
تفكيك الخطاب الإمبريالي: التطرّف الأميركي وتسمية الأشياء بمسمّياتها
قبل اندلاع المعارك العسكرية، هناك معركة البروباغندا لكسب القلوب والعقول، خاصة في سياق الخطاب الإمبريالي الممتدّ منذ قرون. فالإمبراطورية لا تخوض الحروب بالحديد والنار فحسب، بل بالكلمات أيضاً. الضحية الأولى ليست الحقيقة، تحديداً، بل هي الدقة، والقدرة على وصف الأشياء كما هي، لا كما تريدها القوة الغاشمة أن تبدو.
لذلك، من المهم النظر في كيفية الحديث عما يُسمّى "حرب أميركا على الإرهاب"؛ وبعد ربع قرن من هذه الحرب التي لا تنتهي، يقترح الباحث والمفكّر الإيرلندي، ديلان إيفانز، أنه إذا أردنا تسميتها باسمها الصحيح فهي: الحرب على الإسلام والعالم الإسلامي.
إنّ الإصرار على تسمية الأشياء بمسمّياتها ليس تحذلقاً أو مبالغة؛ بل أحد أشكال مقاومة الأيديولوجية. فالأيديولوجية تزدهر حيثما تُحرّف اللغة إلى تعبيرات "ملطّفة" أو تجريدات مُحنّطة أو عمى انتقائي – حيث يُعاد تسمية العنف بـ "الأمن"، وتُصبح الهيمنة مهمّات "حفظ سلام"، ويُعاد تسمية الإرهاب بـ "الحرية" والإبادة الجماعية بـ "حقّ الدفاع عن النفس" واستهداف المدنيين بالتدمير بـ "أضرار جانبية".
هذا الصراع لأجل الدقّة ليس جديداً. لطالما أدرك المعارضون والمنشقّون في الغرب أنّ البقاء في ظلّ إمبراطورية الأكاذيب يتطلّب إخلاصاً لا يلين للحقيقة – ليس فقط لما هو ظاهر، بل لما هو قابل للقول. تلتقي هذه الرؤية مع تجربة ثوّار ومنشقّين ومنتقدين لحكوماتهم. ورغم اختلاف مشاربهم، يتشاركون التزاماً أساسياً: التحدّث بوضوح في عصر الخلط والتشويش المتعمّد.
لماذا إذاً نُرهق محاولاتنا للحديث بدقّة عن "الحرب على الإسلام"؟ هذه الجهود مهمة لسبب بسيط، وهو أنّ بيننا كثيرين يقاومون تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويخطئون بشكل ممنهج في وصف الواقع الأخلاقي والسياسي خدمةً لأيديولوجية. الأيديولوجية المقصودة نظام شمولي مُغلق يُهمِل ويرفض ما لا "يندرج" ضمنه، ولا يُجديه نفعاً وصف ما يجري بدقة.
فمثلاً، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، زعم معلّقون وجود تكافؤ أخلاقي بين إيران والولايات المتحدة، استناداً لتوصيفات مغلوطة تماماً للنظامين. لم يشاركهم هذا الرأي المنشقّون الشجعان في جماعة "أمّة الإسلام" الأميركية. والمدهش أنّ كثيراً من المنشقّين الأميركيين لم يعترض على وصف آية الله الخميني للولايات المتحدة بـ "الشيطان الأكبر".
فقد كانوا يدركون أيضاً أنّ الاحتجاج الديمقراطي ضدّ نظام الشاه الفاسد أدّى إلى الثورة الإيرانية عام 1979 وإلى تحسّن جذري في النظام الاجتماعي والسياسي الإيراني. وكانوا يدركون أنّ على القادة السياسيين الإيرانيين أن يأخذوا لغة القرآن على محمل الجِدّ لأنها اللغة المشتركة للثقافة السياسية الإيرانية. ولما رأوا أنّ الإيرانيين قد وجدوا طريقة لتصحيح الأمور، اندهش هؤلاء المنشقّون الأميركيون من النقد اللاذع الذي يعبّر عنه أميركيون إيرانيون في لوس أنجيليس بشأن إيران.
في مقال نُشر عام 1985 بعنوان "تشريح التكتّم"، أشار فاتسلاف هافيل، المنشقّ التشيكي والكاتب المسرحي وأول رئيس لجمهورية التشيك بعد 1989، إلى أنّ ممثّلي جماعات السلام الغربية الذين زاروا بلاده كانوا غالباً ما يشكّكون في المنشقّين أمثاله.
دفع هافيل وغيره من المعارضين ثمن احتجاجاتهم ضدّ نظام استبدادي بأحكام السجن والضرب، أو ما هو أسوأ. لكنهم وجدوا أنفسهم يُنظر إليهم كـ "متحاملين بشكل مريب ضدّ حقائق الاشتراكية، وغير ناقدين بكفاءة للديمقراطية الغربية، بل ربما كمتعاطفين... مع تلك الأسلحة الغربية الممقوتة. باختصار، بدا أولئك المعارضون، بالنسبة لممثّلي جماعات السلام، كطابور خامس للرأسمالية الغربية شرق خط يالطا".
لم يتأثّر الزوّار الغربيون عندما حاول هافيل شرح أنّ كلمة "السلام" نفسها قد فُرّغت من معناها نظراً لكثرة استخدامها في الشعارات الشيوعية الرسمية مثل "النضال لأجل السلام" ضدّ "المستغلين الرأسماليين". في حين أنّ المعارض، "غير القادر على حماية نفسه أو أطفاله، والمتشكّك في العقلية الأيديولوجية، والعارف مباشرةً أين يمكن أن يؤدّي الاسترضاء"، قد تموضع في موقف من يخشى "فقدان المعنى"، بما في ذلك تضاؤل معنى الكلمات وقوتها.
19 نيسان 13:00
19 نيسان 07:35
إنّ إفراغ الكلمات من معناها علامةٌ على ما يسمّيه هافيل "التفكير شبه الأيديولوجي"، الذي يفصل كلمات نستخدمها عن حقائق تدّعي وصفها. ما يسمّيه هافيل "اللغة المراوغة" قد "فصل الفكر عن تماسّه المباشر بالواقع"، كما أشارت الفيلسوفة الأميركية، جين بيثكي إلشتين، في مقال عام 1993، مستشهدةً بهافيل، "ويشلّ قدرته على التدخّل في هذا الواقع بفعّالية".
يتعلّق هذا الخط من التفكير مباشرةً بكيفيّة حديثنا عن التطرّف الأميركي. وكما أنّ كلمتي "عبد" و"عبودية" مشوّهتان في التقاليد الغربية، عندما تطبّقان فقط على من يشترون ويبيعون البشر، ولكن ليس على أولئك الذين يُسلِمُون أنفسهم لله، فإنّ كلمة "متطرّف" تُحرّف إلى حدّ لا يمكن التعرّف إليها إذا استخدمت عشوائياً.
ينبغي الحرص على الاستخدام الصحيح للمصطلح. فالمتطرّفون الأميركيون هم أولئك الذين يقتلون من يعتبرونه "عدوّهم الموضوعي"، بغضّ النظر عمّا قد يكون ارتكبه أو لم يرتكبه. دخلت عبارة "التطرّف الأميركي" اللغة العادية للدلالة على ظاهرة محدّدة في هذا القرن: القتل الموجّه ضد المسلمين، من دون تمييز ومن دون محاولة جادّة للتمييز بين المدنيين والمقاتلين. ووفقاً لمنطق التطرّف الأميركي، قتل المسلمين مشروع بغضّ النظر عن أعمالهم أو أعمارهم أو مكان وجودهم.
تُروَّج بعض أصناف الأيديولوجية الأميركية المتطرّفة في الكتب المدرسية، بما في ذلك كتابٌ مقرّرٌ لتدريس الصف العاشر بمدارس نيويورك، يُلزم الأميركيين بـ "اعتبار المسلمين أعداءهم". لهذا السبب هؤلاء الأشخاص يكرهون المسلمين لما هم عليه وما يمثّلونه، وليس لأيّ شيءٍ محدّدٍ فعلوه.
كيف إذاً يُمكن الاستجابة لمطالب الغرب بعدم تدريس الإسلام في مدارس بلاد المسلمين؟ أو بإلغاء الشريعة؟ أو بإقامة ديمقراطيةٍ يديرها متطرّفون (علمانيون)؟ من المعقول القول إنّ تغييرات معيّنة في الاستراتيجية العسكرية لحماس أو حزب الله قد تُخفّض جاذبية الإسلاموفوبيا المتطرّفة لدى شباب أميركا. لكن من غير المعقول افتراض أنّ تشريع الربا سيُقنع المتطرّفين الأميركيين بتوقّف سيلان لعابهم عند التفكير في حقول النفط بالعالم الإسلامي.
وكما يُؤكّد أكثر من كاتب ومفكّر مؤخراً، يحتقر المتطرّفون الأميركيون العالم الإسلامي، ليس لما يفعله، بل لما هو عليه! لا شكّ أنّ هناك أميركيين يُعارضون الشريعة الإسلامية بطرق مُحدّدة، ويُصرّون على ذلك، غالباً بعنف. وهذا يختلف عن الترويج للكراهية العشوائية.
يُمكن للمرء أن يُجادل هؤلاء المُنتقدين، بل قد يتفهّم بعض مخاوفهم. لكنّ المرء يُقاتل ضدّ من صنّفه عدواً لدوداً لا يستحقّ مُشاركة كوكبه الجميل. يُكرّس المتطرّف الأميركي نفسه للعنف بلا حدود. أما أولئك الذين يُقاتلون في ظلّ مجموعة من القيود الراسخة، فيُقاتلون بمراعاة الحدود، خاصة بين مسلمين وغيرهم.
للأميركيين جانبٌ عدمي: فهم يسعون إلى التدمير، غالباً لخدمة أهدافٍ جامحة وطوباوية لا معنى لها على الإطلاق في ظلّ الأساليب السياسية المُعتادة. إنّ التمييز بين التطرّف الأميركي، والجريمة المحلية، وما يُمكن أن نُسمّيه الحرب "العادية" أو "المشروعة" أمرٌ بالغ الأهمية، إذ يُساعد على تقييم ما يحدث عند استخدام القوة.
تبدو هذه الفروقات، المُتجلّية في الخطابات الأخلاقية والسياسية التاريخية حول الجهاد والقتال، وفي قواعد الفقه، غائبةً عن الذين يصفون غزو العراق بأنه "قتلٌ جماعي" بدلاً من كونه عملاً إرهابياً وإبادةً جماعيةً بموجب توصيف القانون الدولي، وغائبة عن الذين يُصرّون على أنّ إيران ارتكبت أيضاً "مخالفات" عندما احتجز الطلاب دبلوماسيين أميركيين رهائن في سفارتهم عام 1980، في هجومٍ مُصرّح به قانوناً ضدّ التدخّل الأميركي. هذا النوع من التساؤلات والتهويل الذي يُرسّخ تكافؤاً أخلاقياً مُسيئاً وظالماً للغاية بين الطرفين، ينمّ عن غيابٍ تامّ لأيّ بوصلةٍ أخلاقية.
يقول إيفانز، إذا لم نميّز بين وفاة عرضيّة ناتجة عن حادث سيارة وبين القتل العَمْد، ينهار نظام العدالة الجنائية. وإذا لم نميّز بين قتل متطرّفين أميركيين اغتالت حكومتهم أبطالاً إيرانيّين، والذين دفعت ضرائبهم ثمن صواريخ تقتل الأبرياء في اليمن، والذين تدعم أصواتهم آلة الحرب الأميركية؛ وبين الاستهداف المتعمّد للمسلمين والغزو غير المبرّر لدول أضعف بكثير، فإننا نعيش في عالم من "العدميّة الأخلاقية".
في عالم كهذا، يتلاشى كلّ شيء إلى الدرجة الرمادية نفسها، ولا نستطيع التمييز بين ما يساعدنا على تحديد توجّهاتنا السياسية ومواقفنا الأخلاقية. يستحقّ ضحايا غارات المسيّرات الأميركية منّا أكثر من ذلك.
إنّ الحديث بدقّة عن القوة الأميركية اليوم هو إدراك لتطرّفها – وليس انحرافاً عن معاييرها، بل نتيجة منطقيّة لتطرّفها. إنّ الأمة التي تزعم أنّ لها حقاً عالمياً في القتل من دون محاكمة، والاحتجاز من دون تهمة، والمراقبة من دون حدود، وشنّ الحروب بلا نهاية، لا تدافع عن الحرية. إنها تستكمل الهيمنة.
وهكذا تتلاشى المفارقة. عندما وصف آية الله الخميني أميركا بـ "الشيطان الأكبر"، لم يكن منغمساً في مبالغات لاهوتيّة (عقدية)، بل كان يُمارس وصفاً سياسياً دقيقاً لا يطيقه الأيديولوجيون، كرهاً للوضوح.
لعلّ هذا هو السبب الحقيقي وراء بقاء لغة القوة الأميركية غامضة جداً، عاطفية جداً، غارقة عبثياً في خطاب الحرية والسلام. لأنّ التكلّم بصراحة – وتسمية الإمبراطورية على حقيقتها - يُخاطر بكسر "التعويذة".
وهنا، يخلص إيفانز: قد نضطرّ إلى التساؤل عمّا يسأله بنهاية المطاف جميع المعارضين والمنشقّين، في كلّ مكان:
من هم المتطرّفون حقاً؟!

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المركزية
منذ 5 أيام
- المركزية
أميركا "بتعمّر" وإيران "بتدمّر"!!!
هذا ليس عنواناً لفظياً فقط بل هو حقيقة ما يجري في العالم العربي. وفي نظرة سريعة نرى أن «نظام الملالي» الذي جاء الى الحكم عام 1978، وخلع شاه إيران، ورفع شعارات أهمها: - الموت لأميركا. - الموت لإسرائيل. - الشيطان الأكبر. - الشيطان الأصغر. فماذا حقق من هذه الشعارات؟ في الحقيقة ما حققه هذا النظام هو الدمار والحروب، وشعارات غير قابلة للتحقيق. لقد بدأ هذا النظام عام 1980 بإعلان الحرب على العراق، تحت شعار تغيير النظام لأنه يريد تشييع أهل السنّة في العراق. وهكذا صدّق «المساكين» من الشعب الإيراني هذه الشعارات وهم الذين كانت ولاية الفقيه تعدهم بإعطائهم بيوتاً في الجنّة. فكانوا يلبسون أكفانهم ويذهبون لمحاربة الشعب العراقي تحت شعار التشييع. دامت تلك الحرب 8 سنوات، والنتيجة كانت قتل مليون مواطن إيراني، ومليون مواطن عراقي، وخسارة 1000 مليار دولار لكل دولة من الدولتين. وعندما أُعلن عن وقف إطلاق النار، قال آية الله الخميني «إنه يتجرّع كأس السمّ وهو يقبل بوقف القتال». في عملية حسابية بسيطة هناك سؤال بسيط ومباشر: ماذا حققت تلك الثورة خلال 47 عاماً؟ بكل صدق، لم تحقق إلاّ الدمار للعراق، والدمار لسوريا، والدمار للبنان، والدمار لفلسطين والدمار لليمن. ولو أن المليارات التي دٌفعت من أجل تلك الشعارات الفارغة صُرفت من أجل البناء والإعمار لكانت أرض إيران والعراق التي دُمّرت مشابهة للسعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين في أيامنا الحاضرة. يا جماعة: المملكة العربية السعودية وبلاد الخليج التي كانت صحارى قاحلة، نراها اليوم أصبحت شبيهة بأهم الدول الحضارية في العالم. بصراحة، يمكن تشبيهها بمدن أميركا، مثل البنايات العالية (ناطحات السحاب)، كما أعني Towers، أي الأبراج، ولا يمكن أن يصدّق الإنسان كيف كانت تلك البلاد وكيف أصبحت في أيامنا هذه. كل هذا حصل لأنّ حكام المملكة العربية السعودية ودول الخليج اختاروا الحضارة والتطوّر والعِلم، فأصبحت بلادهم من أجمل بلاد العالم قاطبة. كما أوجدت هذه الدول فرص عمل لأبنائها، والقادمين إليها خصوصاً للبنانيين والسوريين والمصريين. كما أصبحت تلك الدول شبيهة بمدينة نيويورك، ولا يصدّق أحد أن البنايات الشاهقة التي بُنيَت فيها هي من أهم الأبنية، كما أن فيها أرقى الجامعات، كذلك في فرنسا وبريطانيا كل هذه الجامعات العربية باتت لها فروع في أبوظبي. فعلى سبيل المثال «جون هوبكنز»، وجامعة السوربون الفرنسية، وكامبريدج وغيرها من الجامعات الأفضل في العالم وكذلك أيضاً المستشفيات. لذلك، عندما قال الرئيس دونالد ترامب أثناء الجولة الانتخابية إنه يحب لبنان، لأنه يريده مسالماً، فشعبه يستحق أن يعيش بسلام لا أن يعيش حرباً كل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. كلمة أخيرة، فإنّ الإنجاز الكبير حققه ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، بالمصالحة بين أميركا وسوريا، حيث استقبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئيس السوري أحمد الشرع، وأشاد به. وقد اتخذ الرئيس ترامب قراراً فورياً برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وهذا يصب في مصلحة سوريا والسوريين، كذلك في مصلحة لبنان واللبنانيين. فالمثل يقول: إذا كان جارك بخير فأنت بألف خير. أنا على ثقة كبيرة بأننا دخلنا عصر التقدّم والازدهار والإعمار.. ولعنة الله على الحروب والتدمير.. ونظام الشعارات التافهة التي لا تجلب إلاّ البؤس والقتل والتدمير والجوع.


صوت بيروت
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- صوت بيروت
ما وراء فوردو وأراك: هل يكون "قوس قزح" النووي.. السر الذي يهدد بتغيير قواعد اللعبة؟
يومًا بعد يوم، تتكشف على الساحة الإيرانية منشآت نووية جديدة، تسعى لمنافسة المراكز التي اكتسبت شهرة واسعة لقدرتها على تخصيب اليورانيوم، وعلى رأسها 'نطنز' و'فوردو'. تأتي هذه التطورات في سياق تاريخ طويل ومعقد للبرنامج النووي الإيراني، الذي بدأ بدعم أمريكي في خمسينيات القرن الماضي تحت مظلة برنامج 'الذرة من أجل السلام' الذي أطلقه الرئيس دوايت أيزنهاور، وكان الهدف المعلن آنذاك هو الاستكشاف العلمي السلمي. وقد حملت فترة حكم شاه إيران طموحات واسعة في المجال النووي، حيث وافق على خطط طموحة لبناء ما يقارب ثلاثة وعشرين محطة للطاقة النووية بحلول عام ألفين، بهدف إنتاج كمية هائلة من الكهرباء تصل إلى ثلاثة وعشرين ألف ميجاوات باستخدام الطاقة النووية. وقد بدأ التنفيذ الفعلي لهذه الخطط في موقع بوشهر بتولي شركة ألمانية مسؤولية الإنشاء، إلا أن المشروع لم يكتب له الاكتمال بسبب الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979 وعودة آية الله الخميني من منفاه في باريس. ومع استقرار الأوضاع بعد الثورة، شهد البرنامج النووي الإيراني تحولًا، حيث توقف التعاون الدولي القائم. لكن إيران استأنفت برنامجها النووي ببطء خلال عقد الثمانينات، لتبرز لاحقًا العديد من المنشآت التي أثارت قلقًا متزايدًا لدى المجتمع الدولي بشأن أهداف طهران النووية. من بين هذه المنشآت، يبرز اسم 'نطنز' كمركز رئيسي لتخصيب اليورانيوم، و'فوردو' كموقع تخصيب آخر يقع في عمق الأرض بالقرب من مدينة قم. كما يثير مفاعل أراك (المعروف أيضًا باسم خنداب) مخاوف بشأن إمكانية إنتاج البلوتونيوم. بالإضافة إلى ذلك، هناك مواقع أخرى مثل مجمع أصفهان للتكنولوجيا النووية، ومركز الأبحاث في طهران، وموقع بارتشين الذي تحوم حوله الشكوك بشأن طبيعة الأنشطة التي تجري فيه، ومحطة بوشهر التي تعد أول محطة طاقة نووية إيرانية تعمل بكامل طاقتها بمساعدة روسية. ومؤخرًا، وفي مايو من العام الجاري 2025، تصدر اسم موقع جديد هو 'قوس قزح' واجهة الأخبار بعد مزاعم من المعارضة الإيرانية بأنه منشأة سرية مخصصة لإنتاج التريتيوم، وهو نظير مشع يمكن استخدامه في تعزيز القدرات التسليحية النووية. وقد أثارت هذه المزاعم صدمة وقلقًا واسعًا في المجتمع الدولي، على الرغم من عدم وجود تأكيد مستقل لهذه الادعاءات من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو وكالات الاستخبارات الكبرى حتى الآن. قبيل ساعات من انعقاد مؤتمر المعارضة الإيرانية في الولايات المتحدة الأميركية، تم تسريب المعلومات حول منشأة 'قوس قزح' لصحيفة 'فوكس نيوز الأميركية'. هذا الكشف الجديد قد تكون له تداعياته على المفاوضات الأميركية الإيرانية في حال تم التأكد من قدرات هذه المنشأة وخطورة ما يتم إنتاجه داخلها. تحت عنوان 'إيران تحت المجهر: كشف مشروع نووي سري يهدد العالم'، عقد المجلس الوطني للمقاومة الإيراني مؤتمرًا صحافيًا في العاصمة الأميركية واشنطن في 8 مايو 2025، كشف فيه عن معلومات جديدة حول المنشآت النووية السرية للنظام الإيراني حصلت عليها منظمة 'مجاهدي خلق الإيرانية' من داخل إيران. كشف مشروع أسلحة نووية سري في إيران وقدمت السيدة سونا صمصامي، مسؤولة مكتب المقاومة الوطنية الإيرانية في الولايات المتحدة، والسيد علي رضا جعفرزاده، نائب مسؤول المكتب، إفادات مفصلة حول مواقع نووية سرية تابعة للنظام الإيراني. يأتي هذا الكشف في وقت حساس، تزامنًا مع المفاوضات النووية الدقيقة بين إيران والولايات المتحدة، مقدمًا أدلة مقلقة على سعي إيران لتطوير أسلحة نووية متطورة، مما يثير تساؤلات جدية حول النوايا الحقيقية لبرنامجها النووي وتأثيره على الاستقرار الإقليمي والعالمي. وفق المعلومات الجديدة التي حصلت عليها المعارضة الإيرانية حول المشروع السري لتطوير أسلحة نووية في إيران، فهو يُدار من قبل معهد الابتكار والبحوث الدفاعية (SPND) منذ عام 2009 في منطقة إيوانكي، بمدينة كرمسار، بمحافظة سمنان. هذه المنشأة، التي تحمل الاسم الرمزي 'قوس قزح'، تمتد على مساحة تقارب 1000 هكتار (حوالي 2500 فدان) وتعمل ظاهريًا تحت غطاء شركة كيميائية تُدعى 'ديبا إنرجي سينا'. يأتي هذا الكشف في وقت حساس، تزامنًا مع المفاوضات النووية الدقيقة بين إيران والولايات المتحدة، مقدمًا أدلة مقلقة على سعي إيران لتطوير أسلحة نووية متطورة، مما يثير تساؤلات جدية حول النوايا الحقيقية لبرنامجها النووي وتأثيره على الاستقرار الإقليمي والعالمي. تفاصيل مشروع 'قوس قزح' ودور التريتيوم يُعد مشروع 'قوس قزح' مصممًا لتطوير أسلحة نووية معززة يمكن تركيبها على صواريخ باليستية بمدى يتجاوز 3000 كيلومتر، مما يشكل تهديدًا محتملاً لأوروبا وحتى الولايات المتحدة. يركز المشروع بشكل أساسي على استخراج التريتيوم، وهو نظير مشع يعزز بشكل كبير القوة التفجيرية للأسلحة النووية، خاصة في الأجهزة الانفجارية (من نوع الانفجار الداخلي)، ويُمكّن من إنتاج قنابل هيدروجينية. على عكس اليورانيوم المخصب، فإن التريتيوم له تطبيقات مدنية محدودة للغاية، مما يضع ادعاءات إيران حول الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي موضع شك كبير. منذ عام 2013، قام معهد الابتكار والبحوث الدفاعية بنقل خبراء في الاندماج النووي والتريتيوم من منظمة الطاقة الذرية الإيرانية إلى المعهد بسرية تامة، مع إصدار تعليمات صارمة بعدم نشر أي أبحاث متعلقة بهذا المجال. هيكلية وأمن المنشأة. بدأ بناء منشأة 'قوس قزح' في عام 2009 وأصبحت جاهزة للعمل في عام 2013، وتتكون من ثلاثة أقسام منفصلة تشمل مرافق شبيهة بالمصانع، ومقرًا مركزيًا، ونقطة تفتيش عند المدخل. تقع المنشأة في وادٍ قريب من جبل كلراز، في منطقة الجبل الأبيض، وصُممت بحيث تكون أجزاء منها مخفية تحت الجبال لتجنب رصدها عبر الأقمار الصناعية. يوفر سلاح الجو الفضائي التابع للحرس الثوري الإيراني حماية مشددة للموقع من خلال نشر رادار 'قدير' المتطور ونظام دفاع صاروخي قريب. يعكس هذا المستوى من الأمن الأهمية الاستراتيجية للمنشأة. يخضع طريق الوصول إلى الموقع، المتفرع من الطريق السريع بين طهران وسمنان، لسيطرة عسكرية صارمة، ويُمنع دخول المدنيين. الشركات الوهمية ودور وزارة الدفاع تُعد شركة 'ديبا إنرجي سينا' واحدة من خمس شركات وهمية تدار من قبل مجموعة 'رواد التنمية الصناعية آريا راضي'، التي تعمل ظاهريًا في الصناعات الكيميائية والبتروكيميائية، لكنها في الواقع تلعب دورًا محوريًا في دفع مشاريع معهد الابتكار والبحوث الدفاعية النووية. كانت هذه المجموعة تُدار في البداية من قبل العميد ناصر مالكي، نائب رئيس منظمة الفضاء بوزارة الدفاع آنذاك، والذي أُدرج في قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي في عام 2007 بسبب أنشطته الصاروخية والنووية. أعضاء مجلس الإدارة الأوائل، بمن في ذلك أشخاص لهم خبرة في منظمة الفضاء وإنتاج صواريخ شهاب-3 (القادرة على حمل رؤوس نووية)، يكشفون عن العلاقة الوثيقة بين هذا المشروع وبرنامج الصواريخ الإيراني. يُخفى المشروع تحت غطاء برنامج إطلاق الأقمار الصناعية، والذي يُعد جزءًا من جهود تطوير صواريخ مسلحة برؤوس نووية. الخلفية التاريخية وفشل المشاريع السابقة بدأ هذا المشروع بعد توقف خطة 'آماد' في عام 2003، التي رُسمت لتصنيع خمس رؤوس نووية لصواريخ شهاب-3. بعد الكشف عن مواقع مرتبطة بخطة 'آماد' في شرق طهران، غيّر النظام الإيراني استراتيجيته، وأنشأ شبكة من المواقع الجديدة في محافظة سمنان، التي أُعلنت منطقة عسكرية. تم تطوير مواقع في إيوانكي، كرمسار، شاهرود، وسمنان منذ عام 2009، وأصبحت جاهزة للعمل في عام 2013. يعكس هذا التحول في المواقع واستخدام الشركات الوهمية جهود النظام لخداع الجهات الرقابية الدولية، بما في ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية. التداعيات الدبلوماسية والإقليمية ما كشفته المعارضة الإيرانية في المؤتمر المذكور، والذي ننشر مضمونه، يشير إلى أن المشروع الذي كُشف عنه ووُصف بالسري يشكل تهديدًا خطيرًا للأمن الإقليمي والعالمي، ويحمل هذا الكشف تداعيات عميقة على الدبلوماسية النووية والأمن العالمي. أولاً، إنتاج التريتيوم وتطوير أسلحة نووية متطورة يُشكل انتهاكًا صارخًا لالتزامات إيران بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT). يجب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي انتقدت مرارًا عدم تعاون إيران، أن تطالب فورًا بتفتيش منشأة 'قوس قزح'. قد يؤدي رفض إيران إلى تصعيد العقوبات، أو الهجمات السيبرانية، أو حتى العمليات العسكرية. ثانيًا، يعزز هذا المشروع قدرة إيران على تهديد دول بعيدة، مما يزيد من قلق دول الخليج والقوى الغربية. تتعرض المفاوضات النووية الجارية، التي تُجرى بوساطة عُمان، للخطر أيضًا. الثقة بإيران، التي كانت بالأصل متآكلة بسبب غياب الشفافية، ستتضاءل أكثر مع هذا الكشف. بدون ضمانات صلبة، تشمل وقف جميع الأنشطة المتعلقة بالتريتيوم، والتفتيش المفاجئ، وتدمير المواقع السرية، سيكون أي اتفاق جديد هشًا. قد يؤدي هذا الوضع أيضًا إلى تفاقم الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يطالب البعض باتباع نهج أكثر صرامة تجاه إيران. الحلول المقترحة يجب على المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة لمواجهة هذا التهديد، وعليه فإن الحلول المقترحة بالنسبة للمعارضة الإيرانية هي كالتالي: •تفتيش فوري من الوكالة: يجب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية إطلاق تحقيق شامل حول منشأة 'قوس قزح'، والمطالبة بالوصول الكامل إلى المنشأة. •تشديد الضغوط: يجب على المفاوضين فرض شروط أكثر صرامة، بما في ذلك وقف أي أنشطة تخصيب أو أنشطة متعلقة بالتريتيوم. •تفعيل العقوبات: ينبغي تفعيل آلية العودة إلى عقوبات مجلس الأمن الدولي (snapback) قبل انتهاء مدتها خلال الأشهر القادمة. •مواجهة البرنامج الصاروخي: يجب إيقاف البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي يُعد جزءًا لا يتجزأ من مشروع الأسلحة النووية. ومع ذلك، يكمن الحل النهائي لإنهاء التهديد النووي الإيراني في إسقاط النظام الحالي. هذا النظام، الذي وثقت تقارير الأمم المتحدة ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وأعدم أكثر من 1200 شخص منذ تولي رئيسه الجديد منصبه، يسعى لامتلاك أسلحة نووية فقط لضمان بقائه. إن دعم حق الشعب الإيراني في مقاومة الحرس الثوري وإنهاء حكم رجال الدين، دون الحاجة إلى تدخل عسكري خارجي، يمكن أن ينقذ المنطقة والعالم من هذا التهديد. يجب على المجتمع الدولي الاعتراف بهذا الحق ودعم جهود الشعب الإيراني لتغيير النظام، قبل أن يتحول التهديد النووي إلى واقع لا مفر منه.


الميادين
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- الميادين
تفكيك الخطاب الإمبريالي: التطرّف الأميركي وتسمية الأشياء بمسمّياتها
قبل اندلاع المعارك العسكرية، هناك معركة البروباغندا لكسب القلوب والعقول، خاصة في سياق الخطاب الإمبريالي الممتدّ منذ قرون. فالإمبراطورية لا تخوض الحروب بالحديد والنار فحسب، بل بالكلمات أيضاً. الضحية الأولى ليست الحقيقة، تحديداً، بل هي الدقة، والقدرة على وصف الأشياء كما هي، لا كما تريدها القوة الغاشمة أن تبدو. لذلك، من المهم النظر في كيفية الحديث عما يُسمّى "حرب أميركا على الإرهاب"؛ وبعد ربع قرن من هذه الحرب التي لا تنتهي، يقترح الباحث والمفكّر الإيرلندي، ديلان إيفانز، أنه إذا أردنا تسميتها باسمها الصحيح فهي: الحرب على الإسلام والعالم الإسلامي. إنّ الإصرار على تسمية الأشياء بمسمّياتها ليس تحذلقاً أو مبالغة؛ بل أحد أشكال مقاومة الأيديولوجية. فالأيديولوجية تزدهر حيثما تُحرّف اللغة إلى تعبيرات "ملطّفة" أو تجريدات مُحنّطة أو عمى انتقائي – حيث يُعاد تسمية العنف بـ "الأمن"، وتُصبح الهيمنة مهمّات "حفظ سلام"، ويُعاد تسمية الإرهاب بـ "الحرية" والإبادة الجماعية بـ "حقّ الدفاع عن النفس" واستهداف المدنيين بالتدمير بـ "أضرار جانبية". هذا الصراع لأجل الدقّة ليس جديداً. لطالما أدرك المعارضون والمنشقّون في الغرب أنّ البقاء في ظلّ إمبراطورية الأكاذيب يتطلّب إخلاصاً لا يلين للحقيقة – ليس فقط لما هو ظاهر، بل لما هو قابل للقول. تلتقي هذه الرؤية مع تجربة ثوّار ومنشقّين ومنتقدين لحكوماتهم. ورغم اختلاف مشاربهم، يتشاركون التزاماً أساسياً: التحدّث بوضوح في عصر الخلط والتشويش المتعمّد. لماذا إذاً نُرهق محاولاتنا للحديث بدقّة عن "الحرب على الإسلام"؟ هذه الجهود مهمة لسبب بسيط، وهو أنّ بيننا كثيرين يقاومون تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويخطئون بشكل ممنهج في وصف الواقع الأخلاقي والسياسي خدمةً لأيديولوجية. الأيديولوجية المقصودة نظام شمولي مُغلق يُهمِل ويرفض ما لا "يندرج" ضمنه، ولا يُجديه نفعاً وصف ما يجري بدقة. فمثلاً، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، زعم معلّقون وجود تكافؤ أخلاقي بين إيران والولايات المتحدة، استناداً لتوصيفات مغلوطة تماماً للنظامين. لم يشاركهم هذا الرأي المنشقّون الشجعان في جماعة "أمّة الإسلام" الأميركية. والمدهش أنّ كثيراً من المنشقّين الأميركيين لم يعترض على وصف آية الله الخميني للولايات المتحدة بـ "الشيطان الأكبر". فقد كانوا يدركون أيضاً أنّ الاحتجاج الديمقراطي ضدّ نظام الشاه الفاسد أدّى إلى الثورة الإيرانية عام 1979 وإلى تحسّن جذري في النظام الاجتماعي والسياسي الإيراني. وكانوا يدركون أنّ على القادة السياسيين الإيرانيين أن يأخذوا لغة القرآن على محمل الجِدّ لأنها اللغة المشتركة للثقافة السياسية الإيرانية. ولما رأوا أنّ الإيرانيين قد وجدوا طريقة لتصحيح الأمور، اندهش هؤلاء المنشقّون الأميركيون من النقد اللاذع الذي يعبّر عنه أميركيون إيرانيون في لوس أنجيليس بشأن إيران. في مقال نُشر عام 1985 بعنوان "تشريح التكتّم"، أشار فاتسلاف هافيل، المنشقّ التشيكي والكاتب المسرحي وأول رئيس لجمهورية التشيك بعد 1989، إلى أنّ ممثّلي جماعات السلام الغربية الذين زاروا بلاده كانوا غالباً ما يشكّكون في المنشقّين أمثاله. دفع هافيل وغيره من المعارضين ثمن احتجاجاتهم ضدّ نظام استبدادي بأحكام السجن والضرب، أو ما هو أسوأ. لكنهم وجدوا أنفسهم يُنظر إليهم كـ "متحاملين بشكل مريب ضدّ حقائق الاشتراكية، وغير ناقدين بكفاءة للديمقراطية الغربية، بل ربما كمتعاطفين... مع تلك الأسلحة الغربية الممقوتة. باختصار، بدا أولئك المعارضون، بالنسبة لممثّلي جماعات السلام، كطابور خامس للرأسمالية الغربية شرق خط يالطا". لم يتأثّر الزوّار الغربيون عندما حاول هافيل شرح أنّ كلمة "السلام" نفسها قد فُرّغت من معناها نظراً لكثرة استخدامها في الشعارات الشيوعية الرسمية مثل "النضال لأجل السلام" ضدّ "المستغلين الرأسماليين". في حين أنّ المعارض، "غير القادر على حماية نفسه أو أطفاله، والمتشكّك في العقلية الأيديولوجية، والعارف مباشرةً أين يمكن أن يؤدّي الاسترضاء"، قد تموضع في موقف من يخشى "فقدان المعنى"، بما في ذلك تضاؤل معنى الكلمات وقوتها. 19 نيسان 13:00 19 نيسان 07:35 إنّ إفراغ الكلمات من معناها علامةٌ على ما يسمّيه هافيل "التفكير شبه الأيديولوجي"، الذي يفصل كلمات نستخدمها عن حقائق تدّعي وصفها. ما يسمّيه هافيل "اللغة المراوغة" قد "فصل الفكر عن تماسّه المباشر بالواقع"، كما أشارت الفيلسوفة الأميركية، جين بيثكي إلشتين، في مقال عام 1993، مستشهدةً بهافيل، "ويشلّ قدرته على التدخّل في هذا الواقع بفعّالية". يتعلّق هذا الخط من التفكير مباشرةً بكيفيّة حديثنا عن التطرّف الأميركي. وكما أنّ كلمتي "عبد" و"عبودية" مشوّهتان في التقاليد الغربية، عندما تطبّقان فقط على من يشترون ويبيعون البشر، ولكن ليس على أولئك الذين يُسلِمُون أنفسهم لله، فإنّ كلمة "متطرّف" تُحرّف إلى حدّ لا يمكن التعرّف إليها إذا استخدمت عشوائياً. ينبغي الحرص على الاستخدام الصحيح للمصطلح. فالمتطرّفون الأميركيون هم أولئك الذين يقتلون من يعتبرونه "عدوّهم الموضوعي"، بغضّ النظر عمّا قد يكون ارتكبه أو لم يرتكبه. دخلت عبارة "التطرّف الأميركي" اللغة العادية للدلالة على ظاهرة محدّدة في هذا القرن: القتل الموجّه ضد المسلمين، من دون تمييز ومن دون محاولة جادّة للتمييز بين المدنيين والمقاتلين. ووفقاً لمنطق التطرّف الأميركي، قتل المسلمين مشروع بغضّ النظر عن أعمالهم أو أعمارهم أو مكان وجودهم. تُروَّج بعض أصناف الأيديولوجية الأميركية المتطرّفة في الكتب المدرسية، بما في ذلك كتابٌ مقرّرٌ لتدريس الصف العاشر بمدارس نيويورك، يُلزم الأميركيين بـ "اعتبار المسلمين أعداءهم". لهذا السبب هؤلاء الأشخاص يكرهون المسلمين لما هم عليه وما يمثّلونه، وليس لأيّ شيءٍ محدّدٍ فعلوه. كيف إذاً يُمكن الاستجابة لمطالب الغرب بعدم تدريس الإسلام في مدارس بلاد المسلمين؟ أو بإلغاء الشريعة؟ أو بإقامة ديمقراطيةٍ يديرها متطرّفون (علمانيون)؟ من المعقول القول إنّ تغييرات معيّنة في الاستراتيجية العسكرية لحماس أو حزب الله قد تُخفّض جاذبية الإسلاموفوبيا المتطرّفة لدى شباب أميركا. لكن من غير المعقول افتراض أنّ تشريع الربا سيُقنع المتطرّفين الأميركيين بتوقّف سيلان لعابهم عند التفكير في حقول النفط بالعالم الإسلامي. وكما يُؤكّد أكثر من كاتب ومفكّر مؤخراً، يحتقر المتطرّفون الأميركيون العالم الإسلامي، ليس لما يفعله، بل لما هو عليه! لا شكّ أنّ هناك أميركيين يُعارضون الشريعة الإسلامية بطرق مُحدّدة، ويُصرّون على ذلك، غالباً بعنف. وهذا يختلف عن الترويج للكراهية العشوائية. يُمكن للمرء أن يُجادل هؤلاء المُنتقدين، بل قد يتفهّم بعض مخاوفهم. لكنّ المرء يُقاتل ضدّ من صنّفه عدواً لدوداً لا يستحقّ مُشاركة كوكبه الجميل. يُكرّس المتطرّف الأميركي نفسه للعنف بلا حدود. أما أولئك الذين يُقاتلون في ظلّ مجموعة من القيود الراسخة، فيُقاتلون بمراعاة الحدود، خاصة بين مسلمين وغيرهم. للأميركيين جانبٌ عدمي: فهم يسعون إلى التدمير، غالباً لخدمة أهدافٍ جامحة وطوباوية لا معنى لها على الإطلاق في ظلّ الأساليب السياسية المُعتادة. إنّ التمييز بين التطرّف الأميركي، والجريمة المحلية، وما يُمكن أن نُسمّيه الحرب "العادية" أو "المشروعة" أمرٌ بالغ الأهمية، إذ يُساعد على تقييم ما يحدث عند استخدام القوة. تبدو هذه الفروقات، المُتجلّية في الخطابات الأخلاقية والسياسية التاريخية حول الجهاد والقتال، وفي قواعد الفقه، غائبةً عن الذين يصفون غزو العراق بأنه "قتلٌ جماعي" بدلاً من كونه عملاً إرهابياً وإبادةً جماعيةً بموجب توصيف القانون الدولي، وغائبة عن الذين يُصرّون على أنّ إيران ارتكبت أيضاً "مخالفات" عندما احتجز الطلاب دبلوماسيين أميركيين رهائن في سفارتهم عام 1980، في هجومٍ مُصرّح به قانوناً ضدّ التدخّل الأميركي. هذا النوع من التساؤلات والتهويل الذي يُرسّخ تكافؤاً أخلاقياً مُسيئاً وظالماً للغاية بين الطرفين، ينمّ عن غيابٍ تامّ لأيّ بوصلةٍ أخلاقية. يقول إيفانز، إذا لم نميّز بين وفاة عرضيّة ناتجة عن حادث سيارة وبين القتل العَمْد، ينهار نظام العدالة الجنائية. وإذا لم نميّز بين قتل متطرّفين أميركيين اغتالت حكومتهم أبطالاً إيرانيّين، والذين دفعت ضرائبهم ثمن صواريخ تقتل الأبرياء في اليمن، والذين تدعم أصواتهم آلة الحرب الأميركية؛ وبين الاستهداف المتعمّد للمسلمين والغزو غير المبرّر لدول أضعف بكثير، فإننا نعيش في عالم من "العدميّة الأخلاقية". في عالم كهذا، يتلاشى كلّ شيء إلى الدرجة الرمادية نفسها، ولا نستطيع التمييز بين ما يساعدنا على تحديد توجّهاتنا السياسية ومواقفنا الأخلاقية. يستحقّ ضحايا غارات المسيّرات الأميركية منّا أكثر من ذلك. إنّ الحديث بدقّة عن القوة الأميركية اليوم هو إدراك لتطرّفها – وليس انحرافاً عن معاييرها، بل نتيجة منطقيّة لتطرّفها. إنّ الأمة التي تزعم أنّ لها حقاً عالمياً في القتل من دون محاكمة، والاحتجاز من دون تهمة، والمراقبة من دون حدود، وشنّ الحروب بلا نهاية، لا تدافع عن الحرية. إنها تستكمل الهيمنة. وهكذا تتلاشى المفارقة. عندما وصف آية الله الخميني أميركا بـ "الشيطان الأكبر"، لم يكن منغمساً في مبالغات لاهوتيّة (عقدية)، بل كان يُمارس وصفاً سياسياً دقيقاً لا يطيقه الأيديولوجيون، كرهاً للوضوح. لعلّ هذا هو السبب الحقيقي وراء بقاء لغة القوة الأميركية غامضة جداً، عاطفية جداً، غارقة عبثياً في خطاب الحرية والسلام. لأنّ التكلّم بصراحة – وتسمية الإمبراطورية على حقيقتها - يُخاطر بكسر "التعويذة". وهنا، يخلص إيفانز: قد نضطرّ إلى التساؤل عمّا يسأله بنهاية المطاف جميع المعارضين والمنشقّين، في كلّ مكان: من هم المتطرّفون حقاً؟!