محمد شاهين في ذمة التاريخ الأدبي
نعى الناعون الأديب الناقد المترجم محمد شاهين عليه رحمة الله. وكنا منذ زمن صديقين قلما يلتقيان. فهو منشغل دائما في مشروعاته البحثية والترجمية وفي المؤتمرات العديدة وفي المجلة الثقافية، ولما سمعت بالخبر الصادم هرعت إلى مكتبتي ألتمس فيها بعض آثاره فعثرت على : كتاب له بعنوان «تحولات الشوق». وهو من أوائل كتبه إذ صدرت الطبعة الأولى منه عام 1993 وكتاب عن « إليوت « وتاثيره في الشعر العربي وبصفة خاصة في شعر بدر شاكر السياب وصلاخ عبد الصبور. وكتاب آخر عن « الأدب والأسطورة « وكان قد صدر في العام 1996 وأخيرا كتابه عن الرواية « آىفاق الرواية - البنية والتراث « الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق 2001 وله كتاب آخر مترجم عن إدوارد سعيد صدر هو الآخر في طبعتين، وقد سماه رواية للأجيال.
تحولات الشوق:
فمن أقدم الكتب التي أطلعت عليها من مؤلفاته الكتاب الموسوم بعنوان تحولات الشوق. فقد تناولته عند صدوره بمقال نشر في الدستور الثقافي. والكتاب الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1993 يمكن تصنيفه في كتب النقد الأدبي المقارن ففيه يتناول رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، ويقارن بينها وبين رواية مرتفعات وذرنغ (1847) لإميلي برونتي، مؤكدًا الشبه بين قصة لوكوود وحكاية مصطفى سعيد في موسم الهجرة. فالشبه في تركيب الحوادث في الروايتين واضح فهيثكليف يثور على الوضع الحياتي العائلي وتساعده الشابة كاترين فتنشأ بينهما روابط غرامية شديدة، وتخون هذه هيثكليف بزواجها من إدجار، فيصبح هيثكليف بسبب ذلك محبا للانتقام. ومثل هذا ما يجري بين مصطفى سعيد وجين موريس في رواية الطيب. فقد تميزت علاقتهما في نهاية المطاف بالانتقام والعنف الذي يشبه البركان. ووجه الاختلاف بين الروايتين يتجلى في أن مصطفى سعيد يعزو ذلك كله لفيروس الاستعمار الذي يؤجّج العنف.
وتعثر د. شاهين - رحمه الله - بوجه آخر للمقارنة بين موسم الهجرة ورواية جوزيف كونراد قلب الظلام 1902، فرحلة مصطفى سعيد في الشمال تشبه رحلة كوتز بطل قلب الظلام في الجنوب في الكونغو، وكل منهما تدعوه دوافع الغزو، مصطفى سعيد يريد غزو الأبيض الأوروبي المستعمر، ودوافع كوتز هي غزو الأسود الإفريقي بصفته مستعمَرًأ. والراويان؛ مارلو لدى كونراد، ومحيميد عند الطيب، متشابهان، فكل منهما يحب القصص؛ الأول يميل للتأمل ومراجعة الماضي، والثاني شغوف بأقاصيص جده.
وهذا يفسر ما يدعيه ديفز مترجم رواية الطيب صالح للإنجليزية من أن السوداني اطلع على رواية كونراد مثلما اطلع على بعض روايات فورستر، وفورد مادوكس، وربما تأثر بتلك الروايات، وهذا التأثر بادٍ على الرغم من أن الكاتب السوداني يختلف عن كونراد لتوزيعه الحوادث المحكية بين السارد والشخصية المحورية في النص. ويُلاحِظ الراحل شاهين تأثر الطيب صالح برواية الأحمر والأسود 1830 لستاندال Scarlet and Black فهي تدور حول موضوع متكرر وهو اقتران البونيبارتية بالأحلام الزائفة والأمال الكبيرة. فمصطفى سعيد يبدو في الرواية بصورة الماجن الذي يريد غزو أوربا عن طريق النساء اللواتي يرى في بيوتهن حصونا من بقايا الاستعمار لا مناص لها من الانتهاك، وهذا شبيه بما كان يساور جوليان في الأحمر والأسود.
ومن المؤثرات الأخرى التي تتجلى في رواية موسم الهجرة ما يجده شاهين من شُبهة التأثر ببعض الروائيين الغربيين الذين ألفوا روايات تقع حوادثها في الشرق العربي أو الآسيوي. كروايات رديارد كبلنغ، وفورستر، وبعض الروائيين العرب ممن ألفوا رواياتٍ تقع حوادثها في الغرب الأوروبي – باريس مثلا – ومنها رواية عصفور من الشرق1938 لتوفيق الحكيم. بيد أن الراحل لم يشر لروايات سهيل إدريس الحي اللاتيني1953، وأصابعنا التي تحترق1962، ولم يشر لقنديل أم هاشم1954 وسواها من الروايات. ولهذا كله يرى شيخ النقاد الدكتور إحسان عباس في تقديمه للكتاب أن الدراسة فيها من النقد الأدبي المقارن الكثير الممتع الموسِّع للآفاق، المعمق للبصيرة، بما فيه من كشوف جديدة ومن إشراقات باهرة.
إليوت وتأثيره:
أما الدراسة التي جمع فيها محمد شاهين بين السياب، وصلاح عبد الصبور، وإليوت Eliot منطلقا من الفكرة السائدة عن شيوع تأثير إليوت في الشعر العربي الحديث، فذلك شيء سبق لجبرا إبراهيم جبرا أن تناوله، مشيرا لنماذج منه في شعر السياب، كالمعبد الغريق، مما أشرنا إلى بعضه في واقع الدراسات النقدية العربية في مائة عام 2013 ولم نشر لأكثره طلبا للإيجاز والاختصار. أما شاهين فقد أوضح هذه الفكرة بمقدمة عن حضور إليوت في الأدب، وفي الثقافة العربية المعاصرة، من خلال الترجمة أولا، ومن خلال الدراسات التي كتبت عنه، ونشرت في الدوريات، والكتب. وأشار للصعوبات التي اعترضت مترجمي شعره، لا سيما قصيدته المشهورة بعنوان» الأرض اليباب» The Waste Land التي نقلها إلى العربية غير واحد. وأما القصائد التي حدد فيها الأثر فهي: قصيدة صلاح عبد الصبور الموسومة بعنوان « لحـنٌ « وقصيدة إليوت الموسومة بالعنوان « صورة سيدة « Portrait of a Lady وبعد الموازنة، والتحليل المقارِن، والكشف عما بينهما من تشابه يصل حد الاحتذاء، والاقتباس، يؤكد الناقد شاهين أن عبد الصبور قلد قصيدة إليوت، وتأثر بها على سبيل المحاكاة، لا غير. أما المعاناة التي تكمن في قصيدة إليوت، وتجلى أثرها في صوره، ورموزه، فكانت بعيدة جدًا عن صلاح عبد الصبور، لذا، إذا قيل: إن قصيدة إليوت مؤثرة جدًا، وتحيط القارئ بهالة من الألق، فإنّ قصيدة عبد الصبور باهتة، باردة العواطف. وهو ينفي أن يكون عبد الصبور، باقتباسه عبارة « لستُ الأمير هملت « الواردة في قصيدة إليوت، بعد إسقاط الاسم « هملت «:
جارتي لست أميرا
لا ولست المضحك الممراح في قصر الأمير
كي يريك العجب المعجب في وضح النهار
إنني خاوٍ، ومملوءٌ بقشٍّ وغبار
يمكنه أن يكون على قدم المساواة مع إليوت، فهذا القول، على الرغم من أنه منقول نقلا حرفيا، عاجز عن إيضاح ما بين هملت شكسبير وهملت إليوت من تماثل، أو تناقض، فهاملت إليوت يريد أن يكون بطلا مأساويًا، وقد ظهر في قصيدة عبد الصبور - للأسف - مهرجًا مضحكًا، وهذا يعني أن احتذاءه لإليوت لم يكن موفقا، ولم تتعد قصيدته هذه الأصداء الخارجية.
أما السياب فقد كان يعاني من حالة نفسية مر بمثلها إليوت عندما كتب قصيدته المشهورة « الأرض اليباب « The Waste Land وقد وجد فيها الشاعر العراقي ما اختبره هو من رغبة ملحة في التعبير عن شتات الواقع في أقسى لحظات الألم، حين تتطهّر النفس، وتتكثف الرؤية، وتولد على يدي الفنان. فاللحظات الإبداعية في « الأرض اليباب « استطاع السياب أن يقتنصها، ويطوّع بها الإيقاع لحاجاته، واستعداده الشعري، ولهذا كان نهجه مختلفًا عن نهج عبد الصبور، وتبعًا لذلك وجدنا في قصيدتي السياب، وإليوت، تحريرًا للغة من قيد المضمون، والعادة. فما بين انحباس المطر، وانتظاره، وانهماره، يتغير الواقع على إيقاع التحولات التي تطرأ على النص. وفي القصيدتين ثمة اعتماد واضح على ما يسميه الناقد ثورة الكلمة تارة، ومناطق الوعي تارة أخرى. وهذا كله يؤكد الفرق بين تأثير ناتج عن وحدة المعاناة، وآخر ناتج عن التقليد، والمحاكاة. ويبدو لنا الدكتور شاهين- رحمه الله- متناقضا في هذا السياق، فعند كلامه عن درويش يحمد له تأثره بإليوت، على الرغم من أنه قام بانقلاب على النص الذي تأثر به، لكنه عند الكلام على صلاح عبد الصبور لا يسمح له بمثل هذا الانقلاب. فالتساؤل الذي يثيره عن الفارق بين هملت إليوت وهملت عبد الصبور سؤال يفترض أن الشاعر عبدالصبور يريد أن يكرر ما قاله إليوت، لا أكثر ولا أقل، وهذا منطق في النقد ينمُّ على الكيل بمكيالين.
الأدب والأسطورة:
في عام 1996 صدر للراحل كتاب صغير الحجم عظيم الفائدة كثير النفع بعنوان الأدب والأسطورة. وبعد أن تناول في الفصل الأول منه علاقة الشعر والأدب بصفة عامة بالأسطورة ، مستوفيا في ذلك آراء إدموند ليتش Leach وستيفن هيث Heath مؤكدا شيوع اتجاهين على هذا الصعيد أولهما تقليدي كلاسيكي وهو الاتجاه الذي يرى في الأسطورة نبعا منه تدفقت الروافد الأدبية والجداول من شعر ومن دراما ومن ملاحم نثرية ورواية وآخر يرى فيها توجها رمزيا متطورا متجددا . وفي هذا السياق عرض لنا فيما يلي الفصل الأول نماذج إليوت : الأرض اليباب وما فيها من أساطير تفصح عنها مقاطع « كدفن الموتى» و « لعبة الشطرنج» و «موعظة النار». وبالمثل تناول اختيار عزرا باوند لأفرودايتي - وهي آلهة الحب عند الإغريق - منطلقا في تعامله الفني مع الأسطورة. وعدا عن ذلك توقف إزاء رواية يوليسيزUlyssis لجيمس جويس. وانتهى من هذا التطواف بقصيدة محمود درويش « فرس الغريب « وهي إحدى دُرَرِهِ في ديوان أحد عشر كوكبا. ففيها يكرر الشاعر عبارة للحقيقة وجهان والثلج أسود. وقد أوضح المرحوم شاهين كيف تعبر القصيدة بهذه المفارقة paradox عما جرى في تاريخنا الحديث، وتصوره أروع تصوير، دون أن تذكر بالاسم القوى الفاعلة التي اشتركت فيه، إخراجا، وتنفيذا:
وللقمر البابلي
على شجر الليل مملكة لم تعد
لنا منذ عاد التتارُ على خيلنا
والتتار الجدد
يجرّون أسماءنا خلفهم في شعاب الجبال وينسوننا
وينسون فينا نخيلا
ونهْرَيْن، ينسون فينا العراق
الرواية والتراث:
وفي كتابه آفاق الرواية 2001 فصل تمهيدي من ص 14 –30 للحديث عن رواية نجيب محفوظ الموسومة بعنوان « ليالي ألف ليلة « 1988. التي عرض لعلاقتها الوثيقة بالليالي من ص 30- 38. وهي، في رأيه، تمثلُ مخاضًا سرديًا غلَبَ على الكاتب محفوظ لسنواتٍ تمتدُّ بين عامي 1967 و 1979 وفيها حدثان مُهمّان، هما: النكسة، ومعاهدة السادات (كامب ديفيد) فصحوةُ شهريار تأتي بعد نكسة تتلوها نكسة. ولهذا فإنَّ الرواية تروي للقارئ حكايةً معقَّدةً للواقع السياسي الممتدّ بين الحدَثيْن. وقد اقتبس المؤلف مشاهد، وحواراتٍ، للسندباد وشهريار والوزير، مؤكدًا بتلك الاقتباسات أنَّ هذه التجْربةَ في كتابة الرواية العربية تمثلُ شكلا جديدًا ألهمتْهُ إياهُ ليالي « ألف ليلة «. فخروجُ شهريار يرمزُ بوضوح لخروج الزعيم من اللعْبة السياسيّة، مخلفًا وراءَهُ أجيالا تدفع الثمنَ باهظا جراءَ تلك المغامرة، أو المقامَرَة، بكلمةٍ أدقّ.
وفي فصْلٍ آخرَ من هذا الكتابِ القيّم، يقفُنا المؤلف إزاءَ رواية إميل حبيبي1921- 1996 (المتشائل) مُسْتهلا الحديثَ عنها بكلمة لمحمود درويش يؤكد فيها أنّ الذات « في بحثها عن ذاتها لا تجدُها إلا إذا امتلأتْ بخارجها « - أي بغيرها - إذا صحّ التعبير. وهذا ما يتجلى بوضوح في تلك الرواية. ففي بحث الكاتب عن تأكيد الذات الفلسطينية المهدَّدة بالمحْو « يستثمر» التراثَ الفلسطينيَّ بدءًا بالأسْطورة، والمحكيات القديمة، مرورًا بالحكاية الشعبية التي يذكــّـرنا توظيفُه لها بحكايات جِفْري تشوسّرChaucer الموسومة بحكايات كانترْبَري The Canterbury Tales. لذلك نجدُهُ – أيْ إميل حبيبي- يستحضرُ ما يُعْرف باسْم صندوق العَجَب، متخذًا منه شيئًا شبيهًا بالتقنية التي يستعين بها ساردًا الكثير من الحكايات عن بدْر، وبدور، وسواهما. فصندوق العَجَب، فضلا عن أنه رمزٌ شعبيٌ، ثمة تداخلٌ فيه مع المسرح، كما في « لكَع بنُ لكَع «. ومن هذا المزيج كله اهتدى إميل حبيبي لما يسميه شاهين ذاتًا جمعيّة تسمو على أيّ ذاتٍ أخرى، وعلى أيّ ظرف، وكلِّ سياسة، فعملية التوحُّد بين الذات وما هو خارج عنها، أو غيرها، أشبه بتوحُّد الأعضاء المختلفة المتباينة في جسْم الإنسان.
وفي هذا السياق يتَّضح أنَّ ثمة ما هو متقابل، أو متواز، بين ديمتري في رواية دكنز(1812- 1870) الآمال الكبيرة، وسعيد في المتشائل، فكلا الكاتبين اسْتطاع أنْ يبْدع، بسرده للحوادث، واقعًا جديدًا بكلمات تختزل المسافة بين الذاتِ وما هو خارجها، بين الخطاب والواقع، بين البداياتِ والنهايات. ونجح كلٌ منهما في أنْ يجعل اللغة تعبّرُ، لا بلسانِهِ هو، بل بألسنتنا جميعًا، لأنه جعلنا نعيشُ في هاتيكَ الوقائع.
والحديثُ عن روايةِ غسان كنفاني(1936- 1972) « ما تبقَّى لكُم « حديثٌ غير بعيد عن تناول المؤلف لرواية « المتشائل « المذكورَة لإميل حبيبي، أو «يوميّات سراب عفان» لجبرا؛ فالرواياتُ الثلاث تمتُّ بصلة متينةٍ، وكبيرةٍ، بروايات غربية. فالأولى لا ينكـرُ مؤلفها تأثره بوليم فولكنر Faulkner الأمريكي(1887- 1962) صاحب رواية الصخب والعنف Sound and the Fury The 1929 التي نقلها للعربية جبرا إبراهيم جبرا. وهذا- بدوره- لا يُنْكر تأثره برواية « الأحمر والأسود « Le Rouge At le Noir une للفرنسي ستاندال 1830 ولا يُنكر أيضا تأثرهُ برواية « صورة الفنان شابًا « للإرلندي جيمس جويس(1882- 1941).
وبالعودة إلى غسّان كنفاني، وروايتهِ « ما تبقّى لكم « يرى المؤلف أنّ كنفاني-ربما- كان قد اطلع على مسرحيّة « مكبث «لشكسبيرShakespeare ولا سيما الجزءَ الذي اقتبس منه فولكنر عنوان روايته. وهو قول مكبثMacbeth في خاتمة المسرحيّة: « إنّ الحياة مليئة بالصَخَب والغضب. ولا مغزى لها « وهذا فعلا ما عناهُ فولكنر بالعنوان، وما عناهُ كنفاني، إلا أنّ هذا الأخير يوحي بتفاؤلٍ لا نجدُه في رواية فولكنر. فأقلّ ما يعنيه عنوان كنفاني أنَّ ثمة شيئًا ما تبقى في الجُعْبة، مع أنّ هذا الشيء غير معروف، وغير محدَّد، وغامضٌ في رؤيته، ومنظوره . وينْفي المؤلفُ أن يكون هذا القدْر الضئيل من التفاؤل في عنوان رواية كنفاني مستمدٌّ، أو مُسْتوحىً، من قصيدة عزرا باوند(1885- 1972) وقوله:
ما تحبّونَهُ حقًا
هو ما تبقّى لكم
ويستشهد بحوارٍ مع كنفاني، أُجْري، ونُشر، قبل اسْتشهاده (8 تموز1972) يعترف فيه بهذا التأثر الذي جمع بين روايته ورواية فولكنر المذكورة في قَرَن. ونحنُ نظنّ القاسم المشترك بين الروايتين يتجاوزُ العنْوان، ودلالاتِه المباشِرة، وغير المباشِرة. فعلى الرغم من تقديرنا لما يقوله المؤلف، يتّضح للقارئ أنَّ الشيء المشترك بينهما هو (التكنيك) السردي الذي اسْتخدمه فولكنر أولا (1929) ثم استخدمه كنفاني في روايته التي صدرت بعد « الصخَب والعنف « بزمن غير قصير(1966) وهذا تاريخ مُبكــّـر إذا أخذ بالحسبان السياق المعرفي لشيوع هذا (التكنيك) في الرواية العربية. والمؤسِفُ أنَّ المؤلفَ بالغَ في الحديثِ عن الصلة بين عنوانيْ الروايتيْن، وبينهما وبين روايات أخْرى للورنسLawrence (1885- 1920) وغيره، على حساب البناء الذي لم يُعْطهِ حقَّه من الدرْس، والبَحْث.
فكلاهما يستخدم ما يُسمى بالمونولوج monologue استخدامًا متواصِلا في كثيرٍ من الأحيان، مسلطًا الضوء على العالم الذهني الداخلي للشخوص. فبدلا من أنْ يعْهد كنفاني للراوي بوَصْفِ ما يمورُ في دخيلاء زكريا، أو مريم، أو حامد، يتركُ للكثير من التداعيات أنْ تنثال على الشخصية من وَعْيها الباطني، أو مما هو محفوظ، ومختزَنٌ، في اللاشعور. ولأنَّ تجربة غسّان كانت الريادَةَ الأولى على هذا المستوى، فقد فرّق بين هذه التداعيات، أو المونولوجات، وما عداها، تفريقًا يعْتَمد على الطباعة. فما يقوله الساردُ أقلّ سوادًا مما طُبعَتْ به هاتيكَ التداعيات.
ومع هذا، فإنّ ما يذكرهُ المؤلفُ من مَلاحظَ عن وجوه الشبه، أو الاختلاف، بين شخصيَّة حامد، أو مريم، أو زكريا، وبعض شخوص كونراد في Heart of Darkness « قلب الظلام « 1899، أو 1902، من الإضاءاتِ التي لا بدَّ منها للكشْفِ عن المدى الذي بلغته الرواية العربية من تطوُّر فني يضعُها على قدم المساواة مع الرواية العالمية في أوروبا، وغير أوروبا.
علاوةً على أنَّ ما أثارهُ من مَلاحِظَ عن توظيف الروائيَين، وكتاب القصة، لحكاية السندباد، ورحلاته السبع، أو الثماني، وليالي ألف ليلة، وصندوق العجب، والأساطير، والحكايات الشعبية، في المتشائل، وما سلَّطه جبرا من الضوء على علاقته العُضوية بالمكان، وكونه فلسطينيًا يبحَثُ في الرواية عما يؤكد هويته المهدَّدة، يشير بهذا كله لما في الرواية العربية من تداخل مع الأجناس الأدبية الأخْرى، ومن تواصلٍ ملموس بالتراثِ الثقافي، وبذلك يجيبُ المؤلف عما أثارهُ منْ تَساؤلاتٍ في مقدّمتهِ، وما نبَّه عليهِ من إشكالاتٍ، في فُصول كتابهِ، وهذا حسْبُه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبرني
منذ 2 ساعات
- خبرني
وصية المطرب أحمد عامر بحذف أغانيه تدفع فنانين لمحو أعمالهم عند الوفاة
خبرني - أثارت وصية المطرب الشعبي أحمد عامر -الذي توفي فجر الأربعاء- موجة جدل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عقب إعلان مدير أعماله وعدد من زملائه حذف أغنياته من قنواتهم على منصة يوتيوب، استجابة لوصيته. كما أعلن عدد من الفنانين نيتهم اتخاذ خطوات مشابهة، سواء عبر حذف أعمالهم الفنية أو اعتزال الغناء نهائيا خلال الفترة المقبلة. وكان إبراهيم البرنس -مدير أعمال المغني الشعبي الذي رحل بشكل مفاجئ عن عمر 42 عاما- صرح بأن عامر كان يوصيه باستمرار بألا تعرض أغنياته بعد وفاته، وأن يتم حذفها من المنصات كافة. وأوضح أن الأغنيات التي سجلها قبل رحيله لن تُذاع أيضا، التزاما بوصيته التي حرص على تنفيذها قبل مراسم الدفن. وكتب "مغني المهرجانات" حمو بيكا -في منشور عبر فيسبوك- أنه قام بحذف جميع أغنيات أحمد عامر من قناته على يوتيوب، مطالبا شركات الإنتاج وكل فنان شاركه في "دويتوهات" سابقة بحذف الأغنيات التي تجمعهم به. وفي رد على أحد المتابعين الذي طالبه بالاعتزال وحذف أغنياته أيضا، قال بيكا: "في أقرب فرصة، بإذن الله". ولم يكن بيكا مغني المهرجانات الوحيد الذي صرح برغبته في الاعتزال، ففي مداخلة هاتفية أعرب نقيب الموسيقيين الفنان مصطفى كامل عن تأثره العميق برحيل المطرب أحمد عامر، مشيرا إلى أن الوفاة شكلت لحظة فارقة دعته إلى مراجعة ذاتية لمسيرته وسلوكيات الوسط الفني بشكل عام. واعتبر أن ما حدث يمثل جرس إنذار يعكس هشاشة الخط الفاصل بين الصواب والخطأ في المجال الفني. وأشار إلى أن العمل في الملاهي الليلية، رغم كونه خيارا غير مثالي، يمثل مصدر دخل رئيسيا لكثير من الفنانين، وهو ما يطرح تساؤلات معقدة حول التوازن بين الحاجة للرزق والاعتبارات الأخلاقية. وأضاف كامل أن التجربة الأخيرة التي مر بها كانت محطة للتأمل وإعادة النظر في عديد من المواقف التي عاشها، مؤكدا تمسكه بمبادئه وعدم سعيه لمجرد المسايرة على حساب قناعاته الشخصية. وأوضح أن ما حدث شكّل دافعا حقيقيا لإعادة تقييم خياراته المهنية والفنية بروح أكثر صدقا وشفافية. وأضاف أنه ليس ضد العمل، بل مع احترام القيم والسلوكيات الأخلاقية، وضرورة عدم التعدي عليها بأي شكل. وفي مداخلة هاتفية مع برنامج "تفاصيل"، أعلن المطرب الشعبي طارق الشيخ نيته حذف جميع أغنياته، مشيرا إلى أنه سيوصي أبناءه بذلك بعد وفاته. وتعليقا على وصية الفنان الراحل أحمد عامر، قال طارق الشيخ إن ما فعله يحسب له، لأنه أراد أن يترك سيرة طيبة، لا ترتبط فقط بالغناء، مضيفا: "سأوصي أولادي أيضا بحذف أغنياتي، فهناك من يحفظ كلماتي عن ظهر قلب، لكن الحقيقة أن السيرة الطيبة هي ما يبقى، وليس الأغاني، فكم من فنان قدم أعمالا غير لائقة، بينما أحمد عامر لم يفعل ذلك، وهذا ما يحسب له". قال المنتج بلال صبري الذي أنتج عددا من أغنيات أحمد عامر -في منشور عبر فيسبوك- إنه نجح في حذف الأعمال التي يمتلك حقوقها، لكنه أوضح أن بعض الأغنيات بيعت إلى شركات إنتاج أخرى، وبالتالي لم يعد الأمر في نطاق سيطرته. وناشد صبري الأزهر الشريف ونقابة المهن الموسيقية، بهدف حسم الجدل القائم حول الموقف الديني من الأغاني. وقال عبر منشوره :"أناشد الأزهر الشريف ونقيب المهن الموسيقية وكل من له علاقة بمجال الفن والموسيقى، أن يوضحوا بشكل قاطع: هل الأغاني حلال أم حرام؟ أحتاج إلى رأي ديني واضح ومستند إلى نص قرآني صريح، لأن الآراء متضاربة، وأنا في حيرة من أمري، إن كانت الأغاني حراما فعلا، فسأتوقف عنها تماما". من جهته، علق الناقد طارق الشناوي على الأمر، وأشار إلى ما حدث في أعقاب رحيل أحمد عامر، ووصية عدد من الفنانين بعدم تداول أعمالهم الغنائية بعد الوفاة على اعتبار أن الغناء حرام، وأن الامتناع عنه هو السبيل للقاء الله من دون ذنوب، مضيفا أن نقيب المهن الموسيقية نفسه دخل على خط الأزمة، وبدلا من أن يتصدى للدفاع عن الفن، أعلن أنه بدأ مراجعة ذاته ومسيرته. واعتبر أن المأساة هي أنهم يمارسون الغناء لكسب قوت يومهم، بينما يعتقدون أنه محرم شرعا، فيصبح هناك تناقض بين واقعهم وقناعاتهم، وبين ما يحبونه في الدنيا وما يخشونه في الآخرة. وكان الفنان الشعبي أحمد عامر شعر بوعكة صحية شديدة عقب انتهائه من إحياء إحدى الحفلات بالمنصورة، وتم نقله إلى المستشفى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة هناك، وبعد وفاته خيم الحزن على عدد من العاملين في الوسط الفني.

الدستور
منذ 2 ساعات
- الدستور
الشاعر الإعلاميّ الأردنيّ نضال برقان والنضال.. «تحت سماء واحدة»
فايزة عبدالكريم العجارمةمِن على شُرفة الأيام، حيث ترقص الظلال في مساءات الأكوان، وتتلألأ الأفكار في قلب مدوّنتي كالنجوم في سماء الليل. أمدّ يدي إلى القلم، فتتحرّك نسائم الفكر على الورق، وتتشكّل سطور الليل في نثر المقال، يُعبّر عن عمق الروح. في هذه الّلحظة تتلاقى الكلمات والليل والقلم في لوحة الخاطر من الإبداع، تعكس الرؤى في مرايا وجه الحياة. وها... يتدّفق الحبر من قلمي كالنهر العذب، على ضفّتيه تتشكّل الحروف يانعة متفتّحة في ربيع النصّ. والقلم ما زال يرقص في يدي، على لحن وتر شغاف الأدب والشعر. في هذه اللحظة فقط، أُصبِحُ جزءًا من الكون، والكون يُصبَحَ جزءًا مني. الكلمات والليل والقلم يصبحون أصدقائي اللواتي يشاركنني رحلتي في عالم الإبداع؛ بمعيّة الإعلامي والشاعر الأردني نضال برقان.قافلة الشتاء والصيف:درب التاريخ طويلةٌ ممتدةٌ إلى الأفق، و»الخليل» خليلة «عمان» على موعد ترنو إليها مع الشفق مع القافلة، وفي أوّل الرَكَب ثمّة ساعٍ يسعى بحملٍ يسير، علّه يزداد رزقه حِمل بعير...!. يذهب ويعود مع القافلة؛ واليقين يملكه؛ بأنّ درب الأهل والديار قريبة، والحرّيّة مفتاح باب الذهاب والإياب؛ يعبُر ويلج منه متى وكيفما شاء، في جيبه قليل من الربح كثير البركة، والقصص تملأ جعبته في آن. كلّ مرّة تتشابه ملامح الرحلة مع ملامح «البرقاني. كم طويل درب الرحلة بالمشقة...! إلا أنّها في طريقها تمرّ بجبال من العنب والزيتون؛ يضيء درب القافلة قنديل النور؛ فيتواقد وجه التاجر الشابّ المغومس في التعب والنصب نورًا منه؛ ولو لم يمسس تلال الزيتون نار. ومن ينابيع الماء العذب تشرب قافلة الشتاء والصيف؛ لتروي ظمأ الشوق في قلب التاجر «البرقاني» لأولاده وزوجه بالحب والسلام. وها هي... الأعوام القمريّة تمرّ مسرعة، وإذ بالسنين الخريفيّة تأتيه على غير موعدٍ؛ حازمًا أمره؛ لكن هذه المرّة يُساق عنوة إلى مقصلة التّرحيل والتهجير، لا خيار أمامه إلّا النزوح عن بلده وداره؛ والحرقة تحرق أنفاسه...! يتبع خطاه إلى مأوى، لا شيء معه سوى أثمن ما يكون من زينة الدنيا من البنين، وحسنة الدنيا والآخرة الزوج الصالح...! إلّا أنّه استمر يبكي أعزّ مكان لديه، وإنّها أحبّ البقاع لديه، لولا أنّ الغزاة أخرجوه عنوة لما خرج. عمان التي أرخت أهدابها له؛ تبكي معه خليلتها «الخليل» وعشقها «فلسطين»...!. حتّى وأن أناخت القافلة ركابها؛ إلّا أنّها لم تضع رَحلَها...! على أمل العودة.غير أنّ...!الدار أمان، وجنّاتها روح وريحان؛ «جبل النصر» مغروسٌ في أرض «عمان» جبل من أصل سبعة؛ صافّات يسبحن بالسبع المثان...! ما أن يبدأ أحدهم بـ»بسم الله الرحمن الرحيم» حتّى يتضرّع ثانيهم «الحمد لله رب العالمين» فيؤمن سابعهم « اللهم آمين»... والأبُ «البرقاني» يردّد: «ربّي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ»، والأمّ تتصبّب عرقًا من بعد مخاض عسير، طفل يرتعش صارخا، معلنًا نضاله من أوّل شهقة له في الحياة...! الوالدان مناضلان على دروب الصعاب؛ من أجل الأبناء، فكان اسم الطفل حاضرًا، «نضال برقان». قليل من ندى الأعوام، كثير من عجاف السنين مرّت على عائلة لم تعرف غير الكفاح لها عنواناً. عشرة كواكب، منهم ستة أبناء، وأربع بنات، والشمس والقمر، كلّهم لله ساجدون. سقف بيت مفتوق تقرض الشمس ساكنيه في مطلعها وعند زوالها، جدرانه المتآكلة تضمّ بين جوانحها قلوباً ليّنة؛ إلا أنّها مُعَدَّة جيّداً لتحمّل ضنك العيش رغم صِغر الأبناء والبنات...!. المطبخ الخارجيّ نار موقدته الطينيّة مُشتعلة صيفاً شتاء؛ لإعداد الطعام وللتدفئة في آن. و لخبز الصاج رائحة معتّقة رامت عليه الأمّ بركة، فزاد وهج النار حناء أكفّها حمرة داكنة لَوَّحها لون سواد دُخان الحطب...!، ماهرة هاتيك اليدان بنسج الخيط على الخيط، والأنامل تعزف على وتر إبرة الخياطة؛ يدندن ببهجة الألوان خيط التطريز الحريريّ؛ على قطعة قماش من (الإيتامين)، ثمّة في كلّ ثقب حكاية لثوب امرأة...! وبهذا كان عمل الأمّ بالخياطة والتطريز هو مصدر رزق أساسيّ بجانب عمل الأب، وما أسمى الطهر حين يتشابك مع القوّة...!«حجرة بحجم القصر»ضاق الحال على الحال، وإذ بأفراد العائلة «البرقانيّة» تكبر يوما بعد يوم، ولا معين للأب غير الأمّ...! خارت القوى ومسؤوليّات الراعي تجاه الأسرة جِسام... والقلب يا برقان ما زال مشتعلا بالآمال...! فاستعر الرأس شيباٍ قبل الأوان...! وأصبح لا خيار للأبناء أمام ضنك العيش المستمرّ؛ إلا أن يتخلّوا عن آمالهم الكبيرة بإكمال المرحلة الدراسيّة الثانويّة... تاركين على مقاعدهم ظلّ أحلام مبعثرة في عتم الأفق...! ولا بدّ من البحث عن فرصة عمل في مطعم، ورشة دهان، (كراج سيارات)، أو حتّى حمّال في سوق شعبيّ، ليس مهماً مقابل أن يحصلوا على ربح يَسير...! وإذ بالحجرة تضيق مساحاتها على أحبّتها يوما بعد يوم...!، فكان لِزاماً على الأب أن يضيف حجرة جديدة كلّ مرّة بجانب أختها. يتعاون أفراد العائلة في بنائها من الطوب... وما أن يحين الأوان لسقفها حتّى يستعين الأبّ بمعلم بناء؛ فالسقف أولى أن يكون مُحكم البناء...! فالحجرة التي كان فيها معاشهم وسباتهم حاضرة دوماً في قلب المناضل الصغير « نضال برقان» باقية في عينه «حجرة بحجم القصر» تماماً كما صوّرها قلم كاتبة هذه السطور، ذات مساء: «في الوقت مُتّسعٌ، والفضاء مندهشٌ، لحُبٌّ قديم للعب في الحارات بغبارِ الطُّرقِ، لا زِخام، ولا ازدحام...! ولا تعرقلٌ بالأقدام...! بيتنا الصغير، حجرة نعيش فيها... نلهو.. نمرح... نأكُل... ننام على فراشٍ واحدٍ... كلٌّ له من الحُبِّ مّتّسع». وها قد... كبُرَ الشاعر الفتى «نضال» ولم يكن بأوفر حال من إخوته. ما إن أنهى المرحلة الإعداديّة حتّى جاء دوره بالبحث عن فرصة عمل... وبعد ممارسة كثيرة من الأعمال استقر به الحال؛ لأن يعمل صانع حلوى... ثمّة سرّ جمع ما بين الشاعر العربي الكبير «نزار قباني» والشاعر الواعد آنذاك «نضال برقان»، فكلاهما عمل في هذا القطاع، حيث كان والد نزار بعمل في مجال الحلوى، وكان نزار كثير التردد على معمل والده، وهكذا تساوت مقادير الحلوى مع مقادير الأقدار...!تخبرنا الأيام:تنهض الأيام على ذراع الزمن...! تخلع الأعوام عنها جلباب السنين...! ومن تحت رُكام الصعاب قام المناضل ينفض عنه عجاج المستحيل...! في طريق الذهاب والإياب يجذبه مشهد بسطات الكتب المترامية على جنبات الرصيف هنا وهناك؛ ثمّة شيء يتحرك في خوالجه، تنتفض أنفاسه لهذا الشيء...! يتحسّسه بيد الأس، بذات الأنامل التي تضع مقادير الحلوى دون زيادة أو نقصان، راجحة كفّة الميزان...! إنّه الشغف الذي بات يُشعل قريحة الشاعر الذي ولد معه؛ واللوم على الأيام التي أسكتته طويلاً...! وقف مليًّا أمام كتاب «الأيام، فقرّر أن يقتنيه. سار به إلى ركنه الهادئ، ولا ركن هادئ له مثل نفسه رغم الزحام...! كتاب «الأيام» كان له أثر كبير على المناضل؛ حين وجد نفسه أخيراً في تجارب وذكريات «طه حسين»، وكيف كان بصراع مع الإعاقة، والبحث عن الذات، تماما كما إعاقة الظروف القاهرة التي أعاقت عثراتها اكتشاف «نضال برقان» لذاته، والبحث عن هويته كشاعر، وماهيّة تفكيره حتّى يرى العالم من منظور جديد. وبعد أيام من بعد قراءة كتاب «الأيام» والذي كان أوّل كتاب يقرأه بحياته انكسر حاجز الصمت فيه؛ ليقتني مجدداً كتاب «ألف ليلة وليلة» ممّا ترك أثراً كبير في نفسه. هو البحث عن الهروب من واقعه الأليم إلى عالم آخر من الخيال بعيداً عن الواقع، والبحث عن المعنى لأن يكون...أنامل تقطر بالسكّر... وقلم يقطر بالشعر:تَبِعَ المناضل حقيقته، ناظراً إلى عُرْجَةَ ذاته، ثمّة بهجة تقطر من خلجاته، حين تناصف شعوره كلّ جهاته، أنسلّ من الصفّ، وفرّ الصمت من الزحف، رَبَعَ في ربضَتِه، وطَفَقَ يرتع في خيال روضته، في لحظة عجولة وأنامله تقطر قطراً، التصقت ورقة بها، وإذ بقلمه يقطر عليها من لباب وجده شعراً...! فتفجّرت قريحته الشعوريّة من مصنع الحلوى أتقن حرفته. وها... من الحرفة تُولَد الحروف، ومن السكّر يُولد الشعر. ومن الشعر ما أحيا...! فاضت تنانير السطور بعذب المِداد؛ بعد أن أعدّ الشاعر المناضل عدّته من رباط الكَلِمِ الأصيل، وقوّة المعنى الجميل، شاهراً قلمه، بارزاً اسمه على صفحات جريدة «العرب اليوم» من حسن المقال، والتي فيها ما فيها من الكلمات الجِزال...!، ممّا أثار إعجاب القراء لهذه الصحيفة، حتّى بات القائمون عليها ينتظرون كلّ جديد من الشاعر «نضال برقان»... وما أن تنفس المناضل الصعداء، وأخذته الغفوة تحت ظلّ الحلم الوارف فيه؛ بساعة استراحة محارب أخبره رئيس عمله، أنّ مصنع الحلوى قد توقف عن العمل. وإذ بالحال يضيق مجدداً على الحال... باقة الكتابة متنفسه الوحيد، على موعد مع «العرب اليوم» لتسليم إحدى كتاباته إليها... وإذما فتح المرء نافذة الكون؛ عليه أن يتنفس عظمة الله... فكان اللقاء مع رئيس التحرير لجريدة «العرب اليوم» الإعلامي الأردني «طاهر العدوان» ورئيس قسمها الثقافي الإعلامي الأردني «إبراهيم جابر» وبدون ترتيب مسبق سأله رئيس التحرير: عن حاله وعن عمله. فأجابه «برقان»:لا عمل لديّ «وإذ ما أراد الله شيئا يقول له كن فيكون»، فعرض عليه الإعلامي «إبراهيم جابر» العمل معهم بجريدة «العرب اليوم»، مندوباً صحفيّاً رسمياً فيها. من هنا بدأ درب المناضل في مجال الإعلام منذ عام 2005 إلى يومنا هذا من عام 2025 مدير للدائرة الثقافية في جريدة [الدستور] الأردنيّة. وما زال قلمه يقطر بالشعر...درب النضال:للحقيقة مرآة واحدة، تنعكس صورتها في كلّ الاتجاهات، بحجم ثقلها يكون الرضى، وبمساحة الصدق لها يكون العبور إلى الضفّة المقابلة منها، ومعنى أن يخاطب الشاعر «نضال برقان» الحقيقة بتجرّد، يتبع مؤشّر بوصلة اكتشاف ذاته. فيبوح لها: «أيّتها الحقيقةُ كشرفةٍ في القلب... أيّتها الحقيقة كزهرة في صدع البلاد... أيّتها الحقيقة كأغنيةٍ لم تزل نديّةً منذ حروب كثيرةٍ». نعم... قد آن الأوان لتحقيق حُلُمٍ كاد أن يكون عفا عليه الزمان، بعد عشرين عاماً من خروجه من المدرسة مبكّراً؛ تقدّم إلى امتحان الثانويّة العامّة لأوّل مرّة وهو على رأس عمله في جريدة الدستور الأردنية؛ فكان النجاح حليفة وبتفوّق. وقتئذ كان ربّ أسرة، وراعياً لزوج معطاءة، وقفت معه متحديّة كلّ الصعاب، لطالما كان يرى في عينيها طيبة فؤاد وقوّة عقل والدته، وابتسامتها الدائمة التي رامت على فؤاده بالتعطّف والحنو... وها هو بالسرِّ يبوح لها: «في عينيكِ أرى وطني.. في ابتسامتكِ أرى مستقبلي... في صوتكِ أرى أمنياتي». وإذ بهذي الأمنيات تتحقّق؛ بعد أربعة عقود ونيّف كانت ما بين عجاف السنين، ورشح قليل من ندى الأعوام؛ لوّح النضال بيد الهمّة للشاعر «برقان» بعد أن حصد غلال أربعة أعوام من زرعه، فكانت حنطته (بكالوريوس) اللغة العربية وآدابها من أمّ الجامعات. الجامعة الأردنية.هو و»ذئب المضارع»...ينام يقظا ذئب المضارع في خلده، يجوب فيافي قلبه عَدوَاً، يسابق نبض القوافي والشعر فيه، يجول سرّاً في غابات السحب عند مشرق عينيه، يصعد قمم فكره الشارد في وجه البدر الساطع، مرتدياً فِراء الليل...!، يطارد شيطان السنين وظلمتها، يقصّ على «الفرزدق» وذئبه الذي كان مثل صاحبه رحلة المشتهى...! فإلى أين تريد الوصول يا ذئب المضارع...؟! والمضارع فيك يصارع عقارب الزمن في الماضي تارة...!، وطوراً يسارع إلى الآتي حيث اللامنتهى...! حين اكتتبتَ الشاعر «نضال» على سطورك، وخبّأتَه بين دفّتيك شعراً؛ فكنتَ أنتَ الكتاب المضارع الأوّل له، في حين كان هو الشاعر الذئب فيك. يوم تجلّى شعراً، وارتدى حُلَّة الشعر في ديوان «ذئب المضارع». وذاك «الكميث» وذئبه أيضا الذي كان مثل أخيه والليل مَلَمُ أوجاعهما؛ حين أستأنسا نار الشعر في «ذئب المضارع» بعدما استفاق ذئب الأربعين عاماً في قلب الشاعر «نضال»، وكتب «صور عائلية»: «استيقظُ صبحا، أمشي بين غيومِ الصمتِ المتلبِّدِ في أركان البيت، الأولادُ نيامٌ في جنّات الخِفّةِ، جنبَ الشبّاكِ الصبّيرةُ لا باس عليها... و»رولا» ما أن تتركَ حرْفَ صلاةٍ حتى تمسكَ بالأخرى، وأنا لا أمسكُ إلا خيطَ الحيرةِ... ثمّةَ وزنٌ يتكسّرُ، ثمّةَ إيقاعٌ يتنفّسُ، ثمّةَ قافيةٌ في الأثناء... وذئبُ مجازٍ يبحثُ عن دمه بدمي، هي رائحةُ الظُلَمِ يا أبتا: كيف أناديك بغير فمِ...؟». إنّه هو الشاعر «نضال برقان»، المناضل البارع، وذئبه المجازيّ المضارع ما زال في ساحة النضال يصارع.رسائل من «تحت سماء واحدة»...الشعر خيمته الوحيدة، ويد أمّه قنديل هذه الخيمة...!، وحبل وتينه معقودٌ بتلابيب سرّها، اكتتبها رسالة من مآقي البحار، فكان هو وهي تحت سماء واحدة: «أمّي.. التي لم أحدِّثُكِ عنها بعدُ، تستطيعين معرفةَ كلِّ شيءٍ عنها... إذا نظرتِ إلى أمّكِ، من خلالِ ثقبٍ في القلبِ، أو شَرخٍ في جدارِ الروح...! هما شقيقتان... ولدتهما أمٌّ كونيةٌ واحدة، تمشطان، كلَّ صباحٍ، شعرَ الشمسِ، وتغنيان، كلَّ مساءٍ، الأغاني ذاتَها للنجوم؛ كي يحلمَ أبناؤهما أحلاما سعيدة...وهما شريكتان في الجراحِ ذاتِها، تلكَ مِن هناك... هذه مِن هنا... وكلاهما، دائما، تحتَ سماءٍ واحدة». على ناصية الكلمات ترقرق عين القلم وانسكب على أسيل السطور يكتب : إلى ذاك الفتى الحييّ الذي ما برح مكانه يوماً في عصمة الشاعر «برقان» لقد آن لك أن ترفع عن نافذة روحك ستائر الخوف، إنّ الظلام قد تبدّد وانقشع عن سمائها، فالغربة التي كانت تعيشها ذاتك بسبب غرابة الزمن، حين كنت ابن زمان مغاير وكأنّك سبقته بعشرات السنين ذهنيّاً وعاطفيّاً، ها هو الآن قد وصل إليك؛ ووجدت زمانك الذي تبغاه ذاتك، تؤنسها ببوحك لها: «أحاولُ تجريدَكِ: لا أسألُ عن الحربِ، أسألُ عن أربابِها... لماذا عبروا طفولتَهم من دون أن يتعلموا الغناء؟ أحاول تجريدَكِ».ثمّ ماذا بعد...؟!أريد أن أنسج من هدب الليل رسالة أيضا... إليك أيها البنّاء الصغير، الذي صقل غصنك حمل جرن الخرسانة من قبل الأوان ولم ينحنِ عودك... قم فإنّ الرؤى تحقّقت فيك، ووصلت طموحاتك عنان السماء. وها أنا وأنتَ تحت سماء واحدة... مازال في الليل مُتّسع...! ارتدت أوراقي منه قميصاً، وأدلج قلمي فيه خميصاً، فأطرق ينكث سطور النضال مخاطباً صانع الحلوى: أنا المُشير بكَ وإليك، حين ألتقيتك فكنتَ رفيقي الذي أذهب عن كفّيّ مُرّ مذاق السنين، وأضفت على صبري نكهات اليُسر، ولازمتني طويلاً في هزيع العسر. وها قلمي ما زال منغمساً بالقطر؛ ليكتب عنّي وعنك من تحت سماء واحدة. حتّى نهض من داخلي ذئب المضارع، أطلس اللون مِداده، يتماهى شعراً نثراً ومقالا، والفخر يكسو أغلِفَة كُتُب المناضل ومؤلّفاته: «مصاطب الذاكرة» تطلُّ على «مصيدة الحواس»، والحواس تسجد بعد أن توضّأت فارتوت من «مطر على قلبي». حين سأل «نضال»: «لمَن تزرعين النجوم في حوض النعناع»؟ فأجابه الشاعر فيه إنّه «مجاز خفيف» من أجل رشفة مسائيّة تعيد وجه الصباح لـ»ذئب المضارع». حين أكتتب كتاب «مقاوم من أجل الحياة/ هشام عودة شاعرا». ويسأل القلم: كيف يجتمع ضدّان في كتاب للشاعر «برقان» العذوبة والعذاب في رواية (عذبة) لصبحي فحماوي».ثمّة رسالة لا تنسى...في ليلة مكتملة النور، حيث البدر البِكر يضيء السماء بنوره الفضيّ، وقف ذئب المضارع وحيداً في كتاب واسع، فارداً سطوره، رافع الرأس، ممشوقاً جسد قلمه بلياقة ومرونة. يتحرّك بخيلاء، وكأنّه يرقص تحت ضوء القمر. ذئب المضارع والليل والبدر متلائمان في ذات الشاعر الإعلاميّ الأردنيّ «نضال برقان» فكان ذئب المضارع يُعبّر عن الشاعر بكلّ ما فيه من قوّة وحرّية، وكأنّه يقول: «أنا ملك الليل، وأنا سيد هذا الكتاب.» وما زال ذئب المضارع يطلق صوت المناضل فيه، يقول: هو ذا «نضال برقان، شاعر، صانع حلوى، طفل حييّ. هو كلّ هذه الأشياء، وأكثر من ذلك. هو إنسان حيّ، يستحقّ الحياة، لا يخاف من الفشل، بل يخاف من أن يكون غير نفسه. أنا النضال... سأستمرّ في الكتابة، وفي صنع الحلوى، وفي أن أكون نفسي» من تحت سماء واحدة.أمّا أنا... والقلم والكلمات والليل... ما زلنا نجمع أوراق الأيّام ل «أعلام وأقلام» في خلجات سابحة».


وطنا نيوز
منذ 3 ساعات
- وطنا نيوز
أعلام وأقلام: الشاعر الإعلاميّ الأردنيّ نضال برقان والنضال .. تحت سماء واحدة
بقلم فايزة عبد الكريم الفالح مِن على شُرفة الأيام ، حيث ترقص الظلال في مساءات الأكوان ، وتتلألأ الأفكار في قلب مدوّنتي كالنجوم في سماء الليل. أمدّ يدي إلى القلم ،فتتحرّك نسائم الفكر على الورق، وتتشكّل سطور الليل في نثر المقال ، يُعبّر عن عمق الروح. في هذه الّلحظة تتلاقى الكلمات والليل والقلم في لوحة الخاطر من الإبداع، تعكس الرؤى في مرايا وجه الحياة. وها … يتدّفق الحبر من قلمي كالنهر العذب، على ضفّتيه تتشكّل الحروف يانعة متفتّحة في ربيع النصّ . والقلم ما زال يرقص في يدي ؛ على لحن وتر شغاف الأدب والشعر . في هذه اللحظة فقط، أُصبِحُ جزءًا من الكون، والكون يُصبَحَ جزءًا مني. الكلمات والليل والقلم يصبحن أصدقائي اللواتي يشاركنني رحلتي في عالم الإبداع ؛ المتفرّد به الإعلامي الشاعر الأردني ' نضال برقان' . قافلة الشتاء والصيف … درب التاريخ طويلةٌ ممتدةٌ إلى الأفق، و'الخليل' خليلة 'عمان' على موعد ترنو إليها مع الشفق مع القافلة ، وفي أوّل الرَكَب ثمّة ساعٍ يسعى بحملٍ يسير ، علّه يزداد رزقه حِمل بعير…! . يذهب ويعود مع القافلة ؛ واليقين يملكه ؛ بأنّ درب الأهل والديار قريبة ، والحرّيّة مفتاح باب الذهاب والإياب؛ يعبُر ويلج منه متى وكيفما شاء ، في جيبه قليل من الربح كثير البركة ، والقصص تملأ جعبته في آن . كلّ مرّة تتشابه ملامح الرحلة مع ملامح ' البرقاني. كم طويل درب الرحلة بالمشقة…! إلا أنّها في طريقها تمرّ بجبال من العنب والزيتون؛ يضيء درب القافلة قنديل النور ؛ فيتواقد وجه التاجر الشابّ المغومس في التعب والنصب نورًا منه ؛ ولو لم يمسس تلال الزيتون نار . و من ينابيع الماء العذب تشرب قافلة الشتاء والصيف ؛ لتروي ظمأ الشوق في قلب التاجر 'البرقاني' لأولاده وزوجه بالحب والسلام. وها هي … الأعوام القمريّة تمرّ مسرعة،وإذ بالسنين الخريفيّة تأتيه على غير موعدٍ ؛ حازمًا أمره ؛ لكن هذه المرّة يُساق عنوة إلى مقصلة التّرحيل والتهجير، لا خيار أمامه إلّا النزوح عن بلده وداره ؛ والحرقة تحرق أنفاسه …! يتبع خطاه إلى مأوى ، لا شيء معه سوى أثمن ما يكون من زينة الدنيا من البنين، وحسنة الدنيا والآخرة الزوج الصالح…! إلّا أنّه استمر يبكي أعزّ مكان لديه ، وإنّها أحبّ البقاع لديه ، لولا أنّ الغزاة أخرجوه عنوة لما خرج . عمان التى أرخت اهدابها له ؛ تبكي معه خليلتها 'الخليل' وعشقها 'فلسطين' …!. حتّى وأن أناخت القافلة ركابها؛ إلّا أنّها لم تضع رَحلَها…! على أمل العودة .غير أنّ …! الدار أمان، وجنّاتها روح وريحان ؛ 'جبل النصر' مغروسٌ في أرض 'عمان' جبل من أصل سبعة؛ صافّات يسبحن بالسبع المثان …! ما أن يبدأ أحدهم ب'بسم الله الرحمن الرحيم' حتّى يتضرّع ثانيهم 'الحمد لله رب العالمين' فيؤمن سابعهم ' اللهم آمين'… والأبُ'البرقاني' يردّد: ' ربّي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ' ، والأمّ تتصبّب عرقًا من بعد مخاض عسير ، طفل يرتعش صارخا، معلنًا نضاله من أوّل شهقة له في الحياة …! الوالدان مناضلان على دروب الصعاب ؛ من أجل الأبناء، فكان اسم الطفل حاضرًا ، 'نضال برقان' . قليل من ندى الأعوام ، كثير من عجاف السنين مرّت على عائلة لم تعرف غير الكفاح لها عنواناً. عشرة كواكب، منهم ستة أبناء، وأربع بنات ، والشمس والقمر ، كلّهم لله ساجدون . سقف بيت مفتوق تقرض الشمس ساكنيه في مطلعها وعند زوالها ،جدرانه المتآكلة تضمّ بين جوانحها قلوباً ليّنة ؛ إلا أنّها مُعَدَّة جيّداً لتحمّل ضنك العيش رغم صِغر الأبناء والبنات …! . المطبخ الخارجيّ نار موقدته الطينيّة مُشتعلة صيفاً شتاء ؛ لإعداد الطعام وللتدفئة في آن . و لخبز الصاج رائحة معتّقة رامت عليه الأمّ بركة ، فزاد وهج النار حناء أكفّها حمرة داكنة لَوَّحها لون سواد دُخان الحطب …! ، ماهرة هاتيك اليدان بنسج الخيط على الخيط ، والأنامل تعزف على وتر إبرة الخياطة ؛ يدندن ببهجة الالوان خيط التطريز الحريريّ ؛ على قطعة قماش من (الإيتامين) ، ثمّة في كلّ ثقب حكاية لثوب امرأة …! . وبهذا كان عمل الأمّ بالخياطة والتطريز هو مصدر رزق أساسيّ بجانب عمل الأب ، وما أسمى الطهر حين يتشابك مع القوّة …! . 'حجرة بحجم القصر' … ضاق الحال على الحال، وإذ بأفراد العائلة 'البرقانيّة' تكبر يوما بعد يوم ، ولا معين للأب غير الأمّ …! خارت القوى ومسؤوليّات الراعي تجاه الأسرة جِسام … والقلب يا _برقان_ ما زال مشتعلا بالآمال …! فاستعر الرأس شيباٍ قبل الأوان…! . وأصبح لا خيار للأبناء أمام ضنك العيش المستمرّ ؛ إلا أن يتخلّوا عن أمآلهم الكبيرة بإكمال المرحلة الدراسيّة الثانويّة … تاركين على مقاعدهم ظلّ أحلام مبعثرة في عتم الأفق …! ؛ ولا بدّ من البحث عن فرصة عمل في مطعم ، ورشة دهان ، (كراج سيارات)، أو حتّى حمّال في سوق شعبيّ ، ليس مهماً مقابل أن يحصلوا على ربح يَسير …! . وإذ بالحجرة تضيق مساحاتها على أحبّتها يوما بعد يوم…! ، فكان لِزاماً على الأب أن يضيف حجرة جديدة كلّ مرّة بجانب أختها . يتعاون أفراد العائلة في بنائها من الطوب … وما أن يحين الأوان لسقفها حتّى يستعين الأبّ بمعلم بناء ؛ فالسقف أولى أن يكون مُحكم البناء …! فالحجرة التي كان فيها معاشهم وسباتهم حاضرة دوماً في قلب المناضل الصغير ' نضال برقان' باقية في عينه 'حجرة بحجم القصر' تماماً كما صوّرها قلم الكاتبة 'فايزة عبدالكريم الفالح' ذات مساء : ' في الوقت مُتّسعٌ ، والفضاء مندهشٌ ، لحُبٌّ قديم للعب في الحارات بغبارِ الطُّرقِ ، لا زِخام، ولا ازدحام…! ولا تعرقلٌ بالأقدام …! بيتنا الصغير ، حجرة نعيش فيها … نلهو.. نمرح…نأكُل… ننام على فراشٍ واحدٍ … كلٌّ له من الحُبِّ مّتّسع ' . وها قد … كبُرَ الشاعر الفتى 'نضال' ولم يكن بأوفر حال من إخوته .ما إن أنهى المرحلة الإعداديّة حتّى جاء دوره بالبحث عن فرصة عمل … وبعد ممارسة كثيرة من الأعمال استقر به الحال ؛ لأن يعمل صانع حلوى … ثمّة سرّ جمع ما بين الشاعر العربي الكبير 'نزار قباني' والشاعر الواعد آنذاك ' نضال برقان' ، مع مفارقة كبيرة بينهما أيضاً …! فالأوّل كان يعمل بمصنع والده، والثاني كان أجيراً في مصنع غيره …! لكنّها الحلوى التي جمعت بينهما على أيَّة حال …! . نعم … هكذا تساوت مقادير الحلوى مع مقادير الأقدار …! . تخبرنا الأيام … تنهض الأيام على ذراع الزمن …! تخلع الأعوام عنها جلباب السنين…! ومن تحت رُكام الصعاب قام المناضل ينفض عنه عجاج المستحيل…! في طريق الذهاب والأياب يجذبه مشهد بسطات الكتب المترامية على جنبات الرصيف هنا وهناك ؛ ثمّة شيء يتحرك في خوالجه، تنتفض أنفاسه لهذا الشيء…! يتحسّسه بيد الأس، بذات الأنامل التي تضع مقادير الحلوى دون زيادة أو نقصان ، راجحة كفّة الميزان…! إنّه الشغف الذي بات يُشعل قريحة الشاعر الذي ولد معه ؛واللوم على الأيام التي أسكتته طويلاً…! وقف مليًّا أمام كتاب 'الأيام ، فقرّر أن يقتنيه. سار به إلى ركنه الهادئ ، ولا ركن هادئ له مثل نفسه رغم الزحام…! كتاب 'الأيام' كان له أثر كبير على المناضل ؛ حين وجد نفسه أخيراً في تجارب وذكريات 'طه حسين' ، وكيف كان بصراع مع الإعاقه ، والبحث عن الذات ، تماما كما إعاقة الظروف القاهرة التي أعاقت عثراتها اكتشاف 'نضال برقان' لذاته ، والبحث عن هويته كشاعر ، وماهيّة تفكيره حتّى يرى العالم من منظور جديد . وبعد أيام من بعد قراءة كتاب 'الأيام' والذي كان أوّل كتاب يقرأه بحياته انكسر حاجز الصمت فيه ؛ ليقتني مجدداً كتاب 'ألف ليلة وليلة' ممّا ترك أثراً كبير في نفسه . هو البحث عن الهروب من واقعه الأليم إلى عالم آخر من الخيال بعيداً عن الواقع ، والبحث عن المعنى لأن يكون …أنامل تقطر بالقطر … وقلم يقطر بالشعر … تَبِعَ المناضل حقيقته، ناظراً إلى عُرْجَةَ ذاته، ثمّة بهجة تقطر من خلجاته، حين تناصف شعوره كلّ جهاته، أنسلّ من الصفّ ، وفرّ الصمت من الزحف ، رَبَعَ في ربضَتِه ، وطَفَقَ يرتع في خيال روضتة ، في لحظة عجولة وأنامله تقطر قطراً، التصقت ورقة بها ، وإذ بقلمه يقطر عليها من لباب وجده شعراً …! فتفجّرت قريحته الشعوريّة من مصنع الحلوى اتقن حرفته . وها … من الحرفة تُولَد الحروف، ومن القطر يُولد الشعر .ومن الشعر ما أحيا…! . فاضت تنانير السطور بعذب المِداد ؛ بعد أن أعدّ الشاعر المناضل عدّته من رباط الكَلِمِ الأصيل ، وقوّة المعنى الجميل ، شاهراً قلمه ، بارزاً اسمه على صفحات جريدة 'العرب اليوم' من حسن المقال ، والتي فيها ما فيها من الكلمات الجِزال…! ، ممّا أثار إعجاب القراء لهذه الصحيفة ، حتّى بات القائمون عليها ينتظرون كلّ جديد من الشاعر 'نضال برقان' … وما أن تنفس المناضل الصعداء ، وأخذته الغفوة تحت ظلّ الحلم الوارف فيه؛ بساعة استراحة محارب أخبره رئيس عمله ، أنّ مصنع الحلوى قد توقف عن العمل . وإذ بالحال يضيق مجدداً على الحال …باقة الكتابة متنفسه الوحيد ، على موعد مع 'العرب اليوم' لتسليم إحدى كتاباته إليها … وإذما فتح المرء نافذة الكون ؛ عليه أن يتنفس عظمة الله … فكان اللقاء مع رئيس التحرير لجريدة 'العرب اليوم' الإعلامي الأردني 'طاهر العدوان' ورئيس قسمها الثقافي الإعلامي الأردني 'إبراهيم جابر' وبدون ترتيب مسبق سأله رئيس التحرير: : عن حاله وعن عمله . فأجابه 'برقان' : لا عمل لديّ 'وإذ ما أراد الله شيئا يقول له كن فيكون' ، فعرض عليه الإعلامي 'طاهر العدوان' العمل معهم بجريدة 'العرب اليوم' ، مندوباً صحفيّاً رسمياً فيها . من هنا بدأ درب المناضل في مجال الإعلام منذ عام 2005 إلى يومنا هذا من عام 2025 مدير للدائرة الثقافية في جريدة [الدستور] الأردنيّة . وما زالت أنامله تقطر بالقطر ، وقلمه يقطر بالشعر … درب النضال… للحقيقة مرآة واحدة ، تنعكس صورتها في كلّ الاتجاهات ، بحجم ثقلها يكون الرضى ، وبمساحة الصدق لها يكون العبور إلى الضفّة المقابلة منها ، ومعنى أن يخاطب الشاعر 'نضال برقان' الحقيقة بتجرّد ، يتبع مؤشّر بوصلة اكتشاف ذاته. فيبوح لها : 'أيّتها الحقيقةُ كشرفةٍ في القلب …أيّتها الحقيقة كزهرة في صدع البلاد …أيّتها الحقيقة كأغنيةٍ لم تزل نديّةً منذ حروب كثيرةٍ' . نعم … قد آن الأوان لتحقيق حُلُمٍ كاد أن يكون عفا عليه الزمان ، بعد عشرين عاماً من خروجه من المدرسة مبكّراً ؛ تقدّم إلى امتحان الثانويّة العامّة لأوّل مرّة وهو على رأس عمله في جريدة الدستور الأردنية ؛ فكان النجاح حليفه وبتفوّق. وقتئذ كان ربّ أسرة، وراعياً لزوج معطاءة، وقفت معه متحديّة كلّ الصعاب ، لطالما كان يرى في عينيها طيبة فؤاد وقوّة عقل والدته ، وابتسامتها الدائمة التي رامت على فؤاده بالتعطّف والحنو… وها هو بالسرِّ يبوح لها : 'في عينيكِ أرى وطني ..في ابتسامتكِ أرى مستقبلي… في صوتكِ أرى أمنياتي' . وإذ بهذي الأمنيات تتحقّق ؛ بعد أربعة عقود ونيّف كانت ما بين عجاف السنين، ورشح قليل من ندى الأعوام ؛ لوّح النضال بيد الهمّة للشاعر 'برقان' بعد أن حصد غلال أربعة أعوام من زرعه ، فكانت حنطته (بكالوريس) اللغة العربيه وأدابها من أمّ الجامعات . الجامعة الأردنية . هو و'ذئب المضارع' … ينام يقظا ذئب المضارع في خلده ، يجوب فيافي قلبه عَدوَاً ، يسابق نبض القوافي والشعر فيه ، يجول سرّاً في غابات السحب عند مشرق عينيه، يصعد قمم فكره الشارد في وجه البدر الساطع، مرتدياً فِراء الليل…! ، يطارد شيطان السنين وظلمتها، يقصّ على 'الفرزدق' وذئبه الذي كان مثل صاحبه رحلة المشتهى…! . فإلى أين تريد الوصول يا _ذئب_ المضارع…؟! والمضارع فيك يصارع عقارب الزمن في الماضي تارة …! ، وطوراً يسارع إلى الأتي حيث اللامنتهى…! حين اكتتبتَ الشاعر 'نضال'على سطورك، وخبّأتَه بين دفّتيك شعراً ؛ فكنتَ أنتَ الكتاب المضارع الأوّل له ، في حين كان هو الشاعر الذئب فيك . يوم تجلّى شعراً، وارتدى حُلَّة الشعر في ديوان 'ذئب المضارع' . وذاك 'الكميث' وذئبه ايضا الذي كان مثل أخيه والليل مَلَمُ أوجاعهما؛ حين أستأنسا نار الشعر في ' ذئب المضارع' بعدما استفاق ذئب الأربعين عاماً في قلب الشاعر 'نضال' ، وكتب 'صور عائلية' : 'استيقظُ صبحا ، أمشي بين غيومِ الصمتِ المتلبِّدِ في أركان البيت ، الأولادُ نيامٌ في جنّات الخِفّةِ ، جنبَ الشبّاكِ الصبّيرةُ لا باس عليها …و'رولا' ما أن تتركَ حرْفَ صلاةٍ حتى تمسكَ بالأخرى ، وأنا لا أمسكُ إلا خيطَ الحيرةِ…ثمّةَ وزنٌ يتكسّرُ ، ثمّةَ إيقاعٌ يتنفّسُ ، ثمّةَ قافيةٌ في الأثناء… وذئبُ مجازٍ يبحثُ عن دمه بدمي ،هي رائحةُ الظُلَمِ يا أبتا: كيف أناديك بغير فمِ …؟' . إنّه هو الشاعر 'نضال برقان' ، المناضل البارع ، وذئبه المجازيّ المضارع ما زال في ساحة النضال يصارع . رسائل من … ' تحت سماء واحدة' … الشعر خيمته الوحيدة ، ويد أمّه قنديل هذه الخيمة…! ، وحبل وتينه معقودٌ بتلابيب سرّها، اكتتبها رسالة من مآقي البحار ، فكان هو وهي تحت سماء واحدة: أمّي.. التي لم أحدِّثُكِ عنها بعدُ ، تستطيعين معرفةَ كلِّ شيءٍ عنها …إذا نظرتِ إلى أمّكِ ،من خلالِ ثقبٍ في القلبِ ،أو شَرخٍ في جدارِ الروح …! هما شقيقتان.. ولدتهما أمٌّ كونيةٌ واحدة ،تمشطان، كلَّ صباحٍ، شعرَ الشمسِ ، وتغنيان، كلَّ مساءٍ، الأغاني ذاتَها للنجوم ؛ كي يحلمَ أبناؤهما أحلاما سعيدة … وهما شريكتان في الجراحِ ذاتِها ، تلكَ مِن هناك… هذه مِن هنا … وكلاهما، دائما، تحتَ سماءٍ واحدة' . على ناصية الكلمات ترقرق عين القلم وانسكب على أسيل السطور يكتب : إلى ذاك الفتى الحييّ الذي ما برح مكانه يوماً في عصمة الشاعر 'برقان' لقد آن لك أن ترفع عن نافذة روحك ستائر الخوف ، إنّ الظلام قد تبدّد وانقشع عن سمائها، فالغربة التي كانت تعيشها ذاتك بسبب غرابة الزمن ، حين كنت ابن زمان مغاير وكأنّك سبقته بعشرات السنين ذهنيّاً وعاطفيّاً، ها هو الآن قد وصل إليك؛ ووجدت زمانك الذي تبغاه ذاتك ، تؤنسها ببوحك لها : 'أحاولُ تجريدَكِ … يا _الله_ ، بينما يأتيكَ الناسُ بالإجاباتِ التي تحبُّ ؛ آتيكَ بالكثيرِ من الأسئلةْ..أحاولُ تجريدَكِ: لا أسألُ عن الحربِ ، أسألُ عن أربابِها… لماذا عبروا طفولتَهم من دون أن يتعلموا الغناء؟ أحاول تجريدَكِ ' . ثمّ ماذا بعد …؟! . أريد أن أنسج من هدب الليل رسالة أيضا … إليك أيها البنّاء الصغير ، الذي صقل غصنك حمل جرن الخرسانة من قبل الأوان ولم ينحنِ عودك … قم فإنّ الرؤى تحقّقت فيك ، ووصلت طموحاتك عنان السماء .وها أنا وأنتَ تحت سماء واحدة… مازال في الليل مُتّسع …! ارتدت أوراقي منه قميصاً ، وأدلج قلمي فيه خميصاً ، فأطرق ينكث سطور النضال مخاطباً صانع الحلوى: أنا المُشير بكَ وإليك ، حين ألتقيتك فكنتَ رفيقي الذي أذهب عن كفّيّ مُرّ مذاق السنين ، وأضفت على صبري نكهات اليُسر ، ولازمتني طويلاً في هزيع العسر. وها قلمي ما زال منغمساً بالقطر ؛ ليكتب عنّي وعنك من تحت سماء واحدة . حتّى نهض من داخلي ذئب المضارع، أطلس اللون مِداده، يتماهى شعراً نثراً ومقالا ، والفخر يكسو أغلِفَة كُتُب المناضل ومؤلّفاته : 'مصاطب الذاكرة' تطلُّ على 'مصيدة الحواس' ، والحواس تسجد بعد أن توضّأت فارتوت من 'مطر على قلبي' . حين سأل 'نضال' : 'لمَن تزرعين النجوم في حوض النعناع' ..؟ . فأجابه الشاعر فيه إنّه 'مجاز خفيف' من أجل رشفة مسائيّة تعيد وجه الصباح ل 'ذئب المضارع' . حين أكتتب كتاب 'مقاوم من أجل الحياة / هشام عودة شاعرا' . ويسأل القلم : كيف يجتمع ضدّان في كتاب للشاعر 'برقان' العذوبة والعذاب في رواية (عذبة) لصبحي فحماوي' . ثمّة رسالة لا تنسى … في ليلة مكتملة النور، حيث البدر البِكر يضيء السماء بنوره الفضيّ، وقف ذئب المضارع وحيداً في كتاب واسع، فارداً سطوره، رافع الرأس، ممشوقاً جسد قلمه بلياقة ومرونة. يتحرّك بخيلاء ، وكأنّه يرقص تحت ضوء القمر. ذئب المضارع والليل والبدر متلائمين في ذات الشاعر الإعلاميّ الأردنيّ ' نضال برقان' فكان ذئب المضارع يُعبّر عن الشاعر بكلّ ما فيه من قوّة وحرّية، وكأنّه يقول: 'أنا ملك الليل، وأنا سيد هذا الكتاب .' وحق لي الفخر بكَ أيها الشاعر 'برقان' . انظر إلى إنجازاتك وحصد ثمار جوائزها اليانعة : جائزة الدولة التشجيعية في حقل الآداب/ الشعر – 2006. جائزة الحسين للإبداع الصحفي من نقابة الصحفيين الأردنيين، لأفضل قصة إخبارية، للعام 2020. جائزة 'تلك الأشعار' للعام 2021، عن قصيدته 'تحت سماء واحدة'.جائزة مجمع اللغة العربية الأردني لأفضل تحقيق صحفيّ حول اللغة العربيّة للعام 2022. جائزة الحسين للإبداع الصحفيّ من نقابة الصحفيين الأردنيين، لأفضل مقال صحفيّ للعام 2023، عن مقاله 'الذكرى الـ60 لمولده… حبيب الزيودي الراعي الذي شيب على قلبه المثقوب'. وما زال ذئب المضارع يطلق صوت المناضل فيه ، يقول : هو ذا 'نضال برقان، شاعر، صانع حلوى، طفل حييّ. هو كلّ هذه الأشياء، و أكثر من ذلك. هو إنسان حيّ، يستحقّ الحياة ، لا يخاف من الفشل، بل يخاف من أن يكون غير نفسه. أنا النضال … سأستمرّ في الكتابة، و في صنع الحلوى، وفي أن أكون نفسي' من تحت سماء واحدة أمّا أنا … والقلم والكلمات والليل … ما زلنا نجمع أوراق الأيّام ل 'أعلام وأقلام' في خلجات سابحة' . نٌشِر في يوم الجمعة 9 محرم ١٤٤٧ هـ الموافق 4 تموز 2025 م العدد 20788 جريدة الدستور الأردنية الرسمية لسلسلة الأولى من كتاب : [ أعلام وأقلام في خلجات سابحة] الكاتبة:فايزة عبدالكريم الفالح العجارمة.