
فورين أفيرز: إسرائيل تسعى لغزة بلا غزيين والعالم مشغول بحرب إيران
قال تقرير نشرته مجلة فورين أفيرز إن العالم انشغل مؤخرا بالحرب بين إسرائيل وإيران والمخاوف النووية، وأغفل تقدم المخطط الإسرائيلي لاحتلال غزة، وإن الضغط الأميركي هو العامل الوحيد الذي يمكنه وقف هذا التمدد.
وأكد التقرير أن انشغال العالم بقصف الولايات المتحدة للمواقع الإيرانية النووية أتاح للحكومة الإسرائيلية التقدم في تنفيذ عملية " عربات جدعون"، والاستمرار بتجويع الغزيين دون عواقب.
ووجد الكاتب ماكس رودنبيك -مدير مشروع إسرائيل وفلسطين في مجموعة الأزمات الدولية- أن الحكومة الإسرائيلية تجاوزت أهدافها المعلنة في بداية الحرب من تحرير الرهائن، وهزيمة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وأصبحت الآن تسعى إلى احتلال غزة.
وفي حين تنعم إسرائيل بنجاح حملتها ضد إيران، فإنها تدفع ثمنا فادحا على الصعيد الدولي جراء حربها في غزة، في ظل تصاعد الغضب الشعبي حول العالم وتهديد الاتحاد الأوروبي بوقف اتفاقيات التجارة معها.
ضرورة التدخل الأميركي
ووجد التقرير أن أصوات المعارضة الإسرائيلية ومراقبي الأمن السابقين -بمن فيهم رؤساء المخابرات ومستشارون- أيدوا وقف الحرب، إلا أن ذلك لم يؤثر على قرارات الحكومة.
ولفت إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعرب عن استيائه من استمرار المجاعة في غزة، وطالب بإيقاف الحرب في مكالمة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب أمام ا لمحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
ويرى التقرير أن واشنطن تستطيع -بإرادة سياسية قوية- إعادة فرض وقف إطلاق النار، ووضع حد للتقدم الإسرائيلي، ويمكن أن تشكّل العودة إلى صيغة الهدنة السابقة أساسا للمفاوضات المستقبلية.
وشدد التقرير على أن الضغط الأميركي هو المحور الأساسي لمنع تحقيق أهداف التهجير القسري وتجنب وقوع جريمة حرب في غزة، محذرا من أن غياب الضغط الجدي من الولايات المتحدة سيترك غزة تحت رحمة الحكومة الإسرائيلية وحلفائها المتطرفين.
حرب غذاء
وقال التقرير إن مؤسسة غزة الإنسانية زادت المجاعة سوءا، إذ قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 500 فلسطيني أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع الغذاء، في مشهد غير مسبوق في سياق توزيع المساعدات الإنسانية.
ولفت إلى تقرير سابق أجرته صحيفة نيويورك تايمز أن المؤسسة خططت لتزويد الغزيين بالأطعمة المعلبة فقط، دون توفير الأدوية أو الإمدادات الضرورية الأخرى، وبمعدل ألف و700 سعر حراري يوميا، وهو أقل من المعايير الطبية المعتمدة.
وأضافت المجلة أن تقليص المعونات الإنسانية جاء بعد تدمير الأراضي الزراعية في غزة، مما قضى على معظم مصادر البروتين والخضراوات، كما زادت معاناة المدنيين عمليات نهب منظمة شنتها عصابات تحت حماية إسرائيل.
تهجير قسري
وحسب التقرير، تمت هندسة برنامج المساعدات بهدف تسهيل احتلال غزة، فعلى عكس شبكة المساعدات القديمة التي كانت تشمل عشرات الوكالات ومئات مواقع التوزيع وآلاف العمال المنتشرين في القطاع، وُضعت مراكز الغذاء الجديدة في أقصى جنوب القطاع بهدف إخلاء الشمال تدريجيا.
وأجبرت العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ مارس/آذار 660 ألف فلسطيني على النزوح القسري، وقتل الجيش الإسرائيلي حوالي 5 آلاف فلسطيني، مع تركيز الهجمات على المناطق المدنية لدفع السكان جنوبا.
وخلص التقرير إلى أنه دون تدخل أميركي قوي وحاسم، ستستمر الحكومة الإسرائيلية في تنفيذ خططها العدوانية في غزة، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وسيُحكم على الغزيين بحياة في الخيام تحت رقابة الاحتلال، مع اعتماد كامل على المساعدات الإسرائيلية المحدودة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 30 دقائق
- الجزيرة
سرايا القدس تبث فيديو تفجير آلية إسرائيلية شرقي جباليا
بثت سرايا القدس الجناح العسكري ل حركة الجهاد الإسلامي ، اليوم الجمعة، مشاهد توثق تفجير مقاتليها آلية عسكرية إسرائيلية شرقي مخيم جباليا (شمالي قطاع غزة). وأظهرت المشاهد تجهيز مقاتلي السرايا عبوة أرضية ناسفة وزرعها، ثم ردمها تحت الأرض في الطريق الذي ستسلكه الآلية الإسرائيلية. وتضمنت المشاهد توثيق لحظة انفجار العبوة الناسفة بالآلية الإسرائيلية عبر كاميرا للاحتلال وإصابتها إصابة مباشرة في محيط مسجد رياض الصالحين بجباليا. وكثفت سرايا القدس في الأسابيع الأخيرة نشر فيديوهات عملياتها ضد القوات والآليات الإسرائيلية في شمالي القطاع وجنوبه. وقد دأبت فصائل المقاومة في غزة على توثيق عملياتها ضد قوات جيش الاحتلال وآلياته في مختلف محاور القتال منذ بدء العملية البرية الإسرائيلية في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وظهرت خلال المقاطع المصورة تفاصيل كثيرة عن العمليات العسكرية للمقاومة والتي نُفذت ضد قوات الاحتلال. كما دأبت الفصائل على نصب كمائن محكمة ناجحة ضد جيش الاحتلال كبدته خسائر بشرية كبيرة، فضلا عن تدمير مئات الآليات العسكرية وإعطابها، إضافة إلى قصف مدن ومستوطنات بصواريخ متوسطة وبعيدة المدى.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
كيف حافظ النظام الإيراني على نفسه من السقوط؟
في صباحٍ بارد من شتاء طهران، وبينما كانت الشمس تحاول اختراق الغيوم الثقيلة، وفي شارع "كريم خان زند"، على مقربة من محطة مترو "شهداء هفت تير"، التي سُميت لإحياء ذكرى ضحايا أحد التفجيرات الكبرى التي استهدفت قيادة الثورة الإسلامية في إيران عام 1981 وراح ضحيتها ثلاثة وسبعون مسؤولًا إيرانيا منهم قاضي القضاة آية الله محمد بهشتي، ثاني أقوى الشخصيات في الثورة بعد آية الله الخميني آنذاك، هناك دوّت أولى الهتافات! لم يكن صوتًا واحدًا، بل صدى عشرات الحناجر التي خرجت تصرخ: "امرأة، حياة، حرية". في ذلك اليوم من عام 2022، بدا أن الزمن في إيران يتكسر على نفسه، وأن لحظة تمرد قد اخترقت الجدار السميك للنظام. كان الأمر مخيفًا في إيران. لكن من خلف الشاشات في واشنطن وتل أبيب، جلس محللون ومسؤولون يراقبون المشهد كما لو أنهم يشاهدون نهاية لفصل طويل من العداء. بدا لهم أن الجمهورية الإسلامية، المُثقلة بالعقوبات والاحتجاجات والانقسامات الداخلية، تترنّح على حافة الهاوية. بعضهم كتب بجرأة أن سقوط طهران بات مسألة وقت. البعض الآخر استعاد سيناريوهات العراق وليبيا، ليقترح أن ضربة دقيقة، أو قصفًا جويًا محكمًا، أو حتى خطابًا موجهًا للشعب الإيراني، قد يكون كفيلا بإسقاط كل شيء. غير أن بضعة أشهر فقط كانت كفيلة بقلب تلك التقديرات رأسا على عقب، إذ سرعان ما خفتت جذوة المظاهرات، وخرج المرشد الأعلى علي خامنئي ليقول إن "الأعداء أخطؤوا في حساباتهم مرة أخرى، وهم لا يعرفون هذا الشعب". فما لم يُدركه المحللون في واشنطن وتل أبيب، أو تجاهلوه لانحيازات تخدم الأجندة المسبقة لديهم، هو أن هذا النظام، بكل ما فيه من تعقيد، ليس مجرد واجهة سياسية يمكن تفكيكها من الخارج. بل هو شبكة متداخلة من الأجهزة، والذاكرة، والإيديولوجيا، والمصالح. دولةٌ قائمةٌ على جراحها، وعلى الخوف الجماعي من تكرار الماضي الإمبراطوري، أو من عودة الهيمنة الغربية تحت أسماء جديدة. ولم تكن تلك المرةَ الأولى التي يخطئ فيها الغرب وإسرائيل في تقدير متانة النظام الإيراني، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، راهنت عواصم غربية على أن حرب صدام حسين على إيران، بدعم غربي ضمني، مع العزلة الخانقة، ستُعجّلان بانهيار جمهورية الخميني الوليدة، لكن النظام صمد. وفي عام 2017، قال جون بولتون ، مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس الأميركي دونالد ترامب، إن "ثورة 1979 في إيران لن تبلغ عامها الأربعين"، لكنها بلغت عامها الأربعين وتجاوزته ببضع سنين. ومؤخرا؛ عاد بنيامين نتنياهو وهو يُراهن من جديد على السيناريو ذاته، مُعوّلا على آثار العملية العسكرية التي شنَّتها إسرائيل على إيران فجر 13 يونيو/حزيران الجاري، على أمل أن تفتح الباب أمام حراك شعبي داخلي يقود إلى إسقاط النظام. لم يتردد نتنياهو في توجيه نداء مباشر إلى الشعب الإيراني، داعيا إياه إلى "الوقوف في وجه النظام الاستبدادي"، وانضم إليه عدد من وزرائه وشخصيات نافذة في الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب مجموعة من أبرز صقور السياسة الأميركية المعروفين بعدائهم الشديد لطهران. ويبدو أن الضربات الإسرائيلية تجاوزت في أهدافها النطاق المُعلن، فبينما ركزت التبريرات الرسمية للهجوم على إبطاء تقدم إيران نحو امتلاك سلاح نووي، كشف نمط الضربات نوايا أعمق، تمثَّلت في محاولة إحداث اضطراب سياسي واجتماعي واسع داخل الجمهورية الإسلامية، ولو على المدى الطويل. وقد تجلَّى هذا التوجه في استهداف منشآت ومؤسسات لا تقتصر على الطابع العسكري أو النووي، بل طالت كيانات سياسية مركزية مثل مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، إضافة إلى شخصيات قريبة من المرشد الأعلى. كما شملت الضربات البنية التحتية الاقتصادية الحيوية، بما فيها منشآت الطاقة، فيما يبدو أنه مسعى مُتعمَّد لتضخيم المعاناة الاقتصادية للشعب الإيراني. وقبل ساعات من إعلان ترامب عن وقف هش لإطلاق النار، قصفت إسرائيل مباني مؤسسات أمنية وعسكرية من بينها الحرس الثوري وقوى الأمن الداخلي، بما يشي باستمرار الرهان على أن تؤدي العملية إلى ضرر دائم في قدرات النظام السياسي والأمني في إيران. ورغم أن تصريحات رسمية أميركية سارعت إلى نفي أي نية لإسقاط النظام غداة القصف الأميركي للمنشآت النووية، فإن هذا النفي يمكن فهمه في سياق احتواء رد الفعل الإيراني، ولا يلغي في جوهره الطموحات المتجددة في تل أبيب لإحداث تغيير جذري داخل بنية الحكم، بصرف النظر عن وقف إطلاق النار الذي لم تتضح معالمه بعد. فإلى أي مدى يمكن أن تنجح هذه المساعي؟ وكيف تبدو مناعة النظام الإيراني في مواجهة هذا السيناريو؟ هل تكفي المظاهرات لإسقاط النظام؟ على مدى العقود الثلاثة الماضية، واجهت الجمهورية الإسلامية سلسلة متكررة من موجات الاحتجاج الشعبي، مثل احتجاجات الطلاب عام 1999، التي اندلعت إثر إغلاق صحيفة "سلام" الإصلاحية، وامتدت لتشمل الجامعات في طهران ومدن أخرى. ثم احتجاجات "الحركة الخضراء" عام 2009، التي تُعد من أبرز التحديات السياسية التي واجهها النظام بعد الثورة، إذ اندلعت عقب اتهامات واسعة بالتزوير في الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى فوز محمود أحمدي نجاد، ما أثار غضب مؤيدي المرشحين الإصلاحيين، مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وفي عامي 2017 و2018، اندلعت موجة جديدة من الاحتجاجات ذات طابع اقتصادي، انطلقت من مدن طرفية بسبب الغلاء والبطالة، لكنها سرعان ما اتسعت لتشمل شعارات تطالب بتغيير شامل، وتنتقد جميع أجنحة النظام، بما فيها المحافظون والإصلاحيون على حد سواء. كانت هذه أول مرة تُرفع فيها شعارات مناهضة للمرشد مباشرة في مدن بعيدة عن المركز، مثل كرمانشاه وأصفهان. ثم جاءت احتجاجات الوقود في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي فجَّرها قرار مفاجئ برفع أسعار الوقود بنسبة 200%. وأخيرا، احتجاجات مَهسا أميني عامي 2022 و2023، التي انطلقت بعد وفاة الشابة الكردية أثناء احتجازها لدى أحد مراكز الشرطة. لم تؤد أي من هذه الاحتجاجات إلى الإطاحة بالحكومة أو إلى انقسامات كبيرة في المؤسسة الأمنية الإيرانية، كما حدث في احتجاجات 1979 التي تحولت إلى ثورة شعبية عارمة. كما لم يشمل أي منها درجة التنوع والشمول الاجتماعي الواسعة التي شهدتها الثورة الإسلامية. فبحلول عام 1978، كان هناك تحالف استثنائي قد تشكَّل بين مختلف الجماعات العرقية والطبقية في إيران، ما ترك نظام الشاه دون قاعدة دعم كافية. غير أن اتساع المظاهرات وحده لم يكن كافيا للإطاحة بالشاه، فقد كان أحد العوامل الحاسمة تفكّكَ جهازه الأمني، ورغم أن القوات المسلحة وجهاز السافاك، التي تلقت تدريبها على يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كانت ممولة بسخاء ونجحت في تفكيك الحركات المعارضة قبل عام 1978، فإن السافاك كان أصغر حجما بكثير من الأجهزة الأمنية الحالية التابعة للنظام الإسلامي، إذ تراوحت تقديرات عدد أفراده بين 5000 و60 ألفا في ذروة نشاطه، مقارنة بما يصل إلى 150 ألف عنصر في الحرس الثوري اليوم. ولعل الفارق الأهم ليس في العدد فحسب، بل في البنية التنظيمية. فأجهزة أمن الشاه، بخلاف نظيرتها الحالية، لم تُصمَّم بطريقة تُحصِّنها من الانقسامات الداخلية. على سبيل المثال، كان التجنيد مفتوحا لجميع فئات المجتمع ولم يكُن مؤدلجا، مما جعلها أكثر عرضة للانقسام، وأقل صلابة عند مواجهة حركات جماهيرية واسعة. وقد كانت قادرة على قمع احتجاجات صغيرة وهامشية، لكنها حين واجهت انتفاضة تعكس الطيف السكاني الكامل، انشق عدد كبير من عناصرها وألقوا سلاحهم. منذ اللحظة الأولى، أدرك آية الله الخميني والنظام الجديد أن الأجهزة الأمنية في البلاد تحتاج إلى إعادة هيكلة تضمن لها تماسكا أيديولوجيا، وتمنع تكرار سيناريو السقوط الذي أوصلهم إلى الحكم. ولهذا، أنشئ فوق الجيش والشرطة جهاز أمني موازٍ لترسيخ النظام الثوري، يعتمد على شبكة معقدة من الأفراد ترصد وتتابع أي محاولة لتحدي سلطة الدولة. وفي قلب هذا النظام الأمني تقف قوتان: حرس الثورة الإسلامية، و" الباسيج". ويبلغ عدد أفراد الحرس الثوري ما بين 100 إلى 150 ألف عنصر، وهم مرتبطون أيديولوجيا بالنظام، وقد سُمح للحرس عبر السنوات بتوسيع نفوذه السياسي والاقتصادي ودوره الخارجي، خاصة منذ عهد أحمدي نجاد، مما جعله قوة ذات مصلحة راسخة في بقاء النظام، أيديولوجيا وماديا أيضا. أما "الباسيج" فهي قوة تطوعية يُقدَّر عدد أفرادها بنحو مليون عضو. وقد تأسست عام 1979، وتتميز بمرونة تنظيمية وارتباط أيديولوجي وثيق بالتيار المحافظ. وبالمقارنة مع أي قوة في عهد الشاه، تبدو الباسيج أكثر تجانسا من حيث الخلفية الديمغرافية، إذ تتكون غالبا من أبناء قلب إيران الجغرافي والاجتماعي، مما يمنحها تماسكا أعلى واستعدادا أكبر لحماية النظام ومواجهة أي تهديد له. تندمج وحدات الباسيج في الحياة اليومية للبلدات والقرى التي تنتشر فيها، عبر مشاركتها في مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة، مما يسهم في تعزيز شرعية النظام الاجتماعية. كما تُمكّن هذه البنية التنظيمية وحدات الباسيج من أداء دورها باعتبارها أداة إنذار مبكر، ترصد مؤشرات الاضطراب في المناطق البعيدة عن المركز. وبينما اعتمد الشاه على جهاز أمني مركزي، فإن الباسيج تمنح النظام الحالي ذراعا لامركزية عالية المرونة، قادرة على كشف التهديدات والرد عليها بسرعة. في احتجاجات عام 2022، لم يقتصر دور الباسيج على تفريق المتظاهرين، بل شاركت أيضا في إنتاج سردية مضادة عبر الإعلام المحلي، وخطب الجمعة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تديرها مكاتب الإعلام التعبوي. العمق الاجتماعي والثقافي.. مجتمع لا ينقلب على نفسه إلى جانب الرسوخ الأمني للنظام الإيراني، ثمة نسيج ثقافي وعقائدي متشعب يستند إليه، حيث تمازجت الثورة مع مفاهيم الهوية القومية والكرامة الإسلامية والعداء للغرب، لتشكل ما يمكن تسميته "بالإيمان السيادي"، وهو إيمان يُحاكي المفهوم الغربي للعقد الاجتماعي، لكن بصيغة دينية ومذهبية خاصة وفريدة. لا تُختزل الدولة الإيرانية في كونها مؤسسة حكم، بل يُنظر إليها بوصفها ممثلا لهوية حضارية ومذهبية محفوفة بالتهديدات. وقد استثمر النظام، على مدى أكثر من أربعة عقود، في سردية تتجاوز الأشخاص والسياسات، لتؤسس قناعة مفادها أن أي تهديد للنظام إنما هو تهديد للكرامة الوطنية والإرث الشيعي في قلب الشرق الأوسط. وتلك ليست مبالغة دعائية، بل واقع مُكرَّس في الإعلام والمناهج الدراسية والخطاب الديني، وحتى في التعبيرات الفنية. وقد كانت الحرب العراقية الإيرانية لحظة التأسيس الكبرى لهذا الوعي الجمعي. فالملايين الذين دُفعوا إلى الجبهات القتالية، وعاد بعضهم معاقين أو نقلوا إخوانهم في توابيت، شكَّلوا النواة الصلبة لسردية تعتبر أن الثورة لم تكن نتيجة مساومة سياسية، بل نُسِجَت بالدم، وأن الجمهورية الإسلامية قامت على "جهاد وجودي". إلى جانب التعبئة الأيديولوجية العميقة، أفرزت التحولات الاقتصادية الكبرى منذ الثمانينيات طبقة ترى ضروة من بقاء النظام، سواء من خلال صعودهم في البيروقراطية، أو أعمالهم التجارية والاقتصادية المرتبطة بالحكومة. وهذه الطبقة ليست بالضرورة مؤمنة أيديولوجيا بأفكار النظام، لكنها ترى في استمراره ضمانا لاستقرار مصالحها. ولهذا، لا يمكن اختزال الحديث عن إسقاط النظام الإيراني في موازين القوى العسكرية أو في حجم الغضب الشعبي وحده، بل ينبغي فهمه ضمن هذا التشابك المعقّد بين النظام ومجتمعه، وطبيعة التماسك الداخلي في إيران، لا سيَّما في مواجهة التهديدات الخارجية. حتى الآن، اجتاز النظام اختبارات متعددة للقدرة على البقاء، إلا أن هذا لا يعني أن التآكل غير موجود. فكل موجة احتجاج مرَّت بها إيران أرهقت الأجهزة بلا شك، وكشفت تصدُّعات في بنية النخبة. ومع ذلك، فإن بناء نظام بهذا القدر من التشابك والسيطرة الداخلية يجعل فكرة الانهيار السريع أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع السياسي. الأنظمة لا تسقط من السماء في عام 1991، وبعد نهاية حرب الخليج الأولى، وقف الرئيس الأميركي جورج بوش الأب يحُث العراقيين على الثورة على صدام حسين، مُتوهّما أن نظاما دكتاتوريا أنهكته الحرب سيسقط بسرعة تحت ضغط الشارع. لكنّ ما حدث كان العكس تماما، فقد قُمعت الانتفاضات في الجنوب والشمال بمجازر مُروّعة، خاصة ضد الشيعة والأكراد، في حين بقي صدام مُتربّعا على عرش السلطة لعقد إضافي، حتى عادت القوات الأميركية بنفسها لغزو العراق برا وجوا عام 2003 لإسقاطه. وقد بات من المُسلَّم به وفق تجارب العقود الماضية، أن الحملات الجوية نادرا ما تؤدي إلى إسقاط الأنظمة بمفردها. صحيح أن بعض الحملات ساهمت في تقويض حكومات، مثل قصف حلف شمال الأطلسي ليوغسلافيا عام 1999 أثناء حرب كوسوفو، وفرض منطقة حظر جوي على ليبيا عام 2011، إلا أن العامل الحاسم في الحالتين كان الحراك الداخلي والقوى الفاعلة على الأرض، لا الضربات الجوية وحدها. ويستشهد البعض باستسلام اليابان عام 1945 بعد إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي، بوصفه حالة وحيدة لحملة جوية أسقطت النظام. لكن حتى هذا المثال يُعد إشكاليا، لأن القصف النووي لم يأت من فراغ، بل كان تتويجا لحرب شاملة وطويلة بين الولايات المتحدة واليابان، كما أوضح تحليل أصدره مركز ستراتفور. وحين نجحت التدخلات العسكرية في إسقاط الأنظمة، فإنها نادرا ما أثمرت أنظمةً جديدة تنسجم مع تطلعات القوى الخارجية. فعندما أطاحت الولايات المتحدة بنظام صدام حسين عام 2003، وجدت نفسها أمام فراغ سياسي وأمني سرعان ما امتلأ بقوى ومليشيات وصراعات أهلية، بينما تمدد النفوذ الإيراني في قلب بغداد، على خلاف الحسابات الأميركية. وعندما تدخلت واشنطن ضد نظام طالبان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، أنفقت مليارات الدولارات، ودرَّبت جيشا محليا، وأقامت مؤسسات حكم، ثم عادت طالبان بعد 20 عاما، أكثر تنظيما وانتشارا. تكرَّر السيناريو ذاته في ليبيا، حين تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي عام 2011، وانهار النظام فعلا، لكن لم تنجح أي قوة خارجية في إعادة تركيب الدولة الليبية على نحو يحقق المصالح الغربية. واليوم، يبدو أن بعض الدوائر في واشنطن وتل أبيب تفكر بالمنطق نفسه تجاه إيران، متصورة أن ضربات عسكرية مُحكَمة أو ضغوطا شديدة قد تفتح الطريق لاحقا أمام انهيار النظام. غير أن التجارب السابقة تشير بوضوح إلى أن إسقاط النظام لا يعني بالضرورة القدرة على هندسة نظام بديل يخدم أهداف الخارج. ومع أن احتمال الغزو يبدو بعيدا جدا، خاصة في حال استقرار وقف إطلاق النار، فقد تُفاجأ أي قوة غازية لطهران بموجات مقاومة لا سقف لها، ولا أفق لنهايتها، بشكل تعجز أمامه قدرة واشنطن أو غيرها على الاحتمال أو التحكم. ثغرات رغم التماسك لا تعني نقاط القوة السابق شرحها أن النظام الإيراني بعيدا عن التهديد، أو أنه لا توجد أوجُه هشاشة في بنائه الذي أشرف على نهاية عقده الخامس. فمنذ منتصف العقد الماضي، بدت الانقسامات بين التيارات المحافظة والبراغماتية داخل بنية النظام أوضح من أي وقت مضى. وقد ساهمت الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، الناتجة عن السياسات الخارجية الإيرانية المناهضة للنفوذ الأميركي والإسرائيلي ودعم حركات المقاومة، في مفاقمة الأعباء على الطبقات الوسطى والفقيرة، مع انهيار العملة المحلية، وتفاقم الفقر، وتزايد نسب التضخم، وغيرها من المؤشرات السلبية. لا يضغط هذا الوضع على المجتمع فحسب، بل يترك بصمته كذلك على وعي عدد من نخب النظام، التي بات بعض أفرادها يتبنون مقاربة تقوم على أولوية التوصل إلى اتفاق مع القوى الغربية، ولو تطلَّب ذلك التراجع عن بعض الشعارات الكبرى للثورة، مقابل إعادة دمج إيران داخل النظام الاقتصادي العالمي. وذلك لأن إيران، خلافا لدول مثل كوريا الشمالية، لم يُبنَ اقتصادها على فرضية الانفصال التام عن السوق العالمية، بل تحتاج الجمهورية الإسلامية باستمرار إلى تصدير السلع واستيراد المواد الحيوية، كما تعتمد على استمرار ارتباطها بالمؤسسات النقدية والمالية الدولية، وبأنظمة التحويل البنكي العالمية. ومن ثمَّ، بدأت تتبلور تدريجيا منذ أوائل التسعينيات رؤيتان داخل النظام الإيراني، يروق للبعض أن يسمي إحداهما "المحافِظة" أو "المتشددة"، والثانية "الإصلاحية". ويتبنى المحافظون نهجا عقائديا يقوم على مقاومة الغرب المستمرة بوصفه مبدأ تأسيسيا، ويرفضون أي تنازل باعتباره تفريطا في قيم الثورة، بما فيها الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي لا يزالون ينظرون إليه على أنه خطيئة سياسية ارتكبتها القوى المتساهلة داخل النظام أثناء رئاسة حسن روحاني، ويُحمِّلون هذا الاتفاق مسؤولية تجرؤ القوى الغربية على إيران، واعتقادها بإمكانية انتزاع تنازلات إضافية تحت الضغط. أما الإصلاحيون فيرون أن الانفتاح على الغرب، حتى لو تطلَّب تقليص نفوذ إيران الخارجي أو التخلي عن طموحاتها النووية، بات ضرورة ملحة لإنقاذ المشروع الإيراني، إذ يعتقد هؤلاء أن البلاد تجاوزت في تمدُّدها الخارجي وفي صدامها مع القوى الغربية حدود قدراتها الجيوسياسية والاقتصادية والبشرية. ورغم أن التنافس بين التيارين لا يزال مضبوطا داخل أطر النظام السياسية والأمنية، بما يمنع حدوث انشقاقات أو انفجارات حتى الآن، فإن هذه التوازنات بطبيعتها تظل هشَّة وقابلة للانهيار مستقبلا، إذا ما تراكمت الضغوط أو استجدت متغيرات كبرى. ولكن من جهة أخرى، لم تبرز حتى اليوم أي معارضة سياسية قادرة على تمثيل الشعب الإيراني، أو تقديم بديل حقيقي للنظام. ويُعزَى ذلك جزئيا إلى التماسك الأيديولوجي للنظام، كما يُعزى جزئيا إلى طبيعة الدولة الإيرانية ذاتها، التي لا تتيح مساحة لنمو مؤسسات سياسية معارضة من داخل النظام أو على هامشه، كما حدث في تجارب أوروبا الشرقية قبيل انهيار أنظمتها. والخلاصة، أن إيران -خلافا لما يتوقعه البعض- لا تقف على حافة الهاوية، ولا تنتظر رصاصة الرحمة من السماء، فهي دولة ذات بنية راسخة، تتشابك فيها الأيديولوجيا مع مؤسسات الدولة، والهوية التاريخية مع شبكة المصالح، والجغرافيا مع ذاكرة جمعية ترى في كل تدخل خارجي امتدادا لقرون من الانتهاك والسيطرة. أما الاحتمالية الحقيقية لتغيُّر النظام، فهي مرتبطة بعوامل داخلية في المقام الأول. ومن جهة أخرى، فإن نتائج هذه الجولة من المواجهة العسكرية قد تُفاقم من حدة الخلاف بين طرفي النظام الإيراني، وقد تفتح الباب أمام موجة من التلاوم الداخلي حول نتائج السياسة الخارجية المتصلبة لطهران، وهل بإمكانها التفاهم حول القدرات النووية بدلا من تعرضها للقصف دون قدرة على حمايتها. ورغم أن النظام تغلَّب على موجات الاحتجاجات تلك منذ عام 1979، فإن تزايد وتيرتها وشدّتها في العقد الأخير يكشف عن تحديات في الشرعية السياسية والاجتماعية للسلطة، وهو وهو ما يظهر بجلاء في تراجع المشاركة في الانتخابات الرئاسية عامي 2021 و2024. لا يترنَّح النظام الإسلامي في إيران بالضرورة، لكن الحاجة إلى إصلاحه وتجديده تُلح على الجيل الثاني من رجال الثورة كي يتمكنوا من حماية النظام، وهو إصلاح يُرجَّح أن يأتي من تَدافع الدولة والشعب ومكوّناتهما في الداخل، لا من المؤامرات عليهما من الخارج.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
ظاهرة عصابة أبو شباب.. مشهد أمني تشكل بعد الحرب على غزة
في خضم الإبادة الجماعية التي اندلعت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، برزت في قطاع غزة ظاهرة غريبة وخطيرة: مليشيا محلية تُعرف باسم "عصابة أبو شباب"، يقودها ياسر أبو شباب ، والذي كان حتى ذلك التاريخ سجينا في أحد معتقلات حماس بتهمة تجارة المخدرات. لكن مع اندلاع الحرب والفوضى الأمنية التي رافقتها، وجد أبو شباب طريقه إلى الحرية على نحو غامض، وسرعان ما اختفى عن الأنظار، ليعود ويظهر قائدَ مليشيا مسلّحة تدّعي محاربة "الإرهاب" وحماية قوافل المساعدات في حين تصفها مصادر محلية بأنها عصابة إجرامية عميلة لإسرائيل. أثارت هذه الظاهرة تساؤلات كبيرة: من يقف وراء هذه المليشيا فعلًا؟ وكيف تحوّلت شخصية هامشية من مسجون بقضية جنائية إلى لاعب أمني يتصدر المشهد في جنوب غزة؟ الأهم من ذلك، ما مدى ارتباط ظهور "عصابة أبو شباب" بسياسات أمنية إسرائيلية أوسع تهدف إلى تفتيت النسيج الداخلي الغزّي في سياق الحرب؟ ومع بدء القصف الإسرائيلي المكثف ثم الاجتياحات البرية، انهارت منظومة الأمن الداخلي في قطاع غزة بشكل غير مسبوق. ففي الأيام الأولى للحرب، تعرضت السجون والمقار الحكومية للقصف، مما أدى إلى هروب جماعي للسجناء وبينهم ياسر أبو شباب نفسه الذي كان محتجزًا لدى حماس. في موازاة ذلك، بدأت إسرائيل إحكام قبضتها على مناطق في جنوب القطاع وخاصة بمحاذاة معبر كرم أبو سالم الحدودي. وفي هذه الأجواء المضطربة، ظهر فجأة أبو شباب وعدد من المسلحين في مشهد غريب: مجموعة مدججة بالسلاح تجوب مناطق شرق مدينة رفح وتفرض حواجز على طرق قوافل الإغاثة، أطلقت على نفسها تسمية "خدمة مكافحة الإرهاب" في تلميح إلى تقديم نفسها على أنها قوة أمن محلية ضد الفوضى، لكنها عُرفت شعبيًّا بلقب "عصابة أبو شباب". سرعان ما تبيّن أن نشاط هذه المليشيا جزء من مشهد أمني أوسع تشكل بعد الحرب. فقد اعترفت مصادر في وزارة الدفاع الإسرائيلية ببدء تسليح إحدى العشائر في غزة بهدف "تقليل خسائر الجيش الإسرائيلي وتقويض حكم حماس" . وتبيّن أن هذه العشيرة هي ذاتها جماعة "أبو شباب"، حيث تلقى نحو 100 من مسلحيه أسلحة نارية بينها بنادق كلاشنكوف بعضها من غنائم الجيش الإسرائيلي من مخازن حماس. هذا الاعتراف الرسمي، الذي جاء في مطلع يونيو/حزيران 2025، سلط الضوء على أن مليشيا "أبو شباب" لم تنشأ تلقائيًّا من فراغ الفوضى وحسب، بل قد تكون حلقة في إستراتيجية إسرائيلية أمنية أوسع نطاقًا. فإسرائيل، التي فوجئت بشراسة المقاومة على الأرض، بحثت عن وسائل "غير تقليدية" لتخفيف الضغط عن جنودها عبر تفعيل قوى محلية مناوئة لحماس. أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شخصيًّا هذه المقاربة بقوله: "بتوصية من الأجهزة الأمنية قمنا بتفعيل عشائر في غزة تعارض حماس. وما الخطأ في ذلك؟ فهذا الإجراء ينقذ حياة جنودنا.." هكذا برّر نتنياهو علنًا سياسة دعم فصائل فلسطينية معينة في غزة، رغم أن منتقديه يرون فيها مقامرة خطيرة بمصير القطاع وإشعالًا لنار حرب أهلية داخلية. في هذا السياق، يمكن فهم كيف أصبح أبو شباب -السجين السابق بتهمة المخدرات- أداة في لعبة أمنية أكبر. فخروجه من السجن تزامن مع رغبة إسرائيلية في وجود قوى محلية تملأ الفراغ في المناطق التي تراجعت عنها قبضة حماس مؤقتًا بسبب القتال. وتحت يافطة "العمل الإنساني"، بدأ أبو شباب يقدّم نفسه كـ"حارس لقوافل الإغاثة" القادمة عبر المعابر التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية. لكن سلوك جماعته على الأرض -من إقامة حواجز، والتعرض لشاحنات المساعدات، والاشتباك مع عناصر المقاومة- كشف مبكرا أن القصة أكثر تعقيدًا. لقد ولّد ذلك ظهور فاعل جديد في مشهد الحرب: مليشيا محلية مسلحة، تتحرك في المناطق العازلة تحت عين وربما رعاية الجيش الإسرائيلي، وترفع شعار "مكافحة الإرهاب" بينما تتهمها حماس والسكان بأنها ليست سوى عصابة عميلة تسعى لتقويض الجبهة الداخلية. العلاقات الإسرائيلية الخفية مع المليشيا على الرغم من أن "أبو شباب" نفسه ينفي أي تنسيق مباشر مع الجيش الإسرائيلي -إذ قال في إحدى مقابلاته: "نحن لا نعمل مباشرة مع الجيش الإسرائيلي"- فإن طيفًا واسعًا من الأدلة والمؤشرات يؤكد وجود علاقة غير مباشرة وثيقة بين الجانبين. هذه العلاقة اتضحت مع اعتراف نتنياهو المذكور أعلاه، وكذلك من تقارير إسرائيلية أشارت إلى تزويد "أبو شباب" ورجاله بالأسلحة والموارد. ذكر موقع تايمز أوف إسرائيل نقلًا عن مصادر دفاعية أن إسرائيل سلّمت جماعة "أبو شباب" بنادق كلاشنكوف (بما فيها أسلحة كانت قد استولت عليها من حماس) بموافقة من مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي ( ويبدو أن الهدف المعلن إسرائيليًّا هو استخدام هذه المليشيا كـ"وكيل محلي" لضرب حماس وتخفيف العبء عن الجنود الإسرائيليين. لم تقف الأمور عند التسليح فحسب، بل تشير دلائل ميدانية إلى تنسيق عملياتي ضمني. فقد تداول نشطاء فلسطينيون مقاطع فيديو تُظهر أفراد مجموعة "أبو شباب" يعملون جنبًا إلى جنب مع جنود إسرائيليين في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش بجنوب القطاع. هذه المقاطع -التي تحقق منها صحفيون دوليون- أظهرت "أبو شباب" ورجاله يتحركون بحرية خلف خطوط الجيش الإسرائيلي، وكأنهم جزء من المنظومة الأمنية الجديدة التي تشكلت بفعل الحرب. وقد أكّد جوناثان ويتال، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، هذه الصورة بقوله الصريح: "إن السرقة الحقيقية للمساعدات منذ بداية الحرب نفذتها عصابات إجرامية تحت أنظار القوات الإسرائيلية، حيث سُمح لها بالعمل بمقربة من معبر كرم أبو سالم. وعندما سئل عما إذا كان يعني "عصابة أبو شباب" تحديدًا، أجاب بالإيجاب. أي أن مسؤولًا أمميًّا رفيعًا يقر بأن نشاط هذه العصابة يجري "تحت أعين" الجيش الإسرائيلي وبمعرفته. وهذا يتفق مع ما كشفته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن وثائق داخلية للجيش تفيد بأن القيادة كانت على علم بعمليات نهب المساعدات، بل ودرست خيار تكليف بعض العشائر المحلية بتوزيع الإغاثة بدلًا من الجهات الرسمية رغم معرفة الأمن بأن بعض أفراد تلك العشائر متورطون بالإرهاب وموالون لداعش. ومما عزّز شبهات التواطؤ أيضًا، تدخل الجيش الإسرائيلي مؤخرًا ميدانيًّا لحماية "أبو شباب" من استهداف حماس. ففي مطلع يونيو/حزيران 2025 اندلعت اشتباكات مسلحة في رفح بين مقاومي حماس ومليشيا "أبو شباب"، وحين بدا أن عناصر حماس على وشك تصفية "أبو شباب"، تدخلت وحدة إسرائيلية خاصة لصدهــم. أفاد تقرير لقناة "i24news" الإسرائيلية أن جنودًا إسرائيليين اشتبكوا مع مقاتلي حماس دفاعًا عن "أبو شباب" وأسفر ذلك عن سقوط قتلى من الطرفين. بل إن طائرة مُسيّرة إسرائيلية شنّت ضربة جوية استهدفت مجموعة من مقاتلي حماس خلال الاشتباكات، فيما وُصف بأنه "أول ضربة إسرائيلية هدفها الوحيد مساندة مليشيا "أبو شباب". هذه الوقائع وغيرها دفعت قياديين إسرائيليين معارضين للتنديد علنًا بتلك السياسة؛ فوزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان انتقد الحكومة قائلا إنها "تسلّح مجموعة من المجرمين والفارّين من العدالة المحسوبين على داعش بتوجيه من رئيس الوزراء"، ووصف النائب يائير لابيد الخطوة بأنها "قنبلة موقوتة جديدة في غزة سيوجّه سلاحها في النهاية إلى صدور جنودنا ومدنيينا". على الجانب الآخر، يصرّ أبو شباب في بياناته الإعلامية الموجّهة للخارج على أنه يتحرك بـ"مبادرة وطنية مستقلة" وأن هدفه تأمين وصول المساعدات إلى أهله. وقد ادعى مكتبه الإعلامي في تصريح لوكالة أسوشيتد برس أنه يتعاون مع مؤسسة الغذاء الجديدة (GHF) لتأمين إيصال الطعام والدواء لمستحقيه دون أن يتدخل مباشرة في التوزيع، زاعمًا أن دوره يقتصر على الحراسة الخارجية. كما نفى أي "تنسيق" رسمي مع الإسرائيليين. إلا أن هذه المزاعم تقوّضها الحقائق على الأرض: فمؤسسة GHF (وهي هيئة تمويلية مستحدثة بإشراف أميركي وإسرائيلي لتوزيع الإغاثة) نفسها نفت بشدة أي تعاون مع "أبو شباب"، مؤكدة أنه لا يوجد أي موظف مسلح تابع لها وأن أفراد مجموعة "أبو شباب" ليسوا ضمن كوادرها. وفضلًا عن ذلك، فإن تصريحات "أبو شباب" العلنية كثيرًا ما تتناقض مع أدلة موثقة؛ فهو نفى مثلا سرقة المساعدات زاعمًا "نحن لم نأخذ سوى الحد الأدنى من الطعام والماء للضرورة"، بينما اعترف في مقابلة سابقة مع نيويورك تايمز في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بأن رجاله "دهموا نصف دستة من شاحنات الإغاثة منذ بدء الحرب" مبررًا ذلك بالحاجة لإطعام عائلته. كذلك حاول تبرئة نفسه باتهام حماس بسرقة المساعدات من مناطقها، في حين تتواتر الشهادات من منظمات أممية وعمال إغاثة بأن حماس ليست مسؤولة عن أي تدخل مادي في قوافل الإغاثة، وأن المشكلة الحقيقية تكمن في عصابات منظمة تعمل تحت حماية المحتل. هذه التناقضات عززت صورة "أبو شباب" كـواجهة فلسطينية يتم تحريكها ضمن أجندة إسرائيلية أمنية -ولو بصورة غير مباشرة- لتفتيت وحدة الصف الداخلي وضرب مصداقية حماس بوصفها الجهة الحاكمة في غزة. دور مليشيا "أبو شباب" في تفكيك البنية الداخلية لغزة يرى كثير من المحللين أن أخطر ما في ظاهرة "عصابة أبو شباب" هو دورها في إضعاف البنية الداخلية للمجتمع الغزي وتمزيق لحمته. فمنذ بدء حكم حركة حماس في غزة عام 2007، نجحت إلى حد كبير في كبح سطوة العشائر والجماعات الخارجة عن القانون ضمن مشروعها لضبط الأمن الداخلي. أما الآن، في ظل الحرب، فقد أعيد فتح الباب أمام صعود "أمراء حرب" محليين يمكن أن ينازعوا السلطة القائمة. وقيام مليشيا مسلحة، مدعومة خارجيًّا، بممارسة العنف والتسلط داخل المجتمع يمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة القرار والأمن الأهلي. وقد حذرت مصادر عدة من أن استمرار هذا الوضع قد يدفع غزة إلى شفا حرب أهلية. صحيفة الغارديان وصفت "أبو شباب" بأنه "أول متعاون فلسطيني مع الاحتلال يظهر بشكل معلن منذ بدء حرب غزة، مما قد يشعل مرحلة جديدة بالغة الخطورة من الصراع" على حد وصفها. فوجوده شجّع أو تزامن مع ظهور عصابات أخرى أصغر تتنافس على النفوذ أو تحاول تقليده، مما ينذر باحتمال اصطدام تلك المجموعات بعضها ببعض إلى جانب تصادمها مع فصائل المقاومة الشعبية واللجان الأهلية. هذا السيناريو الكابوسي هو تحديدًا ما سعت إسرائيل على ما يبدو إلى تحقيقه: تفتيت القطاع إلى كانتونات أمنية متناحرة، بحيث تنشغل غزة بصراعاتها الداخلية بدل مقاومة الاحتلال. يشير متابعون إلى أن إستراتيجية إسرائيل الخفية هي "هندسة انهيار اجتماعي في غزة" عبر إطلاق العنان لمليشيات إجرامية ونهب الموارد وتمزيق السلطة المركزية. وفعلًا، بدت المناطق التي تنشط فيها عصابة "أبو شباب" أشبه بـإقطاعية خاصة: رجال ملثمون يفرضون القانون بالسلاح، يقررون من يمر ومن تصل إليه المساعدات، ويرفعون راية بديلة عن راية المقاومة الرسمية. لقد أوجدوا هيكلًا سلطويًّا موازيًّا في بعض الأحياء، مستغلين انشغال حماس بالجبهات الأمامية. وهذا الوضع يذكّر الخبراء بمصطلح "أمراء الحرب" حيث تسيطر جماعات مسلحة على مناطق محددة مستفيدة من الفراغ الأمني. النتيجة المباشرة لذلك هي تقويض سلطة الحكومة المحلية (حماس) وإرباك جهودها الحربية. فبدل أن تركز حماس على مواجهة الجيش الإسرائيلي، اضطرت إلى تخصيص وحدات خاصة لملاحقة هذه العصابات وتأمين وصول قوافل الإغاثة إلى السكان. ففي مارس/آذار 2024، أنشأت حماس فرقة باسم "وحدة السهم" ضمن وزارة الداخلية، مهمتها حماية قوافل المساعدات بالتنسيق مع اللجان العشائرية. لكن تلك الوحدة نفسها تعرضت لهجمات إسرائيلية عندما حاولت اعتراض اللصوص. ورغم ذلك، تمكنت الأجهزة الأمنية الغزية من توجيه ضربات للعصابة؛ إذ أعلنت وزارة الداخلية في غزة مقتل 20 من عناصر العصابات المتورطة في نهب القوافل قرب معبر كرم أبو سالم أثناء عملية أمنية مشتركة مع وجهاء القبائل في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. كما تؤكد مصادر في المقاومة أنها قتلت أكثر من 50 عنصرا من مليشيا "أبو شباب" خلال الأشهر الأخيرة، بينهم شقيق ياسر نفسه وعشرات ممن وُصفوا بـ"لصوص المساعدات". هذه المواجهات المسلحة الدامية داخل الصف الفلسطيني تحمل مؤشرات خطيرة: فدماء الفلسطينيين أصبحت تُسفك بسلاح فلسطيني وبإيعاز إسرائيلي، مما يعني انهيار خطوط حمراء اجتماعية وأخلاقية كانت تحكم الخلافات الداخلية في السابق. إن استمرار هذا الوضع يهدد بإشعال نزاعات ممتدة بين العائلات والعشائر، ويغذي نوازع الثأر والانقسام المجتمعي. وكما قال معلق إسرائيلي محذرًا: "نتنياهو بفعله هذا يصنع قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجوهنا… إنه يخلق في غزة وحشًا قد تصعب السيطرة عليه". ومن ثَمّ فالمحصلة هي تفكيك منهجي لمقومات الاستقرار الداخلي في غزة: سلطة مركزية تترنح، قانون غائب، سلاح منفلت، موارد شحيحة يتنافس عليها أمراء الحرب، وسكان مرهقون ضائعون بين ولاءات متضاربة. هذا المشهد تخطط له إسرائيل عن عمد -وفق محللين- لضمان ألا تقوم لغزة قائمة موحدة يمكن أن تقاوم أو تعيد الإعمار أو تطالب بالحقوق. فغزة المفككة والممزقة داخليًّا هي الهدف النهائي لمن يسعون لإدامة الهيمنة الإسرائيلية ومنع أي كيان فلسطيني موحد في المستقبل. تلك هي الصورة الكارثية التي ينذر بها استمرار ظاهرة عصابة "أبو شباب" وأشباهها. روابط القرى وجيش لحد.. هل يعيد التاريخ نفسه؟ ليست هذه المرة الأولى التي تسعى فيها إسرائيل إلى استخدام قوى محلية فلسطينية أو عربية لضرب حركات مقاومة رئيسية. فالتاريخ القريب يحفل بأمثلة لمحاولات مماثلة تندرج تحت مبدأ "عدو عدوي صديقي". ولعل أبرز تلك السوابق تجربتا روابط القرى في الضفة الغربية أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وجيش لبنان الجنوبي (جيش لحد) في جنوب لبنان خلال ذات الحقبة. لذلك من المفيد استعراض هاتين التجربتين لفهم أوجه الشبه والاختلاف مع حالة "عصابة أبو شباب". بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، سعت لإيجاد قيادة بديلة موالية لها في مواجهة تصاعد نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد انتخابات البلديات عام 1976 التي فاز بها الموالون للمنظمة، رعت سلطات الاحتلال تشكيل هيئات محلية سمتها "روابط القرى" بدعوى أنها هيئات غير سياسية لخدمة المزارعين.لكن الحقيقة أنها كانت واجهة لإحلال زعامات تقليدية موالية لإسرائيل بدل المجالس المنتخبة. تولى مصطفى دودين -وهو وجه عشائري من الخليل- رئاسة هذه الروابط بدعم إسرائيلي. ورغم إغراءات المال والسلاح التي قدمها الاحتلال لأعضاء الروابط لكسب التأييد الشعبي، فإن التجربة فشلت فشلًا ذريعًا. نظر الفلسطينيون إلى أعضاء روابط القرى على أنهم مجرد عملاء وخونة، وأظهر استطلاع في الثمانينيات أن نسبة تأييدهم لم تتجاوز 0.2% من السكان مقابل 86% تؤيد المنظمة. وبحلول 1983 كانت إسرائيل نفسها قد تخلت عنهم بعد أن أصبحوا عبئا عليها. لقد انهارت روابط القرى وغدت في نظر التاريخ مثالا على تفاهة الرهان على العملاء المحليين أمام أصالة الحركة الوطنية. جيش لبنان الجنوبي (جيش لحد) خلال احتلالها لشريط جنوب لبنان (1978-2000)، أنشأت إسرائيل مليشيا محلية بقيادة الضابط المنشق سعد حداد، ثم خلفه أنطوان لحد. تلقى هذا الجيش دعمًا ماليا وعسكريا مكثفًا من إسرائيل، وكان الهدف منه تشكيل قوة لبنانية حليفة تتولى قتال المقاومة (منظمة التحرير ثم حزب الله) بالوكالة عن الجيش الإسرائيلي. استمر جيش لحد قرابة 22 عامًا، خاض خلالها معارك شرسة ضد المقاومة اللبنانية، وارتكب انتهاكات بحق أهالي الجنوب، لكنه فشل في كسب شرعية حقيقية. وبمجرد أن قررت إسرائيل الانسحاب أحاديًّا من جنوب لبنان عام 2000 تحت ضربات المقاومة، انهار جيش لحد كليًّا. هرب المئات من عناصره وضباطه إلى إسرائيل، وتخلى عنهم داعموهم ليواجهوا مصير الخيانة في أعين شعبهم. مثّل انهيار جيش لحد دليلًا آخر على أن العملاء المحليين يظلّون ورقة مؤقتة قد تكون مفيدة تكتيكيًّا لفترة، لكنها لا تستطيع الصمود إستراتيجيًّا ضد إرادة شعبية راسخة. استحضار هاتين التجربتين اليوم يثير تساؤلات ملحة حول مدى واقعية رهان إسرائيل على مليشيا "أبو شباب" وعشائر غزة الموالية لها. فالصحافي الإسرائيلي شيلدون كيرشِنر وصف خطة نتنياهو لتفعيل العشائر ضد حماس بأنها "خمر قديم في قوارير جديدة"، أي أنها تكرار لوصفات قديمة فاشلة. وكتب أن على نتنياهو أن "يتعلم من الماضي"، مذكرًا بأن روابط القرى انهارت تمامًا ولم تحقق شيئًا، وأن جيش لحد لم ينجح في القضاء على حزب الله وانتهى نهاية مخزية. ويضيف كيرشنر أن مغازلة إسرائيل لـ"أبو شباب" اليوم هي "حسابات خاطئة أخرى" تشبه تلك الإخفاقات. فلا هو بقادر على مجاراة قوة حماس شعبيًّا أو عسكريًّا، ولا من الأخلاقي أصلًا التعويل على شخصية "مشبوهة" متهمة بسرقة قوت الجائعين لخدمة أهداف سياسية. بطبيعة الحال، لكل سياق خصوصياته؛ فغزة 2024 ليست الضفة 1980 أو جنوب لبنان 1985. حماس نفسها -بالرغم مما تواجهه من تحديات- تختلف عن منظمة التحرير وحزب الله في ظروف نشأتها وبنيتها التنظيمية. كما أن مجتمع غزة منهك بحصار دام سنوات طويلة وحرب مدمرة، مما قد يغري البعض بقبول أي طرف يعد بتوفير الأمن أو الغذاء. بيد أن الدروس التاريخية تشير بوضوح إلى مآل محتوم للعملاء والمتعاونين. ولعل ما حدث لـ"أبو شباب" نفسه يقدم لمحة: أسرته الكبيرة (وهي من بدو قبيلة الترابين المعروفة) سارعت إلى التبرؤ منه علنًا وإعلان البراءة من أفعاله. لم يشفع له ادعاؤه حماية أهله، ولم تغفر له عشيرته ظهوره في فيديوهات إلى جانب جنود الاحتلال الذين يقتلون أبناء شعبه بدم بارد. قالت عائلته في بيانها الشهير: "لن نقبل بعودة ياسر إلى العائلة، ولا مانع لدينا أن يقوم من حوله بتصفيته فورًا، ودمه مُهدر". هذه اللغة القاسية تعكس الرفض المجتمعي العميق لأي مشروع شبيه بروابط القرى أو جيش لحد. فحتى في ذروة الحاجة والاضطراب، يبقى في الوجدان الفلسطيني خط واضح يفصل بين الاختلاف الداخلي والخيانة. ومن يجتز ذلك الخط يجد نفسه وحيدًا في مواجهة مصيره المحتوم. استغلال المساعدات الغذائية سلاحا سياسيا من أكثر جوانب ظاهرة "عصابة أبو شباب" إثارة للقلق دورُها في توظيف لقمة عيش الغزيين سلاحًا سياسيًّا وأداة ابتزاز. فمنذ الأيام الأولى للحرب، استخدمت إسرائيل سياسة الحصار الكامل ومنع دخول الإمدادات الأساسية إلى غزة للضغط على السكان ومقاومتهم. وبعد نحو شهرين من الحرب، وأمام ضغوط دولية، خففت إسرائيل جزئيًّا قبضتها لتسمح بمرور شاحنات مساعدات عبر معبر كرم أبو سالم إلى القطاع. لكن هذه الالتفاتة الإنسانية الظاهرية سرعان ما شابتها حوادث نهب منظمة لتلك المساعدات على يد جماعات مسلحة محلية. في 16 نوفمبر 2024، تعرضت قافلة مكونة من 109 شاحنات تابعة للأمم المتحدة للسطو بالقرب من معبر كرم أبو سالم، حيث نهبت العصابات 98 شاحنة منها بينما كان جنود الاحتلال في الجوار يتفرجون. شهود عيان ذكروا أن أفراد العصابات رموا القنابل اليدوية وصوّبوا أسلحتهم نحو السائقين لإجبارهم على الوقوف وتفريغ الحمولة. وفي إحدى الحالات روى سائق شاحنة يُدعى عصام أبو عودة لوكالة AP كيف أوقفه مقاتلو "أبو شباب" صيف 2024، فعصبوا عينيه وكبّلوا يديه هو ومساعده ثم سلبوا حمولة شاحنته بأكملها، وكان جنود إسرائيليون على مقربة منهم يشاهدون دون تدخل. مثل هذه الوقائع رسّخت الانطباع بأن المساعدات تحولت إلى غنيمة حرب وأداة سيطرة: فمن يملك الطعام يملك قرار الحياة والموت للآخرين في ظل مجاعة تزحف على القطاع. وقد اتُّهمت جماعة "أبو شباب" تحديدًا بأنها المسؤولة عن الاستيلاء على نصيب الأسد من المساعدات وحرمان المستحقين منها. فبحسب ما نشرته صفحات مقربة من حماس في أغسطس/آب 2024، كان أبو شباب المسؤول عن نهب الغالبية العظمى من المعونات الإنسانية وبيعها بأسعار فلكية في السوق السوداء. ورغم أن تلك الاتهامات صدرت قبل انكشاف دوره للعلن، فقد أكدتها لاحقًا تقارير دولية موثقة. إذ كشف تقرير داخلي للأمم المتحدة -سُرّب إلى صحيفة واشنطن بوست- أن "أبو شباب" ذُكر بالاسم في مذكرة أممية بأنه أبرز المتورطين في سرقة المساعدات "تحت حماية فاعلة أو سلبية من الجيش الإسرائيلي". كما صرّح فيليب لازاريني، المفوّض العام للأونروا، بأن حادث النهب الجماعي ذاك كان "من أسوأ الحوادث على الإطلاق"، وحمّلت الأونروا نهج السلطات الإسرائيلية مسؤولية انهيار القانون والنظام. بعبارة أخرى، حوّلت إسرائيل وعملاؤها الإمدادات الغذائية إلى سلاح لإخضاع غزة: إما بالحرمان المباشر عبر الحصار، أو بالسماح بوقوعها في أيدي جماعات موالية تنتقي من يستحق الغذاء ومن يُترك للجوع. View this post on Instagram A post shared by الجزيرة نت (@ وعمدت إسرائيل أيضًا إلى خصخصة توزيع الإغاثة عبر كيان جديد هو " مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) في التفاف على وكالات الأمم المتحدة التي كانت تتولى المهمة. لكن سرعان ما تبيّن أن هذه المؤسسة صارت جزءًا من لعبة السيطرة السياسية على الغذاء. فوفق تحقيق لموقع "972mag+" أصبح وصول المعونات عبر "GHF" مشروطًا بتسجيل المستفيدين في قواعد بيانات بيومترية وإجراءات "تدقيق سياسي". أي أن المحتاج في غزة أصبح عليه أن يقدّم ولاءه وربما بياناته الحيوية كي يحصل على كيس طحين! ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن مسلحي "أبو شباب" تولوا حماية مراكز التوزيع الخاصة بـ"GHF" في رفح وخان يونس، مما يعني أن تلك المراكز أصبحت عمليًّا تحت رحمتهم. وقد وصف شهود عيان مشاهد مأساوية في مواقع التوزيع: آلاف المدنيين الهزيلين محشورون خلف أسلاك شائكة وتحت شمس حارقة، يراقبهم مقاولون مسلحون بزي أميركي تكتيكي، وأبو شباب نفسه يقف بزي عسكري جديد وخلفه لافتات دعائية تسمي مجموعته "قوة مكافحة الإرهاب". لقد بدا الأمر أشبه بـمخيمات اعتقال يقدم فيها الحد الأدنى من الغذاء المراقَب كوسيلة للسيطرة. ولم تمض أيام على بدء عمل "GHF" حتى استقال مدير المؤسسة التنفيذي السويسري محتجًا على "انتهاك المبادئ الإنسانية"، وطالبت منظمات سويسرية بالتحقيق في شبهات حولها، حتى إن بعض السياسيين الإسرائيليين اتهموها بأنها مجرد "واجهة للموساد" تبدد مئات ملايين الدولارات دون جدوى. هذا الوضع الشاذ جعل المدنيين الغزيين أمام معادلة مستحيلة: فإما انتظار دورهم في طوابير الإغاثة التقليدية تحت إشراف الأونروا، وهي طوابير تتناقص موادها بسبب عراقيل الاحتلال ونهب العصابات؛ أو المجازفة بالذهاب إلى مراكز "GHF" التي يؤمّنها أبو شباب للحصول على علبة غذاء قد يدفعون ثمنها كرامتهم وربما حياتهم. وفي الحالتين الجوع سيد الموقف. لقد أكد عامل إغاثة تركي من مؤسسة "IHH" أن هذه ليست مسألة منع المجاعة فحسب، بل إبقاء الناس على حافة الحياة بحيث لا يموتون سريعًا ولكنهم لا يقوون على المقاومة. وأشار إلى أن معدل استهلاك الطعام اليومي للفرد الغزي هبط في نوفمبر 2024 إلى ما بين 187 و454 غرامًا فقط، أي أقل من رغيف خبز، وهذا "كارثي بكل المقاييس". وفي مايو/أيار 2025 تفاقمت الأمور لدرجة أن المخابز بدأت تغلق أبوابها بسبب نفاد الطحين الذي صار سعر الشوال منه 1500 شيكل (425 دولارًا). إنها سياسة تجويع متعمدة -هكذا يلخصها العامل الإغاثي- تهدف لإبقاء الناس على قيد الحياة، ولكنهم منهكون جدًّا عن المقاومة. التبعات على سكان غزة تسبب ظهور "عصابة أبو شباب" وما رافقه من أحداث في صدمة نفسية واجتماعية عميقة لدى المجتمع الغزي. فإلى جانب أهوال القصف والقتل الجماعي الذي تعرض له المدنيون على يد الاحتلال، وجد الناس أنفسهم أمام تهديد من نوع جديد يأتي من الداخل. إن فكرة أن أبناء بلدهم قد يكونون متواطئين مع العدو في تجويعهم وقتلهم هي فكرة مفجعة ومربكة للقيم الاجتماعية الراسخة. لعقود طويلة، ورغم كل الانقسامات السياسية، بقي هناك إجماع فلسطيني عام على رفض الاحتلال ومن يتعاون معه. ظهر ذلك جليًا إبّان الانتفاضة الأولى والثانية، حيث نُبذ العملاء اجتماعيا وتعرضوا لأقسى العقوبات. واليوم، عودة هذه الظاهرة بشكل مليشيا مسلحة تروّع الناس وتمتلك نفوذًا، تعني إحياء أسوأ كوابيس الحرب الأهلية والخيانة في وعي الغزيين. أولى التبعات كانت تفشي مشاعر الخوف وانعدام الثقة. الكثير من المدنيين أصبحوا يتساءلون بمرارة: من يحمينا إذا كان بيننا من يسرق قوت أطفالنا ويتآمر مع المحتل؟ عندما يشاهد السكان مقاطع فيديو لـ"أبو شباب" ورجاله مع جنود إسرائيليين، يولّد ذلك إحساسًا بانهيار الحدود بين الصديق والعدو. حتى لغة التخاطب الاجتماعي تغيّرت: صار لقب "عميل" و"متعاون" يُتداول بكثرة مجددًا، وعادت ذاكرة الانتفاضة إلى الأذهان حيث كان يُنظر إلى هؤلاء على أنهم "أهداف مباحة". وقد عبّر أهالي غزة عن غضبهم بتصرفات جماعية، مثل طرد ونبذ أسر عناصر العصابة من محيطهم، والتبرؤ العلني الذي قامت به عائلة "أبو شباب" نفسها كما أسلفنا. هذه الإجراءات العشائرية تهدف لحماية النسيج العائلي الأوسع من عار الخيانة، لكنها أيضًا تفتح الباب أمام نزاعات ثأر داخلية. فعائلة "أبو شباب" أعطت ضمنيًّا الضوء الأخضر لقتل ابنها بأيدي أهل غزة، مما يعني أنها تنفض يدها من حمايته، وبالفعل، تسود حالة ترقب لتصفية الحساب معه ومع أفراد عصابته، سواء بأيدي المقاومة أو حتى بعض أفراد قبيلته المستائين مما فعله، لكن ذلك لا يمنع وجود من سيثأرون لأعضاء تلك المليشيا. وهذا الوضع يضع ضغوطًا نفسية على الكثيرين: الخوف على المستقبل من اقتتال داخلي دموي، والخوف الشخصي من الانتقام المتبادل، والشك بين الناس حيال ولاءات بعضهم. نفسيًّا، يعاني سكان غزة من تزايد في مستويات الصدمة والاضطراب. فالحرب الإسرائيلية الشرسة تسببت أصلًا في معاناة جماعية هائلة (استشهاد أكثر من 55 ألف فلسطيني وإصابة عشرات الآلاف، إضافة إلى تشريد مئات الآلاف). وجاءت أزمة المعونات والاقتتال الداخلي لتعمّق الجرح. مشاهد الأطفال الجوعى الذين ينامون بلا عشاء، والشيوخ الذين يُضربون على طوابير الخبز، والنساء المذهولات من هول ما يجري حولهن، كل ذلك يترك أثرًا لا يُمحى في الذاكرة الجمعية. المنظمات الإنسانية حذرت مرارًا من كارثة صحية ونفسية تصيب جيلًا كاملًا في غزة بسبب سوء التغذية والصدمة النفسية. فالأمهات والآباء يشعرون بالعجز والإهانة لأنهم غير قادرين على تأمين أبسط احتياجات أطفالهم، وبعضهم رأى أطفاله يمرضون أو يموتون أمام عينيه بسبب الجوع أو نقص الدواء. وفي الوقت نفسه، يُشاهدون شاحنات المساعدات -التي يفترض أنها طوق النجاة- تُنهب وتباع محتوياتها في السوق السوداء. هذا المشهد العبثي يولد الغضب المكتوم والإحباط، وقد يدفع ببعض اليائسين إلى سلوكيات خطيرة أو إلى التشكيك في قيمة التضحية والصمود. إنها بالضبط النتيجة التي أرادها مهندسو الفوضى: مجتمع منهار نفسيًّا، تسوده الفتن، وينشغل بلقمة العيش عن أي قضية أخرى. مع ذلك، ورغم كل هذه الآلام، أظهر الغزيون أيضًا قدرًا مذهلًا من الصمود الاجتماعي. فقد تداعى وجهاء العشائر والمجتمع المحلي لدعم جهود حفظ النظام ومنع تفشي الفوضى. كثير من العائلات الكبيرة شكّلت لجانًا أهلية لحماية أحيائها ومنع اللصوص من الاقتراب منها. ونظمت حملات تطوعية لإغاثة المنكوبين بالتشارك والتكافل بدل انتظار المعونات الرسمية المعرقلة. وعلى المستوى النفسي، يرى اختصاصيون محليون أن الشعور بالظلم المشترك ورؤية بشاعة الدور الإسرائيلي في إثارة الفتن ولّد لدى الناس نوعًا من المناعة المعنوية. فبدل أن ينزلق معظمهم إلى صراع داخلي أعمى، نرى غالبية الأهالي تردد أن "هذه فتنة من صنع الاحتلال" وترفض الانجرار وراءها. وهذا يمنح بارقة أمل في قدرة المجتمع على التعافي وإفشال مخطط تفتيته، إن تضافرت الجهود القيادية والشعبية لإزالة هذه الظاهرة من جذورها. أخطار الظاهرة ومآلاتها المحتملة مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني، تتكشف أبعاد ظاهرة "عصابة أبو شباب" لتكون من أكثر تداعيات هذه الحرب خطورة وتعقيدًا. فهي ليست مجرد حادثة عابرة لفرار مجرم وتكوينه عصابة في زمن الفوضى، بل تبدو أقرب إلى مشروع مُوجّه لهدم البيت الفلسطيني من الداخل. لقد نجح أبو شباب -ولو إلى حين- في أن يكون أداة صغيرة ضمن لعبة كبيرة، مساهمًا في تكريس سياسة "فرّق تسد" التي راهن عليها الاحتلال. لكن التاريخ -وكذلك الحاضر- يعلّمنا أن مثل هذه الأدوات تحمل في طياتها بذور فنائها. فمصيرها المحتوم إما التآكل تحت ضربات المجتمع الذي يلفظها، أو الانتهاء بانتهاء الغرض منها ليتم التخلص منها كحجر شطرنج خاسر. جميع الشواهد تشير إلى أن نهاية عصابة "أبو شباب" وشيكة: فحماس لن تهدأ حتى تقضي عليه، وعائلته نفسها تريده ميتًا، والفصائل مجمعة على اجتثاث عصابته. وربما يدرك بعض أفراد العصابة ذلك؛ إذ أفادت تسريبات بأن عددًا من معاونيه يحاولون الاتصال بوسطاء لتأمين خروجهم من غزة مقابل معلومات تمامًا كما فعل كثير من عملاء روابط القرى وجيش لحد في نهاياتهم. لكن المسألة تتجاوز شخص ياسر أبو شباب إلى أخطار أعمق على المدى البعيد. فحتى لو انتهت هذه العصابة اليوم، فإن آثارها الاجتماعية والنفسية ستحتاج إلى وقت لتضميدها. كما أن نجاح إسرائيل في استغلال ثغرات داخلية فلسطينية يشير إلى احتمال تكرار المحاولة بأساليب أخرى مستقبلًا. لقد أظهرت هذه الحرب أنه مع الحصار والتجويع يمكن أن تنفجر داخل المجتمع أزمات أخلاقية خطيرة. لذا، فمن التوصيات الأساسية التي يطرحها المراقبون ضرورة معالجة جذور الهشاشة الداخلية: عبر تعزيز الوحدة الوطنية، وردم فجوات الثقة بين الفصائل، وتحسين آليات الرقابة والمحاسبة لمنع تسلل الفساد أو العملاء إلى الصفوف. وكذلك لا بد من إصلاح القطاع الأمني والقضائي في غزة بعد الحرب لضمان عدم تفشي الجريمة المنظمة مستقبلًا، فلو كانت أجهزة الأمن والشرطة في وضع أقوى لما تجرأت عصابة كهذه على الظهور أصلًا. على الجانب الآخر، على إسرائيل أن تعي دروس الماضي والحاضر: سياسات تغذية الفوضى وإن بدت ناجحة ظرفيًّا هي سيف ذو حدين. صحيح أنها أضعفت عدوها (حماس) مؤقتًا من الداخل، لكنها زرعت بذور فوضى قد ترتد على أمنها الإقليمي في المدى الأبعد. كما أنها -أخلاقيًا- تهدد بتجريد إسرائيل من مبرراتها الأمنية المعلنة، إذ تظهرها كمن يطيل أمد معاناة المدنيين عمدًا ويستخدم تجويعهم كتكتيك حرب. وقد رأينا بالفعل كيف بدأت الانتقادات تتصاعد دوليًّا وداخليًّا لهذه الممارسات. إن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى بتقوية المجرمين والعملاء؛ هذه رسالة ينبغي للعقلاء في إسرائيل استيعابها إن أرادوا سلامة مستقبليّة. في المحصلة، يقف سكان غزة اليوم على مفترق طرق مصيري. فإما أن يتم تجاوز هذه المحنة بتكاتف داخلي يعالج آثارها ويمنع تكرارها، وإما أن تترك ندوبًا دائمة في جسد المجتمع الغزي تضعفه أمام التحديات المقبلة. ولعل بصيص الأمل يأتي من رصانة الوعي الشعبي وحنكة الكثير من القيادات الميدانية التي أدركت فخ الفتنة ونجحت إلى حد كبير في محاصرته. لقد أثبت الغزيون مرارًا قدرتهم الأسطورية على النهوض من تحت الركام، وهذه المرة أيضًا سيحتاجون إلى تلك القدرة وأكثر.