logo
الحنين..إلى خبز أمي

الحنين..إلى خبز أمي

أخبارنا١٦-٠٥-٢٠٢٥

برعلا زكريا
يبدو أن أمنية الفنان الكبير مارسيل خليفة قد تحققت، لكن بطريقة لم نكن نتمناها، حين غنى بحرقة "أحن إلى خبز أمي". فذلك الحنين الذي لامس قلوب الملايين لم يعد مجرد اشتياق عابر، بل أصبح واقعا نعيشه بمرارة. فلم يعد ذلك الخبز المنزلي الدافئ، المجبول بحب وعناية ورائحة الأصالة، يزين موائدنا إلا نادرا. لقد أصبح الاعتماد شبه كلي على خبز المخابز، الذي تحوم حوله الشكوك الصحية، من غياب النظافة أحيانا، إلى استخدام مواد قد تكون غير سليمة، ودقيق أبيض مُكرر يحذر الأطباء من أنه قد يكون أحد الأسباب المساهمة في انتشار أمراض العصر كالسكري. إن الحنين إلى "خبز الأم" ليس مجرد حنين لمذاق، بل هو رمز لتحولات أعمق تمس قلب الأسرة المغربية ودور الأم المركزي فيها.
هذا التحول في عاداتنا الغذائية، المتمثل في غياب "خبز الأم"، ليس إلا وجها واحدا للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي ألقت بظلالها الثقيلة على مؤسسة الأسرة المغربية، وبشكل خاص على الدور الحيوي للأم في رعاية الأبناء وتنشئتهم. فلقد باتت "أمهات العصر" كما أصبح يطلق عليهن يتخلين تدريجيا عن أدوارهن الجوهرية في التربية والرعاية، متأثرات بموجات التغيير التي تجتاح المجتمع.
ويتجلى هذا الانشغال المتزايد بالعالم الرقمي بشكل مقلق، حيث كشف تحقيق ميداني أجراه باحثون من كلية العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس أن نسبة الأمهات اللواتي يقضين أكثر من أربع ساعات يوميا على منصات التواصل الاجتماعي قد ارتفعت بنسبة 73% خلال السنتين الأخيرتين. هذا الانغماس الرقمي أدى بالضرورة إلى تراجع ملحوظ في وقت التفاعل المباشر والحميمي مع الأطفال، ذلك التفاعل الذي كان يمثل جوهر الرعاية الأمومية ونسيج العلاقة الأسرية.
ومن أبرز مظاهر هذا التحول وتأثيره المباشر على نمط الحياة، نجد الاعتماد المتزايد على الوجبات السريعة والأطعمة الجاهزة. لقد أضحت هذه الخيارات بديلا سهلا ومتاحا عن الطهي المنزلي الذي يتطلب وقتا وجهدا لم يعد متوفرا للكثيرات في خضم انشغالاتهن المتعددة، ليحل محل الطبخ التقليدي الصحي الذي كان يميز المائدة المغربية بأطباقه المتوازنة مثل الطاجين والكسكس المحضر بعناية وخضروات طازجة.
ولم يعد الأمر مقتصرا على الخبز، بل طال نمط الغذاء في البيت المغربي ككل. فالوجبات الجاهزة، المليئة بالدهون المشبعة والسكريات المكررة، باتت تحتل الصدارة. ويتأكد هذا التحول الجذري من خلال مشهد المطاعم التي تفيض بالأسر في المدن الكبرى وتضاعف حركة عمال توصيل الوجبات إلى المنازل بشكل لافت، وهو ما يمثل تحولا ثقافيا عميقا في مجتمع كان يعتبر المطبخ قلب البيت وتحضير الطعام فيه قيمة أساسية من قيم الأمومة.
وجه آخر لهذا التحول الاجتماعي يظهر في الاعتماد المتزايد على المدارس الخاصة والحضانات لساعات طويلة تتجاوز الفترة الدراسية المعتادة. فكثير من الأطفال في الأسر المغربية يقضون النهار بأكمله في مؤسسات تعليمية تقدم خدمات "الرعاية الممتدة"، ليعودوا إلى منازلهم في ساعات متأخرة من المساء، منهكين ذهنيا وجسديا، مما يقلص فرص التواصل الأسري الهادئ والعميق.
وفي قلب هذه التغيرات، يبرز إدمان وسائل التواصل الاجتماعي كظاهرة تستحق وقفة جادة. فالأمهات اللواتي كن في الماضي القريب يقضين ساعات في رعاية أطفالهن وتعليمهم وغرس القيم فيهم، بتن اليوم أسيرات الشاشات الصغيرة. هذا الاستغراق في عالم "التيك توك" و"الفيسبوك" و"الواتساب" الافتراضي يترك الأطفال، في كثير من الأحيان، فريسة سهلة للإهمال العاطفي والفكري، حتى وإن كانت الأم حاضرة جسديا.
ومن المفارقات المؤلمة أن هذا التحول يتزامن مع انتشار خطاب "تمكين المرأة" و"المساواة"، الذي قد يُساء فهمه وتطبيقه أحيانا. فبدلا من أن يكون هذا الخطاب داعما لدور الأم في بناء أسرة قوية ومجتمع متماسك، قد يصبح في بعض تجلياته مبررا للتخلي عن مسؤوليات الأمومة الأساسية. يبدو أن البعض وقع في فخ تفسير تحرير المرأة على أنه تحرر من مسؤولياتها الأسرية، بينما الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على الموازنة بين الأدوار المختلفة دون التضحية بجوهر الأمومة والأسرة.
إن هذه التحولات المتشابكة لم تمر دون أن تترك بصماتها العميقة والخطيرة على المجتمع المغربي. فالنتائج الكارثية بدأت تظهر بوضوح، حيث سجلت وزارة العدل ارتفاعا غير مسبوق في معدلات الطلاق، مشيرة إحصاءاتها الرسمية إلى ارتفاع النسبة بنسبة 32% خلال السنوات الخمس الأخيرة. كما تزايدت حالات العنف الأسري بنسبة مقلقة، وظهرت أنماط سلوكية مضطربة لدى الأطفال والمراهقين تعكس حالة من الضياع والإهمال العاطفي الذي يعيشونه.
وعلى الصعيد الصحي، تتوازى هذه المؤشرات الاجتماعية المقلقة مع أخرى لا تقل خطورة. فتقارير وزارة الصحة المغربية تشير إلى ارتفاع مقلق في معدلات الإصابة بالسمنة والسكري بين الأطفال، كما تزايدت حالات الاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب والتوحد الاجتماعي، وهي مؤشرات ترتبط بشكل أو بآخر بنمط الحياة الجديد، بما في ذلك التغذية غير السليمة ونقص التواصل العاطفي الفعال.
فهل يعكس كل ما سبق اختلالا حقيقيا في المنظومة القيمية للمجتمع المغربي؟ هل تراجعت قيمة الأمومة كدور اجتماعي محوري لصالح قيم الاستهلاك والمظهرية والفردانية؟ مما لا شك فيه أن غياب التواصل العاطفي المستمر والعميق بين الأم والطفل في السنوات الأولى من حياته، والذي يتأثر بكل هذه العوامل، يؤدي إلى اضطرابات نفسية عميقة قد ترافقه طوال حياته.
ولكن، من الإنصاف الإشارة إلى أن هذا التحول في دور الأم المغربية لم يأت من فراغ، بل هو أيضا نتيجة لتغيرات اقتصادية واجتماعية عميقة. فارتفاع تكاليف المعيشة وضغوط الحياة الحديثة دفعت الكثير من النساء إلى الانخراط في سوق العمل، ليس فقط بدافع تحقيق الذات، بل كضرورة اقتصادية ملحة للمساهمة في إعالة الأسرة.
غير أن المشكلة الجوهرية لا تكمن في خروج المرأة للعمل بحد ذاته، فهذا حق ومكسب، بل في غياب آليات الدعم الاجتماعي والأسري الفعالة التي تمكنها من التوفيق بين مسؤولياتها المهنية ودورها كأم. فدول كثيرة استطاعت أن تحقق هذا التوازن من خلال سياسات اجتماعية داعمة كإجازات الأمومة المدفوعة، وتوفير حضانات ذات جودة عالية وبأسعار معقولة، ومرونة في ساعات العمل للأمهات، مما يخفف الضغط ويتيح لهن القيام بأدوارهن دون الشعور بالتقصير في أحد الجانبين.
أمام هذا الواقع، بات من الضروري دق ناقوس الخطر والتنبيه إلى ما يتهدد المجتمع المغربي من تفكك أسري وانهيار قيمي محتمل. فالأسرة هي اللبنة الأولى في بناء أي مجتمع، وصلاحها واستقرارها مرهونان بشكل كبير بصلاح دور الأمومة كقيمة ودور اجتماعي محوري. فلا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة أو نهضة حقيقية في ظل تراجع هذه القيمة وانحسار الدور التربوي والرعائي للأم.
وإذا كان طموح الدول السائرة في طريق النمو هو تحقيق التقدم الاقتصادي، فلا يجب أن يأتي هذا التقدم على حساب النسيج المجتمعي والأسري الذي هو أساس كل تقدم حقيقي ومستدام. فلا خير في دواء قد يسبب أعراضا جانبية أخطر من الداء نفسه. إن استعادة دفء "خبز الأم" ليس مجرد حنين للماضي، بل هو دعوة لإعادة التفكير في أولوياتنا وبناء مستقبل لا يضحي بأغلى ما نملك: الأسرة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وفيات جراء الكوليرا بالسودان والإصابات تتزايد في الخرطوم
وفيات جراء الكوليرا بالسودان والإصابات تتزايد في الخرطوم

الجزيرة

timeمنذ 16 دقائق

  • الجزيرة

وفيات جراء الكوليرا بالسودان والإصابات تتزايد في الخرطوم

قال وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم إن الزيادة الأخيرة في معدلات الإصابة بمرض الكوليرا بولاية الخرطوم تتراوح بين 600 و700 حالة أسبوعيا، خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، في ظل تقارير عن وفاة العشرات. وأوضح إبراهيم تجهيز مراكز لعلاج الكوليرا بولاية الخرطوم، إلى جانب العمل على تنقية مياه الشرب، في ظل تحذيرات من تفشي المرض في عموم الولاية. وعزا وزير الصحة انتشار الكوليرا إلى عودة أعداد كبيرة من سكان جبل الأولياء والصالحة إلى مناطقهم، بعد استعادة الجيش السيطرة عليها، دون توفير المياه الصالحة للشرب. وكانت تقارير صحفية ذكرت وفاة 51 شخصًا نتيجة الإصابة بالكوليرا مشيرة إلى أن عدد الإصابات تجاوز ألفي حالة، في حين أفادت شبكة أطباء السودان بوفاة 9 حالات بسبب انتشار الكوليرا ووصول 521 حالة لمستشفى "النو" بأم درمان. كما أطلقت الشبكة نداء عاجلا للسلطات الصحية لتدارك الموقف عقب انتشار وباء الكوليرا وارتفاع حالات الإصابة، داعية السلطات الصحية الاتحادية ووزارة الصحة بالخرطوم لتطهير المناطق العامة وإغلاق الأسواق ومنع بيع الطعام في الطرقات العامة ومنع نقل المياه عبر الطرق البدائية. وناشدت شبكة أطباء السودان المنظمات الإقليمية والدولية للاستجابة العاجلة وتوفير كافة المُعينات الطبية لتقليل خطر انتشار وباء الكوليرا بالخرطوم، بعد أن تسبب في زيادة كبيرة بنسبة معدل الإصابة والوفيات خلال الأسبوع الماضي. إعلان من جانب آخر، أفادت غرفة طوارئ شمال دارفور بوفاة 20 امرأة بمدينة الكومة جراء النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية للولادة الآمنة. يُذكر أن السلطات السودانية كانت ضاعفت من إجراءاتها الاحترازية بعد الإعلان رسميا عن تفشي وباء الكوليرا في محاولة للحد من انتشاره، مشيرة إلى تأثّر 5 ولايات بشكل أكبر. كما تحدثت عن توفير جزء من الميزانيات للولايات لتسيير العمل، ومواصلة الإمدادات عبر متابعة الاحتياجات في الولايات المعنية، مُقرّةً بصعوبة الوضع الصحي.

تقرير أفريقي يزف بشرى سارة لجماهير الهلال بشأن صفقة أوسيمين
تقرير أفريقي يزف بشرى سارة لجماهير الهلال بشأن صفقة أوسيمين

الوئام

timeمنذ 17 دقائق

  • الوئام

تقرير أفريقي يزف بشرى سارة لجماهير الهلال بشأن صفقة أوسيمين

كشف تقرير أفريقي عن مفاجأة بشأن الدولي النيجيري فيكتور أوسيمين لاعب فريق نابولي والذي يقترب بقوة من الانضمام لنادي الهلال خلال فترة الانتقالات الصيفية المقبلة. وكتبت صحيفة 'dailypost' النيجيرية: 'من المتوقع فشل تشيلسي ومانشستر يونايتد في التعاقد مع فيكتور أوسيمين، بعد موافقة الدولي النيجيري على الانتقال إلى ⁧‫#الهلال‬⁩ هذا الصيف لمدة 3 سنوات.. الهلال مستعد لدفع الشرط الجزائي في عقد أوسيمين مع نابولي والبالغ 75 مليون يورو'.

أردوغان: أيام أكثر إشراقًا وسلامًا بانتظار سوريا
أردوغان: أيام أكثر إشراقًا وسلامًا بانتظار سوريا

المناطق السعودية

timeمنذ 17 دقائق

  • المناطق السعودية

أردوغان: أيام أكثر إشراقًا وسلامًا بانتظار سوريا

عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اليوم السبت، اجتماعا رسميا مع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، في قصر 'دولمة بهجة' بإسطنبول، حيث بحث الطرفان العلاقات الثنائية بين البلدين والتطورات الإقليمية والدولية الراهنة. وأكد أردوغان خلال اللقاء تفاؤله بمستقبل سوريا، مشيرا إلى أن 'أياما أكثر إشراقا وسلاما تنتظر البلاد، مع استمرار دعم تركيا لسوريا كما جرت العادة'. وأشار أردوغان إلى أن 'تركيا ترحب برفع العقوبات المفروضة على سوريا من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي'، مشددا على 'أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وحكم البلاد والجيش من مركز واحد'، وفقا لبيان من دائرة الاتصال في الرئاسة التركية. كما أدان الرئيس التركي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية، مؤكدا 'رفض تركيا لهذا العدوان واستمرار معارضتها له على كافة المنابر الدولية'. وشدد أردوغان على أن 'التعاون بين البلدين سيشهد تطورا في مجالات عدة، من بينها الطاقة والدفاع والنقل'، مشيرا إلى أن تركيا ستواصل الوفاء بالتزاماتها تجاه علاقات الجوار والأخوة'. من جهته، أعرب الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خلال اللقاء عن شكره وتقديره للدعم التركي والجهود الحاسمة التي بذلتها أنقرة للمساهمة في رفع العقوبات. وحضر الاجتماع إلى جانب أردوغان عدد من كبار المسؤولين، منهم وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، ووزير الدفاع التركي، يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركي، إبراهيم كالين، ورئيس الصناعات الدفاعية التركي، هالوك غورغون، بالإضافة إلى المستشارين الرئيسيين للشؤون الخارجية والأمن. يشار إلى أنه في فبراير/ شباط الماضي 2025 كان أول لقاء يجمع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في العاصمة التركية أنقرة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store