
'شوبنهاور' يتجاوز بوابات الزمن
توافر للإنسان في العصر الحديث الكثير من السُّبل التي تسهل عليه الحياة، والتي إذا كان متواجدًا ولو بعضًا أو حتى واحدةً منها في الماضي، لكانت الابتهاج له حليفًادائمًا. لكن ما يحدث حاليًا أمر يدعو للحزن الشديد؛ إذ أن الإنسان وبالرغم من بلوغه مراتب عُلا من التقدُّم التكنولوجي ومعرفته بالعديد من الوصفات التي تجعله مالكًا للسمو الأخلاقي والرقي، إلَّا أنه ينزلق يومًا تلو الآخر في غياهب من الهمجية التي تتأصَّل بداخله وتتزايد يومًا تلو الآخر. بل والأسوأ، باتت الحياة تعجّ بالمرضى النفسيين، وأصبح الاكتئاب مرض معتاد، ومصاب به المليارات، بما في ذلك الأطفال. وعلاوة على ذلك، صارت السعادة أمر بعيد المنال يمكن القراءة عنه في الكتب والقصص الخيالية فقط.
وبالرغم من كل هذا، يأمل العلماء أن تتعاظم سعادة الإنسان باختراع الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يحاكي التفكير البشري وأساليب وعيه وإدراكه. والغرض المعلن من ذاك الاختراع الفريد ليس فقط محاكاة الإنسان لمجرَّد المحاكاة، لكن توفير وقته وجهده لأعمال أخرى قد تكون ذات نفع عظيم له وللبشرية ، بما في ذلك توفير الوقت والطاقة لتنمية الروابط الأسرية والإنسانية التي فقدها تقريبًا عند اللهاث وراء تحقيق النجاح والتميُّز. ويحاول العلماء طمأنة البشر أن ذاك الاختراع الذي غيَّر أشكال الحياة، ولسوف يواصل تبديل كل ما هو قديم بقيم ومستحدثات غير مسبوقة، لسوف يكون السبيل لفهم كيفية عمل العقل البشري، الذي لا يزال سرًّا معقَّا لا يستطيع العلم والتقدُّم التكنولوجي فك شفراته. وكذلك يؤكِّد العلماء أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان – في شكلها الأمثل – هي علاقة نفع مُتبادل، وأنه لا يجب أن يصير الذكاء الاصطناعي بديلًا للإنسان الذي اخترعه ولا يزال يعمل على تطويره.
وذاك الرأي الذي أتي على لسان زمرة من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم، والتخصصين في البرمجيات والفيزياء وعلوم النفس والأعصاب. إلَّا أن أقوالهم لم تشعر العامة بالاطمئنان الموجو، وأزجت المزيد من التوتُّر على عقولهم وعلى حياتهم. ودون أدنى شك، السبب واضح؛ لأن العلماء وضعوا العقل البشري والإنسان ككيان في مرتبة متساوية مع الذكاء الاصطناعي.
ولكي يفهم الإنسان موقفه في هذا العالم الحديث الذي أصبح التقدُّم فيه أمر حتمي، وكذلك هو الحال بالنسبة للإحساس بالتشاؤم من المستقبل وعدم الرضا عنه، كان لا بد من الرجوع لآراء الحكماء الذين وضعوا أسس هذا العالم الحديث من خلال إنشاء ما يشابه المنهاج الذي لا يساعد فقط على فهم ما يحدث حولنا، بل أيضًا التعامل معه بسهولة وأريحية. وواحدًا من الفلاسفة شديدي الحكمة الذي يجب اللجوء لأرائهم في أحلك المواقف، هو الفيلسوف الألماني 'آرثر شوبنهاور' Arthur Schopenhauer(1788-1860) المشهور بلقب فيلسوف التشاؤم. لكن بالرجوع إلى كنزه الفكري من مراجع لا تحظى بشعبية كاسحة حتى الآن، يلاحظ أنه لا يصدِّر التشاؤم للبشرية، بل أنه يشرح أسبابه ويحاول قدر الإمكان إيجاد منهاجًاللتعامل معه. وقد يظن البعض أن آراءه بالية قد عفا عليها الزمان لأنه ولد في القرن الثامن عشر وفارق الحياة بعد منتصف القرن التاسع عشر، لكن من يظن هذا قد حاده الصواب؛ لأن 'شوبنهاور' عاصر الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية في مهدهما، وراقب عن كثب التطوُّرات الناشئة والمخاوف العامة من تلك من الآلات المستحدثة، والتي بالقياس تشابه لحد بعيد اختراع الذكاء الاصطناعي واستخداماته المتعددة في الوقت الحالي، وبالمثل، كان هناك حينئذٍ مخاوف شديدة من استبدال البشر بآلات لا يصيبها الإرهاق ولا تمانع العمل بشكل متواصل وفي أي وقت، حسب الحاجة لها وكلما طُلِب منها.
في الماضي، كان الرقي الاجتماعي والأخلاقي مرتبطين بكل ما يُعلي من شأن العلوم وتحصيلها والاطلاع على الفنون وفهمها، وكذلك معرفة المستحدثات والابتكارات. ولهذا السبب، كان الجميع يحرصون على اقتناء مكتبات ضخمة مهيبة بداخل منازلهم؛ للتفاخر بها، وكأنها العلامة الدَّامعة لرفي شخص ما وحصافة رأيه، بينما قد يكون العكس عين الصِّحة. والأنكى من ذلك، أن المكتبات المنزلية تلك تتحول إلى ما يشبه المكتبات التي لا يستفيد منها أي فرد، بل وقد تكون لم يمسسها أحد على الإطلاق، فيما خلا البعض من كتبها. ومن ثمَّ، كان ينتقد 'شوبنهاور' من يشترون الكتب ويكدسونها، لأن من يشتري كتابًا من الأحرى أن يشتريأيضًا معه الوقت اللازم لقراءته؛ لأنه جرت العادة على مجرد الرغبة في امتلاك المحتوى.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن عملية القراءة بالنسبة ل'شوبنهاور' ليست كل شيء، لأن من يقرأ يجعل شخص آخر يفكر بالأصالة عنه، والقاريء مجرد شخص يكرر إعمال العقل الذي قام به مؤلِّف الكتاب؛ إذًا، فإن القارئ في تلك الحالة ليس بمبتكر، بل كأي تلميذ صغير يتعلَّم الكتابة، ويكون فرضه المدرسي تكرار ما كتبه له المعلِّم وسطره بقلم رصاص، أي أنه من السهل أن يمحى هذا المحتوى، وتتلاشى من جدار الذَّاكرة المعلومات التي عمل الفرد على جمعها من القراءة. والسبب، أن الجزء الأكبر من عملية التعلُّم والفكر قد أنجزه الكتاب من أجلنا. ولهذا السبب، عندما يرغب أي شخص إلهاء نفسه عن أمر ما، أو تحسين حالته المزاجية، أو حتى محاربة الأرق، فإنه على الفور يلتقط كتابًا ويقرأه؛ كي تلهيه القراءة عن الانشغال بأفكاره. وتأثير القراءة السلبي يكون بنفس تأثيرها الإيجابي؛ لأنها تجعل العقل البشري يتراجع لمرتبة ملعبًا لأفكار الآخرين، سواء أكانت مفيدة أو مغلوطة.
ويحذِّر 'شوبنهاور' من قضاء المرء يوم بأكمله منكبًّا علىالقراءة، ثمَّ، يتخلل ذاك اليوم فترات استرخاء يمضيها في تسلية طائشة. ومع اعتياد ذاك الروتين، يفقد العقل القدرة على التفكير تدريجيًا، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للفرد الذي يعتاد الركوب، فإنه يفقد تدريجيًا القدرة على المشي؛ لأن عظامه تتيبَّس وعضلاته تضمر. وما ذكره 'شوبنهاور' أثبتت أيضًا العلوم الحديثة صحته. ولهذا السبب كان يتعجَّب الكثير من أن بعض كبار السن يصابون بالخرف أو الزهايمر بالرغم من أنهم يدأبون على القراءة والاطلاع. ويضيف 'شوبنهاور' أنه قد اكتشف أيضًا بعض العلماء أنهم أغبياء؛ لأنهم اكتفوا بدور النَّاقل الذي يجمع أفكارالبعض دون وضع لمسات تفكيرهم العميق.
فالاكتفاء بالمعرفة السطحية التي لا تفضي إلى إعمال العقل والابتكار تجعل الفرد تدريجيًا لا يبالي بما يدور في أذهان الآخرين، لطالما اعتنق أفكار آخرين والتي قد تنطوي على معرفة سطحية ووجهات نظر ضيِّقة وأخطاء متكررة.ومن ثمَّ، فإن محاكاة الآخرين تفقد أي شخص ثلاثة أرباع سماته المميَّزة.
وبالتفكير قليلًا فيما يسطره 'شوبنهاور'، نلاحظ أن موقفه مطابقًا لموقف الإنسان في عصر السيبرانية والذكاء الاصطناعي؛ فجميع ألوان المعرفة أصبحت متوافرة يضغطة زرّ واحدة، ولهذا اختفت تقريبًا الكتب المطبوعة. وبالرغم من أن جميع ألوان المعارف والفنون أصبحت متاحة، فإن نسبة الجهل الثقافي والعزوف عن الاطلاع تزايدت بشكل مرعب؛ والسبب هو الاعتماد أن المعرفة متاحة ويمكن الرجوع إليها في أي وقت. ومن ثمَّ، تزايد الاعتماد في العقدين الماضيين على القراءة فقط، وصارت هناك أجيال لا تحسن الكتابة والإملاء؛ للاعتماد على أن الوسائل التكنولوجية بمقدورها تصحيح الأخطاء الإملائية. ودون أدنى شك، تلازمت مع تلك الظاهرة اختفاء الأسلوب الراقي في الكتابة، حيث أصبحت الكتابة شديدة البرجماتية؛ محتصرة أو على شكل نقاط، وغالبًا بالأسلوب العامي. ومع انتشار المواد العلمية المسموعة، لاحظ العلماء وجود شرائح من الأجيال الجديدة لا تحسن حتى القراءة.
ودون أدنى شك، فإن إخلاء السَّاحة للذكاء الاصطناعي لكي يقرأ ويكتب ويفكر ويحلل عوضًا عن الجنس البشري لسوف يجعل نهاية الإنسان محتومة، ألا وهي التراجع إلى مرتبة الحيوانات التي همها الأكبر إتاحة الطعام لها وإشباع الغرائز الحسية، ويرجع ذلك للتواكل على أدوات أخرى تقوم بالمهام التي تتطلَّب إعمال العقل عوضًا عنالعنصر البشري. ولا يعني ذلك رفض التقدم أو المستحدثات التكنولوجية أو مهاجمة الذكاء الاصطناعي، بل إيجاد السبل الصحيحة للاستفادة منها لكي نطوِّر أفكارنا ونجعل عقولنا تستقبل وتصدر المعلومات والأفكار.
واحدة من أكبر وأهم النعم التي من بها الخالق على عباده الآدميين هي القدرة على التفكير والتحليل؛ فلا يجب على المرء أن يتوقف عن التفكير ومحاولة تقديم أي اسهام شخصي يصبح بمثابة بصمته المميزة، ويجب المداومة على توكيد ذاك التميُّز زجي الجانب الحيواني لدى الإنسان. فلا تتوقف عن التفكير حتى تحتفظ بمكانة السيِّد ذو اليد الطولى على التقد

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ 2 أيام
- موقع كتابات
'شوبنهاور' يتجاوز بوابات الزمن
توافر للإنسان في العصر الحديث الكثير من السُّبل التي تسهل عليه الحياة، والتي إذا كان متواجدًا ولو بعضًا أو حتى واحدةً منها في الماضي، لكانت الابتهاج له حليفًادائمًا. لكن ما يحدث حاليًا أمر يدعو للحزن الشديد؛ إذ أن الإنسان وبالرغم من بلوغه مراتب عُلا من التقدُّم التكنولوجي ومعرفته بالعديد من الوصفات التي تجعله مالكًا للسمو الأخلاقي والرقي، إلَّا أنه ينزلق يومًا تلو الآخر في غياهب من الهمجية التي تتأصَّل بداخله وتتزايد يومًا تلو الآخر. بل والأسوأ، باتت الحياة تعجّ بالمرضى النفسيين، وأصبح الاكتئاب مرض معتاد، ومصاب به المليارات، بما في ذلك الأطفال. وعلاوة على ذلك، صارت السعادة أمر بعيد المنال يمكن القراءة عنه في الكتب والقصص الخيالية فقط. وبالرغم من كل هذا، يأمل العلماء أن تتعاظم سعادة الإنسان باختراع الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يحاكي التفكير البشري وأساليب وعيه وإدراكه. والغرض المعلن من ذاك الاختراع الفريد ليس فقط محاكاة الإنسان لمجرَّد المحاكاة، لكن توفير وقته وجهده لأعمال أخرى قد تكون ذات نفع عظيم له وللبشرية ، بما في ذلك توفير الوقت والطاقة لتنمية الروابط الأسرية والإنسانية التي فقدها تقريبًا عند اللهاث وراء تحقيق النجاح والتميُّز. ويحاول العلماء طمأنة البشر أن ذاك الاختراع الذي غيَّر أشكال الحياة، ولسوف يواصل تبديل كل ما هو قديم بقيم ومستحدثات غير مسبوقة، لسوف يكون السبيل لفهم كيفية عمل العقل البشري، الذي لا يزال سرًّا معقَّا لا يستطيع العلم والتقدُّم التكنولوجي فك شفراته. وكذلك يؤكِّد العلماء أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان – في شكلها الأمثل – هي علاقة نفع مُتبادل، وأنه لا يجب أن يصير الذكاء الاصطناعي بديلًا للإنسان الذي اخترعه ولا يزال يعمل على تطويره. وذاك الرأي الذي أتي على لسان زمرة من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم، والتخصصين في البرمجيات والفيزياء وعلوم النفس والأعصاب. إلَّا أن أقوالهم لم تشعر العامة بالاطمئنان الموجو، وأزجت المزيد من التوتُّر على عقولهم وعلى حياتهم. ودون أدنى شك، السبب واضح؛ لأن العلماء وضعوا العقل البشري والإنسان ككيان في مرتبة متساوية مع الذكاء الاصطناعي. ولكي يفهم الإنسان موقفه في هذا العالم الحديث الذي أصبح التقدُّم فيه أمر حتمي، وكذلك هو الحال بالنسبة للإحساس بالتشاؤم من المستقبل وعدم الرضا عنه، كان لا بد من الرجوع لآراء الحكماء الذين وضعوا أسس هذا العالم الحديث من خلال إنشاء ما يشابه المنهاج الذي لا يساعد فقط على فهم ما يحدث حولنا، بل أيضًا التعامل معه بسهولة وأريحية. وواحدًا من الفلاسفة شديدي الحكمة الذي يجب اللجوء لأرائهم في أحلك المواقف، هو الفيلسوف الألماني 'آرثر شوبنهاور' Arthur Schopenhauer(1788-1860) المشهور بلقب فيلسوف التشاؤم. لكن بالرجوع إلى كنزه الفكري من مراجع لا تحظى بشعبية كاسحة حتى الآن، يلاحظ أنه لا يصدِّر التشاؤم للبشرية، بل أنه يشرح أسبابه ويحاول قدر الإمكان إيجاد منهاجًاللتعامل معه. وقد يظن البعض أن آراءه بالية قد عفا عليها الزمان لأنه ولد في القرن الثامن عشر وفارق الحياة بعد منتصف القرن التاسع عشر، لكن من يظن هذا قد حاده الصواب؛ لأن 'شوبنهاور' عاصر الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية في مهدهما، وراقب عن كثب التطوُّرات الناشئة والمخاوف العامة من تلك من الآلات المستحدثة، والتي بالقياس تشابه لحد بعيد اختراع الذكاء الاصطناعي واستخداماته المتعددة في الوقت الحالي، وبالمثل، كان هناك حينئذٍ مخاوف شديدة من استبدال البشر بآلات لا يصيبها الإرهاق ولا تمانع العمل بشكل متواصل وفي أي وقت، حسب الحاجة لها وكلما طُلِب منها. في الماضي، كان الرقي الاجتماعي والأخلاقي مرتبطين بكل ما يُعلي من شأن العلوم وتحصيلها والاطلاع على الفنون وفهمها، وكذلك معرفة المستحدثات والابتكارات. ولهذا السبب، كان الجميع يحرصون على اقتناء مكتبات ضخمة مهيبة بداخل منازلهم؛ للتفاخر بها، وكأنها العلامة الدَّامعة لرفي شخص ما وحصافة رأيه، بينما قد يكون العكس عين الصِّحة. والأنكى من ذلك، أن المكتبات المنزلية تلك تتحول إلى ما يشبه المكتبات التي لا يستفيد منها أي فرد، بل وقد تكون لم يمسسها أحد على الإطلاق، فيما خلا البعض من كتبها. ومن ثمَّ، كان ينتقد 'شوبنهاور' من يشترون الكتب ويكدسونها، لأن من يشتري كتابًا من الأحرى أن يشتريأيضًا معه الوقت اللازم لقراءته؛ لأنه جرت العادة على مجرد الرغبة في امتلاك المحتوى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن عملية القراءة بالنسبة ل'شوبنهاور' ليست كل شيء، لأن من يقرأ يجعل شخص آخر يفكر بالأصالة عنه، والقاريء مجرد شخص يكرر إعمال العقل الذي قام به مؤلِّف الكتاب؛ إذًا، فإن القارئ في تلك الحالة ليس بمبتكر، بل كأي تلميذ صغير يتعلَّم الكتابة، ويكون فرضه المدرسي تكرار ما كتبه له المعلِّم وسطره بقلم رصاص، أي أنه من السهل أن يمحى هذا المحتوى، وتتلاشى من جدار الذَّاكرة المعلومات التي عمل الفرد على جمعها من القراءة. والسبب، أن الجزء الأكبر من عملية التعلُّم والفكر قد أنجزه الكتاب من أجلنا. ولهذا السبب، عندما يرغب أي شخص إلهاء نفسه عن أمر ما، أو تحسين حالته المزاجية، أو حتى محاربة الأرق، فإنه على الفور يلتقط كتابًا ويقرأه؛ كي تلهيه القراءة عن الانشغال بأفكاره. وتأثير القراءة السلبي يكون بنفس تأثيرها الإيجابي؛ لأنها تجعل العقل البشري يتراجع لمرتبة ملعبًا لأفكار الآخرين، سواء أكانت مفيدة أو مغلوطة. ويحذِّر 'شوبنهاور' من قضاء المرء يوم بأكمله منكبًّا علىالقراءة، ثمَّ، يتخلل ذاك اليوم فترات استرخاء يمضيها في تسلية طائشة. ومع اعتياد ذاك الروتين، يفقد العقل القدرة على التفكير تدريجيًا، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للفرد الذي يعتاد الركوب، فإنه يفقد تدريجيًا القدرة على المشي؛ لأن عظامه تتيبَّس وعضلاته تضمر. وما ذكره 'شوبنهاور' أثبتت أيضًا العلوم الحديثة صحته. ولهذا السبب كان يتعجَّب الكثير من أن بعض كبار السن يصابون بالخرف أو الزهايمر بالرغم من أنهم يدأبون على القراءة والاطلاع. ويضيف 'شوبنهاور' أنه قد اكتشف أيضًا بعض العلماء أنهم أغبياء؛ لأنهم اكتفوا بدور النَّاقل الذي يجمع أفكارالبعض دون وضع لمسات تفكيرهم العميق. فالاكتفاء بالمعرفة السطحية التي لا تفضي إلى إعمال العقل والابتكار تجعل الفرد تدريجيًا لا يبالي بما يدور في أذهان الآخرين، لطالما اعتنق أفكار آخرين والتي قد تنطوي على معرفة سطحية ووجهات نظر ضيِّقة وأخطاء متكررة.ومن ثمَّ، فإن محاكاة الآخرين تفقد أي شخص ثلاثة أرباع سماته المميَّزة. وبالتفكير قليلًا فيما يسطره 'شوبنهاور'، نلاحظ أن موقفه مطابقًا لموقف الإنسان في عصر السيبرانية والذكاء الاصطناعي؛ فجميع ألوان المعرفة أصبحت متوافرة يضغطة زرّ واحدة، ولهذا اختفت تقريبًا الكتب المطبوعة. وبالرغم من أن جميع ألوان المعارف والفنون أصبحت متاحة، فإن نسبة الجهل الثقافي والعزوف عن الاطلاع تزايدت بشكل مرعب؛ والسبب هو الاعتماد أن المعرفة متاحة ويمكن الرجوع إليها في أي وقت. ومن ثمَّ، تزايد الاعتماد في العقدين الماضيين على القراءة فقط، وصارت هناك أجيال لا تحسن الكتابة والإملاء؛ للاعتماد على أن الوسائل التكنولوجية بمقدورها تصحيح الأخطاء الإملائية. ودون أدنى شك، تلازمت مع تلك الظاهرة اختفاء الأسلوب الراقي في الكتابة، حيث أصبحت الكتابة شديدة البرجماتية؛ محتصرة أو على شكل نقاط، وغالبًا بالأسلوب العامي. ومع انتشار المواد العلمية المسموعة، لاحظ العلماء وجود شرائح من الأجيال الجديدة لا تحسن حتى القراءة. ودون أدنى شك، فإن إخلاء السَّاحة للذكاء الاصطناعي لكي يقرأ ويكتب ويفكر ويحلل عوضًا عن الجنس البشري لسوف يجعل نهاية الإنسان محتومة، ألا وهي التراجع إلى مرتبة الحيوانات التي همها الأكبر إتاحة الطعام لها وإشباع الغرائز الحسية، ويرجع ذلك للتواكل على أدوات أخرى تقوم بالمهام التي تتطلَّب إعمال العقل عوضًا عنالعنصر البشري. ولا يعني ذلك رفض التقدم أو المستحدثات التكنولوجية أو مهاجمة الذكاء الاصطناعي، بل إيجاد السبل الصحيحة للاستفادة منها لكي نطوِّر أفكارنا ونجعل عقولنا تستقبل وتصدر المعلومات والأفكار. واحدة من أكبر وأهم النعم التي من بها الخالق على عباده الآدميين هي القدرة على التفكير والتحليل؛ فلا يجب على المرء أن يتوقف عن التفكير ومحاولة تقديم أي اسهام شخصي يصبح بمثابة بصمته المميزة، ويجب المداومة على توكيد ذاك التميُّز زجي الجانب الحيواني لدى الإنسان. فلا تتوقف عن التفكير حتى تحتفظ بمكانة السيِّد ذو اليد الطولى على التقد


الزمان
منذ 6 أيام
- الزمان
الذكاء الإصطناعي .. للعقل وللدَّجل أيضاً
ليس هناك مجالٌ لا يتنازع داخله الضّدان، ومثلما الأذكياء في الخير والأمانة والتَّقدم، يقابلهم أذكياء في الدَّجل والكذب والتَّأخر، وهنا أقصد المجال الفكريّ، ففي لحظة يُقدم «الاصطناعيّ» بحثاً، في أيّ مجال ترغبُ، إن أردت الفيزياء فعنده ما ليس عند إسحاق نيوتن (ت 1727)، وإنْ طلبت البيان فعنده ما ليس لدى الجاحظ (ت 255 هج)، وإن طلبت علوم الرّجال والسِّير، فيُقدم لك ما تجهد به لأيام وشهور بثوانٍ. لهذا نجد التّثاقف يتزايد، فالكلّ يتحدث، فإن سُئلت، كطبيب أو مؤرخ، عن دواء أو واقعة، تجد الذي سألك يوزع عيناه بينك وبين آيفونه، وما يقرأه فيه هو المصدقُ، مع أنه جمعه مِن علوم النّاس، لكنَّ هيبة الجهاز، وعجائبيته الباهرة، تغري بالتّصديق، وكأن العلم الذي فيه ليس بشريّاً. نادراً ما يوجد باحث، أو كاتب اليوم، لم يستفد مِن محركات البحث، بصورة أو أخرى، فبواسطتها تؤخذ المعلومة مِن أمهات العلوم كافة بلمح بصر، أو لمح برق، إنَّها سرعة الضّوء، وما عليك إلا تحديد المعلومة، ثم تدقيق النتيجة بطريقتك، وهذا يحتاج إلى عِلمٍ وتخصص وثقافة، وإلا المحرك لا يهديك إلى شيء موثوق. كانت سرعة لمح البصر، أو لمع البرق، مِن أحلام الأولين، تأتي قصص عديدة فيها وصل فلان بلمح بصر، تشبيهات لواقع متخيل سيأتي وقد أتى، نعيشه الآن، كالشَّعاع الذي تخيله المتكلمون، وهو اليوم يماثل الأشعة فوق البنفسجية. غير أنَّ هذا التَّقدم الفائق، يُستخدم في الدَّجل أيضاً، أشخاص يدعون البحث، ومترجمون يدعون الترجمة، يستخدمون «الذَّكاء الاصطناعي» في تأليف الكتب وترجمتها، ويبدون متخصصين، لكنهم أتقنوا إدارة أدوات «الذَّكاء الاصطناعي»، فألفوا الكتب العِظام، وللأسف معارض الكتب ملأى بمؤلفاتهم، وهي ليست لهم، ولا للذكاء الاصطناعي، فالأخير يقوم بمهمة الإدارة والتنسيق، لِما رمي في أجواف أجهزته. إنّ الدَّجل في الكتابة ظاهرة قديمة، لكنها تعاظمت، مع ظهور «غوغل»، وبقية محركات البحث، بما يمكن تسميته بـ «نسخ ولصق»، ولأنَّ الدَّجالين احترفوا لصوصية الحروف، فهم يقومون بإعادة صياغة النُّصوص، كي لا تبدو مِن جهود غيرهم، مع التَّلاعب بالمصادر والحواشي، إذا اقتضى الأمر. هذا هو الدَّجل، الذي يمنحه الذَّكاء الاصطناعي، وليس لدي ما أستطيع التعبير به، عن الوقاية مِنه. ذَّكاء اصطناعي سيكون أمام المؤسسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث، مهمة صعبة، في التَّمييز بين ما ينتجه العقل، وما يستولي عليه الدَّجل، وإلا لا قيمة تبقى لهذه المراكز، ولم تبق حاجة لأهل الاختصاص، والخطورة الأكثر تكون في العلوم الإنسانية والآداب، فمجال اللصوصيّة فيها مفتوح، منذ القدم، ولكنه توسع، وسيتوسع، مع الذَّكاء الاصطناعي.لا أتردد في المشابهة بين العقل والدَّجل، مع الذكاء الاصطناعي، باكتشاف نوبل للديناميت، أفاد البشرية بأعز فائدة، لكنه صار أداة قتل رهيبة، فمنه تصنع المتفجرات القالعة للصخور، والمبيدة للحياة، في الوقت نفسه. إذا فتح مجال الذّكاء الاصطناعي، دون ضوابط صارمة، وأحسبها في مجال التأليف والكتابة، صعبة المنال، ستتحول الثّقافة إلى مستنقع مِن الدَّجل، فما وصله ول ديورانت (ت 1981)، في «قصة الحضارة» سيظهر مؤلفات لدجال، وأسفار غيره أيضاً، لأن الذَّكاء الاصطناعي يُقدمها له، فيطبخها مِن جديد. قد يلغي الذكاء الاصطناعي الاختصاص، فيظهر أصحاب السَّبع صنائع. يقول أبو عُبيْد القاسم بن سلام (ت 224 هج)، صاحب «الأموال»: «ما ناظرني رجلٌ قطٌ، وكان مُفَنِّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجلٌ ذو فنٍّ واحد إلا غلبني في عِلمه ذلك» (ابن عبد البرِّ، بيان العلم وفضله). قدمت منصات الذَّكاء الاصطناعي باحثين مزيفين، وخبراء دجالين في كلّ علم ينطون، يزايدون على ابن سلام في شرح كتابه «الأموال»، وبحضوره! قد يفيد ما قاله المفسر فخر الدِّين الرَّازي (ت 606 هج) شاهداً: «نهاية إقدام العقول عِقالُ/ وأقصى مدى العالمين ضلال» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).


موقع كتابات
٢٦-٠٤-٢٠٢٥
- موقع كتابات
فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية
'كل شيء في الكون، كما قال الفيلسوف اليوناني ديمقريطس، هو نتيجة للصدفة والضرورة.' يُعد جاك مونو (9 فبراير 1910 ـ 31 مايو 1976) ، الحائز على جائزة نوبل، أحد الشخصيات البارزة بين رواد علم الأحياء الجزيئي، حيث يُظهر مدى ثمار هذه الثنائية في فهم القضايا الرئيسية في علم الأحياء – أصل الحياة أو تطور الأنواع – وفهم تحديات علم الوراثة الحديث. إذا لم يكن الإنسان نتيجة لأي خطة إلهية، وإذا كان تطوره مجرد صدفة وليس خطة مسبقة، فلا شيء يسمح له بالغرق في المادية المتشائمة. في مواجهة تحديات العلم والتكنولوجيا التي تذهب إلى حد تهديد سلامة الإنسان، يدعو جاك مونو إلى اختراع إنسانية جديدة تدمج بيانات العلم. لقد تم كسر العهد القديم؛ وأخيرًا أدرك الإنسان أنه وحيد في هذا الكون الهائل الذي خرج منه بالصدفة. لم يتم كتابة مصيره ولا واجبه في أي مكان. يتعين عليه الاختيار بين المملكة والظلام. كان كتاب جاك مونو 'الصدفة والضرورة' الصادر عام 1970 معلمًا بارزًا في الأدبيات العلمية الشعبية، وذلك لبيانه القاطع بأن أصل الحياة وليد الصدفة البحتة. ان الطفرات تُشكل المصدر الوحيد المُحتمل للتعديلات في النص الجيني، وهو في حد ذاته المستودع الوحيد للهياكل الوراثية للكائن الحي، ويترتب على ذلك بالضرورة أن الصدفة وحدها هي مصدر كل ابتكار، وكل خلق في المحيط الحيوي. صدفة بحتة، حرة تمامًا ولكنها عمياء، هي أساس صرح التطور الهائل: لم يعد هذا المفهوم المركزي في علم الأحياء الحديث واحدًا من بين الفرضيات الأخرى الممكنة أو حتى المُتصورة. إنه اليوم الفرضية الوحيدة المُتصورة، الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع الحقائق المُشاهدة والمُختبرة. ولا شيء يُبرر الافتراض – أو الأمل – بأن موقفنا في هذا الصدد من المُحتمل أن يُراجع يومًا ما. لذلك ينفي مونو، مُحقًا، وجود أي قوى غائية لازمة لخلق الحياة من مادة جامدة، لكنه يجد أن السلوك الغائي الهادف هو إحدى السمات الأساسية للحياة، إلى جانب ما يُسميه التخلق الذاتي (الحياة 'تبني نفسها') والثبات التناسلي (الحياة 'تتكاثر ذاتيًا'). تُقر فلسفة المعلومات بأنه مع ظهور الحياة، دخلت هياكل معلوماتية ذات أهداف إلى الكون. ولكن لا بد من وجود عمليات مُولِّدة للمعلومات، وديناميكية، قبل ظهور الحياة الأرضية. فقد خلقت هذه العمليات الركيزة المعلوماتية للحياة، وبالأخص الشمس والبيئة الكوكبية المُلائمة لأصل الحياة على الأرض. يقول مونو إن بعض علماء الأحياء لم يكونوا راضين عن فكرته عن التخلق الذاتي، أي أن الكائنات الحية مُنحت غرضًا أو مشروعًا، لكنه يرى أن هذا أساسي لتعريف الكائنات الحية. معياره التالي هو التخلق الذاتي. يقول:…إن بنية الكائن الحي تنجم عن … عملية … لا تكاد تُعزى إلى تأثير قوى خارجية، بل إلى كل شيء، من شكله العام إلى أدق تفاصيله، وإلى تفاعلات 'تشكلية' داخل الكائن نفسه. نعلم الآن أن هذا ليس سوى 'حتمية كافية'. إنها إذن بنية تُثبت حتمية مستقلة: دقيقة، صارمة، تنطوي على 'حرية' شبه كاملة تجاه العوامل أو الظروف الخارجية – القادرة، بلا شك، على إعاقة هذا التطور، ولكنها لا تُسيطر عليه أو تُوجهه، ولا تُحدد مخططه التنظيمي للكائن الحي. ومن خلال الطابع المستقل والعفوي للعمليات التشكلية التي تُشكل البنية العيانية للكائنات الحية، فإن هذه الأخيرة تتميز تمامًا عن المصنوعات، كما أنها، علاوة على ذلك، تختلف عن غالبية الكائنات الطبيعية التي ينشأ شكلها العياني إلى حد كبير من تأثير العوامل الخارجية. البلورات من العمليات الفيزيائية البحتة 'الإرجودية' القليلة، التي تُقلل الإنتروبيا محليًا. إلا أن هناك استثناءً واحدًا: البلورات، التي تعكس هندستها المميزة تفاعلات مجهرية تحدث داخل الجسم نفسه. لذا، باستخدام هذا المعيار وحده، يجب تصنيف البلورات مع الكائنات الحية، بينما تُصنف القطع الأثرية والأشياء الطبيعية، سواءً المصنّعة بواسطة عوامل خارجية، ضمن فئة أخرى. ان الظواهر الذرية التعاونية الكمومية التي تُشكّل البلورات هي نفسها التي تُشكّل الجزيئات الكبيرة للحياة، كالحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (RNA)، إلخ. يعتقد مونو أن هناك 'حتمية داخلية مستقلة' 'تضمن تكوين الهياكل شديدة التعقيد للكائنات الحية'. لا يمكن أن يكون 'الضمان' كاملًا نتيجةً للفيزياء الإحصائية. مونو مُدرك تمامًا لعدم التحديد الكمومي. بعد مناقشة الصدفة من حيث الاحتمالات وألعاب الحظ، يقول: على المستوى المجهري، يوجد مصدر آخر لعدم يقين أكثر جذرية، متأصل في البنية الكمومية للمادة. فالطفرة بحد ذاتها حدث مجهري، حدث كمي، ينطبق عليه مبدأ عدم اليقين. حدثٌ بالتالي، وبحكم طبيعته، لا يمكن التنبؤ به أساسًا. ان العملية التطورية الأساسية بأنها انتقال المعلومات من بنية معلومات حية إلى أخرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا يتم في ظل وجود مستمر للضوضاء الحرارية والكمية. تمثل هذه البنى كمية كبيرة من المعلومات التي لم يُحدد مصدرها بعد: فكل معلومة مُعبر عنها – وبالتالي مُستلمة – تفترض وجود مصدر. ويقول: 'مصدر المعلومات المُعبر عنها في بنية الكائن الحي هو دائمًا كائن آخر مطابق هيكليًا'. تمتلك الكائنات الحية القدرة على إنتاج ونقل المعلومات المتعلقة ببنيتها. إنها معلومات غنية جدًا، إذ تصف نظامًا تنظيميًا، بالإضافة إلى تعقيده الشديد، يبقى محفوظًا سليمًا من جيل إلى جيل. المصطلح الذي سنستخدمه لوصف هذه الخاصية هو التكاثر الثابت، أو ببساطة الثبات. مع هذا التكاثر الثابت، نجد الكائنات الحية والهياكل البلورية تشترك مجددًا في خاصية تجعلها مختلفة عن جميع الأجسام الأخرى المعروفة في الكون. بعض المواد الكيميائية في المحاليل فائقة التشبع لا تتبلور إلا بعد تلقيح المحلول ببذور بلورية. كما نعلم أنه في حالة وجود مادة كيميائية قادرة على التبلور في نظامين مختلفين، فإن بنية البلورات التي تظهر في المحلول ستحددها بنية البذرة المستخدمة. كما يزعم مونو أن الفرق الرئيسي بين البلورات والكائنات الحية يكمن في كمية المعلومات المنقولة بين الأجيال. وبالتالي، فهو يهمل الإبداع الكامن في اكتساب ونقل المعرفة من قِبل الكائنات الحية. مع ذلك، تُمثل البُنى البلورية كميةً من المعلومات أقل بكثير من تلك التي تنتقل من جيل إلى آخر في أبسط الكائنات الحية التي نعرفها. وبهذا المعيار – الكمي البحت، مع العلم – يُمكن تمييز الكائنات الحية عن جميع الأجسام الأخرى، بما في ذلك البلورات. في مساهمته الرئيسية في lنهج معلوماتي في علم الأحياء، يُقدم مونو تقديرًا كميًا لما يُسميه 'المستوى الغائي' للأنواع، مُرتبًا إياها في تسلسل هرمي قائم على محتوى المعلومات فقط. تُمثل هذه بدايةً مهمةً لعلم الأحياء القائم على المعلومات. …بما أن درجة ترتيب البنية يُمكن تعريفها بوحدات المعلومات، فسنقول إن 'محتوى الثبات' لنوع مُعين يُساوي كمية المعلومات التي، عند نقلها من جيل إلى آخر، تضمن الحفاظ على المعيار الهيكلي المُحدد. وكما سنرى لاحقًا، وبمساعدة بعض الافتراضات، يُمكن التوصل إلى تقدير لهذه الكمية. وهذا بدوره سيُمكّننا من توضيح المفهوم الأكثر مباشرة ووضوحًا من دراسة هياكل وأداء الكائنات الحية، ألا وهو مفهوم الغائية. ومع ذلك، يكشف التحليل أنه مفهومٌ شديد الالتباس، لأنه ينطوي على فكرة ذاتية تُعرف بـ'المشروع'. لنأخذ مثال الكاميرا: إذا اتفقنا على أن وجود هذا الشيء وبنيته يُحققان 'مشروع' التقاط الصور، فيجب أن نتفق أيضًا، وهذا بديهي، على أن مشروعًا مماثلًا يُنجز مع ظهور عين الفقاريات. ولكن لا يُصبح لكل مشروع، مهما كان، معنى إلا كجزء من مشروع أشمل. جميع التكيفات الوظيفية في الكائنات الحية، مثل جميع المصنوعات التي تُنتجها، تُحقق مشاريع محددة يمكن اعتبارها جوانب أو أجزاءً متعددة من مشروع أساسي فريد، وهو الحفاظ على النوع وتكاثره. بتعبير أدق، سنختار، بشكل عشوائي، تعريف المشروع الغائي الجوهري بأنه يتمثل في نقل محتوى الثبات المميز للنوع من جيل إلى جيل. وبالتالي، ستُسمى جميع البنى، وجميع الأداءات، وجميع الأنشطة التي تُسهم في نجاح المشروع الأساسي 'غائيًا'. هذا يسمح لنا، على الأقل، بطرح مبدأ تعريف ' المستوى الغائي' للنوع. يمكن اعتبار جميع البُنى والأداءات الغائية مُقابلةً لكمية مُعينة من المعلومات التي يجب نقلها لتحقيق هذه البُنى وإنجاز هذه الأداءات. لنُسمِّ هذه الكمية ' معلومات غائية'. يُمكن القول إن 'المستوى الغائي' لنوعٍ مُعين يُقابل كمية المعلومات التي يجب نقلها، في المتوسط، لكل فرد، لضمان انتقال المحتوى المُحدد للثبات التناسلي من جيلٍ إلى آخر. بالنسبة لفرانسوا جاكوب، الذي تقاسم جائزة نوبل مع جاك مونو، كانت الغائية سمةً أساسيةً لكل خلية. قال جاكوب إن الغرض والرغبة الأساسية لكل خلية هي أن تُصبح خليتين. لكن مونو يرى أن غائية هذه تبدو مُتعارضة مع مبدأ أساسي، وهو حجر الزاوية في العلم الحديث. حجر الزاوية في المنهج العلمي هو فرضية موضوعية الطبيعة. بعبارة أخرى، الإنكار المنهجي لإمكانية الوصول إلى المعرفة 'الحقيقية' بتفسير الظواهر من حيث الأسباب الغائية – أي من حيث 'الغرض'. يمكن تحديد تاريخ دقيق لاكتشاف هذه القاعدة. لقد مهدت صياغة غاليلي وديكارت لمبدأ القصور الذاتي الطريق ليس فقط للميكانيكا، بل لنظرية المعرفة في العلم الحديث أيضًا، بإلغاء الفيزياء الأرسطية وعلم الكونيات. لا شك أن أسلاف ديكارت لم يتجاهلوا العقل، ولا المنطق، ولا الملاحظة، ولا حتى فكرة المواجهة المنهجية بينهما. لكن العلم كما نفهمه اليوم لم يكن ليتطور على هذه الأسس وحدها. لقد تطلب الأمر التقييد الصارم الضمني في فرضية الموضوعية – صارم، نقي، لا يمكن إثباته أبدًا. فمن الواضح أنه من المستحيل تخيل تجربة يمكنها إثبات عدم وجود غرض، أو غاية منشودة، في أي مكان في الطبيعة. لكن مُسلّمة الموضوعية مُشتركة في جوهرها مع العلم؛ فقد قادت تطوره الهائل على مدى ثلاثة قرون. ولا سبيل للتخلص منها، حتى ولو مؤقتًا أو في نطاق محدود، دون الخروج عن نطاق العلم نفسه. مع ذلك، تُلزمنا الموضوعية بإدراك الطابع الغائي للكائنات الحية، والاعتراف بأنها في بنيتها وأدائها تتصرف بشكل إسقاطي – تُحقق غرضًا وتسعى إليه. وهنا، على الأقل ظاهريًا، يكمن تناقض معرفي عميق. في الواقع، تكمن المشكلة المركزية لعلم الأحياء في هذا التناقض نفسه، والذي يجب حله، إن كان ظاهريًا فقط؛ أو إثبات أنه غير قابل للحل تمامًا، إذا تبيّن ذلك بالفعل. كما يُمثّل حل مونو 'للتناقض المعرفي العميق' في جعل الغائية ثانوية – ونتيجة – لثبات التكاثر. بما أن الخصائص الغائية للكائنات الحية تبدو وكأنها تتحدى إحدى المسلمات الأساسية لنظرية المعرفة الحديثة، فإن أي رؤية فلسفية أو دينية أو علمية للعالم لا بد أن تقدم، بحكم الواقع، حلاً ضمنيًا، إن لم يكن صريحًا، لهذه المشكلة. الفرضية الوحيدة التي يعتبرها العلم الحديث مقبولة هنا: وهي أن الثبات يسبق بالضرورة الغائية. أو، بتعبير أوضح؛ الفكرة الداروينية القائلة بأن الظهور الأولي، والتطور، والتحسين المستمر لهياكل غائية متزايدة الكثافة، ناتجة عن اضطرابات تحدث في بنية تمتلك بالفعل خاصية الثبات – وبالتالي تكون قادرة على الحفاظ على آثار الصدفة، وبالتالي إخضاعها لتأثير الانتخاب الطبيعي. بتصنيف الغائية كخاصية ثانوية ناتجة عن الثبات – تُعتبر وحدها أساسية – فإن النظرية الانتقائية هي النظرية الوحيدة المقترحة حتى الآن والتي تتوافق مع مسلمة الموضوعية. وهي في الوقت نفسه النظرية الوحيدة التي لا تتوافق مع الفيزياء الحديثة فحسب، بل تستند إليها تمامًا، دون قيود أو إضافات. باختصار، تضمن نظرية التطور الانتقائية التماسك المعرفي لعلم الأحياء، وتضعه في مكانه بين علوم ' الطبيعة الموضوعية'. لقد كان كولين بيتندرا أول من استخدم مصطلح 'الغائية' لتمييز ظهور الغاية في التطور البيولوجي، وتحديدًا الانتقاء الطبيعي الدارويني، عن فكرة 'الغائية' القديمة، أو 'الغاية' الأرسطوية، وهي غاية كونية سابقة لظهور الحياة. يشهد مفهوم التكيف اليوم رواجًا متزايدًا لعدة أسباب: يُنظر إليه على أنه أقل من مثالي؛ وفهم أفضل للانتقاء الطبيعي؛ وقد كرّس المهندس الفيزيائي، في بناء الآلات الساعية إلى الغاية، استخدام المصطلحات الغائية. يبدو من المؤسف إحياء مصطلح 'الغائية'، وإساءة استخدامه، كما أعتقد. سيزول الالتباس الذي طال أمده بين علماء الأحياء لو وُصفت جميع الأنظمة الموجهة نحو الغاية بمصطلح آخر، مثل 'الغائية'، للتأكيد على أن إدراك ووصف التوجه نحو الغاية لا يحملان التزامًا بالغائية الأرسطية كمبدأ عرضي فعال. ان التكيف، والانتقاء الطبيعي، والسلوك، في هما اللذان يحددان السلوك والتطور. يلخص مونو تاريخ الفلسفة، تقريبًا كما نفعل نحن (وكما يفعل كارل بوبر)، على غرار الانقسام الكبير، أو الثنائية، بين المثاليين والماديين. نرى هذا التمييز بين من يعتقدون أن المعلومات ثابتة ومن يرونها تتزايد باستمرار. قد يمنعه تركيز مونو على الثبات التكاثري من إدراك أهمية التجديد وخلق معلومات جديدة. منذ نشأتها في جزر البحر الأيوني قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، انقسمت الفلسفة الغربية بين موقفين متعارضين ظاهريًا. فوفقًا لأحدهما، لا يمكن لحقيقة العالم الأصيلة والنهائية أن تكمن إلا في أشكال ثابتة تمامًا، جوهرها ثابت. أما بالنسبة للآخرين، فإن الحقيقة الحقيقية الوحيدة تكمن في التغير والتطور. من أفلاطون إلى وايتهيد، ومن هيراقليطس إلى هيجل وماركس، من الواضح أن هذه النظريات المعرفية الميتافيزيقية كانت دائمًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحيزات الأخلاقية والسياسية لمؤلفيها. هذه الصروح الأيديولوجية، التي تُصوَّر على أنها بديهية للعقل، كانت في الواقع بناءات لاحقة صُممت لتبرير النظريات الأخلاقية السياسية المسبقة. لقد طرح مونو مشكل العلاقة بين المعرفة والقيمة: مثل العديد من العلماء، يعتبر مونو البحث المفتوح عن المعرفة والحقيقة ذا قيمة جوهرية. هل يمكنه أن يجعل المعرفة نفسها قيمة في العالم الموضوعي للعلم 'الخالي من القيم'؟ يسعى مونو إلى 'أخلاقيات المعرفة'. هل يجب علينا أن نتبنى بشكل نهائي الموقف القائل بأن الحقيقة الموضوعية ونظرية القيم تُشكلان مجالين منفصلين أبديين، لا يمكن اختراقهما معًا؟ هذا هو الموقف الذي اتخذه عدد كبير من المفكرين المعاصرين، سواء كانوا كُتّابًا أو فلاسفة أو حتى علماء. بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، الذين لا يمكن لقلقهم إلا أن يُديمه ويتفاقم، أعتقد أن هذا الموقف لن يُجدي نفعًا؛ كما أعتقد أنه خاطئ تمامًا، وذلك لسببين أساسيين. أولًا، وبديهيًا، لأن القيم والمعرفة ترتبطان دائمًا وضروريًا بالعمل، كما هو الحال في الخطاب. ثانيًا، وقبل كل شيء، لأن تعريف المعرفة 'الحقيقية' بحد ذاته يرتكز في نهاية المطاف على مُسلَّمة أخلاقية. تتطلب كل نقطة من هاتين النقطتين توضيحًا موجزًا. ترتبط الأخلاق والمعرفة حتمًا بالعمل ومن خلاله. فالعمل يُدخل المعرفة والقيم في آن واحد في الاعتبار، أو يُشكك فيهما. كل عمل يدل على أخلاق، أو يخدم قيمًا معينة أو يُسيء إليها؛ أو يُشكِّل خيارًا للقيم، أو يُدَّعي ذلك. من ناحية أخرى، المعرفة مُضمَرة بالضرورة في كل عمل، بينما العمل، في المقابل، هو أحد المصدرين الضروريين للمعرفة. انه بمجرد أن نجعل الموضوعية شرطًا أساسيًا للمعرفة الحقيقية، يُنشأ تمييز جذري، لا غنى عنه في البحث عن الحقيقة، بين مجالي الأخلاق والمعرفة. المعرفة في حد ذاتها لا تشمل أي حكم قيمي (باستثناء 'القيمة المعرفية')، بينما الأخلاق، غير الموضوعية في جوهرها، مُستبعدة إلى الأبد من نطاق المعرفة. مبدأ الموضوعية يمنع أي خلط بين أحكام القيم والأحكام المُكتسبة من خلال المعرفة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن هاتين الفئتين تتحدان حتمًا في شكل الفعل، بما في ذلك الخطاب. وللالتزام بمبدئنا، سنتخذ موقفًا مفاده أنه لا يُنظر إلى أي خطاب أو فعل ذي معنى أو أصيل إلا – أو بقدر ما – يُوضح ويُحافظ على التمييز بين الفئتين اللتين يجمعهما. وبهذا التعريف، يُصبح مفهوم الأصالة أرضية مشتركة تلتقي فيها الأخلاق والمعرفة مجددًا؛ حيث تكشف القيم والحقيقة، المترابطتان ولكن غير القابلتين للتبادل، عن أهميتهما الكاملة للإنسان المُنتبه المُدرك لصداها. في نظام موضوعي… أي خلط للمعرفة بالقيم محرم، بل ممنوع. ولكن – وهنا تكمن النقطة الحاسمة، الرابط المنطقي الذي يربط المعرفة بالقيم معًا في جوهره – هذا التحريم، هذه 'الوصية الأولى' التي تضمن أساس المعرفة الموضوعية، ليست موضوعية في حد ذاتها. لا يمكن أن تكون موضوعية: إنها مبدأ أخلاقي، قاعدة سلوك. المعرفة الحقيقية تجهل القيم، ولكن لا يمكن أن تُبنى إلا على حكم قيمي، أو بالأحرى على قيمة بديهية. من البديهي أن طرح مبدأ الموضوعية كشرط للمعرفة الحقيقية يُشكل خيارًا أخلاقيًا وليس حكمًا مُستمدًا من المعرفة، لأنه، وفقًا لشروط المسلمة نفسها، لا يمكن أن تكون هناك أي معرفة 'حقيقية' قبل هذا الاختيار التحكيمي. ولإرساء معيار المعرفة، يُعرّف مبدأ الموضوعية قيمةً: هذه القيمة هي المعرفة الموضوعية نفسها. وهكذا، فإنّ قبول مبدأ الموضوعية يُعلن التزامًا بالبيان الأساسي لنظام أخلاقي، ويؤكد على أخلاق المعرفة. ولعلّ أخلاق المعرفة، بفضل طموحها النبيل، تُشبع هذه الرغبة في الإنسان للتطلع نحو ما هو أسمى. فهي تُرسي قيمةً سامية، هي المعرفة الحقيقية، وتدعوه إلى عدم استخدامها لأغراضه الشخصية، بل إلى استخدامها من الآن فصاعدًا بدافع اختيارٍ واعٍ ومدروس. وهي في الوقت نفسه إنسانية، إذ تُحترم في الإنسان خالق هذا التعالي ومستودعه. أخلاق المعرفة هي أيضًا، بمعنىً ما، 'معرفة الأخلاق'، وهي تقديرٌ ثاقبٌ لدوافع ورغبات الكائن البيولوجي، ومتطلباته وحدوده. إنها قادرة على مواجهة الحيوان في الإنسان، واعتباره ليس عبثيًا، بل غريبًا، ثمينًا في غرابته ذاتها: المخلوق الذي ينتمي إلى عالم الحيوان وعالم الأفكار في آنٍ واحد، ويمزقه ويثريه في آنٍ واحد هذه الثنائية المؤلمة، التي تُعبَّر عنها في الفن والشعر وفي الحب الإنساني. في المقابل، فضّلت الأنظمة الروحانية، بدرجة أو بأخرى، تجاهل الإنسان البيولوجي، أو التقليل من شأنه، أو التنمر عليه، وغرس الاشمئزاز أو الرعب في نفوسه من سمات متأصلة في طبيعته الحيوانية. أما أخلاقيات المعرفة، فتشجعه على تكريم هذا الإرث والتمسك به، عالمةً في الوقت نفسه كيف تُسيطر عليه عند الضرورة. أما بالنسبة لأسمى الصفات الإنسانية، كالشجاعة، والإيثار، والكرم، والطموح الإبداعي، فإن أخلاقيات المعرفة تُقرّ بأصلها الاجتماعي البيولوجي، وتؤكد قيمتها السامية في خدمة المثل الأعلى الذي تُعرّفه. لكن هل وقع جاك مونو في خطأ تاريخي؟ لقد استقى مونود عنوان عمله من مقولة لديموقريطس تخيّلها أو أخطأ في تذكرها. يفتتح كتابه بهذا الاقتباس: كل ما هو موجود في الكون هو ثمرة الصدفة والضرورة. للأسف، لم يُدلِ ديموقريطس بمثل هذه المقولة. بصفته مؤسس الحتمية، عارض هو ومعلمه ليوكيبوس بشدة الصدفة أو العشوائية. أصرّ ليوكيبوس على الضرورة المطلقة التي لا تترك مجالًا للصدفة في الكون.'لا شيء يحدث عشوائيًا (ماتين)، بل كل شيء له سبب (لوجوس) وبالضرورة.' لا يتم صنع المال من الهواء، بل يتم صنعه دائمًا من العقل والضرورة.' فما الذي سيتغير في فلسفة البيولوجيا لو تم تصحيح هذا الخطأ التاريخي؟