رفع العقوبات لم يكن مكافأة بل شرطاً للنجاة
من السهل أن نُحمل السياسة مسؤولية الدمار، لكن الأصعب أن ندرك أن الاقتصاد حين يُخنق، يُحول المجتمعات إلى عبوات ناسفة. في سوريا، لم تكن العقوبات الاقتصادية مجرد أداة ضغط على النظام، بل تحولت إلى حصار وجودي ضرب ما تبقى من النسيج الاجتماعي، وأجهز على شرطٍ جوهري للاستقرار: الطبقة الوسطى.
المجتمع السوري، بعد أكثر من عقد من الحرب، لم يعد ساحة حوار بين رؤى سياسية، بل ساحة صراع بين ثلاث طبقات لا تتواصل. طبقة عليا، وهي غالباً من أثرياء الحرب، تعيش فوق المجتمع وتتعامل مع الدولة بوصفها شركة خاصة، تراكم الثروة من أنقاض المؤسسات، ولا ترى في الاستقرار سوى تهديد لاحتكارها. وطبقة فقيرة، منهَكة، لا تملك ترف التفكير أو التنظيم، تُنفق طاقتها في تأمين الخبز، فتكون أكثر عرضة للتهميش أو حتى للتطرف كرد فعل على العوز والخذلان. أما الطبقة الوسطى، التي كانت يوماً ما صمّام الأمان، فقد تآكلت بفعل انهيار الاقتصاد وتدهور التعليم والتهجير، ومعها اختفى الفضاء الذي يسمح بالتعدد، بالاعتدال، وبفكرة الوطن المشترك.
العقوبات، حين عطّلت السوق، لم تسقط النظام فقط، بل أسقطت البنية الاجتماعية التي تسمح بتوازن المصالح وتداول السلطة، وهجّرت الكفاءات، وخنقت المشاريع، وأبقت الناس أسرى لاقتصاد مافيوي مغلق.
ومن هنا، فإن رفع العقوبات لا ينبغي أن يُفهم كمكافأة سياسية، بل كضرورة أخلاقية واستراتيجية لإعادة بناء التوازن المجتمعي. فالاقتصاد، حين يتحرك، لا يُنتج فقط فرص العمل، بل يُعيد الثقة، ويمنح الناس ما يخافون عليه، فيؤمنون بالتعايش بدل الانفجار. الاقتصاد هو السياسة بلغة أخرى، كما يقول علماء الاجتماع السياسي، وهو الذي يخلق المصالح المشتركة، ويفرض المساومة، ويحوّل التعدد إلى تفاهم لا إلى تنازع.
التاريخ القريب يقدم لنا مثالاً مأساوياً في العراق. بين عامي 1990 و2003، أدى الحصار الاقتصادي إلى تفكك الطبقة الوسطى العراقية بالكامل. تفككت المدارس والمشافي، غادرت العقول الجامعات، وانسحب المجتمع من الفضاء العام. وحين جاء الغزو الأميركي، لم يجد مجتمعاً متماسكاً، بل بيئة مثالية لانفجار طائفي دمّر الدولة وأطلق يد الميليشيات. كان الحصار قد مهّد لذلك كله باسم "الضغط الدولي"، لكنه في الواقع أنهى ما تبقى من قدرة المجتمع على النجاة من العنف. على الطرف الآخر من هذا الطيف، تقف خطة مارشال كنموذج مضاد، تبنته الولايات المتحدة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. بدل العقوبات، اختارت الاستثمار في إعادة البناء، ليس فقط في البنية التحتية، بل في التعليم والصحة والمؤسسات الصغيرة، ما أدى إلى استعادة الطبقة الوسطى وولادة ديمقراطيات مستقرة.
تحتاج سوريا اليوم، إلى خطة مارشال على مقاسها، لا بالضرورة من الغرب، بل من الداخل ومن شركاء الإقليم، تقوم على إعادة تحريك الإنتاج، وتمكين المشاريع الصغيرة، وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وفصل الاقتصاد عن الولاءات العسكرية والسياسية.
إعادة الطبقة الوسطى ليست ترفاً برجوازياً، بل ضرورة فلسفية وأخلاقية لأي عقد اجتماعي. فهذه الطبقة هي نقيض التطرف، لأنها لا تملك رغبة السيطرة المطلقة كالطبقة العليا، ولا تعاني من العدم الوجودي كالطبقة الفقيرة، بل توازن المصالح والخوف والواقعية. هي التي ترى في التعايش خياراً، وفي الوطن مشروعاً، وفي الغد إمكانية. العقوبات تطيل عمر النظام القديم، لكنها تمنع ولادة الجديد. ومن دون الطبقة الوسطى، تبقى سوريا جسداً بلا عمود فقري، ودولة بلا مجتمع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

المدن
منذ 3 ساعات
- المدن
رفع العقوبات لم يكن مكافأة بل شرطاً للنجاة
من السهل أن نُحمل السياسة مسؤولية الدمار، لكن الأصعب أن ندرك أن الاقتصاد حين يُخنق، يُحول المجتمعات إلى عبوات ناسفة. في سوريا، لم تكن العقوبات الاقتصادية مجرد أداة ضغط على النظام، بل تحولت إلى حصار وجودي ضرب ما تبقى من النسيج الاجتماعي، وأجهز على شرطٍ جوهري للاستقرار: الطبقة الوسطى. المجتمع السوري، بعد أكثر من عقد من الحرب، لم يعد ساحة حوار بين رؤى سياسية، بل ساحة صراع بين ثلاث طبقات لا تتواصل. طبقة عليا، وهي غالباً من أثرياء الحرب، تعيش فوق المجتمع وتتعامل مع الدولة بوصفها شركة خاصة، تراكم الثروة من أنقاض المؤسسات، ولا ترى في الاستقرار سوى تهديد لاحتكارها. وطبقة فقيرة، منهَكة، لا تملك ترف التفكير أو التنظيم، تُنفق طاقتها في تأمين الخبز، فتكون أكثر عرضة للتهميش أو حتى للتطرف كرد فعل على العوز والخذلان. أما الطبقة الوسطى، التي كانت يوماً ما صمّام الأمان، فقد تآكلت بفعل انهيار الاقتصاد وتدهور التعليم والتهجير، ومعها اختفى الفضاء الذي يسمح بالتعدد، بالاعتدال، وبفكرة الوطن المشترك. العقوبات، حين عطّلت السوق، لم تسقط النظام فقط، بل أسقطت البنية الاجتماعية التي تسمح بتوازن المصالح وتداول السلطة، وهجّرت الكفاءات، وخنقت المشاريع، وأبقت الناس أسرى لاقتصاد مافيوي مغلق. ومن هنا، فإن رفع العقوبات لا ينبغي أن يُفهم كمكافأة سياسية، بل كضرورة أخلاقية واستراتيجية لإعادة بناء التوازن المجتمعي. فالاقتصاد، حين يتحرك، لا يُنتج فقط فرص العمل، بل يُعيد الثقة، ويمنح الناس ما يخافون عليه، فيؤمنون بالتعايش بدل الانفجار. الاقتصاد هو السياسة بلغة أخرى، كما يقول علماء الاجتماع السياسي، وهو الذي يخلق المصالح المشتركة، ويفرض المساومة، ويحوّل التعدد إلى تفاهم لا إلى تنازع. التاريخ القريب يقدم لنا مثالاً مأساوياً في العراق. بين عامي 1990 و2003، أدى الحصار الاقتصادي إلى تفكك الطبقة الوسطى العراقية بالكامل. تفككت المدارس والمشافي، غادرت العقول الجامعات، وانسحب المجتمع من الفضاء العام. وحين جاء الغزو الأميركي، لم يجد مجتمعاً متماسكاً، بل بيئة مثالية لانفجار طائفي دمّر الدولة وأطلق يد الميليشيات. كان الحصار قد مهّد لذلك كله باسم "الضغط الدولي"، لكنه في الواقع أنهى ما تبقى من قدرة المجتمع على النجاة من العنف. على الطرف الآخر من هذا الطيف، تقف خطة مارشال كنموذج مضاد، تبنته الولايات المتحدة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. بدل العقوبات، اختارت الاستثمار في إعادة البناء، ليس فقط في البنية التحتية، بل في التعليم والصحة والمؤسسات الصغيرة، ما أدى إلى استعادة الطبقة الوسطى وولادة ديمقراطيات مستقرة. تحتاج سوريا اليوم، إلى خطة مارشال على مقاسها، لا بالضرورة من الغرب، بل من الداخل ومن شركاء الإقليم، تقوم على إعادة تحريك الإنتاج، وتمكين المشاريع الصغيرة، وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وفصل الاقتصاد عن الولاءات العسكرية والسياسية. إعادة الطبقة الوسطى ليست ترفاً برجوازياً، بل ضرورة فلسفية وأخلاقية لأي عقد اجتماعي. فهذه الطبقة هي نقيض التطرف، لأنها لا تملك رغبة السيطرة المطلقة كالطبقة العليا، ولا تعاني من العدم الوجودي كالطبقة الفقيرة، بل توازن المصالح والخوف والواقعية. هي التي ترى في التعايش خياراً، وفي الوطن مشروعاً، وفي الغد إمكانية. العقوبات تطيل عمر النظام القديم، لكنها تمنع ولادة الجديد. ومن دون الطبقة الوسطى، تبقى سوريا جسداً بلا عمود فقري، ودولة بلا مجتمع.


الديار
منذ 12 ساعات
- الديار
"حماس": دعوة نائب أميركي لقصف غزة نوويا تحريض على الإبادة وجريمة ضد الإنسانية
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب أعربت حركة "حماس" عن إدانتها لتصريحات عضو الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري راندي فاين، التي دعا فيها إلى قصف غزة بالسلاح النووي. واعتبرت الحركة هذه "الدعوة المتطرفة جريمة مكتملة الأركان، ودليلا على العنصرية الفاشية التي تحكم تفكير بعض الساسة الأميركيين، وهو ما يستوجب الإدانة من الإدارة الأمريكية ومن الكونغرس، الذي بات منصة لتبرير جرائم الاحتلال وتشجيعها، عندما استقبل مجرم الحرب نتنياهو". وأضافت: "تمثل هذه التصريحات انتهاكا صارخا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، وتحريضا علنيا على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أكثر من مليوني مدني". وأكد أنه "ورغم هذه الدعوات الوحشية، فإنها لن تُضعف عزيمة شعبنا، ولا إيمانه بعدالة قضيته، بل تفضح مجددا الوجه الحقيقي للاحتلال وداعميه". ووصف فاين في وقت سابق القضية الفلسطينية بـ"الشريرة". وقال: "في الحرب العالمية الثانية، لم نتفاوض على استسلام مع النازيين، ولم نتفاوض مع اليابانيين. لقد استخدمنا القنابل النووية مرتين ضد اليابان من أجل تحقيق استسلام غير مشروط". وأضاف: "ينبغي أن يكون الموقف ذاته في هذا السياق، فهناك خلل عميق جداً في هذه الثقافة ويجب القضاء عليه".

المدن
منذ 14 ساعات
- المدن
"حماس" تندد بتصريحات فاين: تحريض صريح على الإبادة الجماعية
وصفت حركة "حماس"، دعوة النائب الجمهوري الأميركي راندي فاين إلى قصف قطاع غزة بالسلاح النووي، بأنها "جريمة مكتملة الأركان وتحريض صريح على الإبادة الجماعية"، مؤكدة أن هذه التصريحات "تعكس عنصرية فاشية تحكم عقل بعض الساسة الأميركيين". انتهاك صارخ للقانون الدولي وفي بيان رسمي، قالت الحركة، إن "هذه الدعوة المتطرفة تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، وتحريضاً علنياً على استخدام أسلحة دمار شامل ضد أكثر من مليوني مدني في غزة"، داعية الإدارة الأميركية والكونغرس إلى التنديد الفوري بالتصريحات، التي عدّتها "استمراراً لتحول الكونغرس إلى منصة لتبرير جرائم الاحتلال وتشجيعها، لا سيما بعد استقباله مجرم الحرب بنيامين نتنياهو". وأكدت الحركة أن "مثل هذه الدعوات الوحشية لن تضعف عزيمة شعبنا الفلسطيني ولا إيمانه بعدالة قضيته، بل تفضح الوجه الحقيقي للاحتلال وداعميه". وكان عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا راندي فاين، قد دعا خلال مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز"، إلى التعامل مع غزة كما تعاملت الولايات المتحدة مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، عبر قصفها بالقنابل النووية لتحقيق "استسلام غير مشروط". ووصف فاين القضية الفلسطينية بأنها "شر مطلق"، مضيفاً: "في الحرب العالمية الثانية، لم نتفاوض مع النازيين ولا مع اليابانيين، بل استخدمنا القنابل النووية مرتين وهذا ما ينبغي أن يحدث هنا أيضاً". وجاءت تصريحاته رداً على سؤال بشأن جدوى مفاوضات وقف إطلاق النار الجارية في غزة، على خلفية حادثة إطلاق نار في السفارة الإسرائيلية بواشنطن، والتي أسفرت عن مقتل اثنين من موظفيها. إدانة غير رسمية أميركية من جهته، أدان مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (CAIR) بشدة تصريحات فاين، واصفاً إياها بأنها "تحريض على الإبادة الجماعية"، داعياً الكونغرس إلى "إبعاده من جميع اللجان والكتل البرلمانية". وقال المجلس في بيان، إن "تصريح فاين يُمثل أحد أخطر التصريحات وأكثرها إهانة للإنسانية من قبل عضو حالي في الكونغرس، ويُعرض حياة المسلمين الأميركيين والفلسطينيين للخطر المباشر". وكان فاين قد فاز بالمقعد النيابي في انتخابات خاصة بولاية فلوريدا مطلع نيسان/أبريل الماضي، ويُعرف بدعمه الشديد للصهيونية، كما أثار جدلاً خلال حملته الانتخابية بعد مهاجمته خصمه الديمقراطي جوش ويل بسبب ديانته الإسلامية، واصفاً إياه بـ"الجهادي".