logo
فتح مصر.. ماذا قال عنه عباس محمود العقاد؟

فتح مصر.. ماذا قال عنه عباس محمود العقاد؟

اليوم السابع٠٩-٠٦-٢٠٢٥

تمر اليوم ذكرى وقوع آخر معاقل الروم في مصر على يد عمرو بن العاص ، وذلك في 9 يونيو من سنة 641، وتناولت كتب كثيرة فترة فتح مصر، ومن ذلك ما قاله عباس محمود العقاد في كتابه "عمرو بن العاص":
تقدم العرب إلى الديار المصرية، وبينهم وبين عدوهم فروق كثيرة فى العدد والعدة والحضارة والعقيدة، من الفضول أن نعرض لحصرها فى هذا المقام، ومن الإسهاب فى غير موضعه أن نتتبع أصولها ونتعقب فروعها فى تاريخ الأمتين.
فإنها لتجتمع كلها فى فرق واحد يغنى من وعاه عن كل تفرقة بعدها، مسهبة كانت أو مقتضبة، وهو الفرق بين قوم ضيعوا كل ثقة فى النصر، وقوم ضيعوا كل شك فيه وآمنوا بحقهم فى النصر كل إيمان.
ضاعت ثقة هرقل فى نفسه، وضاعت ثقة الروم فى صلاحهم للحكم، وضاعت ثقة الأعوان فى صلاح العاهل والدولة، ولم تبق لهم إلا بقية من تمسك يقيمها الخوف من عقاب الرؤساء، ويوشك أن يذهب بها خوف أعظم منه وهو الخوف من بأس المغيرين!
ومن الجانب الآخر ملك العرب كل ثقة بالنصر وكل إيمان بحقهم فيه، واطمأنوا إلى خليفة قوي، وقائد قوي، وصبر قوى على كل بلاء! وعلم عدوهم هذا منهم فوصفهم بعد رؤية وخبرة بأنهم «قوم الموت أحب إليهم من الحياة! والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة! ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة!»
ومع هذا الفارق الذى هو خلاصة جميع الفوارق، لم تكن الثقة وحدها هى العدة التى رجح بها العرب وانخذل بها الروم، بل ظهر من تقابل الفريقين فى شتى المعارك أن العرب كانوا أخبر بفنون القتال — ولا سيما فى المفاجأة — من قادة الروم الذين كلوا وكلت عقولهم بالإهمال والاستنامة إلى الترف والغرور.
فقد كان عمرو يوجه خطط القتال كما يشاء منذ تخطى الحدود وأوغل فى جوف البلاد، وكان يضطر أعداءه إلى تبديل خططهم وتحويل معسكراتهم كلما تحرك فى الشمال أو الجنوب حركة مفاجئة لا يدرون ما يعقبها، فبينما هم يتجمعون فى الفيوم إذا هو يزحف إلى منف شمالًا، ويوهمهم أنه موغل فى الجنوب إلى تخوم النوبة، وقد أعانه على المفاجأة خفة العدة وقلة الزاد وسرعة الخيل العربية فى سهول الريف ورمال الصحراء، ومن هذه المفاجآت البارعة تلك المفاجأة التى دهم بها الروم عند الجبل الأحمر، وفقدوا بها جيشًا يقارب عشرين ألفًا لم يبق منه إلا بضع مئات، وكان قائدهم «ثيودور» قد خرج للقاء عمرو عند عين شمس، فاستعد له عمرو بقلب جيشه، وأقام من جناحيه كمينًا عند الجبل الذى يلى المكان المعروف بالعباسية الآن، وكمينًا آخر عند «أم دنين» حيث قامت الأزبكية الحديثة، واستمر القتال بين الجيشين، والروم يحسبون أنهم يواجهون الجيش العربى كله، ويستنفدون الجهد أجمع فى الغلبة عليه، فما راعهم إلا الجيشان الكمينان ينقضان على حين غرة، فيبتعد الأمل القريب ويدب اليأس فى مكانه إلى القلوب، ويرجع القوم بثلاثمائة مشردين من ألوف ربما تجاوزت العشرين!
وكلما خطر للروم أن يأخذوا العرب بحيلتهم ويرتدوا عليهم بمفاجأة من مفاجآتهم، حبطت الحيلة فى أيديهم ووجدوا العرب أيقاظًا لهم كأنهم كانوا على علم بنياتهم ومكائدهم، فما خرجوا من معاقلهم المحصورة فى ليل ولا نهار ليدهموا العرب على غرة، إلا تجمعت لهم أهبة الجيش كله فى لحظات معدودات، فإذا هم المأخوذون بما دبروه، كأنهم سيقوا على كره منهم إلى شرك منصوب.
فالعرب لم ينتصروا اتفاقًا ولا جزافًا، ولكنهم انتصروا بخير ما يكفل النصر للمجاهدين: بالثقة والخبرة، ثم بشيء آخر يعين الثقة والخبرة أيما عون فى الميادين البعيدة عن ديار المعسكرين المقاتلين، وهو اطمئنان العرب إلى أهل البلاد من حيث خَشِيهم الروم وتوقعوا منهم كل مكروه؛ لأن العداء بين المذهب الملكى — وهو مذهب الروم — والمذهب اليعقوبى — وهو مذهب القبط — لم يدع مكانًا لتوفيق بين الكنيستين، ولم يبق فى النفوس بقية للرحمة ولا للصلح والهوادة، وبلغ من لدد هذا العداء أن الروم أمهلوا ثلاثة أيام للخروج من حصن بابليون، فقضوا يومًا منها فى تعذيب القبط وتقطيع أيديهم وأرجلهم ليتركوهم فى حالة لا يفرغون فيها لشماتة بعدوهم المهزوم.
نعم، إن التضارب كثير فيما كان من موقف القبط بين حكامهم الروم، وبين المسلمين المغيرين على أرضهم، ولكنه تضارب لا غرابة فيه، ولا موجب لاتخاذه دليلًا على كذب الأخبار فى جملتها، ولا لتقييد المؤرخ بترجيح قول منها على قول؛ فإن التضارب حالة لا محيص عنها فى الموقف كله، وفى أقوال المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد زمن طويل أو قصير.
فكراهة القبط للروم ثابتة لا جدال فيها ولا يتطرق الشك إليها، فإذا جاء فى بعض التواريخ أنهم أظهروا المودة للعرب، وجاء فى تواريخ أخرى أنهم لبثوا على موالاة الروم إلى ما بعد الهزيمة الحاسمة، فليس سبب ذلك أنهم أحبوا أولئك وكرهوا هؤلاء، ولكنما السبب أنهم ترقبوا جلاء الموقف بين الجيشين المقاتلين، وأنهم كانوا يعملون متفرقين، لامتلاء البلاد بالمعسكرات التى تقطع الصلة بين أجزائها، فيكون قوم منهم على مقربة من جند الروم تارة ومن جند العرب تارة أخرى، ويكون الأقوام المتفرقون على نية متشابهة وأعمال متخالفة على حسب الحوائل والأحوال.
وعلينا أن نترقب تضاربًا كهذا فى أكثر الأخبار التى تصل إلينا عن فترة الفتح، وعن حركات الجيوش ومفاوضات الصلح فى خلالها.
فمن العبث أن نجزم باستحالة حركة من هذه الحركات قياسًا على أعمال الجيوش التى جرى بها العرف فى غير هذه الأحوال؛ لأن الاستحالة والجواز إنما يحسبان هنا بحساب لا يتكرر كثيرًا فى جميع الحروب.
ففى غير هذا «الفتح» يجوز مثلًا أن يسأل السائل: كيف استطاع عمرو بن العاص أن يترك حصن بابليون ويوغل فى الصعيد، ومن ورائه جيش أعداء يقطع عليه الرجعة ويحصره حيث كان؟ ويجوز تبعًا لذلك أن نستبعد الحركة كلها ونحسبها من تلفيق المؤرخين.
ولكننا إذا اصطنعنا هذا القياس هنا، وجب أن نستبعد الفتح كله من ألفه إلى يائه؛ لأن أربعة آلاف مقاتل يتفرقون من العريش إلى بابليون لا يفتحون قطرًا يسكنه شعب كبير وتحميه دولة كبيرة، فإن لم يتفرقوا وساروا جميعًا إلى حصن بابليون، فقطع الرجعة عليهم أيسر الأمور لو سارت الحركات العسكرية على المألوف فى سائر الحروب، وما أعجب حصر الإسكندرية مثلًا وهى مفتوحة من البحر إلى القسطنطينية! وما أعجب التقصير فى إمدادها خلال الفتح كله، وهو أول ما يخطر على بال!
فالحساب فى هذا الفتح غير الحساب فى سائر الفتوح.
وأولى أن يقال: إن جند الروم — لا جند العرب — هم الذين كانوا على حذر من الإيغال فى جوف البلاد ومن إحداق الأعداء والرعية بهم فى مأزق غير متوقع، فالتناقض فى هذه الأخبار وما شابهها هو طبيعة الموقف التى لعلها توجب الميل إلى قبولها ولا توجب الشك فيها، وعلينا كما أسلفنا أن نترقبه فى كل شيء، وفى كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ العجيب، وقد نستغنى عن تعداد شواهده الكثيرة إذا أضفنا إلى ما أسلفنا تناقضًا آخر نحتم به هذه الملاحظة التى لا بد منها، وهو التناقض الذى أحاط باسم الوالى الرومانى الذى تلقى العرب ثم صالحهم على تسليم البلاد، فمن هو «المقوقس» هذا، وما حقيقة الأمر فيه؟ أهو رومانى أو مصري؟ وهل هو من رجال الحرب أو من رجال الدين؟ وهل كان محبوبًا فى شعبه أو كان مبغضًا إليه؟
قيلت جميع هذه الأقوال فيما كتبه العرب والرومان، ولكنه فى أرجح الأقوال — كما سيأتى تفصيله — رجل من غير الروم ومن غير المصريين الأصلاء الأقدمين، تولى من قبل هرقل سلطانًا دينيًّا مقرونًا بسلطان الدنيا، ومضى فى سياسته على سنة النهازين للفرص من خدام الدول المتداعية، فأغلظ للشعب الضعيف مرضاة للسادة الأقوياء، ثم بدا له أن سادته الأقوياء ذاهبون، فأحب أن يستقل بكرسيه، وأن يأوى إلى جناح الفاتحين لعلهم يشكرون له صنيعه، ويحمونه من أعدائه فى مصر والقسطنطينية.
ذلك هو أقل الغرائب فى وصف هذا الرجل الغريب، ولكنه على ذلك ليس بالوصف القاطع الوثيق، وأوثق ما يقال عنه: إنه رجل كان يرهن مصيره بمصير البلد الذى أقام فيه.
•••
تقدم عمرو من طريق الساحل إلى العريش، فلم يجد بها أحدًا يصده من قبل الروم، ثم تقدم إلى «الفرما» فحاصر حاميتها واستولى عليها فى أقل من شهرين، ثم مضى فى طريقه حتى نزل بلبيس، فهزم بها جيشًا رومانيًّا يقدره بعض المؤرخين بثلاثة أضعاف الجيش العربي، وانقض من ناحية الصحراء على «أم دنين» فاستولى عليها، وجاوزها إلى حصن «بابليون»، أو قصر الشمع كما سماه العرب، على الضفة الشرقية من النيل … واختلفوا فيمن كان يقود حاميته، فقال أناس: إنه «جورج» أو الأعيرج كما سماه العرب، وقال أناس: إنه هو «ثيودور» الذى نازل العرب غير مرة، وقال غيرهم: إنه هو «أريطيون» صاحب عمرو القديم.
وصل الجيش العربى إلى جوار «منف» عاصمة الفراعنة، فى شتاء ٦٤٠ للميلاد — ١٩ للهجرة — وعرض على والى البلد شروطه التى هى شروط المسلمين قبل كل قتال، وهى الإسلام أو الجزية أو السيف، وعمد إلى التأثير الأدبى فى إقناع الحامية ومن يلوذ بها من أهل البلاد، كما عمد إلى الخدعة والبسالة، فكان إذا جاءه الرسل من قبل الروم أبقاهم بين جنوده يومًا أو يومين ليروا بأعينهم زهد المسلمين فى الدنيا واستخفافهم بالموت، وصبرهم على الشدة وإقدامهم على الكريهة فى سبيل ما هم مؤمنون به وساعون إليه.
غير أن أدوات الحصار فى جيش عمرو لم تكن من القوة بحيث تعينه على اقتحام سريع للحصون التى كانت توصف بالمناعة فى تلك الأيام، فطال لبثه أمام حصن بابليون قياسًا على حصار الفرما وبلبيس، ولم يشأ أن يقضى الوقت كله فى الإقامة على جوانب الحصن حتى تضيق الحامية ذرعًا بالحصار فتستسلم إليه، ولم يكن ميسورًا له أن يُنفِذ السرايا إلى مصر السفلى نحو الإسكندرية وما جاورها؛ لأن ابتداء الفيضان فى النهر وجداوله الكثيرة حال دون ذلك، فحوَّل سراياه إلى الصعيد وأطراف الفيوم، ويبدو لنا أنه لم يقصد بها الفتح والاستيلاء على المدن فى المرحلة الأولى من القتال، وإنما قصد بها أن يشغل جنده مخافة عليهم من فساد الراحة وطول الانتظار، وأن يعرف بالتجربة المحسوسة مدى التعويل على ولاء أهل البلاد، وأن يضطر حاميات الروم القليلة فى الصعيد إلى البقاء حيث هي، والعدول عن إمداد الحامية فى حصن بابليون ببعض رجالها إذا خطر لها هذا الخاطر؛ لأن تهديد الصعيد من حين إلى حين يوجب عليها أن تحمى مواقعها قبل التفكير فى إمداد غيرها، فإنما كانت حركات السرايا فى الصعيد مناورات للتعمية والاستطلاع، ولم تكن حملات للفتح «والاحتلال».
وفى هذه الفترة خيل إلى قائد الروم أنه قادر على أخذ العرب بالمباغتة كما يأخذونه، فتأهب للهجوم على جيش عمرو فى قاعدته الكبرى بعين شمس، وكانت تلك المعركة التى أسلفنا الإشارة إليها ودارت فيها الدائرة على الروم، فتجلت فيها مهارة عمرو فى القيادة، كما تجلت فيها يقظته لحركة أعدائه وثباته لقوتهم وهى أضعاف قوته فى الرجال والسلاح.
وانقضت السنة ومضت أشهر من السنة التالية، والحصن صامد لا يسلم، ولا يزال الذين فيه يخرجون من حين إلى حين لمناوشة جند المسلمين والعودة إليه، وكان النيل قد هبط فى أثناء ذلك، فاستطاع عمرو أن يرسل فرقًا من جيشه إلى مصر السفلى لتعويق حركات الروم قبل التقدم إليه، فكان يهزمهم تارة ويرتد عنهم تارة أخرى، بغير كبير طائل لهذا الفريق أو لذاك.
وظل الفاروق فى المدينة يرقب جيشه الزاحف بعين لا تغفل وقلب لا يَوْجل، ولم يزل يمدهم ويسأل عن أخبارهم ويتفقدهم، فلا يرى شيئًا هو أحق عنده بالتفقد من سلاحهم الماضى قبل كل سلاح، وعدتهم اللازمة قبل كل عدة، وهى الإيمان أو قوة الروح، فلما أبطأ الفتح المبين لم يرجع بإبطائه إلى قلة العدد أو قوة العدو، بل رجع به إلى نقص الإيمان ودخل النيات، وكتب إلى المسلمين يقول: «عجبت لإبطائكم فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنتين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأصبتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق ثباتهم.»
ولهذا الاستبطاء معناه التاريخى الجليل فى فهم خطط المسلمين صدر الإسلام، وفهم التردد الذى بدا من الخليفة يوم أن عرض عليه عمرو مسيره إلى مصر لفتحها بعد فتح فلسطين، فإن هذا الاستبطاء دليل على أنه لم يتردد فى تسيير الجيش إلى مصر استهوالًا لخطب الروم، أو استعظامًا لفتحها على جيش المسلمين، ولكنه تردد على سنته فى اجتناب الغزو إلا لدفع خطر، أو اتقاء عدوان منتظر، ولولا ذلك لكان استبطاؤه الفتح بعد استهواله إياه من أعجب الأمور.
وحدث فى أثناء ذلك أن مات العاهل هرقل، وشاعت الدسائس فى البلاط بعده، وفشا المرض فى حامية الحصن حتى هلك به خلق كثير، وتغلب حزب الصلح بعد موت العاهل الذى كان يأباه، واعتز جيش المسلمين بإمداد من الفرسان المغاوير يقدر الواحد منهم بألف مقاتل ولا مغالاة؛ لأن تقديره بألف مقاتل لا يعنى أنه يساويهم فى العدة والكثرة، بل يعنى أنه يبث الشجاعة فى الجيش بقدرته ويقينه، فيقاتل الجيش كأنه قد زيد ألف مقاتل، ولم يكن قصاراه زيادة فارس واحد، وليس هذا بعجيب فى جيش تقوم عدته الكبرى على الثقة واليقين.
من هؤلاء الزبير بن العوام الذى جاء فى بعض الروايات أنه تسوَّر الحصن يتبعه جماعة من المستشهدين، فأوقع الرعب فى قلوب الحامية وهى تعانى ما تعانى من اليأس والخوف والسقام، فأسرع أنصار الصلح إلى التسليم بعد ممانعة قليلة من المعارضين، وكان ذلك يوم الجمعة السابق ليوم القيامة سنة (641).
وبادر عمرو بعد سقوط الحصن إلى إقامة المعابر على النيل لعبوره قبل فيضانه، ثم مضى فى طريقه إلى الإسكندرية يقاتل من لقيه من فالَّة الروم أو جموعهم المتربصة فى حصون المدن الكبيرة بين بابليون وشاطئ بحر الروم، وضرب الحصار على المدينة الكبيرة، بينما كانت جنوده وهو على رأسهم فى بعض الأحيان يشنون الغارة على مدينة بعد أخرى من مدن مصر السفلى، حتى كان أول المحرم سنة ٢١ للهجرة/١٠ ديسمبر سنة ٦٤١، فسلمت الإسكندرية يأسًا وخورًا وهى قادرة على مواصلة القتال سنوات، وانعقد الصلح على أن تؤدى الجزية دينارين عن كل رجل قادر على العمل، وأن تستمر الهدنة أحد عشر شهرًا تجلو الجيوش الرومانية فى خلالها عن المدينة، وتحمل معها من متاعها ما تشاء، وأن تباح للمسيحيين عبادتهم، وتصان لهم معابدهم، وأن يؤذن لليهود بالبقاء فى الإسكندرية، وأن يضع الروم عند المسلمين رهائن لضمان نفاذ الاتفاق مائة وخمسين من المقاتلين، وخمسين من السراة غير المقاتلين.
وكان هذا الصلح على هوى المقوقس، ولم يكن على هوى الكثيرين من غلاة الجند وأصحاب الأموال فى العاصمة التجارية الكبرى فثاروا بالمقوقس، وأحاطوا بقصره متوعدين منذرين، وخرج لهم باكيًا يعتذر لهم بمشيئة الله من أزل الآزال ولا راد لقضاء الله، فاستمعوا إلى الرجل الذى يكلمهم بلسان الدين ولسان الدنيا وشاركوه فى البكاء!
تقدمت الإشارة إلى بسالة عمرو فى حصار الإسكندرية، ومجازفته بنفسه فى اقتحام حصونها مع طلائع المقتحمين، فما هو صحيح من أنباء تلك البسالة فهو شاهد بخلق قد شهدت به معارك كثيرة ومآزق شتى، وما ليس بصحيح فهو من مبالغة الخيال فى تكبير الواقع، وليس مما ينقص ذلك الخلق المتفق عليه.
على أن العظمة التى ثبتت لعمرو بن العاص بعد فتح مصر لا تقل عن عظمة الفاتح الجريء ولا عظمة القائد الضليع بفنون الخدعة والإقدام.
فقد عرف مصر وهو مقبل على حكمها، كما عرفها وهو مقبل على فتحها، فإذا هو صالح للعمار والقرار صلاحه للهجوم والحصار.
انتهى دور الفاتح بتسليم الإسكندرية، وبدأ دور الحاكم الذى يسوس رعاياه.
وكان رأى عمرو أن مصر أخذت فتحًا، ولم تؤخذ صلحًا كما يفهم من الصلح بغير قتال، وفى ذلك يقول: «قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر على عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.»
ولكنه مع هذا شاء غير القتل وغير التخميس وغير البيع، فعامل الرعية فى أمور دينها ودنياها معاملة رضيتها وأطلقت ثناءها، وجعلت البطريق بنيامين يسمى عهد العرب بعهد السلامة والأمان، وعهد الرومان بعهد الجور والطغيان.
وكان هذا البطرق مبعدًا عن مكان الرئاسة الدينية لمخالفته مذهب الكنيسة الملكية، فاستقدمه عمرو واحتفى به ورده إلى مكانه.
وأقبل على سياسة البلد وتدبير مصالحه وتوفير خيراته، فعلم أن الرخص والغلاء مرهونان بفيضان النيل، وأن سياسة مصر هى سياسة النهر فى ارتفاعه وهبوطه، فكتب إلى الخليفة أن أهل مصر يجهدهم الغلاء إذا وقف النيل عند حد مقياس لهم، فضلًا عن تقاصره، وشرح له علل الغلاء فقال: «إن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط.» ثم أتبع ذلك فقال: «إنى وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعًا، والحد الذى تروى منه سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعًا، والنهايتان المخوفتان فى الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستبحار اثنا عشر ذراعًا فى النقصان وثمانية عشر ذراعًا فى الزيادة.»
وقام بأمر الخليفة على بناء المقاييس، فبنى مقياس حلوان ومقياس أسوان، وأشرف على صيانة الجداول والجسور، وكان سكان البلاد يعتمدون على وسائل خرافية لاستدرار ماء الفيضان، منها إلقاء قربان فى النيل يقال فى بعض الروايات الضعيفة: إنه عذراء بقيد الحياة، ويقال على الأرجح: إنه دمية من الطين على هيئة فتاة تمثل الأرض الزراعية التى «يتزوج» بها النيل أو يثمر منها ثمراته، فكتب عمرو إلى الخليفة فى ذلك، فجاءه منه الأمر بإبطاله بعد أن فكر هو فى مثل ذلك، فأبطل هذه العادة الخرافية، واعتمد على الوسائل المعقولة من تنظيم الماء ومناوبة الرى حسبما تهيأت له الأسباب العلمية فى ذلك الزمان.
وترفق فى جمع الأموال من جزية الرءوس وخراج الأرض، فوزعها على ثلاثة أقساط فى العام، ولم يزد محصول السنة على اثنى عشر مليون دينار: ثلثاها من جزية الرءوس على حساب أربعة ملايين عدد الذكور العاملين، ومنها نحو ثلاثة ملايين دينار خراج الأرض على حساب مليون ونصف مليون فدان، وهو دون الخراج الذى كان يجبى فى عهد الرومان والفراعنة غير ما كانوا يستصفونه غصبًا من الخيرات والثمرات.
وقد كانت قلة الخراج عن القدر المنظور فى أول الأمر مدعاة سؤال كثير من قبل الخلفاء، فراجعه عمر فى ذلك وانتهت مراجعة عثمان إياه إلى عزله، فزاد الخراج على عهد ابن أبى سرح، وقال عثمان لعمر: أشعرت أن اللقاح درت بعدك ألبانها؟ قال عمرو: لأنكم أعجَفْتُم أولادها!
ومهما يكن من تصرف عمرو فى مال الخراج — أو من طمعه المشهور — فما نظن أن طمعه فى المال المحصل كان سببًا ظاهرًا لذلك النقص الذى لحظه الخلفاء؛ لأنه كان يستطيع أن يجمع ما يكفيه ولا يلحظ نقصه لو آثر الجور على القصد فى السياسة. وإنما عمل بالعهد الذى كتبه للمصريين ونظر إلى طول البقاء فى الولاية، فمضى على السياسة التى تكفل له ولاء الرعية، وتصلح شئون العمارة فى البلاد على حد قوله: «إنه لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل.»
وكان من أهم أعمال التعمير التى تمت على يديه بأمر الخليفة فتح الخليج الذى سماه بخليج أمير المؤمنين بين نهر النيل والبحر الأحمر، فكان ممرًّا صالحًا للسفن التى تحمل الميرة من مصر إلى الحجاز، وطالما احتاج الحجاز إلى تلك الميرة فى أعوام القحط والمجاعة.
وبنى مدينة الفسطاط حول مسجده المعروف باسمه إلى اليوم، وإذا صح ما قيل فى سبب تسميتها بالفسطاط، فقد بقى عمرو «الشاعر» يقظان الحس والخيال تحت آكام السياسة وأنقاض الحروب، قيل: إنه أراد أن يقوِّض فسطاطه فرأى يمامة قد باضت فى أعلاه فقال: لقد تحرَّمت بجوارنا وأمر الجند أن يقرُّوا الفسطاط حتى تطير فراخها، فبقى حتى بُنيت المدينة فى مكانه وسميت بالفسطاط، أو لعل السياسى هنا كان أيقظ من الشاعر؛ لأن حماية يمامة وديعة فى جوار وال لهى أجدى له من البأس والرهبة فى استمالة القلوب العصية إلى «الحماية» الغريبة التى فرضت عليها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

قبل فتح باب الترشح.. اعرف المستندات المطلوبة للترشح لانتخابات مجلس النواب
قبل فتح باب الترشح.. اعرف المستندات المطلوبة للترشح لانتخابات مجلس النواب

اليوم السابع

timeمنذ ساعة واحدة

  • اليوم السابع

قبل فتح باب الترشح.. اعرف المستندات المطلوبة للترشح لانتخابات مجلس النواب

نص قانون تقسيم دوائر انتخابات مجلس النواب ، على أن يُقدم طلب الترشح لعضوية مجلس النواب فى الدوائر المخصصة للانتخاب بالنظام الفردى من طالبى الترشح كتابة إلى لجنة متابعة سير العملية الانتخابية بدوائر المحكمة الابتدائية المختصة بالمحافظة التى يختار الترشح فيها خلال المدة التى تحددها الهيئة الوطنية للانتخابات على ألا تقل عن خمسة أيام من تاريخ فتح باب الترشح، وذلك وفقا لقانون تقسيم الدوائر. ويكون طلب الترشح مصحوبًا بالمستندات الآتية: بيان يتضمن السيرة الذاتية للمترشح وبصفة خاصة خبرته العلمية والعملية، صحيفة الحالة الجنائية لطالب الترشح، بيان ما إذا كان مستقلا أو منتميا إلى حزب واسم هذا الحزب، إقرار ذمة مالية له ولزوجه وأولاده القصر، الشهادة الدراسية الحاصل عليها، شهادة تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية، أو ما يفيد الإعفاء من أدائها طبقا للقانون. وإيصال إيداع مبلغ ثلاثين ألف جنيه تودع خزانة المحكمة الابتدائية المختصة بصفة تأمين. المستندات الأخرى التى تحددها الهيئة الوطنية للانتخابات لإثبات توافر الشروط التى يتطلبها القانون للترشح. وتنظم الهيئة كيفية نشر البيانات اللازمة لكفالة الحق فى المعرفة وتسرى الأحكام المنصوص عليها فى الفقرات الأولى والثانية والثالثة من هذه المادة على مترشحى القوائم، على أن يتولى ممثل القائمة الانتخابية اتخاذ إجراءات ترشحهم بطلب يقدم على النموذج الذى تعده الهيئة الوطنية للانتخابات مصحوبًا بالمستندات التى تُحددها الهيئة لإثبات صفة كل مترشح بالقائمة، وبإيصال إيداع مبلغ مائة وعشرين ألف جنيه بصفة تأمين للقائمة المخصص لها (40) مقعدا، ومبلغ ثلاثمائة وستة آلاف جنيه للقائمة المُخصص لها (102) من المقاعد، وتعتبر جميع الأوراق والمستندات التى تقدم أوراقا رسمية فى تطبيق أحكام قانون العقوبات.

إعلام إسرائيلى: 24 قتيلا و1150 مصابا منذ بدء الهجمات الإيرانية على إسرائيل
إعلام إسرائيلى: 24 قتيلا و1150 مصابا منذ بدء الهجمات الإيرانية على إسرائيل

اليوم السابع

timeمنذ ساعة واحدة

  • اليوم السابع

إعلام إسرائيلى: 24 قتيلا و1150 مصابا منذ بدء الهجمات الإيرانية على إسرائيل

أفادت قناة "القاهرة الإخبارية" فى خبر عاجل نقلا عن إعلام إسرائيلي، بسقوط 24 قتيلا و1150 مصابا منذ بدء الهجمات الإيرانية على إسرائيل. مع دخول الحرب الإسرائيلية الإيرانية يومها التاسع، شنت إيران، عصر أمس الجمعة، هجومًا جديدًا بالصواريخ ضد إسرائيل، وفق وسائل إعلام إيرانية، إذ ذكرت وكالة "مهر" الإيرانية للأنباء، أن إيران أطلقت "موجة جديدة من الهجمات الصاروخية" ضد إسرائيل، فيما قالت وسائل إعلام إيرانية أخرى: "إيران تبدأ هجومًا صاروخيًا جديدًا ضد الأراضي المحتلة". وقالت وسائل إعلام عبرية، إن الصواريخ الإيرانية سقطت في منطقتي حيفا بالشمال وبئر السبع، وأن هناك إصابات، بعضها خطير، فيما ذكر الإطفاء الإسرائيلي أن أضرارًا واسعة حدثت وسط إسرائيل؛ جراء انفجار الصواريخ. يأتي هذا التصعيد الدبلوماسي في ظل تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل، حيث بدأت الهجمات الإسرائيلية على المواقع النووية والعسكرية الإيرانية، تلتها ردود فعل صاروخية إيرانية استهدفت مواقع إسرائيلية.

وزير الدفاع الإسرائيلى: اغتيال قائد فيلق فلسطين التابع للحرس الثورى الإيرانى
وزير الدفاع الإسرائيلى: اغتيال قائد فيلق فلسطين التابع للحرس الثورى الإيرانى

اليوم السابع

timeمنذ ساعة واحدة

  • اليوم السابع

وزير الدفاع الإسرائيلى: اغتيال قائد فيلق فلسطين التابع للحرس الثورى الإيرانى

أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، اغتيال قائد فيلق فلسطين التابع للحرس الثوري الإيراني في غارة جوية استهدفت مدينة قم، وذلك وفق خبر عاجل لقناة "القاهرة الإخبارية". وأفاد الإعلام الإيراني، بمقتل شخصين وإصابة أربعة آخرين في قصف إسرائيلي على منزل بمدينة قُم. وذكرت وسائل إعلام إيرانية، أنه تم تفعيل الدفاعات الجوية في سماء بعض المناطق، تزامنًا مع موجة الغارات الإسرائيلية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store