امتهنت مهنة التدريس. وبدون سابق انذار، قلت لزوجي: «لن أذهب ليوم التنظيم التربوي»، فاستغرب لأنني دائما جد حريصة على الحضور خلال هذا اليوم لأهميته، فحاول مناقشتي، إلا أنني صممت على عدم الذهاب، غير مهتمة لا بالمستوى الذي سأدرس ولا بالتوقيت ولا القاعة ولا أي شيء من مثل هاته التفاصيل. فكل ما أذكره أنني أمضيت الليلة بكاملها دون نوم وأنا أبكي، وكأنني أفاجأ بقرارات شخص داخلي لكنه ليس أنا! شخص لا يحترم العمل، شخص لا ينضبط للمواعيد وللواجب المهني ولا يهمه نهائيا ما سيسفر عنه الاجتماع يوم التنظيم التربوي ولا يهمه أي شيء متعلق بالعمل! ولا رأي المرشد التربوي أي مدير المؤسسة، لم يعد كل هذا يحرك أي وازع بداخلي! ذلك اليوم أحسست بمتلازمة الدكتور جيكل والمستر هايد ، متلازمة الخير والشر أو الطبيعي واللاطبيعي أو المقبول والمرفوض أو الخداع والمصالحة مع النفس، فهما شخصيتان في فيلم رعب إنساني أكثر منه سينمائي. وهو فيلم يحكي عن الدكتور جيكل الذي يتربع على قمة الهرم الاجتماعي، وهو العالم الطبيب الهادئ الودود المؤدب والذي يمثل الخير، والذي سيقوم بإجراء عدة اختبارات علمية بخلطه لمواد طبية كيماوية والتي من ثمة سيجربها على نفسه، لتنتج منه شخصا متحولا شريرا قاسيا، غير مؤدب، عنيفا يمثل الشر، ويحقق كل ما يأمره به 'الهو' أي الرغبات الدفينة في الإنسان والتي يمارسها دون حسيب أو رقيب من طرف ' الأنا ' ليحقق كل ما تهفو إليه نفسه، ليعطي لنفسه المتحولة اسما آخر يليق بها هو ' مستر هايد'. هكذا أصبحت بدوري في بداية هذه السنة المشهودة، لا أريد الذهاب إلى المدرسة. لكن قبل ذلك بمرحلة ليست باليسيرة، كان الطبيب يعطيني الشهادات الطبية الطويلة المدى فأخبئها في محفظتي ثم أذهب إلى العمل في حالة يرثى لها، يلاحظها زملائي وأراها في عيونهم ونظراتهم، قائلة للطبيب: «إنني أستطيع العمل»، وهو يؤكد لي أنني لا أستطيع ذلك! وأقول في نفسي: «أنا أدرى بجسمي وقدراتي، فبماذا يهرطق هذا الطبيب؟» فأذهب للعمل غير آبهة بكلامه، كنت قد بدأت العلاج النفسي صدفة آخر السنة التي سبقت هاته 2016/2017، بعد أن قذف زوجي في وجهي بهذه النصيحة. وبمجرد بداية السنة الدراسية وجدت نفسي أغير صورة 'بروفيل الواتساب' في هاتفي، بصورة أخرى معبرة عن حالتي، وهي لطفلة صغيرة جميلة لكنها عابسة جدا وملامح وجهها تدل على تذمر شديد ومكتوب تحتها 'دخول دراسي موفق'، وبقيت هذه الصورة في هاتـفي المحمــول مدة طويلة، لم أستطع تغييرها. فقد وجـدت المستر هايد Mr Hyde يسيطر علي ولم أعد أقوى على المقاومة، فقد أصبح بداخلي شخص ممسوخ لا هوية له لكنني لست أنا التي أعرف بل هو شخص نقيض لي تماما لا يريد العمل 'التدريس' لا يحبه والأدهى والأمر من ذلك أنه 'أي التدريس' لا يعني له شيئا، وكأنه لا ينتمي إلى تلك المهنة ولم ينتم إليها يوما. وهذا الاحساس انتابني وبشدة بعد محاولات عديدة مني في التغيير، بغير دراية أو وعي مني عن السبب، أو لماذا؟ حاولت الحصول على أي منصب إداري، وشاركت أيضا في مباراة للحصول على مهمة منظمة ومنشطة مكتبة في مؤسسة 'التفتح الفني والأدبي بطنجة'، فقد أصبحت أحس أنني يمكنني امتهان أي دور آخر غير التدريس. لأشرع في البحث عما أقوم به كمهنة غير مهنة التدريس، لأنني لا يمكن أن أقبع في المنزل لا دور لي غير دور ربات البيوت، لم أتعود على أداء هذا الدور وحده في حياتي اليومية. وأثناء ذهابي لإجراء أول فحص مضاد في المندوبية الصحية بمدينة الرباط بسبب شهاداتي الطبية الكثيرة والطويلة المدى، فكرت في العروج على مدينة الدار البيضاء حيث تقبع شهادة الباكالوريا بكلية الآداب والعلوم الانسانية بابن امسيك، حينها كنت قد تسجلت بشعبة 'الأدب العربي' لأكثر من عشرين سنة مضت، حيث لم أكمل دراستي بعد السنة الأولى، وتهت في متاهات الحياة، وبقيت شهادتي قابعة في هذه الكلية دون أن أفكر يوما في سحبها، حتى تقاذفتني السنون لأجد نفسي في مدينة طنجة، عروس الشمال والمدينة العالية كما يتغنى بها أحدهم. مع أنني بمجرد قدومي إليها وقبل حوالي سبع سنين مضت سنة (2009/2010)، اقترح علي أحد زملائي النقابيين أن يسجلني بكلية الحقوق بطنجة فرفضت، لأن القانون لا يستهويني، مع إدراكي الشديد أن من واجب كل شخص دراسة قانون بلده حتى يعرف حقوقه وواجباته وكيفية الدفاع عنها وماله وما عليه. فوجدت أن هذه الظاهرة -الدراسة الجامعية بالنسبة للموظفين- متفشية بكثرة في شمال المغرب على عكس ذلك في مدينة الدار البيضاء، لما يلاقيه الموظف من صعوبات شتى إذا أراد أحدهم متابعة دراسته الجامعية، فأحيانا هذه الصعوبات يلاقيها حتى من طرف بعض الأطر التربوية نفسها كما وقع لي مع مدير المؤسسة التي كنت أعمل بها في مدينة الدار البيضاء الذي رفض أن يمنحني مطبوع الترخيص من أجل متابعة دراستي الجامعية، هاته الأطر التي لا تذلل الصعوبات بل تزيد في تعقيدها وعرقلة الشباب الناشئ الذي يسعى للمعرفة، ولما لا الارتقاء الوظيفي أو من أجل تغيير الإطار، وذلك عن طريق تتمة مساره الدراسي الذي يخنق ويستأصل بمجرد النجاح في أول مباراة من أجل الوظيفة وبعد ضمان راتب شهري قار. اقترب الموسم الدراسي أكثر، حتى حل يوم توقيع الدخول المدرسي، فذهبت للتوقيع آخر اليوم، حتى لا ألتقي بأحد ممن يدرسون معي، لأجد نفسي، وقد قررت عدم الذهاب يوم التنظيم التربوي، وهو اليوم الموالي ليوم التوقيع الذي نلتقي فيه جميعا مع مدير المؤسسة والأطر التربوية، ويجرى فيه أول اجتماع لتحديد المستوى الذي سيتم تدريسه من طرف كل أستاذ منا، واستعمال الزمن الذي سنعمل به خلال السنة، وغيرها من الأمور الترتيبية، كأهم يوم تنظيمي لمجموعة من الأمور الدراسية، ليتم الشروع الفعلي بعده في استقبال التلاميذ والدخول المدرسي. مؤكدة دوما على أهمية هذا اليوم لزوجي وعدم غيابي عن حضوره يوما منذ امتهنت مهنة التدريس. وبدون سابق انذار، قلت لزوجي: «لن أذهب ليوم التنظيم التربوي»، فاستغرب لأنني دائما جد حريصة على الحضور خلال هذا اليوم لأهميته، فحاول مناقشتي، إلا أنني صممت على عدم الذهاب، غير مهتمة لا بالمستوى الذي سأدرس ولا بالتوقيت ولا القاعة ولا أي شيء من مثل هاته التفاصيل. فكل ما أذكره أنني أمضيت الليلة بكاملها دون نوم وأنا أبكي، وكأنني أفاجأ بقرارات شخص داخلي لكنه ليس أنا! شخص لا يحترم العمل، شخص لا ينضبط للمواعيد وللواجب المهني ولا يهمه نهائيا ما سيسفر عنه الاجتماع يوم التنظيم التربوي ولا يهمه أي شيء متعلق بالعمل! ولا رأي المرشد التربوي أي مدير المؤسسة، لم يعد كل هذا يحرك أي وازع بداخلي! ذلك اليوم أحسست بمتلازمة الدكتور جيكل والمستر هايد ، متلازمة الخير والشر أو الطبيعي واللاطبيعي أو المقبول والمرفوض أو الخداع والمصالحة مع النفس، فهما شخصيتان في فيلم رعب إنساني أكثر منه سينمائي. وهو فيلم يحكي عن الدكتور جيكل الذي يتربع على قمة الهرم الاجتماعي، وهو العالم الطبيب الهادئ الودود المؤدب والذي يمثل الخير، والذي سيقوم بإجراء عدة اختبارات علمية بخلطه لمواد طبية كيماوية والتي من ثمة سيجربها على نفسه، لتنتج منه شخصا متحولا شريرا قاسيا، غير مؤدب، عنيفا يمثل الشر، ويحقق كل ما يأمره به 'الهو' أي الرغبات الدفينة في الإنسان والتي يمارسها دون حسيب أو رقيب من طرف ' الأنا ' ليحقق كل ما تهفو إليه نفسه، ليعطي لنفسه المتحولة اسما آخر يليق بها هو ' مستر هايد'. هكذا أصبحت بدوري في بداية هذه السنة المشهودة، لا أريد الذهاب إلى المدرسة. لكن قبل ذلك بمرحلة ليست باليسيرة، كان الطبيب يعطيني الشهادات الطبية الطويلة المدى فأخبئها في محفظتي ثم أذهب إلى العمل في حالة يرثى لها، يلاحظها زملائي وأراها في عيونهم ونظراتهم، قائلة للطبيب: «إنني أستطيع العمل»، وهو يؤكد لي أنني لا أستطيع ذلك! وأقول في نفسي: «أنا أدرى بجسمي وقدراتي، فبماذا يهرطق هذا الطبيب؟» فأذهب للعمل غير آبهة بكلامه، كنت قد بدأت العلاج النفسي صدفة آخر السنة التي سبقت هاته 2016/2017، بعد أن قذف زوجي في وجهي بهذه النصيحة. وبمجرد بداية السنة الدراسية وجدت نفسي أغير صورة 'بروفيل الواتساب' في هاتفي، بصورة أخرى معبرة عن حالتي، وهي لطفلة صغيرة جميلة لكنها عابسة جدا وملامح وجهها تدل على تذمر شديد ومكتوب تحتها 'دخول دراسي موفق'، وبقيت هذه الصورة في هاتـفي المحمــول مدة طويلة، لم أستطع تغييرها. فقد وجـدت المستر هايد Mr Hyde يسيطر علي ولم أعد أقوى على المقاومة، فقد أصبح بداخلي شخص ممسوخ لا هوية له لكنني لست أنا التي أعرف بل هو شخص نقيض لي تماما لا يريد العمل 'التدريس' لا يحبه والأدهى والأمر من ذلك أنه 'أي التدريس' لا يعني له شيئا، وكأنه لا ينتمي إلى تلك المهنة ولم ينتم إليها يوما. وهذا الاحساس انتابني وبشدة بعد محاولات عديدة مني في التغيير، بغير دراية أو وعي مني عن السبب، أو لماذا؟ حاولت الحصول على أي منصب إداري، وشاركت أيضا في مباراة للحصول على مهمة منظمة ومنشطة مكتبة في مؤسسة 'التفتح الفني والأدبي بطنجة'، فقد أصبحت أحس أنني يمكنني امتهان أي دور آخر غير التدريس. لأشرع في البحث عما أقوم به كمهنة غير مهنة التدريس، لأنني لا يمكن أن أقبع في المنزل لا دور لي غير دور ربات البيوت، لم أتعود على أداء هذا الدور وحده في حياتي اليومية. وأثناء ذهابي لإجراء أول فحص مضاد في المندوبية الصحية بمدينة الرباط بسبب شهاداتي الطبية الكثيرة والطويلة المدى، فكرت في العروج على مدينة الدار البيضاء حيث تقبع شهادة الباكالوريا بكلية الآداب والعلوم الانسانية بابن امسيك، حينها كنت قد تسجلت بشعبة 'الأدب العربي' لأكثر من عشرين سنة مضت، حيث لم أكمل دراستي بعد السنة الأولى، وتهت في متاهات الحياة، وبقيت شهادتي قابعة في هذه الكلية دون أن أفكر يوما في سحبها، حتى تقاذفتني السنون لأجد نفسي في مدينة طنجة، عروس الشمال والمدينة العالية كما يتغنى بها أحدهم. مع أنني بمجرد قدومي إليها وقبل حوالي سبع سنين مضت سنة (2009/2010)، اقترح علي أحد زملائي النقابيين أن يسجلني بكلية الحقوق بطنجة فرفضت، لأن القانون لا يستهويني، مع إدراكي الشديد أن من واجب كل شخص دراسة قانون بلده حتى يعرف حقوقه وواجباته وكيفية الدفاع عنها وماله وما عليه. فوجدت أن هذه الظاهرة -الدراسة الجامعية بالنسبة للموظفين- متفشية بكثرة في شمال المغرب على عكس ذلك في مدينة الدار البيضاء، لما يلاقيه الموظف من صعوبات شتى إذا أراد أحدهم متابعة دراسته الجامعية، فأحيانا هذه الصعوبات يلاقيها حتى من طرف بعض الأطر التربوية نفسها كما وقع لي مع مدير المؤسسة التي كنت أعمل بها في مدينة الدار البيضاء الذي رفض أن يمنحني مطبوع الترخيص من أجل متابعة دراستي الجامعية، هاته الأطر التي لا تذلل الصعوبات بل تزيد في تعقيدها وعرقلة الشباب الناشئ الذي يسعى للمعرفة، ولما لا الارتقاء الوظيفي أو من أجل تغيير الإطار، وذلك عن طريق تتمة مساره الدراسي الذي يخنق ويستأصل بمجرد النجاح في أول مباراة من أجل الوظيفة وبعد ضمان راتب شهري قار.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store