مُعظمهم من الشباب.. حالات الانتحار تتزايد في لبنان وهذه أسبابها
ما إن بدأ اللبناني يلتقط أنفاسه مع تراجع وتيرة الجرائم الدورية التي أثقلت يومياته، حتى عادت ظاهرة الانتحار الى الواجهة مجددًا.
فمن الضاحية الجنوبية، حيث أنهت الشابة مريم نحلة حياتها، إلى صيدا التي شهدت محاولة انتحار لفتاة تبلغ من العمر 28 عامًا، وصولًا إلى البربير، والأشرفية، وتلّ العباس في عكار، تتوالى الحالات بشكل يثير القلق.
تكرار هذه المشاهد في أكثر من منطقة يطرح أسئلة ملحّة: ما الذي يدفع شبابًا وشابات إلى قرار نهائي بهذا الحجم؟ وأي واقع مأزوم هذا الذي يجعل الحياة عبئًا لا يُحتمل؟
رغم الحديث اليوم عن "عهد لبنان الجديد" برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون، وما يرافقه من وعود بالتغيير، وإعادة وصل لبنان بـ"الحضن العربي"، وفرض الأمن، والسعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي عبر القنوات الديبلوماسية رغم الخروقات المستمرّة، فضلًا عن محاولات إخراج البلد من أزمته الخانقة، يبقى الواقع، إلى حدّ كبير، شبيهًا بما كان عليه سابقًا.
ضغوط اقتصادية خانقة
على المستوى الاقتصادي والعملي، لا تزال فرص العمل نادرة. ففي عامَي 2023 و2024، بلغت نسبة البطالة 27% من مجمل القوى العاملة، أي ما يزيد بنحو 2.4 مرّة عن المعدّل العام في سائر الدول العربية. وحتى في حال توفّرت الوظيفة، فإنها غالبًا تمرّ عبر المحسوبيات والوساطات.
أمّا من حالفه الحظ في إيجاد عمل، فكثيرًا ما يُضطر إلى القيام بأكثر من وظيفة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة. فبحسب آخر قرار صادر عن وزير العمل محمد حيدر، رُفع الحد الأدنى للأجور إلى 28 مليون ليرة، مع مضاعفة التقديمات العائلية والمدرسية، ليبلغ المجموع نحو 312 دولارًا. مبلغ لا يكاد يغطي أبسط الحاجات، في ظل الارتفاع المستمر في أسعار السلع، وخصوصًا المواد الغذائية.
في هذا الواقع الضاغط، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين إلى الاستدانة، ما عمّق أزماتهم ودفعهم أكثر نحو دوّامة الديون. فمنذ ستّ سنوات، وتحديدًا بعد اندلاع ثورة 17 تشرين وأزمة المصارف التي خنقت اللبنانيين، عاد عدد كبير منهم إلى نقطة الصفر.
ومنذ عام 2019، يسعى الشاب اللبناني إلى التأقلم مع المشهد المتقلّب، فابتعد كثيرون عن اختصاصاتهم الجامعية، واتجهوا نحو أعمال بديلة: من مهنة الصرّاف، إلى تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، والتداول بالعملات الرقمية، وصولًا إلى تقديم محتوى مباشر عبر "تيك توك" ومنصات التواصل الأخرى.
وفي الآونة الأخيرة، زادت الحرب العنيفة التي شهدها لبنان من معاناة الناس. فذاك الشاب الذي استثمر كلّ ما يملك لبناء منزل أحلامه أو لتحقيق مشروع خطّط له لسنوات، خسر كلّ شيء في لحظة. وآخرون وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل بعد أن سُرّحوا نتيجة العدوان.
عوامل نفسية تدفع نحو الانهيار
اما على الصعيد النفسي، فتوضح الاختصاصية النفسية ربى بشارة لـ"لبنان 24"، أن الانتحار لا يحدث فجأة، بل هو خلاصة مسار طويل من التراكمات النفسية، تتشابك فيها العوامل الخارجية والداخلية.
فالظروف المعيشية الصعبة، الضغوطات الاقتصادية، البطالة، وغياب الاستقرار، تُعدّ عوامل خارجية تطوّق الفرد وتدفعه نحو الحافة. أما العوامل الداخلية، فهي أعمق، متجذّرة في التجربة الشخصية، نمط التفكير، أسلوب التربية، والبيئة التي نشأ فيها.
تقول بشارة إن الشخص الذي يُقدم على إنهاء حياته، غالبًا ما يكون قد ضاق به الأفق النفسي إلى حدّ لم يعُد يرى فيه مخرجًا. وقد لا تكون الأزمة الآنية هي السبب الوحيد، بل تتراكم الأسباب على مدى سنوات من الإهمال العاطفي، غياب الاحتواء، وحرمان من المساحات الآمنة للتعبير عن الألم. وفي بلدٍ تتراجع فيه سبل العيش بقدر ما تتراجع سبل النجاة، تضعف قدرة الإنسان على الاحتمال.
وتضيف أن ما يُنقذ الإنسان من هذه الدوّامة هو ما يُعرف بـ"المساحة النفسية" الواسعة، تلك القدرة الداخلية على رؤية الخيارات، حتى حين تبدو معدومة. وهذه تُزرع في سنّ مبكرة، حين يُسمح للطفل بالتعبير عن مشاعره، ويُعلَّم كيف يواجه لا أن يهرب، وكيف يبحث عن حلول لا أن يغرق في المآزق.
وتشدّد بشارة على دور الأهل في تشكيل هذه المساحة، فوجود أبوَين يتعاملان مع التحديات بنضج أمام أولادهم، يمنح الطفل نماذج واقعية عن كيفية مواجهة الأزمات.
القدرة على التحمّل، كما تؤكّد، ليست فطرية، بل تُكتسب. وكلّما تمرّن الطفل على تحمّل المسؤولية، خوض التجارب، والتعامل مع الفشل، كلّما أصبح أشدّ تماسكًا حين يكبر. هنا تبرز أهمية التربية الواقعية، التي لا تُلبس الحياة حُلّة مثالية، بل تُظهرها كما هي كمزيج من المتعة والتحديات، من المكافآت والخيبات.
وتحذّر بشارة أيضًا من الإفراط في التساهل، وهي سمة تطغى على أساليب التربية الحديثة. فكلّما خفّ الانضباط، قلت قدرة الجيل الجديد على التحمل. وتشير إلى أنّ معلمات من الجيل السابق يلاحظن كيف بات الأطفال اليوم أقل صبرًا، وأسرع انفعالًا، مقارنة بجيل تربّى في بيئات أكثر صرامة، واحتكاكًا مباشرًا بالحياة والطبيعة.
وشدّدت على أن الإنسان بحاجة إلى جرعة من الحب، يقابلها تدريب على التحمّل، والاعتياد على مواجهة الأزمات، بدءًا من داخل العائلة.
في الختام، يقف الشاب اللبناني على هامش وطنٍ يُفترض أن يحتضنه، بينما تغيب عنه أبسط حقوقه، وتُقفل في وجهه أبواب الفرص. لا مقوّمات اقتصادية تُسند صموده، ولا بيئة نفسية تُعينه على الاحتمال. ستّ سنوات من الأزمات المتراكمة جعلت الحياة أثقل من أن تُحتمل. فهل من بارقة أمل؟ وهل تتحرّك الدولة قبل أن يفقد هذا الجيل آخر ما تبقّى له من إيمان بالوطن؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
منذ 13 ساعات
- النهار
هذا الفيديو ليس لطائرات صينية تخترق الحصار الإسرائيلي على غزة وتنزل مساعدات إنسانية للفلسطينيين FactCheck#
نشرت حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بمزاعم أنه لـ"طائرات صينية اخترقت المجال الجوي المصري لإنزال مساعدات إنسانية في قطاع غزة". الا ان هذا ال زعم مضلل تماما. FactCheck# "النّهار" دقّقت من أجلكم فقد تداولت حسابات فيديو يُظهر سربا من الطائرات يحلق أعلى منطقة الأهرامات في الجيزة بجنوب القاهرة. وكتبت معه تعليقا (من دون تدخل): "الطائرات الصينية تخترق المجال الجوى المصري لكي ترسل المساعدات الى غزة غصب عن أمريكا وإسرائيل". ولكن البحث العكسي قاد إلى أن هذا المقطع نشره حساب nametho_1711@ في موقع تيك توك قبل أسبوع، وكتب معه (ترجمة من الصينية) : "حلقت القوات الجوية الصينية فوق الأهرامات المصرية، وهي لطائرات من طرازات 20/J-10C، وكان المشهد مذهلاً وجميلاً". لقطة من الفيديو المنشور في حساب nametho_1711 في تيك توك وقد ظهر هذا السرب أيضاً في صورة التقطت من زاوية أخرى، ونشرها المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية على موقع فايسبوك، بتاريخ 6 أيار (مايو) 2025، بعنوان: "ختام فعاليات التدريب الجوي المصري- الصيني المشترك (نسور الحضارة-2025 )". وجاء في البيان: "اُختتمت فعاليات التدريب الجوى المصري- الصيني المشترك "نسور الحضارة-2025"، والذي تم تنفيذه على مدار أيام عدة في إحدى القواعد الجوية بجمهورية مصر العربية، وبمشاركة عدد من الطائرات المقاتلة متعددة المهام من مختلف الطرازات، وذلك بحضور الفريق محمود فؤاد عبدالجواد، قائد القوات الجوية المصرية، ورئيس أركان القوات الجوية الصينية والسفير الصيني بالقاهرة، وعدد من قادة القوات المسلحة لكلا البلدين". وتضمنت فعاليات التدريب تنفيذ عدد من المحاضرات النظرية لتوحيد المفاهيم وصقل المهارات والتنسيق على إدارة العمليات المشتركة بمختلف أساليب القتال الجوى الحديث، كذلك قيام المقاتلات متعددة المهام من الجانبين بتنفيذ العديد من الطلعات الجوية المشتركة للتدريب على مهاجمة الأهداف المعادية والدفاع عن الأهداف الحيوية بكفاءة واقتدار، بالإضافة إلى التدريب على التزود بالوقود فى الجو. كذلك، نفذت مجموعة من المقاتلات المشاركة في التدريب، تشكيلاً جوياً فوق الأهرامات، أبرز الدقة والكفاءة التي يتمتع بها الطيارون من كلا الجانبين. وظهر هذا المشهد من زاوية أخرى في مقطع نشرته القناة الرسمية لشبكة التلفزيون الصيني الدولية CGTN في التاريخ ذاته، بعنوان: "الصين ومصر تختتمان أول تدريب جوي مشترك للقوات الجوية". وجاء في تفاصيل الخبر أن مصر والصين اختتمتا أول تدريب مشترك للقوات الجوية للبلدين، وتضمن تدريبات على التفوق الجوي والدفاع الجوي، وتحليقًا جويًا منخفض الارتفاع فوق الأهرامات. وحمل التدريب اسم "نسور الحضارة 2025"، وهو أول تدريب مشترك يُرسل فيه سلاح الجو الصيني قوةً منتظمةً إلى أفريقيا للمشاركة في مثل هذه التدريبات. كذلك، يعد أول تدريب مشترك يُنظمه سلاحا الجو الصيني والمصري. ولم يُمثل منصةً عمليةً لتعزيز المهارات التكتيكية والفنية فحسب، إنما أيضا فرصةً قيّمةً لتعميق الصداقة والثقة المتبادلة والتعاون. ويأتي تدريب "نسور الحضارة-2025" في إطار خطة التدريبات المشتركة للقوات المسلحة المصرية مع الدول الشقيقة والصديقة، لدعم آفاق التعاون العسكري، وتعزيز الكفاءة القتالية للقوات الجوية المصرية والصينية. الخلاصة: الفيديو المتداول يعود إلى التدريب العسكري الجوي المصري- الصيني المشترك "نسور الحضارة 2025". ولا علاقة له بإسقاط الصين مساعدات إنسانية في قطاع غزة.


صيدا أون لاين
منذ 19 ساعات
- صيدا أون لاين
مُعظمهم من الشباب.. حالات الانتحار تتزايد في لبنان وهذه أسبابها
ما إن بدأ اللبناني يلتقط أنفاسه مع تراجع وتيرة الجرائم الدورية التي أثقلت يومياته، حتى عادت ظاهرة الانتحار الى الواجهة مجددًا. فمن الضاحية الجنوبية، حيث أنهت الشابة مريم نحلة حياتها، إلى صيدا التي شهدت محاولة انتحار لفتاة تبلغ من العمر 28 عامًا، وصولًا إلى البربير، والأشرفية، وتلّ العباس في عكار، تتوالى الحالات بشكل يثير القلق. تكرار هذه المشاهد في أكثر من منطقة يطرح أسئلة ملحّة: ما الذي يدفع شبابًا وشابات إلى قرار نهائي بهذا الحجم؟ وأي واقع مأزوم هذا الذي يجعل الحياة عبئًا لا يُحتمل؟ رغم الحديث اليوم عن "عهد لبنان الجديد" برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون، وما يرافقه من وعود بالتغيير، وإعادة وصل لبنان بـ"الحضن العربي"، وفرض الأمن، والسعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي عبر القنوات الديبلوماسية رغم الخروقات المستمرّة، فضلًا عن محاولات إخراج البلد من أزمته الخانقة، يبقى الواقع، إلى حدّ كبير، شبيهًا بما كان عليه سابقًا. ضغوط اقتصادية خانقة على المستوى الاقتصادي والعملي، لا تزال فرص العمل نادرة. ففي عامَي 2023 و2024، بلغت نسبة البطالة 27% من مجمل القوى العاملة، أي ما يزيد بنحو 2.4 مرّة عن المعدّل العام في سائر الدول العربية. وحتى في حال توفّرت الوظيفة، فإنها غالبًا تمرّ عبر المحسوبيات والوساطات. أمّا من حالفه الحظ في إيجاد عمل، فكثيرًا ما يُضطر إلى القيام بأكثر من وظيفة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة. فبحسب آخر قرار صادر عن وزير العمل محمد حيدر، رُفع الحد الأدنى للأجور إلى 28 مليون ليرة، مع مضاعفة التقديمات العائلية والمدرسية، ليبلغ المجموع نحو 312 دولارًا. مبلغ لا يكاد يغطي أبسط الحاجات، في ظل الارتفاع المستمر في أسعار السلع، وخصوصًا المواد الغذائية. في هذا الواقع الضاغط، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين إلى الاستدانة، ما عمّق أزماتهم ودفعهم أكثر نحو دوّامة الديون. فمنذ ستّ سنوات، وتحديدًا بعد اندلاع ثورة 17 تشرين وأزمة المصارف التي خنقت اللبنانيين، عاد عدد كبير منهم إلى نقطة الصفر. ومنذ عام 2019، يسعى الشاب اللبناني إلى التأقلم مع المشهد المتقلّب، فابتعد كثيرون عن اختصاصاتهم الجامعية، واتجهوا نحو أعمال بديلة: من مهنة الصرّاف، إلى تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، والتداول بالعملات الرقمية، وصولًا إلى تقديم محتوى مباشر عبر "تيك توك" ومنصات التواصل الأخرى. وفي الآونة الأخيرة، زادت الحرب العنيفة التي شهدها لبنان من معاناة الناس. فذاك الشاب الذي استثمر كلّ ما يملك لبناء منزل أحلامه أو لتحقيق مشروع خطّط له لسنوات، خسر كلّ شيء في لحظة. وآخرون وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل بعد أن سُرّحوا نتيجة العدوان. عوامل نفسية تدفع نحو الانهيار اما على الصعيد النفسي، فتوضح الاختصاصية النفسية ربى بشارة لـ"لبنان 24"، أن الانتحار لا يحدث فجأة، بل هو خلاصة مسار طويل من التراكمات النفسية، تتشابك فيها العوامل الخارجية والداخلية. فالظروف المعيشية الصعبة، الضغوطات الاقتصادية، البطالة، وغياب الاستقرار، تُعدّ عوامل خارجية تطوّق الفرد وتدفعه نحو الحافة. أما العوامل الداخلية، فهي أعمق، متجذّرة في التجربة الشخصية، نمط التفكير، أسلوب التربية، والبيئة التي نشأ فيها. تقول بشارة إن الشخص الذي يُقدم على إنهاء حياته، غالبًا ما يكون قد ضاق به الأفق النفسي إلى حدّ لم يعُد يرى فيه مخرجًا. وقد لا تكون الأزمة الآنية هي السبب الوحيد، بل تتراكم الأسباب على مدى سنوات من الإهمال العاطفي، غياب الاحتواء، وحرمان من المساحات الآمنة للتعبير عن الألم. وفي بلدٍ تتراجع فيه سبل العيش بقدر ما تتراجع سبل النجاة، تضعف قدرة الإنسان على الاحتمال. وتضيف أن ما يُنقذ الإنسان من هذه الدوّامة هو ما يُعرف بـ"المساحة النفسية" الواسعة، تلك القدرة الداخلية على رؤية الخيارات، حتى حين تبدو معدومة. وهذه تُزرع في سنّ مبكرة، حين يُسمح للطفل بالتعبير عن مشاعره، ويُعلَّم كيف يواجه لا أن يهرب، وكيف يبحث عن حلول لا أن يغرق في المآزق. وتشدّد بشارة على دور الأهل في تشكيل هذه المساحة، فوجود أبوَين يتعاملان مع التحديات بنضج أمام أولادهم، يمنح الطفل نماذج واقعية عن كيفية مواجهة الأزمات. القدرة على التحمّل، كما تؤكّد، ليست فطرية، بل تُكتسب. وكلّما تمرّن الطفل على تحمّل المسؤولية، خوض التجارب، والتعامل مع الفشل، كلّما أصبح أشدّ تماسكًا حين يكبر. هنا تبرز أهمية التربية الواقعية، التي لا تُلبس الحياة حُلّة مثالية، بل تُظهرها كما هي كمزيج من المتعة والتحديات، من المكافآت والخيبات. وتحذّر بشارة أيضًا من الإفراط في التساهل، وهي سمة تطغى على أساليب التربية الحديثة. فكلّما خفّ الانضباط، قلت قدرة الجيل الجديد على التحمل. وتشير إلى أنّ معلمات من الجيل السابق يلاحظن كيف بات الأطفال اليوم أقل صبرًا، وأسرع انفعالًا، مقارنة بجيل تربّى في بيئات أكثر صرامة، واحتكاكًا مباشرًا بالحياة والطبيعة. وشدّدت على أن الإنسان بحاجة إلى جرعة من الحب، يقابلها تدريب على التحمّل، والاعتياد على مواجهة الأزمات، بدءًا من داخل العائلة. في الختام، يقف الشاب اللبناني على هامش وطنٍ يُفترض أن يحتضنه، بينما تغيب عنه أبسط حقوقه، وتُقفل في وجهه أبواب الفرص. لا مقوّمات اقتصادية تُسند صموده، ولا بيئة نفسية تُعينه على الاحتمال. ستّ سنوات من الأزمات المتراكمة جعلت الحياة أثقل من أن تُحتمل. فهل من بارقة أمل؟ وهل تتحرّك الدولة قبل أن يفقد هذا الجيل آخر ما تبقّى له من إيمان بالوطن؟

القناة الثالثة والعشرون
منذ 19 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
مُعظمهم من الشباب.. حالات الانتحار تتزايد في لبنان وهذه أسبابها
ما إن بدأ اللبناني يلتقط أنفاسه مع تراجع وتيرة الجرائم الدورية التي أثقلت يومياته، حتى عادت ظاهرة الانتحار الى الواجهة مجددًا. فمن الضاحية الجنوبية، حيث أنهت الشابة مريم نحلة حياتها، إلى صيدا التي شهدت محاولة انتحار لفتاة تبلغ من العمر 28 عامًا، وصولًا إلى البربير، والأشرفية، وتلّ العباس في عكار، تتوالى الحالات بشكل يثير القلق. تكرار هذه المشاهد في أكثر من منطقة يطرح أسئلة ملحّة: ما الذي يدفع شبابًا وشابات إلى قرار نهائي بهذا الحجم؟ وأي واقع مأزوم هذا الذي يجعل الحياة عبئًا لا يُحتمل؟ رغم الحديث اليوم عن "عهد لبنان الجديد" برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون، وما يرافقه من وعود بالتغيير، وإعادة وصل لبنان بـ"الحضن العربي"، وفرض الأمن، والسعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي عبر القنوات الديبلوماسية رغم الخروقات المستمرّة، فضلًا عن محاولات إخراج البلد من أزمته الخانقة، يبقى الواقع، إلى حدّ كبير، شبيهًا بما كان عليه سابقًا. ضغوط اقتصادية خانقة على المستوى الاقتصادي والعملي، لا تزال فرص العمل نادرة. ففي عامَي 2023 و2024، بلغت نسبة البطالة 27% من مجمل القوى العاملة، أي ما يزيد بنحو 2.4 مرّة عن المعدّل العام في سائر الدول العربية. وحتى في حال توفّرت الوظيفة، فإنها غالبًا تمرّ عبر المحسوبيات والوساطات. أمّا من حالفه الحظ في إيجاد عمل، فكثيرًا ما يُضطر إلى القيام بأكثر من وظيفة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة. فبحسب آخر قرار صادر عن وزير العمل محمد حيدر، رُفع الحد الأدنى للأجور إلى 28 مليون ليرة، مع مضاعفة التقديمات العائلية والمدرسية، ليبلغ المجموع نحو 312 دولارًا. مبلغ لا يكاد يغطي أبسط الحاجات، في ظل الارتفاع المستمر في أسعار السلع، وخصوصًا المواد الغذائية. في هذا الواقع الضاغط، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين إلى الاستدانة، ما عمّق أزماتهم ودفعهم أكثر نحو دوّامة الديون. فمنذ ستّ سنوات، وتحديدًا بعد اندلاع ثورة 17 تشرين وأزمة المصارف التي خنقت اللبنانيين، عاد عدد كبير منهم إلى نقطة الصفر. ومنذ عام 2019، يسعى الشاب اللبناني إلى التأقلم مع المشهد المتقلّب، فابتعد كثيرون عن اختصاصاتهم الجامعية، واتجهوا نحو أعمال بديلة: من مهنة الصرّاف، إلى تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، والتداول بالعملات الرقمية، وصولًا إلى تقديم محتوى مباشر عبر "تيك توك" ومنصات التواصل الأخرى. وفي الآونة الأخيرة، زادت الحرب العنيفة التي شهدها لبنان من معاناة الناس. فذاك الشاب الذي استثمر كلّ ما يملك لبناء منزل أحلامه أو لتحقيق مشروع خطّط له لسنوات، خسر كلّ شيء في لحظة. وآخرون وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل بعد أن سُرّحوا نتيجة العدوان. عوامل نفسية تدفع نحو الانهيار اما على الصعيد النفسي، فتوضح الاختصاصية النفسية ربى بشارة لـ"لبنان 24"، أن الانتحار لا يحدث فجأة، بل هو خلاصة مسار طويل من التراكمات النفسية، تتشابك فيها العوامل الخارجية والداخلية. فالظروف المعيشية الصعبة، الضغوطات الاقتصادية، البطالة، وغياب الاستقرار، تُعدّ عوامل خارجية تطوّق الفرد وتدفعه نحو الحافة. أما العوامل الداخلية، فهي أعمق، متجذّرة في التجربة الشخصية، نمط التفكير، أسلوب التربية، والبيئة التي نشأ فيها. تقول بشارة إن الشخص الذي يُقدم على إنهاء حياته، غالبًا ما يكون قد ضاق به الأفق النفسي إلى حدّ لم يعُد يرى فيه مخرجًا. وقد لا تكون الأزمة الآنية هي السبب الوحيد، بل تتراكم الأسباب على مدى سنوات من الإهمال العاطفي، غياب الاحتواء، وحرمان من المساحات الآمنة للتعبير عن الألم. وفي بلدٍ تتراجع فيه سبل العيش بقدر ما تتراجع سبل النجاة، تضعف قدرة الإنسان على الاحتمال. وتضيف أن ما يُنقذ الإنسان من هذه الدوّامة هو ما يُعرف بـ"المساحة النفسية" الواسعة، تلك القدرة الداخلية على رؤية الخيارات، حتى حين تبدو معدومة. وهذه تُزرع في سنّ مبكرة، حين يُسمح للطفل بالتعبير عن مشاعره، ويُعلَّم كيف يواجه لا أن يهرب، وكيف يبحث عن حلول لا أن يغرق في المآزق. وتشدّد بشارة على دور الأهل في تشكيل هذه المساحة، فوجود أبوَين يتعاملان مع التحديات بنضج أمام أولادهم، يمنح الطفل نماذج واقعية عن كيفية مواجهة الأزمات. القدرة على التحمّل، كما تؤكّد، ليست فطرية، بل تُكتسب. وكلّما تمرّن الطفل على تحمّل المسؤولية، خوض التجارب، والتعامل مع الفشل، كلّما أصبح أشدّ تماسكًا حين يكبر. هنا تبرز أهمية التربية الواقعية، التي لا تُلبس الحياة حُلّة مثالية، بل تُظهرها كما هي كمزيج من المتعة والتحديات، من المكافآت والخيبات. وتحذّر بشارة أيضًا من الإفراط في التساهل، وهي سمة تطغى على أساليب التربية الحديثة. فكلّما خفّ الانضباط، قلت قدرة الجيل الجديد على التحمل. وتشير إلى أنّ معلمات من الجيل السابق يلاحظن كيف بات الأطفال اليوم أقل صبرًا، وأسرع انفعالًا، مقارنة بجيل تربّى في بيئات أكثر صرامة، واحتكاكًا مباشرًا بالحياة والطبيعة. وشدّدت على أن الإنسان بحاجة إلى جرعة من الحب، يقابلها تدريب على التحمّل، والاعتياد على مواجهة الأزمات، بدءًا من داخل العائلة. في الختام، يقف الشاب اللبناني على هامش وطنٍ يُفترض أن يحتضنه، بينما تغيب عنه أبسط حقوقه، وتُقفل في وجهه أبواب الفرص. لا مقوّمات اقتصادية تُسند صموده، ولا بيئة نفسية تُعينه على الاحتمال. ستّ سنوات من الأزمات المتراكمة جعلت الحياة أثقل من أن تُحتمل. فهل من بارقة أمل؟ وهل تتحرّك الدولة قبل أن يفقد هذا الجيل آخر ما تبقّى له من إيمان بالوطن؟ انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News