
جَلد التجربة الفلسطينية
النقاش حول جدوى العمل المسلّح الفلسطيني، ومن يمتلك قرار الحرب، وهل يحقّ لفصيل واحد أن يجرّ الساحة الفلسطينية إلى حرب طاحنة تمسّ مستقبل الشعب بأكمله، صحّي في ظلّ ظروف بالغة التعقيد. وليس من المقبول إسكات الأصوات النقدية تحت ذريعة أن الوقت غير مناسب لهذا النقاش في ظلّ الحرب الإسرائيلية، أو أن القضية تمرّ بمنعطف خطير، وكأنّها لم تكن كذلك طوال تاريخها الحديث. ولا تهدف هذه العجالة إلى الردّ على وجهات النظر التي تنتقد جدوى الكفاح الفلسطيني المسلّح، أو تزعم انتهاء دوره التاريخي، كما عبّر عنه كُتّابٌ عديدون في نقدهم تجربة "حماس" في قطاع غزّة، وذروتها "طوفان الأقصى". تهدف هذه الأسطر إلى نقاش تعميم وجه النظر هذه على مجمل تاريخ التجربة الفلسطينية الحديثة، وعدّ تجربة الكفاح الفلسطيني المسلّح من غير فائدة للقضية الفلسطينية، وأنها لم تنجز شيئاً للفلسطينيين، إنما جعلتهم يدفعون أثماناً كان يمكن تجنّبها، وكان يمكن اعتماد أساليب نضال سلمية أخرى، أكثر جدوىً من العمل المسلّح وأثمانه المرتفعة.
لم تختفِ فلسطين بعد النكبة بإعلان قيام دولة إسرائيل، بل اختفى الفلسطينيون أنفسهم تحت عنوان "مشكلة اللاجئين" أيضاً
ليس من السهل قراءة التاريخ الفلسطيني الحديث، فالتجربة الفلسطينية لم تُستكمَل بعد، وتمتاز بخصوصية استثنائية تختلف عن سائر التجارب الاستعمارية في العالم، التي انتهت منذ عقود. أمّا الفلسطينيون، فما زالوا يواجهون الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم، ولم يتمكّنوا حتى الآن من إنجاز استقلالهم الوطني، على الرغم من نضالهم المديد. ولا يُعزَى هذا الفشل إلى تقصير من جانبهم في الدفاع عن حقوقهم، بل إلى طبيعة الخطر الإلغائي والاقتلاعي الذي واجهوه، والذي لا نظير له في التجارب الاستعمارية الأخرى، فالشعوب التي نالت استقلالها من القوى الاستعمارية نالت استقلالها بعد تراجع الاستعمار التقليدي، الذي استُبدِل بصيغ جديدة من السيطرة، لا تتطلّب وجوداً عسكرياً مباشراً. وقد ارتبط هذا التحوّل بتَحلّل النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، وتَسلّم الولايات المتحدة قيادة القطب الغربي في سياق الحرب الباردة. يستدعي كلّ فشل مراجعةً، ولكن ليس كلّ إخفاق ناتجاً من تقصير، فلا توجد ضمانات في الصراعات السياسية أو التاريخية تكفل أن يظفر صاحب الحقّ بحقّه. وتنطبق هذه القاعدة على الأفراد، كما تنطبق على الشعوب أيضاً، فالتاريخ يثبت أن المعتدي لا يُهزم دائماً، بل كثيراً ما تنتصر القوى المعتدية على الشعوب المظلومة، لا لعدالة القضية، بل لتفوّق ميزان القوى.
حتى لا يكون الكلام نظرياً، نعود إلى السؤال، أيّ خيارات كانت أمام الفلسطينيين طوال صراعهم الذي يمتدّ نحو قرن ونصف القرن مع المشروع الصهيوني، وهل كان الصراع حقّاً مع المشروع الصهيوني وحده؟ وما الذي كان يمكن أن يفعله الفلسطينيون أكثر ممّا قاموا به، وكان يُمكنهم من تحقيق أهدافهم بالاستقلال الوطني؟ وأيّ خياراتٍ كانت لهم بعد النكبة في ظلّ ميزان قوى مختلّ بشكل كبير لصالح إسرائيل، وزاد الخلل في ميزان القوى يوماً بعد يوم، لا مع الفلسطينيين وحدهم، بل مع الدول العربية أيضاً؟ وأكثر من ذلك، هل على الشعوب ألا تخوض صراعات تعرف أنها خاسرة؟
على مدى تاريخ الصراع، لم يصدّق الفلسطينيون أن مجموعات من اليهود قادرة على سلبهم وطنهم، لكن المسألة لا تقع هنا، إنما في ميزان القوى، الذي كان مختلاً منذ حرب العام 1948 لصالح العصابات الصهيونية، ليس في مواجهة الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً في مواجهة التشكيلات العسكرية العربية كلّها، التي دخلت فلسطين في أثناء الحرب، حسب الوثائق الإسرائيلية، بعيداً من البعد التآمري من بعض جيوش كانت محكومةً من قيادات أجنبية. ولم تكن إسرائيل نتاج عمل المنظمة الصهيونية وحدها، وهذا المشروع ما كان يمكن أن يرى النور من دون الدعم الغربي المطلق، ومن دون "الهولوكوست" الذي دفع باتجاه حلّ "المسألة اليهودية" خارج أوروبا وعلى حساب الفلسطينيين. لا أبالغ إذا قلت إن معركة الفلسطينيين كانت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مع طيف هائل من الدول أرادت بناء "دولة يهودية" على حساب الفلسطينيين.
لا تكفي الإرادة وحدها لتحقيق الاستقلال الوطني، في ظلّ تحالفات دولية مناهضة للحقوق الفلسطينية
لم تختفِ فلسطين بعد النكبة بإعلان قيام دولة إسرائيل، بل اختفى الفلسطينيون أنفسهم تحت عنوان "مشكلة اللاجئين" أيضاً، وأصبح العرب هم المتحدّثين باسمهم. ولم يأتِ الاعتراف العربي بالشخصية الوطنية الفلسطينية إلا بعد هزيمة 1967، وما تلاها من تجربة العمل المسلّح في أواخر الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي. ولا أظن أن أيّ فلسطيني عاقل كان يؤمن بأن الفلسطينيين، بقدراتهم الذاتية فقط، يستطيعون تحرير فلسطين أو هزيمة إسرائيل، رغم الشعارات الكبرى حول "الحرب الشعبية طويلة الأمد". ولهذا جاء الحديث عن "نظرية التوريط" في الخطاب الفلسطيني. فلم تكن تجربة العمل المسلّح الفلسطيني نموذجيةً، وقد شابتها عيوبٌ كثيرة تستحقّ النقد. كانت تجربة خارجية في دول الطوق، وانتهت فعلياً بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. بعدها انتقل الفلسطينيون إلى تجربة الانتفاضة السلمية عام 1987، ثمّ الانتفاضة المسلحة في عام 2000، فضلاً عن أساليب غير تقليدية، مثل خطف الطائرات وغيرها من الممارسات المُدانَة. تلك الوسائل كلّها لم تنجح في تحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني، إذ لا تكفي الإرادة وحدها لتحقيقه، خصوصاً في ظلّ تحالفات وظروف دولية مناهضة للحقوق الفلسطينية. ففي تجارب استقلالية أخرى، حصلت دول على استقلالها من دون أن تخوض جزءاً من نضالات الفلسطينيين وتضحياتهم.
ليست هذه السطور دعوة إلى الكفاح المسلّح، ولا دفاعاً عن أيّ عمل عسكري مثل "طوفان الأقصى"، بل هي دعوة إلى الكفّ عن جَلد التجربة الفلسطينية، وعن تحميلها فوق ما تحتمل، حتى لا يتحوّل النقد إلى كراهيةً للذات، أو إنكاراً للفعل التاريخي الفلسطيني. فالإخفاق في تحقيق الأهداف الوطنية، في ظلّ اختلال صارخ في ميزان القوى، لا ينبغي أن يثني عن مواصلة المطالبة بالحقوق، باستخدام الوسائل التي تكفلها الشرعية الدولية. فلم يكن على الفلسطينيين أن يسكتوا عن سلب وطنهم، خاضوا معاركهم، حتى عندما كانت معاركَ خاسرةً ومفروضةً عليهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 4 ساعات
- العربي الجديد
السيطرة الأمنية على قطاع غزة بعد تقليصه
يبدو التوجّه العام؛ بعد اللقاءات الأخيرة في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، ورئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ، ينحو نحو صفقةٍ شاملةٍ لإنهاء الحرب على قطاع غزّة ، وإعادة ترتيب الأولويّات الأميركية الصهيونية في الشرق الأوسط، بما ينسجم مع التغيرات السياسية والعسكرية، التي أعقبت "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأبرزها إضعاف حزب الله في لبنان، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وعرقلة البرنامج النووي الإيراني لأشهرٍ عدّةٍ، ولعل أبرز ملامح المرحلة المقبلة، من وجهة نظر ترامب ونتنياهو، لمستقبل قطاع غزّة، بعد نهاية الحرب بصيغتها الحالية، ولمكانة دول الكيان الجيوسياسية والإستراتيجية، مع توسع مساحات التطبيع مع دولٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ أخرى، هي: وضع نهايةٍ شاملةٍ للمنظومة الإدارية التي تدير قطاع غزّة، التابعة ل حركة حماس ، وإنهاء حالة المقاومة، بإمكاناتها البشرية والمادية والمعنوية، وببنيتها التحتية، وكلّ ما له علاقة بها، وتقليص مساحة قطاع غزّة بما لا يقل عن 33% من مساحته الكلية (365 كم2 )، عبر شريطٍ على طول حدود القطاع، وبعمقٍ من 1 – 2 كيلو متر، مع إفساح المجال لما يُسمى بـ"الهجرة الطوعية"، لتقليص عدد سكان القطاع بحدود 50% خلال سنواتٍ عدّةٍ من نهاية الحرب، وفتح المعابر، كما تشمل فرض آلية حكمٍ وإدارةٍ مرحليةٍ بمشاركة دولٍ إقليميةٍ عدّة، وبإشرافٍ أميركيٍ، بما يضمن عدم إعادة بناء المقاومة نفسها مرّةً أخرى، والأهمّ القدرة على التدخل العسكري والأمني عند الحاجة، بما يشمل اغتيالاتٍ محددةً، وربما توغلاتٍ من دون غطاءٍ ناريٍ كثيفٍ، كما يحدث في الضفّة الغربية، ولبنان حاليًا، وهو ما يُسمّيه نتنياهو "السيطرة الأمنية". إضافةً إلى ترسيخ حالة الفصل الكامل بين القطاع والضفة الغربية ومدينة القدس، والتي تتعرّض هي الأخرى تتعرض لمشروعٍ استعماريٍ استيطانيٍ متكاملٍ، سيفضي إلى ضمّها رسميًا إلى دولة الكيان، بعد تقليص عدد سكانها، وإقامة إداراتٍ محليةٍ ذات طابعٍ عشائريٍ وجهويٍ ومناطقيٍ. من نافل القول؛ الإشارة إلى أنّ المخطط الأميركي الصهيوني لمستقبل قطاع غزّة يأتي في سياقٍ أعم وأشمل، كي يعيد رسم الشرق الأوسط، بما يخدم المصالح الأميركية الصهيونية بعيدة المدى، مع إعطاء أولويّةٍ لمركزية ومكانة دولة الكيان إقليميًا، بالمحصلة فإن المخطط تجاه قطاع غزّة، في الأمد المنظور، يتمثّل في إعادة إنتاج واقع غزّة السياسي والأمني والاستراتيجي، بمساحةٍ وعدد سكانٍ أقلّ، وسلطةٍ بواجهةٍ فلسطينيةٍ بإشرافٍ إقليميٍ ومتابعةٍ أميركيةٍ، بحيث لا يمثّل القطاع تهديدًا مستقبليًا لدولة الكيان، مع ضمان السيطرة الأمنية الجزئية، بما يفسح المجال لتدخل الجيش الصهيوني بريًا أو جويًا حين "الضرورة"، مع استمرار حالة الحصار، ربما بصيغٍ وطرقٍ مختلفةٍ، مع عرقلة عملية إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى إمكاناتٍ ماديةٍ وبشريةٍ وإسنادٍ إقليميٍ ودوليٍ، للحيلولة دون عودة الحياة الطبيعية، وخلق بيئةٍ طاردةٍ، بما يخدم مخطط التهجير المُسمى صهيونيًا "هجرةً طوعيةً". من نافل القول؛ الإشارة إلى أنّ المخطط الأميركي الصهيوني لمستقبل قطاع غزّة يأتي في سياقٍ أعم وأشمل، كي يعيد رسم الشرق الأوسط، بما يخدم المصالح الأميركية الصهيونية بعيدة المدى، مع إعطاء أولويّةٍ لمركزية ومكانة دولة الكيان إقليميًا، بأبعادها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، على أرضية توسع مساحات التطبيع، وتشبيك مزيدٍ من العلاقات الدبلوماسية مع أنظمةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ أخرى في الفضاء الإقليمي الواسع، والحيلولة دون تغلغل النفوذ الصيني في المنطقة، في سياق الصراع الصاعد ببعده الدولي الأعم والأشمل بين الولايات المتّحدة والصين. ملحق فلسطين التحديثات الحية سلخ الفلسطينيين عن امتدادهم الطبيعي لكن بالمحصلة؛ فإنّ هذا المخطط الأميركي الصهيوني للمنطقة ولقطاع غزّة والقضية الفلسطينية، والذي ما زال في إطار التبلور، يقوم على فرضياتٍ عدّة، لعل أبرزها ثبات الواقع الإقليمي والدولي، على الأقلّ في الأمد المنظور، وإعلان المقاومة الفلسطينية استسلامها، وبقاء الائتلاف الصهيوني القومي الفاشي في الحكم لسنواتٍ قادمةٍ، وهي فرضياتٌ قد لا تكون دقيقةً، أو مُسلمًا بها، مع السيولة شبه الدائمة في الحالة الفلسطينية، والصهيونية الداخلية، والإقليم المضطرب على رماله المتحركة.


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
إدخال المساعدات إلى غزة... إطالة أمد الحرب ودعاية مضادة
جاء القرار الإسرائيلي بالسماح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة عبر ممرات برية وأخرى عبر إنزالات جوية منظمة مع دول عدّة في المنطقة، مخالفاً للسلوك الميداني القائم على استهداف الغزيين من منتظري المساعدات في مختلف نقاط توزيعها. القرار الإسرائيلي، شمل سلسلة من التسهيلات بالتزامن مع حراك ميداني شعبي على مستوى العالم، لإدخال المساعدات إلى غزة بانتظام، عبر الممرات البرية، إلى جانب تحركات لدول أوروبية تدعو لوقف التجويع في القطاع، في ضوء تتابع حالات الوفاة في صفوف الأطفال والمرضى، بسبب المجاعة. اللافت أن القرار الإسرائيلي، الذي بدأ الاحتلال أمس الأحد بتطبيقه، جاء بعد نحو ثلاثة أيام من الإعلان، لا سيّما من الجانب الأميركي، عن تعثر المفاوضات غير المباشرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي التي كانت تجري في الدوحة، لإبرام اتفاق يشمل هدنة لـ60 يوماً وتبادل أسرى ومحتجزين. ويفرض الاحتلال حصاراً مشدداً على القطاع منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، ضمن سلسلة من الإجراءات التي فرضها قبل أن يخرق اتفاق 19 يناير/ كانون الثاني الماضي لوقف إطلاق النار ويستأنف حرب الإبادة في 18 مارس الماضي. وعلى وقع تزايد الضغوط الأممية والدولية على دولة الاحتلال لإدخال المساعدات إلى غزة ورفع الحصار، أعلن الجيش الإسرائيلي، مساء أول من أمس السبت، أنه أسقط مساعدات إنسانية جواً في قطاع غزة "بناء على توجيهات القيادة السياسية"، مضيفاً أن "عملية الإسقاط شملت سبعة طرود مساعدات تحتوي على دقيق وسكر وأطعمة معلبة". يشير ذلك إلى أن هذه المساعدات لا تعادل نصف شاحنة من الشاحنات التي تدخل عبر المعابر، كما ذكر الجيش أنه "تقرر تحديد ممرات إنسانية يُسمح فيها لقوافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالتحرك الآمن لغرض إدخال المواد الغذائية والأدوية إلى سكان غزة". وفي بيان لاحق أمس، أعلن جيش الاحتلال "تعليقاً تكتيكياً" يومياً لعملياته العسكرية سيبدأ في مناطق عدّة في قطاع غزة اعتباراً من الأحد (أمس) "من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الساعة الثامنة مساء"، مضيفاً أن هذا التعليق سيشمل المناطق التي لا يتحرّك فيها الجيش "وهي المواصي (خانيونس) ودير البلح ومدينة غزة، وسيكون يومياً حتّى إشعار آخر". وقالت مصادر لـ"العربي الجديد"، أمس، إنّ سلطات الاحتلال وافقت على طلبات لمؤسّسات عربية ودولية لإدخال مساعدات عبر مصر والأردن، شرط تسليمها لجهات دولية في غزة. من جهتها اعتبرت حركة حماس، في بيان أمس، أن لجوء الجيش الإسرائيلي إلى إنزال المساعدات جواً فوق مناطق بالقطاع "خطوة شكلية ومخادعة"، تهدف إلى "تبييض صورته أمام العالم" في ظل الإبادة والتجويع اللذين تمارسهما تل أبيب بحق أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في القطاع المحاصر. وكان المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "أونروا"، فيليب لازاريني، قد أعلن في وقت سابق رفضه عمليات الإنزال الجوي قائلاً إن "الإنزال الجوي للمساعدات لن ينهي المجاعة، بل قد يقتل المجوّعين في غزة". من جهته قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، على منصة إكس أمس، إن فرق الأمم المتحدة ستكثف جهودها لإطعام الفلسطينيين في غزة خلال الهدن التي أعلنتها إسرائيل في مناطق محددة. اقتصاد الناس التحديثات الحية المساعدات إلى غزة... لا وقود وشحنات قليلة من الطحين في موازاة ذلك كان الاحتلال يواصل استهداف طالبي المساعدات، الذين استشهد 22 منهم على الأقل أمس، عدد منهم في منطقة السودانية، شمال غربي قطاع غزة، فيما أعلنت وزارة الصحة في غزة، أمس، تسجيل ستّ حالات وفاة إضافية خلال الـ24 ساعة الماضية جراء المجاعة وسوء التغذية، من بينهم طفلان. يرفع ذلك حصيلة وفيات الجوع إلى 133، بينهم 87 طفلاً منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. خطط لهندسة الواقع اعتبر مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، أحمد الطناني، أن خطوة الاحتلال بشأن إدخال المساعدات إلى غزة "لا تنفصل عن مساعيه المستمرة لهندسة الواقع في قطاع غزة"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أنها خطوة "باتت ضرورية بالنسبة لحكومة الاحتلال، بعد محاولات مستفيضة لتحويل آلية المساعدات الأميركية (عبر مؤسّسة غزة الإنسانية المرفوضة أممياً) إلى آلية فعّالة"، ولفت الطناني إلى أن "هذه المحاولات فشلت على أكثر من صعيد، وتحولت إلى عامل ضغط على الاحتلال، نتيجة الأعداد اليومية من الشهداء على أبواب مراكز التوزيع الأميركية، والمشاهد القاسية للتجويع في قطاع غزة"، وأوضح أن تل أبيب سعت لتحويل آلية المساعدات والتجويع "إلى وسيلة ضغط على المقاومة، عبر قهر المجتمع وتجويعه، وإدخاله في نموذج من الصوملة والاقتتال الداخلي على لقمة العيش". أحمد الطناني: الآلية الجديدة لا تمثّل عودة حقيقية للآلية السابقة التي كانت تحت إشراف الأمم المتحدة وهيئاتها وفي رأيه فإن "الضغط العكسي الناتج عن الصور المؤلمة الخارجة من القطاع، وأعداد الضحايا المرتفعة، دفع الاحتلال، تحت وطأة الضغوط بما في ذلك ضغوط حلفائه، إلى تغيير الآلية، مع إحاطة إعلامية مكثفة، تهدف إلى الحد من التفاعل العالمي مع المجاعة والحصار في غزة، وذلك دون التنازل عن الجوهر الاستراتيجي لمحاولاته في هندسة القطاع عبر بوابة المساعدات". وأشار إلى أن الآلية الجديدة "لا تمثّل عودة حقيقية للآلية السابقة التي كانت تحت إشراف الأمم المتحدة وهيئاتها، بل تتضمن آليات قسرية لتنظيم حركة المساعدات وأماكن توزيعها، بما يتماشى مع الخطط العسكرية الإسرائيلية الحالية والمستقبلية"، وشدد على أن هذا السلوك "يكشف عن نيّات الاحتلال الفعلية لإطالة أمد المواجهة في قطاع غزة، وتجاوز الاستحقاق الراهن ومسار المفاوضات، والتجهّز لمرحلة جديدة من العمليات العدوانية التي يُفترض أن تلي عملية عربات جدعون (منذ مايو/ أيار الماضي) التي انتهت فعلياً، دون إنهاء مفاعيلها، إذ لا يزال جيش الاحتلال يسيطر، عملياً أو بالنيران، على أكثر من 70% من مساحة القطاع". هدف إدخال المساعدات إلى غزة من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، إنّ خطوة إدخال المساعدات إلى غزة جاءت في ظل توقف المفاوضات مع حركة حماس والرفض الأميركي لها، بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف يتكوف ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو التي جاءت مفاجئة للمشهد التفاوضي، إذ كانت كل المؤشرات تشير إلى تقدم في تلك المفاوضات، وأضاف لـ"العربي الجديد" أن الهدف الرئيسي لواشنطن وتل أبيب "هو الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ثم طرد حركة حماس من غزة دون البحث في شكل اليوم التالي بعد انتهاء الحرب". هذه السياقات، وفق إبراهيم، هي "المحدد الرئيسي لعملية إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، إذ يجري فيها تجاوز حركة حماس بالذات، مع توقف عملية التفاوض المتعلقة في الوصول إلى هدنة لمدة 60 يوماً". رصد التحديثات الحية بن غفير يهاجم الحكومة بعد استبعاده من قرار إدخال المساعدات إلى غزة وفي رأيه فإنّ "من بين السيناريوهات المطروحة أن يكون هناك رؤية أميركية لاحقاً لإنهاء الحرب تماماً، دون أن تكون حماس جزءاً من مشهد اليوم التالي في إدارة وحكم غزة". غير أن هذا الأمر، وفق إبراهيم، مرتبط "بالدرجة الأساسية بالموقف الأميركي". وأوضح أن السلوك الأميركي والإسرائيلي "استند منذ بداية حرب الإبادة في غزة على عمليات التضليل"، وبالتالي فإنّ عمليات إدخال المساعدات إلى غزة "تزامنت مع غضب وضغط عالمي رافض للسلوك الإسرائيلي بالذات مع مشاهد الوفاة في صفوف الأطفال نتيجة الجوع". حسام الدجني: لإسرائيل أهدافاً سياسية من وراء خطوة إدخال المساعدات إلى غزة سياسة التجويع رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، حسام الدجني، أن "إلقاء جزء بسيط من المساعدات الإنسانية لا يلبي بأي حال من الأحوال احتياجات قطاع غزة المنهك بفعل سياسة التجويع الممنهجة، التي تنتهجها إسرائيل بحق أكثر من مليوني إنسان"، وأوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ لإسرائيل أهدافاً سياسية من وراء خطوة إدخال المساعدات إلى غزة "من أبرزها محاولة التخفيف من حدة الضغوط الدولية المتصاعدة التي شوّهت صورتها أمام الرأي العام العالمي، في ضوء تصاعد وتيرة الغضب"، وبيّن أن "محاولة تحسين صورتها تركّز على مشاهد الإنزال الجوي وإدخال المساعدات، وذلك لصرف الأنظار عن الجريمة الكبرى المتمثلة في الإبادة الجماعية المستمرة بحق سكان القطاع". وفي رأيه "هناك هدف آخر لا يقلّ أهمية، يتمثل في تمهيد الرأي العام الإسرائيلي لاحتمالية تخلي تل أبيب عن إدارة الملف الإنساني في غزة لصالح الأمم المتحدة ومؤسّساتها، جزءاً من استحقاقات تهدئة محتملة، خصوصاً في ظل إصرار المقاومة الفلسطينية على هذا المطلب خلال المفاوضات الجارية".


العربي الجديد
منذ 8 ساعات
- العربي الجديد
قميص في القدس يكشف الحقيقة الأميركية
اشتهر أحد تجار القمصان في البلدة القديمة في القدس ببيع قميص يجمع بين العلمَين، الأميركي والإسرائيلي، وتحتهما عبارة غريبة: "لا تخافي، يا أميركا، فإسرائيل ستحميكِ". قد تبدو العبارة مثيرةً للدهشة، إذ تفترض أن دولةً صغيرة كإسرائيل تتكفّل بحماية أقوى دولة عسكرية واقتصادية وسياسية في العالم. لكن ما قد يبدو ساخراً سرعان ما يتحوّل حقيقةً صادمةً تتجلّى في سلوك ومواقف مسؤولين أميركيين كبار يتصرّفون موظّفين في خدمة إسرائيل، لا ممثّلي دولة مستقلة. أحدث مثال على ذلك المحامي ستيف ويتكوف، المستشار الرئاسي الأميركي لشؤون المفاوضات، خصوصاً في المسار غير المباشر بين إسرائيل وحركة حماس. وصل ويتكوف إلى إيطاليا (الأربعاء الماضي)، في طريقه إلى الدوحة للمشاركة في جهود الوساطة، لكنّه ألغى رحلته فجأة، وأصدر بياناً في منصّة إكس قال فيه: "قرّرنا إعادة فريقنا من الدوحة لإجراء مشاورات بعد الردّ الأخير من حماس، الذي يُظهِر بوضوح عدم رغبتها في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها الوسطاء، لا يبدو أن حماس منسقة أو تعمل بشكل جيّد". قد يُخيّل للقارئ أن المقصود هو الفريق الأميركي، لكنّ الحقيقة سرعان ما اتضحت حين صرّح الأميركي من أصل فلسطيني، بشارة بحبح (دعم ترامب في الانتخابات)، لتلفزيون العربية، قائلاً: "لا أزال في الدوحة، وويتكوف لم يطلب مني المغادرة، وأنا بانتظار اتصاله". هنا تبرز المفارقة: عندما استخدم ويتكوف عبارة "قرّرنا"، كان يتحدّث باسم الفريق الإسرائيلي، لا الأميركي، فالمفاوض الأميركي اليهودي نسي جنسيته، واندمج تماماً في الموقف الإسرائيلي، كأنّما يمثّل تل أبيب لا واشنطن. تعيد تصريحات ويتكوف إلى الأذهان ما قاله وزير الخارجية الأميركي (السابق) أنتوني بلينكن عندما هبط في مطار اللدّ عقب أحداث "7 أكتوبر" (2023)، حين قال: "أتيت إلى هنا ليس فقط وزيراً للخارجية وإنما أيضاً بصفتي يهودياً"، كأنما يهوديته تسبق وظيفته وزيرَ خارجية أميركياً. أمّا الأسبوع الماضي، فقد ظهر مثال آخر، هذه المرّة شخصية أميركية مسيحية، لكنّها لا تقلّ صهيونيةً، إذ فاجأ السفير الأميركي، مايك هاكابي، كثيرين بلقاء رسمي مع قادة السلطة الفلسطينية في رام الله، في أول اتصال رفيع المستوى بين السلطة وإدارة ترامب منذ 2017. الاجتماع الذي عُقد في 22 يوليو/ تموز في مقرّ الرئاسة الفلسطينية، ضمّ هاكابي ونائب الرئيس الفلسطيني، حسين الشيخ، ورئيس الوزراء محمد مصطفى، بينما غاب الرئيس محمود عبّاس لأسباب لم تُعلَن. وقال مسؤول فلسطيني لموقع المونيتور: "يتعلّق الأمر بالبقاء. لم نلتقِ بهاكابي لأننا نتّفق معه، بل لأننا مضطرون لإيصال رسالتنا مباشرة". تجري تحولات داخل الرأي العام الأميركي، فهناك تزايد في التعاطف الشعبي مع الشعب الفلسطيني، وانتقاد متصاعد للدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل ورغم أن هاكابي لم يُصدر أيّ بيان رسمي، نشر الشيخ صورةً للقاء، وبياناً موجزاً بأن الطرفين تناولا الأزمة الاقتصادية، وعنف المستوطنين، والحرب على غزّة، والأسرى، وأهمية "الدور الأميركي في تحقيق الاستقرار". لكنّ اللقاءات لم تكن خاليةً من الجدل، خصوصاً بعد زيارة هاكابي بلدة الطيبة، حيث التقى شخصيات محلّية، عقب هجوم مستوطنين على محيط كنيسة بيزنطية. وقال داود خوري، أحد الحاضرين: "البلدة كانت منقسمةً بشأن الزيارة." وقالت شقيقته، المخرجة بثينة خوري: "كان من الخطأ مقابلة دبلوماسي أميركي صهيوني". وقد أثار هاكابي غضب الحضور عندما أشار إلى الطيبة باعتبارها جزءاً من "إسرائيل"، فردّ عليه الأهالي: "الطيبة جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وليست ضمن دولة إسرائيل". لكن هذا "الخطأ" يتضاءل أمام ما قاله هاكابي لاحقاً، حين سخر من إعلان فرنسا نيّتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كتب في "إكس": "يا له من ذكاء! إذا كان ماكرون يستطيع ببساطة إعلان وجود دولة، فربّما تستطيع المملكة المتحدة إعلان فرنسا مستعمرةً بريطانية". وفي منشور لاحق، أضاف ساخراً: "الدولة الفلسطينية المزعومة ستكون على الريفييرا الفرنسية، وستُسمّى (فرانك أون ستاين)". تؤكّد هذه المواقف، سواء من ويتكوف أو بلينكن أو هاكابي، تخلّي واشنطن عن أدنى درجات الاستقلالية والحياد في سياستها الخارجية عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، الدولة المدلّلة لدى النُّخبة الصهيونية في أميركا. ومع ذلك، فإن تحوّلات مهمة تجري داخل الرأي العام الأميركي بعيداً من المؤسّسة السياسية. هناك تزايد في التعاطف الشعبي مع الشعب الفلسطيني، وانتقاد متصاعد للدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل. ما يجب أن يفهمه القادة العرب أن المواقف الأميركية الرسمية، مهما بدت حياديةً، غالباً ما تكون سُمّاً في العسل. والمطلوب الوعي والحذر وعدم الوثوق الأعمى بأيّ خطاب أميركي، ما دام الانحياز إلى إسرائيل الثابت الوحيد في سياسة واشنطن.