logo
أساطير ومعتقدات أهل الصحراء النابضة بالهوية

أساطير ومعتقدات أهل الصحراء النابضة بالهوية

موقع كتابات٢٠-٠٣-٢٠٢٥

يموج العالم المعاصر بالعنف والحركة الدائمة وعشق التطلُّع لكل ما هو حديث وخارج عن المألوف والإيمان المطلق بالعلوم وإنجازاتها، والتي من جرائها يشعر الإنسان أن باستطاعته السيطرة على زمام الكون. لكن لا تزال الأساطير تبهره، على الرغم من أنها تنطوي على اللامعقول؛ إلًّا أن لا يزال البشر، على مر العصور وعلي اختلاف حضاراتهم، يصدِّقون في قرارة أنفسهم ما يرد بالأساطير، ويتَّخذون منها نبراسًا يضئ لهم دروب المستقبل الوعر؛ والسبب أن الأساطير على اختلافها تعدّ حكايات مقدَّسة تشرح طبيعة العالم وتصقل تجربة الإنسان، بل وتساعده أن يفكِّر بشكل أفضل. والغريب أنها صالحة لكل زمان ومكان؛ فكما كانت نبراسًا للأولين، لم تنتهي صلاحيتها بالنسبة للمحدثين، وللأجيال القادمة. فمن خلال الأساطير، يستطيع الإنسان استخلاص إجابات عنالأسئلة الأزلية، وهكذا تتحوَّل إلى بوصلة توجِّه كل جيل حسب معطيات العصر.
ولقد استطاع العديد من الكتَّاب الاستفادة من الأسطورة في مؤلَّفاتهم الأدبية، وهذا لأنها تمنحهم، بجانب ميزة لفت الانتباه، ميزة التعبير بحرِّية عن المواقف الاجتماعية والسياسية دون الوقوع في خطر التصادم مع السلطات المهيمنة؛ فالأسطورة توفِّر لأي عمل فنِّي طبقات متعددة يمكن من خلالها تأويل النصوص، وبالتالي الإفلات من الوقوع في حرج.
وممن برعوا في استخدام الأسطورة في التعبير عن مواقف جريئة الكاتب الليبي 'ابراهيم الكوني' المولود في عام 1948. ولقد لعبت نشأته دورًا هامًا في مسيرته الأدبية؛ فهو سليل لقبيلة الطوارق في ليبيا التي تعتز بهويتها المميَّزة. وعلى هذا، حمل على عاتقه أن يكون سفيرًا لقبيلته، فاجتهد في دراسته، وسافر إلى موسكو للحصول على درجة الليسانس والماجستير في العلوم الأدبية والنقدية عام 1977، مما أهله لدخول معترك إصدار الدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، وساعده في ذلك إجادته لثمان لغات، وهي: الطارقية والعربية والروسية والإنجليزية والبولندية والألمانية والأسبانية واللاتينية. والسبب وراء ولعه الشديد لتعلُّم اللغات إدراكه أن فهم اللغة الأم القديمة يقتضي معرفة لغات عدَّة للتعمُّق في دراستها ولمتابعة سرد التاريخ بكل اللغات الممكنة. وأصقل موهبته بتعمُّقه في دراسة تاريخ الديانات والأدب والفلسفات؛ مما أهله لأن ينتج واحد وثمانين كتابًا من العلامات الفارقة في العلوم واللآداب، والتي تُرجِم أغلبها إلى نحو 40 لغة حيَّة، مما حثّ مجلة لير الفرنسية Lire Magazine أن تختاره واحدًا من أهم خمسين كاتبًا عربيًا، وشجَّع المحتوى العلمي القيِّم لمؤلَّفاته الأوساط العلمية في أوروبا وأمريكا واليابان لأن تحتفي به، بل وترشِّحه لجائزة نوبل لعدة مرات. ويعدّ 'الكوني' الكاتب الشرق أوسطي والعربي الوحيد الذي خلَّد اسمه السويسريون في كتاب عن أبرز الشخصيات التي تقيم على أراضيهم، وهذه مكانة لم يصلها حتى الآن أي فرد من العالم الثالث. هذا بالإضافة إلى أن مؤلَّفاته تُدرَّس في العديد من الجامعات الغربية العريقة؛ مثل:السوربون وجورج تاون وجامعة طوكيو.
ولقد انعكس ولعه المعرفي أيضًا على مؤلَّفاته الأدبية سواء أكانت قصَّة أو رواية. ومن الجدير بالذكر أن رائعته الملحمية رواية 'المجوس' تم اختيارها كواحدة من أفضل مائة رواية عربية، والتي أظهر فيها معرفته المستفيضة بعلوم اللاهوت وكيفية تطبيقها على المجتمع والبشر لكشف النقاب على المتغيِّرات الاجتماعية.
وبعد السبب الأبرز في شهرة 'إبراهيم الكوني' والاحتفاء به، وخاصة في الغرب، أنه يعد الكاتب الذي أنقذ حياة الصحراء وقام بإحياء عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وخرافاتها، فكان بذلك ساردًا ومدوِّنًا لتاريخ الصحراء وشارحًا لطبيعتها. فلقد نقلت رواياته الملحمية عالم الصحراء الغريب والفريد، لما بحتويه من تعاليم الأسلاف وتأمُّلات الحكماء، وخطاب الشيوخ والعرَّافين، وكشف النقاب على موروث هائل من الأساطير، ورصد لما طرأ على حياة الصحراء من متغيِّرات بسبب الطامعين الباحثين عن الذهب والسُّلطة، الذين عكَّروا صفو حياة العاكفين الباحثين عن الله والذين لا يطمحون إلِّا لحياة بسيطة تغلِّفها الصحراء القاحلة والبيئة الصحراوية القاسية.
ولقد مكَّنه أيضًا استخدام الصحراء، كأسطورة ومكان، من نقد الحياة السياسية في عهد الرئيس 'معمر القذافي'، الذي تميَّزت فترة حكمه بعدم وجود مساحة لحرية التعبير وإبداء الرأي. وتعد رواية 'نزيف الحجر' (1990)، والتي حازت على جائزة الدولة السويسرية عام 1995، واحدة من الروايات الهامة التي مزجت بين الأسطورة والحكايات الدينية والشعبية والبيئة الصحراوية وأراء الكاتب الفلسفية لنقد الحياة المابعد كولونيالية في ليبيا. وتدور الأحداث في إطار حكاية 'قابيل وهابيل' التي يقتل فيها الأخ الشه للسلطة والمال أخيه المخلص الزاهد.
ومن خلال استخدام تقنية عين الكاميرا في السرد، يفتتح الكاتب صفحات الرواية على مشهد كاشف للبيئة الصحرواية التي تدور فيها أحداث الرواية، ويلتقط تلك الصورة من أعلى نقطة في وادي 'متخدوش' الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهي صخرة يصفها الكاتب بأنها 'أهم صخرة في وادي متخدوش'؛ فهي 'الصخرة العظيمة التي تحد سلسلة الكهوف، وتقف في النهاية كحجر الزاوية لتواجه الشمس القاسية عبر آلاف السنين'. وبسبب الوصف الذي يضفى الحياة لبيئة تبدو للوهلة الأولى ميتة، تبرز قدسية الصخرة وأهميتها، ويؤكِّد أهميتها مكانتها في نفس 'أسوف'، الشَّاب العابد النَّاسك، الطويل القامة ونحيل الجسد، الذي يؤثر العزلة ويخشى التعامل مع البشر، ويخالطهم بحذر شديد. لكنه في نفس الوقت، يعشق مخلوقات الصحراء. وعلى النقيض شخصية أخيه 'قابيل'، والذي يجسِّد عنصر الشرّ في الرواية، والذي يأججه علاقته بحيوان 'الودان'، أو التيس الجبلي الذي انقرض منذ القرن السابع عشر ولكنه لا يزال يعيش في الصحراء الكبرى، والذي – كما يصفه 'أسوف' يعدّ 'روح الجبل' لما يحيط به من غموض وخاصة عند اعتصامه بالجبل إذا طورد. ويعتقد شيوخ الصوفية أن في لحمه يكمن سر من أسرار الوجود، ولذلك ينهل منه 'قابيل' ولا يشبع، لدرجة أن الودان يحلّ في جسده في حين يرى فيه 'أسوف' والده الذي كان ينهاه عن صيد الودان، وبهذا تبدأ قصة صراع البشر مع بعضهم البعض ومع الطبيعة القاسية. وتتعقَّد الأسطورة عند اعتقاد أن 'الودان' أصبح أخًا بالدم بعد موت الأب، وتتصاعد تلك العلاقة على نحو أسطوري يكشف المزيد من معتقدات أهل الصحراء وتأثير الاحتلال عليهم، سواء في شكله القديم أو الحديث متمثلًا في الشركات الأجنبية التي تنقِّب عن البترول وتفسد نهج الحياة الصحراوية بإغراءات المال والسلطان وكذلك تلويث تلك البيئة بالمركبات والمعدَّات، مما يجعل الطمع يتسرَّب إلى نفوس البشر ومعه تتزايد الشرور.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

'شوبنهاور' يتجاوز بوابات الزمن
'شوبنهاور' يتجاوز بوابات الزمن

موقع كتابات

timeمنذ 5 أيام

  • موقع كتابات

'شوبنهاور' يتجاوز بوابات الزمن

توافر للإنسان في العصر الحديث الكثير من السُّبل التي تسهل عليه الحياة، والتي إذا كان متواجدًا ولو بعضًا أو حتى واحدةً منها في الماضي، لكانت الابتهاج له حليفًادائمًا. لكن ما يحدث حاليًا أمر يدعو للحزن الشديد؛ إذ أن الإنسان وبالرغم من بلوغه مراتب عُلا من التقدُّم التكنولوجي ومعرفته بالعديد من الوصفات التي تجعله مالكًا للسمو الأخلاقي والرقي، إلَّا أنه ينزلق يومًا تلو الآخر في غياهب من الهمجية التي تتأصَّل بداخله وتتزايد يومًا تلو الآخر. بل والأسوأ، باتت الحياة تعجّ بالمرضى النفسيين، وأصبح الاكتئاب مرض معتاد، ومصاب به المليارات، بما في ذلك الأطفال. وعلاوة على ذلك، صارت السعادة أمر بعيد المنال يمكن القراءة عنه في الكتب والقصص الخيالية فقط. وبالرغم من كل هذا، يأمل العلماء أن تتعاظم سعادة الإنسان باختراع الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يحاكي التفكير البشري وأساليب وعيه وإدراكه. والغرض المعلن من ذاك الاختراع الفريد ليس فقط محاكاة الإنسان لمجرَّد المحاكاة، لكن توفير وقته وجهده لأعمال أخرى قد تكون ذات نفع عظيم له وللبشرية ، بما في ذلك توفير الوقت والطاقة لتنمية الروابط الأسرية والإنسانية التي فقدها تقريبًا عند اللهاث وراء تحقيق النجاح والتميُّز. ويحاول العلماء طمأنة البشر أن ذاك الاختراع الذي غيَّر أشكال الحياة، ولسوف يواصل تبديل كل ما هو قديم بقيم ومستحدثات غير مسبوقة، لسوف يكون السبيل لفهم كيفية عمل العقل البشري، الذي لا يزال سرًّا معقَّا لا يستطيع العلم والتقدُّم التكنولوجي فك شفراته. وكذلك يؤكِّد العلماء أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان – في شكلها الأمثل – هي علاقة نفع مُتبادل، وأنه لا يجب أن يصير الذكاء الاصطناعي بديلًا للإنسان الذي اخترعه ولا يزال يعمل على تطويره. وذاك الرأي الذي أتي على لسان زمرة من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم، والتخصصين في البرمجيات والفيزياء وعلوم النفس والأعصاب. إلَّا أن أقوالهم لم تشعر العامة بالاطمئنان الموجو، وأزجت المزيد من التوتُّر على عقولهم وعلى حياتهم. ودون أدنى شك، السبب واضح؛ لأن العلماء وضعوا العقل البشري والإنسان ككيان في مرتبة متساوية مع الذكاء الاصطناعي. ولكي يفهم الإنسان موقفه في هذا العالم الحديث الذي أصبح التقدُّم فيه أمر حتمي، وكذلك هو الحال بالنسبة للإحساس بالتشاؤم من المستقبل وعدم الرضا عنه، كان لا بد من الرجوع لآراء الحكماء الذين وضعوا أسس هذا العالم الحديث من خلال إنشاء ما يشابه المنهاج الذي لا يساعد فقط على فهم ما يحدث حولنا، بل أيضًا التعامل معه بسهولة وأريحية. وواحدًا من الفلاسفة شديدي الحكمة الذي يجب اللجوء لأرائهم في أحلك المواقف، هو الفيلسوف الألماني 'آرثر شوبنهاور' Arthur Schopenhauer(1788-1860) المشهور بلقب فيلسوف التشاؤم. لكن بالرجوع إلى كنزه الفكري من مراجع لا تحظى بشعبية كاسحة حتى الآن، يلاحظ أنه لا يصدِّر التشاؤم للبشرية، بل أنه يشرح أسبابه ويحاول قدر الإمكان إيجاد منهاجًاللتعامل معه. وقد يظن البعض أن آراءه بالية قد عفا عليها الزمان لأنه ولد في القرن الثامن عشر وفارق الحياة بعد منتصف القرن التاسع عشر، لكن من يظن هذا قد حاده الصواب؛ لأن 'شوبنهاور' عاصر الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية في مهدهما، وراقب عن كثب التطوُّرات الناشئة والمخاوف العامة من تلك من الآلات المستحدثة، والتي بالقياس تشابه لحد بعيد اختراع الذكاء الاصطناعي واستخداماته المتعددة في الوقت الحالي، وبالمثل، كان هناك حينئذٍ مخاوف شديدة من استبدال البشر بآلات لا يصيبها الإرهاق ولا تمانع العمل بشكل متواصل وفي أي وقت، حسب الحاجة لها وكلما طُلِب منها. في الماضي، كان الرقي الاجتماعي والأخلاقي مرتبطين بكل ما يُعلي من شأن العلوم وتحصيلها والاطلاع على الفنون وفهمها، وكذلك معرفة المستحدثات والابتكارات. ولهذا السبب، كان الجميع يحرصون على اقتناء مكتبات ضخمة مهيبة بداخل منازلهم؛ للتفاخر بها، وكأنها العلامة الدَّامعة لرفي شخص ما وحصافة رأيه، بينما قد يكون العكس عين الصِّحة. والأنكى من ذلك، أن المكتبات المنزلية تلك تتحول إلى ما يشبه المكتبات التي لا يستفيد منها أي فرد، بل وقد تكون لم يمسسها أحد على الإطلاق، فيما خلا البعض من كتبها. ومن ثمَّ، كان ينتقد 'شوبنهاور' من يشترون الكتب ويكدسونها، لأن من يشتري كتابًا من الأحرى أن يشتريأيضًا معه الوقت اللازم لقراءته؛ لأنه جرت العادة على مجرد الرغبة في امتلاك المحتوى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن عملية القراءة بالنسبة ل'شوبنهاور' ليست كل شيء، لأن من يقرأ يجعل شخص آخر يفكر بالأصالة عنه، والقاريء مجرد شخص يكرر إعمال العقل الذي قام به مؤلِّف الكتاب؛ إذًا، فإن القارئ في تلك الحالة ليس بمبتكر، بل كأي تلميذ صغير يتعلَّم الكتابة، ويكون فرضه المدرسي تكرار ما كتبه له المعلِّم وسطره بقلم رصاص، أي أنه من السهل أن يمحى هذا المحتوى، وتتلاشى من جدار الذَّاكرة المعلومات التي عمل الفرد على جمعها من القراءة. والسبب، أن الجزء الأكبر من عملية التعلُّم والفكر قد أنجزه الكتاب من أجلنا. ولهذا السبب، عندما يرغب أي شخص إلهاء نفسه عن أمر ما، أو تحسين حالته المزاجية، أو حتى محاربة الأرق، فإنه على الفور يلتقط كتابًا ويقرأه؛ كي تلهيه القراءة عن الانشغال بأفكاره. وتأثير القراءة السلبي يكون بنفس تأثيرها الإيجابي؛ لأنها تجعل العقل البشري يتراجع لمرتبة ملعبًا لأفكار الآخرين، سواء أكانت مفيدة أو مغلوطة. ويحذِّر 'شوبنهاور' من قضاء المرء يوم بأكمله منكبًّا علىالقراءة، ثمَّ، يتخلل ذاك اليوم فترات استرخاء يمضيها في تسلية طائشة. ومع اعتياد ذاك الروتين، يفقد العقل القدرة على التفكير تدريجيًا، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للفرد الذي يعتاد الركوب، فإنه يفقد تدريجيًا القدرة على المشي؛ لأن عظامه تتيبَّس وعضلاته تضمر. وما ذكره 'شوبنهاور' أثبتت أيضًا العلوم الحديثة صحته. ولهذا السبب كان يتعجَّب الكثير من أن بعض كبار السن يصابون بالخرف أو الزهايمر بالرغم من أنهم يدأبون على القراءة والاطلاع. ويضيف 'شوبنهاور' أنه قد اكتشف أيضًا بعض العلماء أنهم أغبياء؛ لأنهم اكتفوا بدور النَّاقل الذي يجمع أفكارالبعض دون وضع لمسات تفكيرهم العميق. فالاكتفاء بالمعرفة السطحية التي لا تفضي إلى إعمال العقل والابتكار تجعل الفرد تدريجيًا لا يبالي بما يدور في أذهان الآخرين، لطالما اعتنق أفكار آخرين والتي قد تنطوي على معرفة سطحية ووجهات نظر ضيِّقة وأخطاء متكررة.ومن ثمَّ، فإن محاكاة الآخرين تفقد أي شخص ثلاثة أرباع سماته المميَّزة. وبالتفكير قليلًا فيما يسطره 'شوبنهاور'، نلاحظ أن موقفه مطابقًا لموقف الإنسان في عصر السيبرانية والذكاء الاصطناعي؛ فجميع ألوان المعرفة أصبحت متوافرة يضغطة زرّ واحدة، ولهذا اختفت تقريبًا الكتب المطبوعة. وبالرغم من أن جميع ألوان المعارف والفنون أصبحت متاحة، فإن نسبة الجهل الثقافي والعزوف عن الاطلاع تزايدت بشكل مرعب؛ والسبب هو الاعتماد أن المعرفة متاحة ويمكن الرجوع إليها في أي وقت. ومن ثمَّ، تزايد الاعتماد في العقدين الماضيين على القراءة فقط، وصارت هناك أجيال لا تحسن الكتابة والإملاء؛ للاعتماد على أن الوسائل التكنولوجية بمقدورها تصحيح الأخطاء الإملائية. ودون أدنى شك، تلازمت مع تلك الظاهرة اختفاء الأسلوب الراقي في الكتابة، حيث أصبحت الكتابة شديدة البرجماتية؛ محتصرة أو على شكل نقاط، وغالبًا بالأسلوب العامي. ومع انتشار المواد العلمية المسموعة، لاحظ العلماء وجود شرائح من الأجيال الجديدة لا تحسن حتى القراءة. ودون أدنى شك، فإن إخلاء السَّاحة للذكاء الاصطناعي لكي يقرأ ويكتب ويفكر ويحلل عوضًا عن الجنس البشري لسوف يجعل نهاية الإنسان محتومة، ألا وهي التراجع إلى مرتبة الحيوانات التي همها الأكبر إتاحة الطعام لها وإشباع الغرائز الحسية، ويرجع ذلك للتواكل على أدوات أخرى تقوم بالمهام التي تتطلَّب إعمال العقل عوضًا عنالعنصر البشري. ولا يعني ذلك رفض التقدم أو المستحدثات التكنولوجية أو مهاجمة الذكاء الاصطناعي، بل إيجاد السبل الصحيحة للاستفادة منها لكي نطوِّر أفكارنا ونجعل عقولنا تستقبل وتصدر المعلومات والأفكار. واحدة من أكبر وأهم النعم التي من بها الخالق على عباده الآدميين هي القدرة على التفكير والتحليل؛ فلا يجب على المرء أن يتوقف عن التفكير ومحاولة تقديم أي اسهام شخصي يصبح بمثابة بصمته المميزة، ويجب المداومة على توكيد ذاك التميُّز زجي الجانب الحيواني لدى الإنسان. فلا تتوقف عن التفكير حتى تحتفظ بمكانة السيِّد ذو اليد الطولى على التقد

الذكاء الإصطناعي .. للعقل وللدَّجل أيضاً
الذكاء الإصطناعي .. للعقل وللدَّجل أيضاً

الزمان

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • الزمان

الذكاء الإصطناعي .. للعقل وللدَّجل أيضاً

ليس هناك مجالٌ لا يتنازع داخله الضّدان، ومثلما الأذكياء في الخير والأمانة والتَّقدم، يقابلهم أذكياء في الدَّجل والكذب والتَّأخر، وهنا أقصد المجال الفكريّ، ففي لحظة يُقدم «الاصطناعيّ» بحثاً، في أيّ مجال ترغبُ، إن أردت الفيزياء فعنده ما ليس عند إسحاق نيوتن (ت 1727)، وإنْ طلبت البيان فعنده ما ليس لدى الجاحظ (ت 255 هج)، وإن طلبت علوم الرّجال والسِّير، فيُقدم لك ما تجهد به لأيام وشهور بثوانٍ. لهذا نجد التّثاقف يتزايد، فالكلّ يتحدث، فإن سُئلت، كطبيب أو مؤرخ، عن دواء أو واقعة، تجد الذي سألك يوزع عيناه بينك وبين آيفونه، وما يقرأه فيه هو المصدقُ، مع أنه جمعه مِن علوم النّاس، لكنَّ هيبة الجهاز، وعجائبيته الباهرة، تغري بالتّصديق، وكأن العلم الذي فيه ليس بشريّاً. نادراً ما يوجد باحث، أو كاتب اليوم، لم يستفد مِن محركات البحث، بصورة أو أخرى، فبواسطتها تؤخذ المعلومة مِن أمهات العلوم كافة بلمح بصر، أو لمح برق، إنَّها سرعة الضّوء، وما عليك إلا تحديد المعلومة، ثم تدقيق النتيجة بطريقتك، وهذا يحتاج إلى عِلمٍ وتخصص وثقافة، وإلا المحرك لا يهديك إلى شيء موثوق. كانت سرعة لمح البصر، أو لمع البرق، مِن أحلام الأولين، تأتي قصص عديدة فيها وصل فلان بلمح بصر، تشبيهات لواقع متخيل سيأتي وقد أتى، نعيشه الآن، كالشَّعاع الذي تخيله المتكلمون، وهو اليوم يماثل الأشعة فوق البنفسجية. غير أنَّ هذا التَّقدم الفائق، يُستخدم في الدَّجل أيضاً، أشخاص يدعون البحث، ومترجمون يدعون الترجمة، يستخدمون «الذَّكاء الاصطناعي» في تأليف الكتب وترجمتها، ويبدون متخصصين، لكنهم أتقنوا إدارة أدوات «الذَّكاء الاصطناعي»، فألفوا الكتب العِظام، وللأسف معارض الكتب ملأى بمؤلفاتهم، وهي ليست لهم، ولا للذكاء الاصطناعي، فالأخير يقوم بمهمة الإدارة والتنسيق، لِما رمي في أجواف أجهزته. إنّ الدَّجل في الكتابة ظاهرة قديمة، لكنها تعاظمت، مع ظهور «غوغل»، وبقية محركات البحث، بما يمكن تسميته بـ «نسخ ولصق»، ولأنَّ الدَّجالين احترفوا لصوصية الحروف، فهم يقومون بإعادة صياغة النُّصوص، كي لا تبدو مِن جهود غيرهم، مع التَّلاعب بالمصادر والحواشي، إذا اقتضى الأمر. هذا هو الدَّجل، الذي يمنحه الذَّكاء الاصطناعي، وليس لدي ما أستطيع التعبير به، عن الوقاية مِنه. ذَّكاء اصطناعي سيكون أمام المؤسسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث، مهمة صعبة، في التَّمييز بين ما ينتجه العقل، وما يستولي عليه الدَّجل، وإلا لا قيمة تبقى لهذه المراكز، ولم تبق حاجة لأهل الاختصاص، والخطورة الأكثر تكون في العلوم الإنسانية والآداب، فمجال اللصوصيّة فيها مفتوح، منذ القدم، ولكنه توسع، وسيتوسع، مع الذَّكاء الاصطناعي.لا أتردد في المشابهة بين العقل والدَّجل، مع الذكاء الاصطناعي، باكتشاف نوبل للديناميت، أفاد البشرية بأعز فائدة، لكنه صار أداة قتل رهيبة، فمنه تصنع المتفجرات القالعة للصخور، والمبيدة للحياة، في الوقت نفسه. إذا فتح مجال الذّكاء الاصطناعي، دون ضوابط صارمة، وأحسبها في مجال التأليف والكتابة، صعبة المنال، ستتحول الثّقافة إلى مستنقع مِن الدَّجل، فما وصله ول ديورانت (ت 1981)، في «قصة الحضارة» سيظهر مؤلفات لدجال، وأسفار غيره أيضاً، لأن الذَّكاء الاصطناعي يُقدمها له، فيطبخها مِن جديد. قد يلغي الذكاء الاصطناعي الاختصاص، فيظهر أصحاب السَّبع صنائع. يقول أبو عُبيْد القاسم بن سلام (ت 224 هج)، صاحب «الأموال»: «ما ناظرني رجلٌ قطٌ، وكان مُفَنِّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجلٌ ذو فنٍّ واحد إلا غلبني في عِلمه ذلك» (ابن عبد البرِّ، بيان العلم وفضله). قدمت منصات الذَّكاء الاصطناعي باحثين مزيفين، وخبراء دجالين في كلّ علم ينطون، يزايدون على ابن سلام في شرح كتابه «الأموال»، وبحضوره! قد يفيد ما قاله المفسر فخر الدِّين الرَّازي (ت 606 هج) شاهداً: «نهاية إقدام العقول عِقالُ/ وأقصى مدى العالمين ضلال» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).

رواية' خريف آخر' لمحمود شقير وزمن الضياع!جميل السلحوت
رواية' خريف آخر' لمحمود شقير وزمن الضياع!جميل السلحوت

ساحة التحرير

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • ساحة التحرير

رواية' خريف آخر' لمحمود شقير وزمن الضياع!جميل السلحوت

رواية' خريف آخر' لمحمود شقير وزمن الضياع! جميل السلحوت: ' خريف آخر' هي الرّواية الأولى الّتي كتبها عام ١٩٧٨ الأديب الكبير محمود شقير بعد إبعاده عن الوطن عام ١٩٧٥، ولم ينشرها في حينه، واحتفظ بها؛ ليعود إليها في العام ٢٠٢٥ منقّحا وحاذفا لثلثها تقريبا كما كتب في تقديمه لها' حذفت ما مقداره سبعة آلاف كلمة كانت تثقل متن الرّواية بسبب المباشرة والقول السّياسيّ المباشر، كما أنّني حذفت العنوان الثّاني واستبدلت به عنوانًا جديدًا هو 'خريف آخر'، وأجريت إضافات طفيفة لسدّ الفراغات التي أحدثها الحذف'. ومحمود شقير أديب كبير متميّز صدر له أكثر من ثمانين كتابا في أصناف أدبيّة عديدة منها: القصّة القصيرة والأقصوصة، قصص الأطفال، الرّواية للكبار وللفتيان، النّقد الأدبي، المسرحيّة، أدب الرّحلات، اليوميّات، السّيرة الذّاتيّة والغيريّة، المراِثي والبكائيّات، المسلسلات التّلفزيونيّة، وغيرها. وقد تعدّت شهرة شقير الأدبيّة السّاحتين المحلّيّة والعربيّة حيث ترجمت له العديد من أعماله لعدّة لغات، وإحدى رواياته للفتيات والفتيان اعتبرت واحدة من أفضل مئة رواية في العالم . ولا بدّ هنا من التّنويه بأنّ الأديب شقير المولود في ١٥-٣-١٩٤١ قد بدأ مسيرته الأدبيّة بقوّة واقتدار بائنين، فقد حوّلت إذاعة صوت العرب من القاهرة عام ١٩٦٦ قصّته 'خبز الآخرين' إلى تمثيليّة وبثّتها مرّات عديدة، فانتشرت القصّة بشكل واسع. وقد فاز الأديب شقير بعدّة جوائز عالميّة وأشهرها فوزه بجائزة محمود درويش الّتي اعتبرها أفضل من جائزة نوبل للآداب. ويجدر القول هنا أنّ الأدب الفلسطينيّ بشكل خاصّ والعربيّ بشكل عامّ قد حظي بالمحمودين: محمود درويش في الشّعر ومحمود شقير بالسّرد القصصيّ والرّوائيّ. وقد عرف القرّاء والنّقّاد الجادّون محمود شقير وخصوصا في العقدين الأخيرين أنّه يخوض التّجريب فيأتينا بجديد في الشّكل والمضمون، وقد تجلّى ذلك في مجموعته القصصيّة 'سقوف الرّغبة' وفي روايته الأخيرة منازل الذّكريات' وعودة إلى روايته الأولى' خريف آخر' الّتي كتبها قبل خمسة عقود، محمود شقير الّذي يعترف بأنّ ميدانه الأساسيّ في الأدب هو القصّة القصيرة، وهو واحد من مؤسّسي فنّ القصّة القصيرة جدّا في العالم العربيّ، خاض في مجال الرّواية في مرحلة مبكرة من عمره الّذي نتمنّى أن يطول وهو بكامل قواه، فجادت قريحته ب 'خريف آخر' لكنّه لم ينشرها لحرصه الشّديد والمبالغ فيه على التّفوّق والنّجاح الباهر فيما يكتبه، وها هو يتعثّر صدفة بمخطوطة هذه الرّواية عندما تبرّع بجزء من مكتبته لمكتبة جامعة بيت لحم، فعاد إليها ونقّحها وحذف ثلثها، وبقي متردّدا وحائرا في نشرها أو يبقيها في دفاتر النّسيان. وقد أتيحت لي الفرصة لقراءة هذه المخطوطة الّتي لم تنشر حتّي يومنا هذا. يبدأ شقير روايته بوصف جبل الكرمل عندما تحرّر من سجن الدّامون الّذي يتربّع على قمّة هذا الجبل، – من المعروف أنّ شقير اعتقل للمرّة الأولى في شهر يوليو ١٩٦٩ لمدّة عشرة أشهر-. كما يصف ما أتيحت له رؤيته في ذلك اليوم من مدينة حيفا، ويعبّر عن عواطفه الجيّاشة تجاه تلك المدينة الّتي لم يزرها من قبل. وتعود به الذّاكرة إلى حرب حزيران ١٩٦٧ حيث احتلت مدينته القدس جوهرة فلسطين والبلاد العربيّة تحت الاحتلال، كما يتحدّث عن جدّيه لأبيه ولأمّه، ويستذكر شيئا من حياة الجدّين، فجدّه لأبيه شارك في ثورة العام ١٩٣٦، وخاله محمود غادر أرض الوطن؛ ليلتحق بالعمل الفدائيّ، ويستذكر خاليه عليّ ومحمود دون أن يذكر أيّ اسم بشكل صريح. كما يعود إلى بعض من ذكرياته، ومنها الجلوس في أحد مقاهي القدس'جروبي'، والتقائه فيه مع بعض الأصدقاء ومنهم ' أبو بشّار' نعيم الأشهب. ويكتب شقير في هذه الرّواية عن حالة الضّياع الّتي عاشها من بقوا على أرض الوطن، وكيف انقسموا ما بين متمسّك بالأرض يحرثها ويزرعها ويعتاش من خيراتها، ومنهم من التحق بالعمل الأسود في الجانب الاحتلاليّ. ومنهم من مارس الجنس مع المومسات اليهوديّات معتبرا ذلك عملا نضاليّا! كما تعود به الذّاكرة إلى شارع بور سعيد الّذي غيّر المحتلّون اسمه إلى شارع الزّهراء، وكيف تحوّل ذلك الشّارع إلى بارات ومقاهي تعجّ بالسّكارى والمومسات. عنصر التّشويق واللغة: يطغى عنصر التّشويق على السّرد الرّوائيّ، وواضح أنّ ذلك نابع من العاطفة الصّادقة الّتي تحلّى بها الكاتب وهو يكتب روايته هذه. ولغة الرّواية جاءت متعدّدة الأصوات حسب شخوص الرّواية، ومعروف أنّ أديب شقير يمتلك ثروة لغويّة بائنة، وهي من السّهل الممتنع الّذي يعجّ بالبلاغة من صور شعريّة وتشبيهات واستعارات وغيرها. ويمكننا القول بأنّ هذه الرّواية الواقعيّة هي خليط من الذّكريات ومن السّيرة الذآتيّة ومن مسيرة شعب في مرحلة من تاريخ. وماذا بعد؟ هذه العجالة لا تغني بأيّ شكل من الأشكال عن قراءتها. ١٦-٤-٢٠٢٥

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store