
الحدث السياسي وفوضى تلقي الأخبار
التعامل مع أخبار السياسة والصراعات والحروب يتطلب ما يمكن تسميته بـ«أدبيات التلقي»، وهي مجموعة من السلوكيات الذهنية والمعرفية التي ينبغي أن يتحلى بها أي متابع يسعى إلى فهم ما يجري بعمق، لا مجرد التفاعل العاطفي..
في وقت تحوّلت فيه المنصات الإعلامية والتواصلية إلى نوافذ يومية على المآسي العالمية، وتحوّل المتلقي من مستهلك سلبي إلى شريك في تشكيل الرأي العام، تزداد الحاجة إلى وعي عميق وممنهج في التعامل مع تلقي الأخبار، خصوصًا أخبار السياسة وتجاذباتها والصراعات والحروب. فليس كل ما يُبث يُروى بدقة، وليس كل ما يُشاهد يُفهم كما ينبغي. وهنا تبدأ الإشكالية وتبرز المسؤولية الفردية والجمعية تجاه ما نراه ونسمعه من أخبار متواترة، محفوفة بالمواقف، ومحملة بالأجندات، ومرتبطة بثقافة الصورة والسبق، أكثر من التحقق والتفسير.
الواقع الإعلامي اليوم هو بين فوضى التلقي وتحدي الحقيقة حيث يتسم بسرعة فائقة وتدفق لا ينقطع من الأخبار العاجلة والمحتوى المرئي المصحوب بتعليقات ولقطات درامية. هذا الفيض يجعل المتلقي في حالة استنفار دائم، وقد يُدخل عقله في حالة من التشويش أو الإجهاد المعرفي. حيث إن التكرار الكثيف، واللقطات الصادمة، والعناوين المثيرة، قد تخلق لدى المتابع شعورًا بأنه يرى الحقيقة الكاملة، بينما هو في الحقيقة يرى مشهدًا مجتزأ، أو سردًا منحازًا، أو واقعًا تمّت صياغته وفق زاوية إعلامية واحدة.
التعامل مع أخبار السياسة والصراعات والحروب يتطلب ما يمكن تسميته بـ'أدبيات التلقي'، وهي مجموعة من السلوكيات الذهنية والمعرفية التي ينبغي أن يتحلى بها أي متابع يسعى إلى فهم ما يجري بعمق، لا مجرد التفاعل العاطفي. ومن هذه الأدبيات:
التثبت: من أهم قواعد التلقي هي قاعدة 'تثبّتوا'، أي التحقق من المصدر، ومقارنة الأخبار بين عدة وكالات إعلامية، مع إدراك الانحيازات السياسية والمصالح الإقليمية والدولية التي قد تؤثر على السرد.
فهم السياق: لا يمكن فهم حدث دون ربطه بسياقه التاريخي والسياسي والجغرافي. الحرب ليست انفجارًا لحظيًا، بل نتيجة لتراكمات معقّدة، وأحيانًا يُنتج الإعلام اختزالًا مخلًا حين يتجاهل هذه الخلفيات.
النأي عن التهويل والترويع: بعض القنوات تعتمد على الإثارة لجذب الانتباه، وهو ما يجعل الخبر يتحول إلى عرض درامي. المطلوب من المتلقي أن يُدرك هذه التقنية، وألا يسمح لنفسه بالانزلاق إلى التهويل أو الخوف أو الكراهية.
الفصل بين الرأي والخبر: كثيرًا ما تُدمج التغطيات الإخبارية مع التعليق أو التحليل الذي يحمل وجهة نظر جهة معينة. على المتلقي أن يميّز بين ما هو معلومة مؤكدة، وما هو تفسير أو موقف أو تأويل.
ليس الوصول إلى الحقيقة في زمن الارتباك السياسي والتدفق الإعلامي أمرًا سهلاً. فكل طرف يقدّم روايته، ويُخفي ما لا يخدمه، أو يُضخّم ما يعزّز موقفه. لكن الحقيقة غالبًا لا تكون في أحد الطرفين وحده، بل في تقاطع الرؤى، وفي المساحات الرمادية. لذا، يحتاج المتابع إلى:
• متابعة المنصات المستقلة قدر الإمكان.
• الاعتماد على تقارير الجهات الرسمية والمنظمات الدولية والموثوقة.
• عدم بناء موقفه بناءً على فيديو واحد أو شهادة واحدة.
• تربية حسّ نقدي يستطيع أن يقرأ ما بين السطور، ويفكك اللغة والمصطلحات التي تستخدمها وسائل الإعلام.
من الاشكالات الكبرى في متابعة أخبار الصراعات يرتبط بالبعد النفسي والذهني في تلقي الأخبار وهو مايحدث الأثر النفسي في مشاعر واتجاهات الفرد. حيث صور الدمار، وصوت الانفجارات، وصرخات الضحايا، كلها تترك أثرًا عميقًا قد يترسّب على هيئة قلق، أو غضب، أو يأس، أو حتى شعور بالعجز. لذلك من الضروري:
• عدم الانغماس المتواصل في الأخبار، بل تخصيص وقت محدود ومحدد للمتابعة.
• موازنة المشاهدة الإخبارية بمحتوى إيجابي أو هادئ.
• الحديث مع الآخرين عما يشعر به المتابع، لتفريغ الشحنات العاطفية التي تتكون داخله.
• إذا اقتضى الأمر، اللجوء إلى الدعم النفسي أو المشاركة في مبادرات مساندة تخلق شعورًا بالفعل الإيجابي.
في ظل تسارع الأخبار وانتشارها، يقف المتلقي البسيط، غير المدرّب على النقد أو التمييز، في وجه العاصفة دون درع. يتلقى كل ما يُعرض عليه وكأنه 'الحقيقة الوحيدة'، فتتشكل قناعاته بناءً على الصورة الأقوى، أو الصوت الأعلى، أو المعلومة التي تتكرر أكثر. وهذا يفتح الباب واسعًا لتكوين تصورات خاطئة، وأحكام منحازة، ومواقف قد مزعجة نفسيا واجتماعيا حيث تكمن أبرز سماته في:
• الاعتماد على مصدر واحد غالبًا يكون موجّهًا أو غير مهني.
• التفاعل العاطفي الفوري دون محاولة التمهّل أو الفهم.
• سهولة التأثر بالإشاعات والمبالغات.
• عدم القدرة على الفصل بين الرأي والخبر.
• تحويل الخبر إلى موقف شخصي أو اجتماعي أو طائفي أو أيديولوجي دون وعي. لكن عليه أن يوقظ فطرة التمييز وحسًّه عبر استثارته من خلال استفهام أو نصيحة أو تساؤل، مثل:
• هل تأكدت من الخبر؟
• هل سمعت وجهة النظر الأخرى؟
• هل ترى أن نشر هذا الفيديو مفيد أم يزيد التوتر؟
• هل تعرف من أين جاء هذا المحتوى؟
بهذه الأسئلة قد نوقظ فيه وعيًا فطريًا ينمو مع الوقت، ويجعل من كل فرد عنصرًا فاعلًا في مقاومة التزييف لا ناقلًا له.
اليوم الجمهور صانع للرأي وليس مجرد متلقٍ. عبر شبكات التواصل، يُمكن أن يُشارك الخبر، أو يعلّق عليه، أو يُحرّف مضمونه، أو يُحوّله إلى أداة لتعبئة الرأي العام. لذا من المهم أن يدرك كل شخص أثر مشاركته:
• لا تُسهم في نشر إشاعة، أو خبر غير موثوق، فذلك قد يُؤجّج الصراع.
• لا تُعيد نشر الصور المؤلمة بشكل مفرط، لما لذلك من آثار نفسية على الآخرين.
• استخدم صوتك لمناصرة القيم، لا التحريض.
• كن جزءًا من التهدئة والوعي، لا من الضجيج والفوضى.
ويبقى القول : تلقي أخبار السياسة والصراعات والحروب مسؤولية معرفية وأخلاقية ونفسية. بين الحياد والانحياز، وبين العاطفة والعقل، وبين التفاعل والموقف، يحتاج المتلقي إلى أن يكون ناقدًا لما يسمع، بصيرًا بما يشاهد، ورشيدًا فيما يُشارك. إننا لا نعيش فقط في عصر الإعلام، بل في عصر الوعي الإعلامي، ولا يمكن مواجهة الأزمات الكبرى، إلا بوعي أكبر، وعقل مفتوح، ونفس متزنة.
فالخبر لم يعد مجرد معلومة، بل مادة تؤثر في الوجدان، وتشكّل القناعات، وقد تُغير المصائر لذلك التعامل الرشيد في أسلوب التلقي للمحتوى يجب أن يسود عقلية المتلقي بشدة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 30 دقائق
- الشرق الأوسط
دي غيندوس: صراع الشرق الأوسط قد يُضعف نمو منطقة اليورو ويؤثر على التضخم
حذّر لويس دي غيندوس، نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي، يوم الخميس، من أن ارتفاع أسعار الطاقة الناتج عن الصراع في الشرق الأوسط قد يُضعف وتيرة النمو الاقتصادي في منطقة اليورو، ما قد ينعكس سلباً على مسار التضخم. كانت أسعار النفط قد ارتفعت في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على إيران في وقت سابق من الشهر، قبل أن تتراجع مؤخراً مع تنامي الآمال بالتوصل إلى حل للصراع. ومع ذلك، يُرجّح أن تظل أسعار الطاقة شديدة التقلب ما دام خطر التصعيد ظل قائماً، وفق صحيفة «وول ستريت جورنال». وقال دي غيندوس: «إن اندلاع الصراع بين إسرائيل وإيران يُضيف حالة من عدم اليقين بشأن اتجاه أسعار النفط، وهو ما قد يُثقل كاهل النمو الاقتصادي في منطقة اليورو». وشدد على أهمية مراقبة تطورات الاقتصاد الحقيقي عن كثب، بوصفه مؤشراً رئيسياً لتوقعات التضخم. وأشار إلى أن أوروبا، بخلاف الولايات المتحدة، تعتمد إلى حد كبير على واردات النفط والغاز، رغم تسارع جهودها في تنمية مصادر الطاقة المتجددة. ويُشكل ارتفاع أسعار الطاقة المستوردة عبئاً على الأسر والشركات، مما يؤدي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي. في سياق آخر، قال دي غيندوس إن ارتفاع الرسوم الجمركية على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة قد يُسهم في تهدئة التضخم داخل منطقة اليورو، وإن كان ذلك من خلال إضعاف النمو الاقتصادي، مضيفاً: «من المتوقع فرض رسوم جمركية أعلى، حتى وإن سارت المفاوضات الثنائية بشكل إيجابي». كان البنك المركزي الأوروبي قد خفّض في وقت سابق من هذا الشهر، سعر الفائدة الرئيسي للمرة الثامنة، ملوّحاً باحتمال إنهاء دورة التيسير النقدي، مع اقتراب التضخم من هدفه البالغ 2 في المائة، إذ بلغ مستوى أقل بقليل من هذا الهدف في مايو (أيار). وقال دي غيندوس: «نعتقد أننا قريبون جداً من هدف التضخم. ونرى أننا في موقع جيد حالياً». إلا أن تصريحاته الأخيرة توحي بإمكانية إجراء مزيد من الخفض في سعر الفائدة لضمان استقرار التضخم عند المستويات المستهدفة. وفي ختام كلمته، شدد دي غيندوس على أن مواجهة بيئة عالمية تتسم بقدر أكبر من التقلب والمخاطر تتطلب تعزيز التكامل الأوروبي، من خلال إزالة الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات بين الدول الأعضاء، والعمل على إنشاء أسواق مشتركة للخدمات المصرفية والادخار والاستثمار. وقال: «علينا أن نضع مصلحة أوروبا فوق المصالح الوطنية».


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
الجيش الإسرائيلي في بيان ختامي لعملياته في إيران: دمرنا الآلاف من أجهزة الطرد المركزي
قال الجيش الإسرائيلي اليوم الجمعة إنه دمر الآلاف من أجهزة الطرد المركزي الإيرانية خلال العملية العسكرية التي نفذها ضد إيران واستمرت 12 يوما. وذكر الجيش الإسرائيلي في بيان ختامي لعملياته في إيران أن المنشآت النووية الثلاث الرئيسية في إيران لحقت بها أضرار جسيمة. وشنت الولايات المتحدة هجمات على المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية فجر يوم الأحد الماضي مستخدمة قاذفات تحمل أكثر من 12 قنبلة خارقة للتحصينات، لكن تقارير إعلامية أميركية نقلت عن تقييم مبدئي جرى تسريبه من وكالة استخبارات الدفاع أن الهجمات ربما عرقلت البرنامج النووي الإيراني لبضعة أشهر فقط. صورة بالأقمار الاصطناعية لمفاعلات بوشهر في إيران (إ.ب.أ) وقال الجيش الإسرائيلي إنه دمر مراكز بحث وتطوير مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وقضى على 11 عالما نوويا بارزا مرتبطين ببرنامج طهران النووي. وأوضح الجيش الإسرائيلي أنه دمر نحو 50 في المائة من مخزون المنصات الصاروخية الإيرانية خلال العمليات، بالإضافة إلى تدمير 15 طائرة واستهداف ستة مطارات. مفاعل بوشهر النووي الإيراني (رويترز - أرشيفية) وأعلنت إيران النصر في الحرب التي استمرت 12 يوما، وذلك بعد أن تسببت صواريخها في مقتل العشرات في إسرائيل.


هارفارد بزنس ريفيو
منذ 2 ساعات
- هارفارد بزنس ريفيو
كيف تتصرف إن وصفك زملاؤك بالمتشائم؟
هل سبق أن شاركت في اجتماع حضره شخص ينتقد كل فكرة أو يركز دائماً على المخاطر في أي أسلوب أو… تابع التصفح باستخدام حسابك لمواصلة قراءة المقال مجاناً حمّل تطبيق مجرة. اقرأ في التطبيق أو الاستمرار في حسابك @ @ المحتوى محمي