
إذا حلوا دولة 56 ارتكبوا خطأ لا جريمة
قال الشاعر الأميركي روبرت فروست لا تهدم سياجاً حتى تعرف لماذا قام أول مرة. وبدا للمرء أن المبغضين لدولة 56، ممن طابقوا بينها وبين القوات المسلحة وحكومتها، بصدد هدمها من دون أن يعرفوا منشأها الأول.
ما ضربت المسيّرات مدينة بورتسودان، الحاضرة البديل للحكومة السودانية خلال الأسابيع الأخيرة، حتى بدا لهؤلاء المبغضين أن دولتها دالت، أو في سبيلها إلى ذلك. فقال الخبير الحكومي الدكتور الوليد مادبو إن تلك الانفجارات فوق المدينة ليست انفجاراً عسكرياً فحسب، "بل صوت انهيار أخلاقي وسياسي مدوٍّ" ضرب ما بقي من وهم "السودان الرسمي"، أي دولة 56، في ما سماه "مخدعها السياسي الأخير". وسأل، وقد ضيقت الحرب على دولة بورتسودان الخناق، "فما الذي بقي إذاً؟ لا دولة، لا جيش، لا أمن، لا مشروع سياسي" (بورتسودان: حين تتعرى الدولة على سواحلها، 7 مايو- أيار).
أقام مادبو حجته على القضاء على "دولة 56" كما يفعل كثرٌ من صفه بأنها غير حديثة خلت من "نظام مدني يحترم القانون"، فلا تكون الدولة الحديثة في رأيهم إلا بالمدنية والديمقراطية وإلا استحقت الإبادة ليستبدلوا أنفسهم دولة غيرها. وهذه محاكمة للدولة لا سند لها في علم الدولة الحديثة، فقام هذا العلم على يد العالم الألماني ماكس فيبر (1864-1920) على قاعدة نفي "الغائية" للدولة الحديثة. ففي القول إن للدولة الحديثة غاية مرتجاة منها مما تواضعت عليه الدولة الدينية التاريخية من متروكات هذا العلم.
"غائية" الدولة
جاء العالم فيبر بهذه القطيعة مع "غائية" الدولة، فعرّف الدولة الحديثة بأنها "مجتمع إنساني يزعم احتكار الاستعمال الشرعي للقوة الفيزيائية (البدنية) في مجتمع معين"، وأراد فيبر بهذا أن ينأى كعالم اجتماع عن الخوض في حكم القيمة على موضوع دراسته، أي الدولة، كأن يرهنها بالعدل أو التقوى أو الديمقراطية أو الاشتراكية. فحقها في احتكار السلاح من حقائقها وكفى. وليس من وظيفة العلم أن يقرر في أخلاقية هذه الشرعة للدولة.
فلا مكان في فقه الدولة الحديثة لما اشترطه مادبو لقيامها كـ"نظام مدني يحترم القانون" أو على أية صورة أخرى. والدولة الديمقراطية الموسومة بالعدل ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة، فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها. فمطلب الديمقراطية الذي تُحاكم به "دولة 56"، يتأخر من الدولة عن مطلب وجود الدولة نفسها بحسب فيبر. فبتعريف الدولة كمحتكرة للاستعمال الشرعي للقوة على الأبدان أنهى فيبر تقليد من سبقوه لدراسة الدولة، ناظرين إلى غاياتها الأخلاقية. فالديمقراطية، مهما سبحنا بحمدها، قيمة سياسية قد تنعقد الدولة من دونها. فتراود الناس في الدولة الحديثة، متى وجدت، مشاريع شتى ليست الديمقراطية، أفضل أسوأ النظم، سوى واحد منها. فهناك الدولة الديكتاتورية والشعبوية والشعبية والاشتراكية، إلى ما لا نهاية، ناهيك عن أن الديمقراطية نفسها في الدولة طيف واسع، الليبرالية واللاليبرالية والديمقراطية الاجتماعية والرئاسية والبرلمانية.
وفي مركز دائرة مطلب القضاء المبرم على "دولة 56" هو سلطانها المتطاول وعنفها الدامي في حرب أهلية بعمر استقلالها إلا قليلاً، أكلت الأخضر واليابس. وليس في أي من المذمتين ما يطعن في حداثة "دولة 56" حتى تطلب أن يبدلك الله غيرها، فالسيطرة بحسب فيبر مشروعة وتقوم السياسة على الشوكة في وجوه توزيعها وصونها وتنقلها من يد إلى أخرى، فالسيطرة عنده مشروعة وتقع بثلاثة طرق، السيطرة، أو الغَلب التقليدي والغلب بالـ"كاريزما" التي يشيعها قائد آسر جاذب، وبالقانونية الشرعية. ومع ذلك لا يرى فيبر حجة في تسويغ الدولة بفكرة شرعيتها التي هي تعريف مادبو وشيعته للدولة الحديثة. فلا بد للمرء، في قوله، من أن يعتبر الطاعة التي يدين بها طاقم الدولة والجمهور الأوسع لجسد الدولة الكبير. فالدولة الحديثة، في قول فيبر، تنظم الغلب وتحتكر الاستخدام المشروع للعنف الجسدي كوسائل للسيطرة على بلد ما. وفكرة فيبر في العنف والسيطرة مما ألحن بها علماء لاحقون مثل الأكاديمي الأميركي تشارلز تيللي (1929-2008) الذي قال إن الدولة، ببساطة، آلة لممارسة العنف والحرب والتغنيم كحق شرعي.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العنف والدولة الحديثة
من جهة أخرى، فتظلم مادبو وشيعته من ظلم دولة 56 وعنفها المجاني هو من باب استغراب الشيء من معدنه، فالعنف كما تقدم في أصل الدولة الحديثة وهي مما يقوم بـ"الغَلب المنظم"، في قول فيبر، والذي يسوق إلى الضبط الإداري المستمر والطاعة. فعنف "دولة 56" الذي سارت به الركبان من طبيعة الوحش والاحتجاج عليه صرخة في واد. وما بقي للعلم والممارس السياسي هو أن يدرس الوسائل التي تستخدمها الدولة التي لها، دون سواها، توظيف القوة على من هم تحتها، أو ما يطلق عليه فيبر "شروط السيطرة". فالاحتجاج نفسه على غلب الدولة وعنفها عقيم ما لم يتحرَّ هذه الشروط وينفذ إليها ويحيدها.
هدم السياج
لاح في حرب السودان مما نقلناه عن مادبو وشيعته أنهم على وشك أن يهدوا سياجاً لم يتحروا معرفة منشأه بوجهين، فجاؤوا إلى هذا الهدم مغيظين بحمولة معارضة، أو شعوائها، في تطاول لـ "دولة 56" نفسها وليست أقل دمامة منها. وبدا أنها حاربت مع ذلك دولة هي على طلاق بينونة مع فقهها. ومن ذلك أنها جعلت من مشروعها المدني الديمقراطي لدولتها المنتظرة شرط وجود للدولة، تقوم به أو تتبخر من دونه، فرهنت بذلك الدولة بغاية على غير منطوق هذا الفقه كما رأينا.
وغير خافٍ، من الجهة الأخرى، غفلة هذه الجماعة في حرب السودان عن مصائر دول سبقتها إلى حل الدولة فغادرت ولم تعُد حتى اليوم. ففي حين استبشر مادبو بسقوط "دولة 56" تحت وابل مسيّرات "الدعم السريع"، كانت هايتي في شدة من أمرها وكانت ضاقت ذرعاً بجيشها ودولته الموبوءة بالعنف والانقلابات فحلتهما عام 1994، وفي غيبة الدولة غلبت العصابات وصارت هي الحكومة. وجاء حديث مادبو عن الاستغناء عن جيش السودان ودولته والعالم ممحوناً في هايتي. فدمغت أميركا العصابتين اللتين تحكمان هايتي في يومنا كـ"منظمات إرهابية أجنبية" في سياق حربها على تجارة المخدرات. ولم تسعد منظمات الإغاثة الإنسانية بهذا الدمغ وعاقبَه لأنه سيحول دونها ودون تقديم العون إلى ضحايا العصابات أنفسهم، وهو عون سيتعذر متى استفز هذا الدمغ العصابات وركبت رأسها وحالت بين "شعبها" وهذه المنظمات. ولما أصبحت هايتي عزلاء عن دولة تقوم بأمرها تجنبها العالم. فلا أثر على أمنها حتى لكتيبة الشرطة الكينية التي أرسلت إليها في يونيو (حزيران) عام 2024 من قبل أميركا وتحت رعايتها، لا الأمم المتحدة. وتنصلت عنها دول أخرى التزمت بنصيب من تمويل البعثة الكينية. ووصف أحدهم غسل أميركا اللاتينية يدها من هايتي بأنه "عار".
قال الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس دي تاليران متحسباً من ذيول خطف معارض فرنسي بأمر نابليون من ألمانيا إلى بلده وقتله "إنها لأسوا من جريمة، إنها غلطة". ووجبت الخشية أن يرهن مثل مادبو حل أزمة السودان بحل الدولة جرياً وراء عقيدة "الحل في الحل" السودانية التي ترى الخلاص من الأمر الشائك بالاستغناء عنه.
فإذا ما اتفق لمادبو وشيعته أن خلاص السودان التاريخي في حل الدولة التي لم يعرفوا لماذا قامت في أول أمرها كما رأينا، ارتكبوا ما هو أسوأ من الجريمة، ارتكبوا الخطأ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


حضرموت نت
منذ ساعة واحدة
- حضرموت نت
رئيس مجلس الشورى يعزي قائد محور بيحان اللواء بحيبح بوفاة شقيقه
عدن ـ سبأنت: بعث رئيس مجلس الشورى الدكتور أحمد بن دغر برقية عزاء ومواساة إلى قائد محور بيحان اللواء مفرح بحيبح عزاه خلالها بوفاة شقيقه نعمان، الذي انتقل إلى جوار ربه بعد حياة حافلة بالعطاء. وأعرب الدكتور بن دغر عن بالغ حزنه وصادق تعازيه ومواساته للواء بحيبح وكافة أفراد أسرته الكريمة، سائلاً الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان. وأشاد رئيس مجلس الشورى بالمواقف الوطنية والنضالية التي قدّمتها قبيلة مراد، وفي مقدمتها اللواء مفرح بحيبح، في مواجهة الانقلاب الحوثي، ودورها الفاعل في معركة استعادة الدولة والدفاع عن النظام الجمهوري.

سودارس
منذ 2 ساعات
- سودارس
سلطة الطيران المدني تنفي تقارير عن عودة مطار الخرطوم الدولي لاستقبال طائرات الشحن
ونفت السلطة صحة هذه التقارير، مؤكدة أنها لم تصدر أي بيان بهذا الخصوص ولم يتم تحديد سقف زمني لعودة مطار الخرطوم الدولي لاستقبال أي نوع من الطائرات حتى تاريخه. وأشارت السلطة إلى أن عودة مطار الخرطوم الدولي للعمل تعتبر من أولوياتها القصوى، متى ما توفرت القواعد القياسية والمتطلبات الدولية لتشغيله، التي جاري العمل على توفيرها في أقرب وقت ممكن بالتنسيق مع كل الجهات ذات الصلة. وهنأت سلطة الطيران المدني المواطنين الكرام بتحرير كامل ولاية الخرطوم سائلين الله ان يتم تحرير كل الوطن من دنس المليشيا المتمردة. النصر لقوات شعبنا المسلحة والمجد والخلود لشهدائنا الابرار والعزة للسودان. سونا script type="text/javascript"="async" src=" defer data-deferred="1" إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة


صدى الالكترونية
منذ 2 ساعات
- صدى الالكترونية
زيارة موفقة
لاشك ان زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة كانت زيارة موفقة وقد فاقت ايجابياتها كل شيء ولكن وقبل كل هذا ، قال السفير الأمريكي السابق لدى المملكة، مايكل راتني: ان الرئيس ترامب اختار الرياض في بداية زيارة لبعض من دول الخليج بادرة قوية تنمّ عن الاحترام'.. وأضاف: (إن كثيرين في السعودية يحملون نظرة إيجابية للرئيس ترامب؛ ومن ثم نقول: ان إيجابيات تلك الزيارة عظيمة جدا وذات فوائد جمة لكلا البلدين فمن تلك الإيجابيات أشادة الرئيس ترامب بالجهود الكبيرة التي يبذلها سمو ولي العهد في قيادة المملكة، قائلاً: 'يا له من عمل قمت به أعتقد أنك تتقلب مثل معظمنا في الليل، تفكر في كيفية تحسين المعيشة في بلدك'. وأضاف: 'أولئك الذين لا ينامون هم من سيأخذونك إلى الأرض الموعودة لدرجة انه سال سموه بعبارة هل تنام ليلاً = وفي يوم الثلاثاء الماضي انطلقت أعمال منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي، بمدينة الرياض بمشاركة المسؤولين في البلدين الصديقين، وذلك في مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات. شهد ولي العهد وترامب توقيع عدد من الاتفاقيات بين البلدين في مجال التجارة والطاقة وفي مجالات أخرى. الى جانب استكشاف فرص جديدة تعزز الشراكة الاقتصادية بين المملكة وأمريكا. = أكد الرئيس ترامب في كلمته خلال المنتدى، أنه لن يتردد أبدًا في الدفاع عن المملكة، مشيدًا بما رآه خلال زيارته، ومشيرًا إلى أن الرياض أصبحت عاصمة للتقنيات المتقدمة في العالم. = وفي مقابل ذلك قال صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، «إنَّ العمل المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية لا يقتصر على التعاون الاقتصادي، وإنما يمتد لإحلال السلام في المنطقة والعالم». = قال الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة تريد المشاركة مع المملكة في المناورات العسكرية والدفاع المشترك، وإتاحة الفرصة للمملكة لتستفيد بالتكنولوجيا الأمريكية التي تتعلق بالطاقة النووية السلمية معللا ذلك بأن المملكة تدرك أهمية البحث عن المصادر الأخرى للطاقة النووية والمتجددة. وقال الرئيس الأمريكي لولي العهد : خلال القمة «السعودية الأمريكية»: سنستمر في خدمة بلدكم العظيم = وأخيرا فقد أكد الرئيس الأمريكي أنه سيرفع العقوبات عن سوريا استجابة لطلب صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، = وفي مقابل هذا أبدى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، فرحته بإعلان الرئيس الأمريكي، رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا. ومن ثم عقب الرئيس بالقول موجها الحديث الى السوريين لنرى منكم شيئا خاصا من أجل مستقبلكم. أجعلونا نرى شيئا خاصا من أجل مستقبلكم. وقال: كل ما أقوم به الآن هو من أجل الأمير محمد بن سلمان وعلى اثر ذلك انطلقت الاحتفالات في شوارع دمشق، بعد إعلان ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا وأخيرا فقد رفع الرئيس الأمريكي مكانة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بما يستحقه بقوله: إن كل ما أقوم به الآن هو من أجل صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء. وأضاف إن صاحب السمو الملكي الأمير محمد رجل عظيم لا مثيل له. وختاما فشكرا لكم فخامة الرئيس ترامب على هذا الاطراء والتقدير والاحترام الذي حظي به سموه من فخامتكم حفظ الله سمو اميرنا الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ونتمنى ان تدوم العلاقات بين البلديد جيدة امدا طويلا