
بوح لا يصدأ وذاكرة لا تموت
تعددت رؤى الفلاسفة والمفكرين حول الفن، وإن اختلفت لكنها اتفقت على أن الفن أداة تعبير للإنسان عن ذاته ووسيلة للتأمل في الواقع والتعبير عنه وربما أحياناً الهرب منه وتجاوزه، وهو أيضاً تعبير عن الجمال والعاطفة وانفعالات النفس وتجسيدها بشتى الطرق، رسماً وقولاً وفعلاً، فمن خلال الفن يوصف الإحساس ويُشرح الشعور ويُعترف بانفعالات العاطفة كلغة بشرية عابرة للقارات وتتجاوزها، فالفن إبداع إنساني، وتعبير شخصي للإنسان عن نفسه بأن يقول أنا هنا، لقد كنت هنا. قد يكتب أو يرسم أو ينسج صوتا موسيقيا بديعا ليعبر عن نفسه.
قد يكون الفن تعبيرا عن حالة إنسانية فردية تتكرر بين البشر، أو ربما كنتيجة لتفاعل أفراد المجتمع فيما بينهم، من خلال تواصلهم وتعبيرهم عن مشاعرهم، تحدياتهم وخيباتهم وآمالهم، وبذلك ظهرت لنا الرقصات الشعبية والأهازيج الوطنية والدينية والطقوس الجماعية المقدسة في كل مجتمع. والقصيدة تشرح حال البدو في البادية، والرواية تشرح حال القرون الماضية في روسيا، والمسرح يحكي لنا حال أوروبا.
إذا كان الفن انعكاسا وناقلا لحال الإنسان وواقعه، ومن ثم ناقلا لقصص الأمم والمجتمعات والأوطان، وسجلا يحفظ قصص البشر في عصورهم، هنا تحول الفن من وسيلة للتعبير عن الانسان وانفعالاته ومشاعره وصورة مقاربة لواقعهمإلى ذاكرة للشعوب والمجتمعات يدونها ويرسمها ويكتبها في شكل قصيدة ورواية وفنون متعددة.
إن التاريخ يحفظ قصص الحضارات والمنتصرين وأمجاد الأبطال المغيرين والمجددين ومن صنعوا فارقا في حياة مجتمعاتهم، لكن ماذا عمن عاش في هذه المجتمعات؟ ماذا عمن عاش تلك الحرب وتلك المجاعة وذلك الغزو وذلك الفيضان؟ من يكتب قصص الأمهات والأطفال والعشاق في تلك الحقبة؟ من يدون شعورهم ويثبت حضور على هامش التاريخ؟ من يكتب قصة من دفعوا تكاليف الحروب وتكبدوا خسائر المجد وسُحقوا في الانعطافات التاريخية الحادة!
لذلك، يتحول الفن من مجرد قصة جمالية ومساحة ابداع انساني، إلى تاريخ إنساني غير رسمي، يعرف الحقب التاريخية بفنونها وألحانها وقصائدها وأغنياتها، فبعد قرون تموت الحضارة، ويموت الأبطال ويبقى ما نجده في ذاكرة الفن الذي حفظ لنا ذلك المجتمع كيف عاش وماذا قاسى وكيف تجاوز، ذاكرة حقيقة لا تموت وسجل تاريخي انساني.
لذلك، قد يبدو من المهم أن يأخذ الفن بقيمته الجمالية والإنسانية والتاريخية مكانته التي يستحق في مجتمعنا، ونحن مجتمع زاخر بقصصه وبطولاته. فكيف يمكن أن يرى مجتمعنا القيمة الحقيقة للفن ويدرك أبعاده؟ هل الوقت والانفتاح وازدهار الأعمال الفنية كفيل بتحويل نظرة المجتمع؟ أم أن السجال سيستمر فيما بين من يرى أن الفن ليس إلا للمتعة وبين من يراه بوح لا يصدأ وذاكرة شعبية لا تموت، أم ربما يبقى الحُكم معلقا لدى قاضي كل زمان ومكان.. الوقت الذي يصدر حكمه دائما بأثر رجعي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
السرد في بلاط الأمراء
الإنسان بطبعه كائن سردي لأن السرد في أصله وسيلة تعبيرية مهمة لبناء جسور التواصل بين إنسان وآخر لإيصال فكرة أو خبر أو لمجرد التسلية. وبعيداً عن نظريات السرد وتحويل السرد بشكله الشفهي البسيط؛ الذي يمارسه الإنسان منذ بداية الخلق إلى أن أصبح فناً أدبياً له نظرياته التي تميز أنواعه واستخداماته، فهو مقترن بحديثنا اليومي بشكل لا يمكن فيه اختزاله بجنس أدبي أو بفئة من الناس دون غيرهم. كان أول تقديم للإنسان بوصفه كائناً جديداً عبر قدرته على الفهم وتحويل ذلك الفهم إلى معلومة ومن ثم تقديم تلك المعلومة للآخرين عبر (سردها) بشكل لا تتقنه الكائنات الأخرى، وحدث ذلك حينما أمر الله آدم عليه السلام (أنبئهم بأسمائهم)، وذلك لم يكن بسرد الأسماء فحسب بل بماهية تلك الأسماء وعلاقتها بالوجود وتاريخها وحقيقة تلك الأسماء وهذا ينطبق على تعريف السرد بوصفه (التتابع والتسلسل في الحديث). اكتشف الإنسان حاجته للسرد حينما بدأ بالتنقل وتمر به الأحداث ورغبته في إخبار الآخرين عن تلك الأحداث ونقل الصورة للآخرين ولو سبق التوثيق المرئي للأحداث ذلك لما ذهب الإنسان إلى خلق ذلك الفضاء السردي، ثم جاءت مرحلة الخيال لتصنع مرحلة أخرى مهمة من مراحل السرد؛ وهي المرحلة التي حولت السرد من كونه شيئاً من طبع الإنسان إلى أن يصبح فناً. حينما يأتي الحديث عن بلاط الأمراء بوصفه حاضناً مهماً لإنتاج الأدب فإن أول ما يخطر على البال هو الشعر كونه الفن الأدبي الأكثر ارتباطاً في الأذهان بعلاقة الأمراء بالأدباء، رغم أن السرد يسبق الشعر في تلك العلاقة تاريخياً وكذلك من حيث الاستمرار. تناول الكثير علاقة الشعراء بالأمراء وخصوصاً في الأدب العربي مع إهمال غريب لعلاقة أهم وأكثر إنتاجية وربما يعود ذلك إلى أن كل إنسان هو سارد، وليس كل إنسان شاعراً فأصبح السرد في بلاط الأمراء وكأنه مجرد ممارسة عادية وليست بناء لفن قائم بحد ذاته. حينما نعود إلى كتاب ألف ليلة وليلة بوصفه أحد أقدم الكتب التي قدمت السرد بالحبكة الفنية المطلوبة لهذا الفن، فهو مثال رائع لعلاقة بلاط الأمراء بالسرد ليس فقط لأنه قائم على حكايات سردية تروى لأمير؛ بل لأنه تمثيل متقن لتأثير فن السرد على الأمراء ولو كان ذلك من باب الخيال الذي قام على علاقة موجودة ومحفزة لإنتاج ذلك العمل. حتى القصص القرآني الذي أسس للسرد في العربية بطريقة أو بأخرى سادت على قصصه حكايات الحكام ومن حولهم سواء لأخذ العبرة والطمأنينة بالنهايات التي ينتصر فيها الخير على عبثية الطغاة أو لتسلية النبي عليه السلام وأتباعه عن الأذى الذي يلاقونه في سبيل الحق. في العصرين الأموي والعباسي شهدت حركة التأليف السردي ثورة عظيمة كذلك حركة الترجمة لسرديات الأمم الأخرى وكان ذلك بتشجيع ورغبة من أمراء تلك المرحلة. أخيراً، ما يزال الحكواتي موجودا في بلاط الأمراء حتى يومنا هذا ولم يغب ناقل الخبر منذ هدهد سليمان إلى ذلك الخوي الذي يسرد الحكايات أو يؤلفها لتسلية الأمراء أو لخلق مناخ تفاعلي في مجالس الأمراء، وهذا ما يجعل من السرد فناً كان وما زال حاضنه الأول بلاط الأمراء. أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
العودة إلى الماضي لا تعني الضعف...
لم أكتب لأنني عالقة هناك، في زمنٍ مضى! كتبت لأن الماضي معلمي الأول. والعودة إليه، لم يكن هروباً، أو انكساراً، بل مواجهة. ووعيٌ بما كان... وبما يجب أن يكون. أنا لا أبحث عن شفقة، ولا أروي قصة حزينة. فقط، أكتب لأُضيء ما أطفئ في داخلي، لأعيد ترتيب صوتي الذي خنقته سنوات طويلة. عشرون عاماً من التجربة.. من السقوط والنهوض، من الحزن والخذلان، ومن الصمت الذي كان أثقل من أي صراخ. مررتُ بليالٍ ظننت أنني لن أخرج منها، ومواقف جرّدتني من قوتي.. وها أنا اليوم أقف، لا لأبكي، بل لأقول: أنا هنا.. أقوى. لم أعد تلك الفتاة التي تسكت كي لا تُفهم خطأ، ولا تلك التي تتحمّل أخطاء غيرها خشية الفقد. لقد تعلّمت، بعد كل تلك العواصف، أن لا أحد يستحق أن أضيع من أجله. الآن أعرف من أكون، وماذا أريد. لست مجرد امرأة أنا ذاكرة متماسكة، وندبة ناعمة، ودرس كُتب على جدار قلبي. كل ما ظننته نهاية، كان بداية تشكّلي من جديد. وكل ما كسرني، أعادني إلى ذاتي الحقيقية. أنا تلك التي اختبرت الانكسار ولم تستسلم، التي سارت وسط العتمة ولم يخفت ضوءها، والتي أدركت أنها لن تُهزم إلا إذا اختارت الاستسلام، فكان القتال خيارها الأول والأخير. أنا لست ضحية ماضٍ، أنا المستقبل! أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
الناقد والجمهور السائد
> كلّ النقاشات التي تطفو إلى السطح من حين إلى آخر حول دور النقد السينمائي وفاعليّته وجدواه مكرّرة، وقد طُرحت على هذا النحو منذ أكثر من 50 سنة. > سنجد، لو راجعنا أرشيفات المجلات القديمة المعنية بالفن السينمائي، أن هذه الأسئلة وردت في المنتديات وفي المجلات، التي كان عددها في ذلك الحين يربو على مائة مجلة أميركية وأوروبية، وضعف ذلك حول العالم. وكذلك في كثير من الكتب التي تناولت النقد السينمائي وماهيّته وأهميّته. > تمحور بعض هذا النقاش حول فاعلية وتأثير النقد على الجمهور، انطلاقاً من سؤال ورد في مقالة نشرتها مجلة «سايت آند ساوند» البريطانية عام 1950، مفاده أن الأفلام التي لا تعجب النقّاد هي الأكثر نجاحاً تجارياً، في حين أن تلك التي تعجبهم لا تعني شيئاً للجمهور السائد. > يستوقفني أمران في هذا الصدد: الأول أن نقّاد اليوم (شرقاً وغرباً) مصابون بداء الرغبة في تلبية ما يطلبه المشاهدون أكثر من أي وقت مضى، لأجل البقاء في الصورة الإعلامية. فقد تحوّل جزء كبير من النقد إلى ذراع إعلامية غير مستقلّة، وهذا ما يجعل تلك الملاحظة في غير مكانها هذه الأيام. > الأمر الثاني، أن جمهور المثقفين والمعنيّين بالسينما بوصفها فناً، والذين يؤمّون النقد بوصفه ثقافة ومعرفة، كانوا ولا يزالون أقلّ عدداً من الذين لا يأبهون إلا لما يطلبونه في الحياة، من أنواع الطعام ولون الأثاث إلى الأفلام وسواها. > هذه طبيعة لا يستطيع النقد تغييرها. فالناقد يحمل مصباحاً فقط لينير الطريق أمام الراغبين في السير معه، وهؤلاء كانوا وسيظلون دوماً قلّة.