logo
التسويات السورية بعد الأسد.. بين استخفاف المجرمين والعدالة المنشودة

التسويات السورية بعد الأسد.. بين استخفاف المجرمين والعدالة المنشودة

المدن١٠-٠٥-٢٠٢٥

في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وما نجم عنه من تفكك البنى الأمنية الرسمية والتقليدية التي تشمل أفرع مخابرات ونقاط تفتيش وحواجز أمنية، وهروب عناصر الأمن من نقاطهم و تبخرهم مع أسلحتهم الخفيفة وأوراقهم الثبوتية وسجلاتهم العسكرية؛ وانهيار المؤسسة العسكرية التي تشمل عناصر الجيش والفرق التابعة لوزارة الدفاع، وتوقف العمل في مؤسسات الدولة المركزية لعدة أيام، برزت مخاوف حقيقية من انزلاق البلاد إلى فوضى أمنية شاملة كان لزاماً على إدارة العمليات العسكرية حينها أن تتخذ إجراءات أمنية ضامنة وحقيقة لتجنيب البلاد الفوضى، والعمل على فرض الأمن بطريقة جديدة تتناسب مع تطلعات الشعب السوري.
نتيجة لهذا، أطلقت الإدارة العسكرية برنامج تسوية شاملة هدفه الرئيسي احتواء بقايا النظام المنهار، من عناصر الجيش والأمن والميليشيات الموالية له ومنظومة الدفاع الوطني، ومنعهم من التحول إلى أدوات فوضى أو مقاومة مضادة أو خلايا نائمة. ركز برنامج المصالحة على عدة زوايا أهمها الأمنية التي تتعلق بقدرة جهاز الأمن العام على ضبط الساحة الداخلية ومنع تفكك الدولة، والسياسية المرتبطة بتأثيره على مستقبل العدالة الانتقالية وإعادة بناء الدولة السورية، والاقتصادية التي تتناول إعادة توزيع الثروات وإعادة رأس المال السوري الذي تحكم به مجموعة من "حيتان السوق" أيام نظام الأسد.
برامج المصالحة الوطنية والعفو
استخدم نظام الأسد المصالحات كأداة لاستعادة السيطرة على المناطق التي خرجت عن سيطرته خلال الحرب، بعد أن خسر حوالي 65 بالمئة من الأراضي السورية بين عامي 2014-2015. وبعد الدخول الروسي لمساندة جيش نظام الأسد ضد المعارضة السورية المسلحة؛ أطلق نظام الأسد برنامج المصالحة الوطنية على الرغم من أن هذه "المصالحات" تبدو في ظاهرها وكأنها حلول سلمية لإنهاء الصراع، إلا أنها في الحقيقة كانت شكلاً من أشكال الإكراه والخضوع، فرضها النظام من موقع القوة العسكرية، وليست نابعة من عملية عدالة انتقالية حقيقية أو رغبة صادقة في السلام.
بدأت المصالحات في ريف دمشق الغربي والشرقي (داريا، المعضمية وبلدات الغوطة الشرقية) ثم توسعت لتشمل باقي المحافظات، ومع أن كل حالة من هذه الحالات تميزت بأساليب مختلفة، لكنها اشتركت في كونها جزءاً من استراتيجية أوسع هدفها إعادة فرض السلطة المركزية للنظام، وتفكيك المعارضة، وإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والديموغرافي في بعض الأحيان وفق مبدأ تصالحي أمني فقط. هذه المصالحات لم تُنهِ العنف بشكل كامل، ولم تُحقق العدالة أو تُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، بل على العكس، ساهمت في ترسيخ الانقسام، وأضعفت فرص تحقيق حل سياسي عادل وشامل، لا سيما بعد أن اندمج مقاتلو المعارضة الذين شملتهم المصالحة مع النظام وأبدوا استعداداً للقتال إلى جانبه، كما حالة اللواء الثامن بقيادة "أحمد العودة" الذي انضم إلى الفيلق الخامس المدعوم روسياً وقاتل الفصائل الإسلامية في درعا والبادية السورية؛ وبالتالي، فإن ما يسمى بـ"المصالحات" في حالة نظام الأسد ليست اتفاقات سلام بالمعنى الحقيقي، وإنما هي شكل من أشكال "سلام المنتصر"، حيث يُفرض الواقع الجديد بالقوة، دون معالجة جذور الصراع. تضمنت هذه الاتفاقات شروطاً قسرية، أبرزها تسليم العسكريين المنشقين والمتخلفين عن الخدمة الإلزامية، وتوقيع المدنيين على وثائق "مصالحة" ومهلة تسوية 6 أشهر تُخوّل لهم العودة إلى منازلهم واستئناف حياتهم، وذلك إلى جانب إدخال بعض المساعدات الإنسانية.
تدخلت روسيا بشكل مباشر في ملف المصالحات من خلال مركز "حميميم للمصالحة"، الذي شرع في عقد لقاءات متتالية مع ممثلين عن المناطق المعارضة، بحضور شخصيات مدنية وعسكرية. وقد اتسم هذا التدخل الروسي بطابع تفاوضي يحمل في طياته تهديداً مستمراً باستخدام القوة، وهو ما انعكس في فشل بعض الاجتماعات، نتيجة رفض الوفود المدنية الانصياع لهذا الأسلوب. وبعد عدة مفاوضات متفرقة، تم التوصل إلى اتفاق شامل رعته روسيا ووافقت عليه لجنة أُنشئت من فصائل المعارضة وبعض القوى المدنية. تضمن هذا الاتفاق وقفاً فورياً وشاملاً لإطلاق النار، وتسليم السلاح الثقيل والمتوسط، مع ضمانات روسية لعودة المدنيين إلى بلداتهم. نص الاتفاق أيضاً على دخول الشرطة العسكرية الروسية والهلال الأحمر إلى المناطق التي دخلتها قوات النظام، لضمان حماية السكان، إلى جانب تنظيم نقاط التسوية، ورفع العلم الرسمي (علم النظام القديم) بالتزامن مع عودة مؤسسات الدولة؛ بالإضافة إلى تسوية أوضاع المنشقين والمطلوبين للخدمة الإلزامية وتأجيلهم لفترة محددة، مع إتاحة الفرصة لمن يرغب بالمغادرة نحو الشمال السوري. كما تم الاتفاق على عودة الموظفين إلى وظائفهم، ومعالجة ملفات المعتقلين والمفقودين ضمن آليات تفاوضية، من بينها تلك المعتمدة في مسار أستانا. وقد تولى الجانب الروسي مهمة الضامن لتنفيذ هذا الاتفاق، الذي غطّى رقعة جغرافية واسعة امتدت من غرب درعا إلى حدود الأردن.
بذلك، شكّلت اتفاقات المصالحة تحولاً مفصلياً في مسار الصراع، حيث استعاد نظام الأسد السيطرة على مناطق واسعة دون معارك مباشرة، مستخدمة أدوات التفاوض السياسية لتكريس واقع عسكري فرضته القوة. وعلى الرغم من الطابع "التصالحي" الذي وُصف به هذا المسار، إلا أن التنفيذ الفعلي للاتفاقات شهد إخلالاً بالضمانات الممنوحة، ورافقته انتهاكات عديدة، ما أضعف الثقة بين السكان المحليين والجهات الراعية للمصالحة، وترك المنطقة في حالة من التوتر السياسي والأمني المستمر.
ظلت البلاد في دوامة من الصراع السياسي والعسكري بين الفصائل التي قدمت تسوية (لا سيما في الجنوب السوري) في ظل تآكل مؤسسات الدولة عموماً وتراجع الاقتصاد لصالح سلطة أمنية مطلقة؛ حتى ديسمبر 2024، حين سقط نظام الأسد بعد انهيار متسارع في عموم البلاد، لتنتقل السلطة مؤقتاً إلى قيادة عسكرية انتقالية تشكلت من قوى المعارضة العسكرية والفصائل المحلية المستقلة. أمام هذا التحول المفاجئ، برز سؤال ملح: كيف يمكن تفادي مصير الدول التي دخلت في حروب أهلية بعد سقوط أنظمتها، مع السعي لاستدامة نسق الأمن الذي يحتاجه السوريون؟ كان الرد الأولي هو إطلاق ما عرف بـ"برنامج التسوية"، كإجراء أمني-سياسي يعالج واقع آلاف العناصر التابعة للنظام المخلوع، والتي لا يمكن تجاهل وجودها ولا السماح باستمرارها في حالتها السابقة.
برنامج التسوية مع الإدارة الجديدة
جاء البرنامج لملء الفراغ الأمني الهائل الذي خلفه انهيار أجهزة المخابرات والجيش والشرطة. إذ لم تكن التحديات آنذاك فقط ميدانية أو عسكرية، بل بنيوية تتعلق بمصير الدولة نفسها. وقد قامت إدارة العمليات العسكرية، وهي الجهة المركزية المؤقتة المسؤولة عن الأمن، بتأسيس مراكز تسوية في مختلف المدن السورية، خصوصاً تلك التي كانت تحت سيطرة النظام. هذه المراكز استُخدمت لاستقبال أفراد النظام السابق ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء المدنيين، أو لم يكن لهم دور مباشر في عمليات القمع؛ ليمنح البرنامج هؤلاء الأفراد وثائق أمان مؤقتة تسمح لهم بحرية التنقل وتمنع ملاحقتهم القانونية لمدة ثلاثة أشهر، ريثما يتم تقييم ملفاتهم الأمنية بشكل دقيق. كان الهدف هو تهدئة المشهد الداخلي، وكسر شعور الخوف والانفصال لدى آلاف الجنود ورجال الشرطة والمخبرين الأمنيين، مع إعطائهم فرصة للاندماج في الدولة الجديدة ضمن شروط أكثر انضباطاً. ورغم أن هذا البرنامج لم يُقدم كبديل لمسار العدالة الانتقالية، إلا أنه سُوّق على أنه "آلية احتواء فوري" لضمان عدم انزلاق البلاد إلى مزيد من الفوضى.
لم يكن إطلاق البرنامج مجرد خيار سياسي، بل كان ضرورة أمنية محضة. فالتاريخ القريب في العراق بعد 2003، حين تم اجتثاث حزب البعث وتسريح الجيش، أظهر نتائج كارثية؛ إذ ولد هذا القرار مقاومة مسلحة عنيفة قادها ضباط سابقون، شكلت لاحقاً العمود الفقري لتنظيمات متطرفة. والحالة الليبية شبيهة أيضاً بعد تشكيل عدة فصائل قادت إلى تعمّق الانقسام في ليبيا مع تصاعد العنف واغتيالات بنغازي، مما غيّر نظرة القبائل إلى الثورة واعتبرتها انتقاماً من النخب الحضرية. بالمقابل، رأت القوى الثورية القبائل كعقبة للتغيير، ما دفع الأخيرة لحشد قوتها للدفاع عن مكانتها في النظام الجديد بالقوة إذا لزم الأمر. القيادة العسكرية السورية كانت تدرك تماماً أن تكرار هذا السيناريو سيحول البلاد إلى بؤرة جديدة من التمرد والفوضى. من هنا، فضّلت الإدارة الانتقالية سياسة "الاحتواء المنضبط" بدل الإقصاء الكلي.
البرنامج مكّن من إفراغ الساحة من الآلاف من المسلحين الذين كانت لديهم القدرة على إعادة التموضع أو الانخراط في شبكات تمرد مدعومة من الخارج. كما ساعد على تخفيف التوتر بين المجتمعات المحلية والعناصر التي كانت جزءاً من النظام، إذ لم يعد هؤلاء يمثلون تهديداً مباشراً، بل أصبحوا خاضعين لإشراف أمني ومؤسساتي دقيق، ما سمح بتفكيك التوترات الأهلية الناشئة عن إرث القمع والدم.
الأطراف المستفيدة من البرنامج
تتعدد الأطراف التي استفادت من البرنامج بشكل مباشر أو غير مباشر. أولها الإدارة العسكرية الجديدة ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية، التي استطاعت من خلال هذا المسار فرض سيطرتها الأمنية دون اللجوء إلى مواجهات واسعة (باستثناء حالة الساحل )، كما أنه ساعدها على ترتيب المشهد المحلي من جديد، بما يخدم أهداف المرحلة الانتقالية. كذلك، استفاد عناصر النظام السابق الذين حصلوا على فرصة للعودة إلى الحياة الطبيعية أو المشاركة في بناء الجهاز الجديد، مع تقديم ضمانات و تطمينات من الإدارة الجديدة بالالتزام بمبادئ التسوية.
أما إقليمياً، كان للدول الضامنة ( تركيا ودول الخليج) دور داعم في تمرير البرنامج، باعتباره جزءاً من رؤية أوسع لإعادة هيكلة الحكم المحلي في الشمال والوسط، دون العودة إلى المركزية الشديدة التي عرفتها دمشق أيام نظام الأسد. وبالنسبة للمجتمع الدولي، فقد قُدِّم البرنامج كنموذج للتعامل العقلاني مع الفوضى الأمنية، واعتُبر خطوة ضرورية لمنع انهيار الدولة بشكل كامل، خصوصًا في ظل غياب أي توافق سياسي شامل حتى الآن، رغم تشكيل الحكومة الجديدة في مساعٍ جادّة لإيجاد تفاهمات ضمنية جديدة وإعادة دمج للمقاتلين، وآليات لإعادة توزيع السلطة والثروة.
المحاور الأساسية للتسويات
يبدأ برنامج التسويات بالتسويات السياسية التي شملت حكومة نظام الأسد، ودعوتهم للتعاون مع الحكومة الانتقالية بدون توجيه أي تهم أو أحكام للوزراء السابقين ومدراء إداراتهم. كُلف محمد غازي الجلالي بتسيير أعمال الحكومة المؤقتة لنقل الملفات الحكومية إلى السلطة الجديدة وتعيين وزراء بصلاحيات كاملة. ليفتح هذا النمط الباب أمام إعادة توزيع السلطة والاتفاق على نظام حكم جديد يتناسب مع تطلعات السوريين بعد ثورة 14 عام؛ بالإضافة إلى إتاحة المجال لتنظيم صفوف القوى المعارضة السورية ودمجها في الحكومة السورية الجديدة وفق الاختصاصات لا المحاصصات؛ مع فرصة لكتابة دستور جديد وصياغة عقد اجتماعي جامع يُعيد تعريف المواطنة والحقوق والواجبات.
أما التسويات الأمنية فبدأت بتفكيك المليشيات مع عرض برامج لنزع السلاح أو دمج الفصائل المسلحة في قوات أمن وطنية موحدة، كما الحال في تسويات قوات سورية الديمقراطية وتسويات فصائل الجنوب، رغم رفض بعضها الانضمام إلى وزارة الدفاع السورية الجديدة. تتيح التسويات الأمنية ضبط الفوضى وإعادة إنتاج وتشكيل الأجهزة الأمنية تحت سلطة مدنية مع رقابة مؤسساتية عسكرية تكون خادمة لسوريا بصفة عليا، ولا تتبع في ولائها إلى جهة محلية أو خارجية؛ الأمر الذي يسهل تنفيذ العدالة الانتقالية عبر تشكيل لجان لكشف الانتهاكات والمساءلة دون السقوط في فخ الانتقام.
عملت الإدارة الجديدة على التسويات المجتمعية من خلال تنفيذ مصالحات محلية عبر التوسط بين الجماعات المتنازعة عرقياً أو طائفياً بعد سنوات من الاقتتال، لا سيما في محافظة القنيطرة وريف دمشق، ولإيجاد آليات تعويض للمتضررين واستعادة ممتلكاتهم المنهوبة بعد 14 عام من بطش المليشيات المحلية؛ بالإضافة إلى جانب مهم وهو ضمان عودة النازحين الداخليين واللاجئين إلى بلداتهم وقراهم دون أي اعتقالات او تهم كيدية.
الجانب المهم في التسويات هو التسويات الاقتصادية التي تركز على إعادة توزيع الثروات وإصلاح نظام اقتصادي يقوم على العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة؛ مع التأكيد على فتح السوق للاستثمار ودعوة رؤوس الأموال السوريين للعودة إلى بلدهم والاستثمار في مجالات الطاقة والخدمات والعقارات والصناعة والسياحة بحكم انفتاح سوريا على العالم من جديد، مع ضمان تسهيلات إدارية و لوجستية مناسبة تتلاءم مع المرحلة المقبلة بما يضمن إعمار الاقتصاد بالشراكة مع المجتمع الدولي، مع شفافية وابتعاد عن شبكات الفساد واستعادة مؤسسات الدولة عبر تطوير قطاع الخدمات العامة (الكهرباء، الصحة، التعليم) بشكل سريع لإعادة الثقة بين الحكومة والشارع. كان هناك اتفاق مع محمد حمشو أحد أبرز وجود اقتصاد نظام الأسد لكنه فشل، بالإضافة إلى فشله أيضاً مع سامر فوز رجل العمال السوري المرتبط بنظام الأسد بشبكة شركات تجارية تعمل في عدة مجالات أهمها التطوير العقاري والنقل والمواصلات وبالإضافة إلى كونه استولى على عدة شركات لرجال اعمال آخرين في المدة بين 2011 و2024 بالتنسيق مع ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد.
تحديات التسويات
رغم تطوّره وسيره بسرعة، يمكن الحديث عن تحديات تطاول برنامج التسوية، ربما تعرقل مسار الانتقال نحو السلام والاستقرار، لا سيما وأن سنوات الصراع الطويلة خلفت انعداماً شبه كامل للثقة بين الفاعلين المحليين (حكومة وأفراداً)، نتيجة التراكم الهائل للانقسامات السياسية والطائفية والمجتمعية، ما يجعل من التوافق الوطني مهمة شاقة محفوفة بالريبة وسوء النوايا. هذا الانقسام لا يقتصر على القوى السياسية، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية نفسها، حيث باتت المصالح المتضاربة والانتماءات الضيقة تعيق أي محاولة لبناء مشروع وطني جامع.
في الوقت ذاته، يبرز الفراغ المؤسسي بوصفه أحد أبرز التحديات، إذ إن سقوط نظام الأسد لا يعني فقط غياب رأس السلطة، بل انهيار الدولة العميقة ومؤسساتها التي كانت، رغم طابعها القمعي، تمسك بمفاصل الإدارة والبيروقراطية وسلطة المكاتب. هذا الفراغ يفتح المجال أمام تعدد مراكز السلطة وعودة النزعات المناطقية والميليشياتية، مما يهدد وحدة الدولة ويجعل من بناء مؤسسات بديلة مهمة بالغة الصعوبة، كما في احداث الساحل السوري واشتباكات الجنوب التي امتدت خلال الأيام القليلة الماضية مع قوات "أحمد العودة" التي كانت رافضة الانضمام إلى وزارة الدفاع السورية، قبل أن تعدل موقفها بعد ضغط محلي وضغط عسكري وتجفيف منابع تمويل هذه الفصائل.
لا تخلو التسويات من تحديات معقدة قد تهدد فعاليتها على المدى البعيد، لا سيما بعد أن لاحظ السوريون وجود شخصيات معروفة بثقلها الأمني والاقتصادي والعسكري لدى نظام الأسد؛ وقدت تسوية وعادت إلى حياتها الطبيعية. بالإضافة إلى ذلك، هناك إمكانية تسلل عناصر خطرة إلى الأجهزة الجديدة، خصوصاً ضباط المخابرات أو مقاتلي الميليشيات المرتبطة بإيران، الذين يتمتعون بخبرة واسعة في التخفي وإعادة التموضع. كما أن غياب قواعد بيانات دقيقة يعيق التحقق من خلفيات المتقدمين للتسوية، مما يسمح للبعض باستغلال البرنامج لتبييض سجلاتهم. أثار ظهور طلال مخلوف، أحد أبرز قيادات الحرس الجمهوري وقائد اللواء 105 في جيش نظام الأسد، الشكوك حول ماهية هذه التسويات ومدى صلاحيتها ومدى الرضى عنها من عامة الشعب لا سيما بعد 14 عاماً من القتل و التخويف؛ ليلحقه ظهور فادي صقر رئيس الدفاع الوطني في منطقة التضامن المحاذية للعاصمة دمشق و المسؤول عن اعتقال المئات من أبناء المنطقة والمناطق المسؤولة عنها قواته ؛ وإفلاته من المحاسبة عبر تقديمه تسوية غامضة المعالم (يعتقد أنه قدم تسوية مالية ضخمة مع محسوبيات على مستوى عالٍ) ما أثار السخط لدى السوريين.
الملاحظ بعد حوالي 5 أشهر من سقوط نظام الأسد هو غياب شبه تام لأي مسار قانوني يرافق هذا البرنامج، إذ لم تُنشأ حتى اللحظة أطر واضحة لمحاسبة المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، ما يجعل بعض النشطاء يرون في التسوية وسيلة لإفلات الجناة من العقاب، وليس خطوة نحو المصالحة الحقيقية وفق نهج عدالة انتقالية. إلى جانب ذلك، هناك انقسامات مناطقية في استقبال البرنامج؛ ففي مناطق مثل درعا والسويداء، يُنظر إلى هذه المراكز بعين الريبة، بل وقوبلت ببعض حالات الرفض والاحتجاج (استعصاء أمني ومظاهرات منددة بالحكم الجديد في سوريا)، نتيجة لغياب الثقة التاريخي بين السكان المحليين والمؤسسات الأمنية؛ بينما في الساحل أدت التسويات إلى أزمة أمنية تبعها اشتباكات مع أفراد قدموا تسويات يمكن القول إنها وهمية ومع فلول نظام الأسد وراح ضحيتها ألاف المدنيين في عمليات غير واضحة المعالم.
بالمحصلة، التسوية في سوريا لا تعني ببساطة توقيع اتفاق سياسي أو إنهاء العمليات القتالية، بل هي عملية طويلة ومعقدة، تتطلب إعادة بناء شاملة للعقد الاجتماعي والسياسي؛ وهي أقرب إلى انتقال البلاد من نظام مركزي قمعي إلى نظام سياسي أكثر توازناً بين الدولة والمجتمع، يقوم على الشراكة والمساءلة والتمثيل الحقيقي للمكونات كاملة. نجاح هذه العملية مرهون بوجود رؤية وطنية شاملة لا تنبثق من الخارج وارتهاناته، بل من إرادة السوريين أنفسهم، وبقيادة سياسية جامعة تمتلك القدرة على تجسير الهوة بين الأطراف، لضمان سلام مستدام.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مسؤول إسرائيلي للعربية: الشرع قدم لفتات حسين نية سنقابلها بالمثل
مسؤول إسرائيلي للعربية: الشرع قدم لفتات حسين نية سنقابلها بالمثل

القناة الثالثة والعشرون

timeمنذ 5 ساعات

  • القناة الثالثة والعشرون

مسؤول إسرائيلي للعربية: الشرع قدم لفتات حسين نية سنقابلها بالمثل

أعلن مسؤول إسرائيلي لـ"العربية/الحدث"، أن اللقاءات التي جرت مع ممثلي الإدارة السورية الجديدة برعاية تركيا، كانت "إيجابية". وذكر أن الإدارة السورية قدمت لفتات حسن نية تجاه إسرائيل، وأن الأخيرة ستقابلها بالمثل. "سيتغير الوضع في المنطقة" كما شدد على أن سوريا دولة مهمة، وأن دخولها في "اتفاقيات أبراهام" سيغير الوضع في المنطقة. وأكد على أن إسرائيل تراقب عن كثب الوضع في سوريا، وأنها لن تقبل الوضع الذي كان في عهد النظام السابق. أما عن الحدود السورية اللبنانية، فرأى أنها بحاجة لضبط أكثر، موضحا أن إسرائيل تسهم في منع تهريب السلاح والمخدرات. وشدد على أنها لا تدعم جيشاً أو جهة هناك، بل تتعامل مع الإدارة السورية الحالية كحكومة سيادية. أيضا لفت إلى أن إسرائيل أوضحت للدروز أنها لن تقبل بالمساس بهم، لكن عليهم التفاهم مع إدارة الرئيس الحالي أحمد الشرع. في سياق متصل، أوضح أن الولايات المتحدة الأميركية تريد نجاح إدارة الشرع، وتقوم بخطوات عملية تجاهها، مشيرا إلى أن واشنطن عملت لإنجاح اتفاق إسرائيل مع تركيا وطلبت عدم تجاوز المناطق التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية حتى اتضاح الأمور. الأسد حاول إبرام اتفاق أيضاً كشف عن أن نظام الأسد حاول في أيامه الأخيرة إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل عبر الروس، ورفضته. أما عن استعادة أرشيف الجاسوس، إيلي كوهين، فرأى أنها خطوة مهمة جدا، موضحا أن إسرائيل تسعى للعثور على رفاته واستعادتها بشتى الطرق والوسائل. يذكر أنه منذ ديسمبر الماضي، وسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، شنت إسرائيل عشرات الغارات مستهدفة قواعد عسكرية جوية وبحرية وبرية للجيش. كما توغلت قواتها إلى المنطقة العازلة وتوسعت في مرتفعات الجولان المحتلة وجبل الشيخ، ومناطق أخرى في الجنوب السوري. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

علويون سوريون يهربون من العنف الطائفي إلى مقابر لبنان
علويون سوريون يهربون من العنف الطائفي إلى مقابر لبنان

المدن

timeمنذ 8 ساعات

  • المدن

علويون سوريون يهربون من العنف الطائفي إلى مقابر لبنان

خلف مسجد غير مكتمل البناء في بلدة الحيصة بشمال لبنان، يعيش الأحياء وسط الأموات... في القبور. وبجوار أكوام القمامة وتحت ظل الأشجار العالية، يبحث رجال ونساء وأطفال من الأقلية العلوية السورية عن مأوى وسط القبور المحيطة بالمسجد، ويحمدون الله لأنهم استطاعوا الفرار من العنف الطائفي في بلدهم، لكنهم يشعرون بالخوف من المستقبل. وقال رجل بعينين غائرتين: "كل واحد عنده قصة رعب وصلتو لهون". وروى آخرون يقيمون في المسجد قصة أم قتلها مسلحون مجهولون أمام أطفالها بعدما عبروا الحدود، حسبما نقلت وكالة "رويترز". وطلب كل اللاجئين الذين تحدثوا إلى "رويترز" عدم نشر أسمائهم خوفاً من الانتقام، فيما لجأ نحو 600 شخص إلى المسجد حيث ينام مئات، بينهم رضيع عمره يوم واحد، في الساحة الرئيسية. وفي الطابق الثاني غير المكتمل من المسجد تفصل ملاءات بلاستيكية منصوبة على عوارض خشبية بين العائلات المتضررة. وينام أشخاص على السطح، فيما نصبت عائلة خيمة تحت الدرج، وأقامت أسرة أخرى بجوار قبر أحد الأولياء. وينام البعض فوق القبور في المدافن المحيطة وآخرون تحت الأشجار وليس بحوزتهم سوى بطانيات خفيفة للتدفئة. كل هؤلاء ليسوا إلا مجموعة من عشرات الآلاف من اللاجئين الذين فروا من سوريا منذ آذار/مارس الماضي عندما شهدت البلاد أسوأ إراقة دماء منذ أطاحت المعارضة برئيس النظام السابق بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وقالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في بيان أن نحو 40 ألف شخص فروا من سوريا إلى شمال لبنان منذ ذلك الحين، في حين يتعرض تمويل العمل الإنساني لضغوط شديدة بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجميد المساعدات الخارجية وتفكيك "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" في وقت سابق.

الأمن السوري يعتقل خالد العبود: "الحياة بلا مربّعات"
الأمن السوري يعتقل خالد العبود: "الحياة بلا مربّعات"

المدن

timeمنذ يوم واحد

  • المدن

الأمن السوري يعتقل خالد العبود: "الحياة بلا مربّعات"

في مشهد نال تفاعلاً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي، ألقى الأمن السوري القبض على عضو مجلس الشعب السابق خالد العبود من منزله في محافظة درعا، من دون صدور أي بيان رسمي يوضح أسباب الاعتقال. وسرعان ما تحوّل الخبر إلى مناسبة لاستحضار أرشيف العبود الحافل بالتصريحات المثيرة للجدل، والتي اعتُبرت من أكثر نماذج "التطبيل السياسي" لنظام الأسد تداولاً في الإعلام الرسمي. ويعد العبود، صاحب نظرية "المربعات" و"الحرارة الجغرافية"، من أكثر الشخصيات إثارة للسخرية في مرحلة ما قبل سقوط النظام، حيث لمع نجمه كأحد أبرز المدافعين الكوميديين عن بشار الأسد، وكان من الوجوه الإعلامية الدائمة في القنوات الرسمية، لا سيما خلال سنوات الحرب، فأطلق سلسلة من التصريحات التي تحوّلت لاحقاً إلى "إفيهات" ساخرة متداولة. وخالد العبود من مواليد محافظة درعا، برز في المشهد السياسي كعضو في مجلس الشعب لدورات عديدة، وممثلاً لحزب "الوحدويين الاشتراكيين"، لكنه اشتهر أكثر من خلال ظهوره الإعلامي، حيث صاغ ما يُعرف بـ"نظرية المربعات الجيوسياسية"، والتي وصف من خلالها الصراع السوري بمجموعة مربعات متداخلة بين "المربّع الروسي" و"المربّع الأميركي" و"المربّع الإيراني"، في سردية بدت للبعض أقرب إلى لوح شطرنج سوري بلا نهاية. وتحول العبود إلى مادة دسمة للتندر في الأوساط الشعبية، خصوصاً بعد جملته الشهيرة: "واحد، تنين، تلاتة… قلّو اتكلوا على الله، روحوا"، التي قالها في أحد اللقاءات التلفزيونية لتفسير تدخل الروس في سوريا، وسرعان ما أصبحت هذه العبارة نموذجاً للخطاب التلقيني، وتحولت إلى ملصق رائج، أبرزها منشور ساخر بعد اعتقاله يقول: "واحد، تنين، تلاتة… قلّو عفطوه!" وكان العبود من آخر من رفضوا الاعتراف بسقوط النظام. في مقابلة متأخرة في قناة "الإخبارية"، قال بثقة مفرطة: "لا يمكن لأحد أن يسقط الأسد، بل الأسد هو من يسقط الجغرافيا!". لكن الجغرافيا تغيّرت، والعبود اليوم في قبضة الأمن الذي لطالما دافع عن سياساته و"مربّعاته". وما إن انتشر خبر اعتقاله، حتى اجتاحت مواقع التواصل منشورات ساخرة مثل "الحرية لخالد العبود… لا حياة بدون مربعات"، و"رجعوا المربعات قبل ما تنهار الجغرافيا!"، و"الروس جابوه… بس الأمن عفطوه"، وكتب أحد الناشطين: "أخيراً سقط آخر مربعات التنظير السوري، باقي يعتقلوا نظرية المؤامرة".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store