
حيوانات القصور والمشاهير: وفاء يتجاوز حدود البشر
من الحيوانات الأليفة التي ترافقنا في بيوتنا، إلى المخلوقات البرية التي تحيط بنا، كانت الحيوانات دائماً جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، تمنحنا مشاعر الحب والوفاء، وتُدهشنا بسلوكياتها ورفقتها التي لا تُقدّر بثمن. حتى حذرها الفطري منّا يعبّر عن عمق غريزتها، ويجعلها تنال مكانة خاصة في قلوبنا.
ورغم بساطتها، ألهمت هذه الكائنات العديد من الفنانين والكتّاب والسياسيين والرؤساء، الذين عبّروا عن عمق تأثيرها في حياتهم، سواء بكلمات مليئة بالعاطفة، أو برسائل وداع مؤثرة. تُرجمت هذه المشاعر إلى "يوم الحيوانات الأليفة الوطني"، الذي أسسته خبيرة أسلوب الحياة كولين بايج، تكريماً لهذه الكائنات المخلصة.
من أبرز النماذج التي تجسد هذا الارتباط العميق، علاقة الملكة إليزابيث الثانية بكلاب الكورجي، التي بدأت td عام 1933. منذ ذلك الحين، نشأت سلالة الكورجي الملكية، التي ضمّت أكثر من 30 كلباً، بينها "سوزان"، الكلبة التي تلقتها الملكة في عيد ميلادها الثامن عشر، ,رافقتها حتى في شهر عسلها. كانت الملكة تُولي كلابها رعاية خاصة، ترافقها في نزهاتها، وتتغذى بطعام فاخر، وتعيش في رفاهية فريدة.
لم تكن الملكة وحدها من خصّ الحيوانات بهذه المكانة، فقد شارك الأمير ويليام والأميرة كيت جمهورهما لحظة مؤثرة عبر وسائل التواصل، بنشر صورة لكلبهما "أورلا"، من فصيلة كوكر سبانيل، احتفالًا بيوم الحيوانات الأليفة الوطني، في تكريم لافت لهذا الرفيق الوفي.
View this post on Instagram
A post shared by The Prince and Princess of Wales (@princeandprincessofwales)
أما النجمة الفرنسية بريجيت باردو، فحبّها للحيوانات لم يكن مجرد هواية، بل رسالة حياة. ففي عام 1986، اعتزلت التمثيل لتكرّس وقتها للدفاع عن حقوق الحيوان، فأسّست "مؤسسة بريجيت باردو" مستخدمة أموالها الخاصة، في مبادرة أنقذت ولا تزال تنقذ الآلاف من الحيوانات.
وداليدا، أيقونة الطرب، أحبّت كلاب "الكارلين" ذات الألف تجعيدة، التي رافقتها طوال آخر 15 عاماً من حياتها. وبحسب شقيقها أورلاندو، كانت هذه الكلاب تمنحها سكينة خاصة في خضم حياتها الفنية الصاخبة.
وتُعرف الممثلة المكسيكية-اللبنانية سلمى حايك بعلاقتها الفريدة مع الحيوانات، إذ تعيش في منزلها مع كلاب وقطط وببغاوات وبوم، أبرزها بومة الإنقاذ "كيرينغ"، التي تشاركها لحظات التأمل ومشاهدة التلفاز وحتى الطعام، في علاقة خارجة عن المألوف.
وفي مشهد مؤثر من المشهد السياسي العربي، ودّع الزعيم اللبناني وليد جنبلاط كلبه الوفي "أوسكار"، من فصيلة "شار بي" الصينية، برسالة حزينة نشرها في 22 مارس 2019 عبر "تويتر" قال فيها: "وداعاً يا أغلى صديق، وداعاً يا أغلى رفيق، وداعاً يا حبيبي يا Oscar". وأوسكار هذا لم يكن مجرد حيوان أليف، بل كان رفيقاً يومياً شاركه لقاءاته وجولاته، وحتى اجتماعاته الرسمية.
أما دولة الإمارات فكانت من الدول التي أظهرت التزاماً راسخاً بحماية الحيوانات والرفق بها، وجعلت من هذا الملف أولوية بيئية وإنسانية تعكس قيم الرحمة والتعايش المتجذرة في ثقافتها. فمنذ عام 1966، حين أنشأ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان هيئة للرفق بالحيوان، وحتى اليوم، واصلت الدولة مسيرتها في تطوير التشريعات، وإطلاق المبادرات، وتعزيز السياسات التي تصون الحياة الحيوانية وتضمن رفاهها.
تُوّج هذا الاهتمام بقوانين متقدمة مثل القانون الاتحادي رقم 16 لسنة 2007 بشأن الرفق بالحيوان وتعديلاته، وبحملات جماهيرية واسعة النطاق مثل 'سقيا الطير' و"أحتاج للماء مثلك"، التي تهدف إلى حماية الحيوانات من قسوة المناخ وتعزيز الوعي المجتمعي بمسؤولية العناية بها. وحرصت الدولة على بناء شراكات إقليمية ودولية للتدريب وتبادل الخبرات، في إطار يتناغم مع أهداف حملة "استدامة وطنية" ويعكس توجهها الحضاري في حماية البيئة وكائناتها.
في العصر الرقمي، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مرآة تعكس عمق علاقتنا بالحيوانات، حيث توثّق آلاف المنشورات يومياً مشاهد نابضة بالحب والوفاء؛ من كلاب ترافق أصحابها حتى أبواب المستشفيات، إلى قطط ترفض الابتعاد عنهم، وطيور تحتفل بوجودهم… تحوّلت هذه المنصّات إلى سجلّ إنساني حيّ، يذكّرنا بأن الرحمة لا تُقاس بالكلمات بل تُترجم إلى أفعال.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
منذ يوم واحد
- النهار
في فنجان الشاي... ذاكرة الحضارات ونكهة التاريخ
بدأت حكاية الشاي منذ آلاف السنين، وتحديداً في الصين القديمة قرابة عام 2737 قبل الميلاد، حين وقعت الصدفة التي غيّرت مذاق العالم. تقول الأسطورة إن الإمبراطور شينونغ، المعروف بحكمته وفضوله تجاه الأعشاب والنباتات، كان حاضراً حين هبّت نسمة خفيفة، فتساقطت بعض أوراق الشاي في القدر المغلي. انتشرت رائحة فريدة أسرَت الحواس، فتذوّق الإمبراطور الشراب، ومن تلك الرشفة الأولى بدأت رحلة الشاي. انتشر الشاي في جميع أنحاء آسيا، حيث أصبح جزءاً من الحياة اليومية في اليابان بفضل رهبان الـzen البوذيين، قبل أن يشق طريقه إلى الهند، ثم إلى أوروبا والشرق الأوسط. ساهم كل من طريق الحرير وخطوط التجارة البحرية في انتشاره على نطاق واسع، ليتحوّل من مجرد شراب إلى رمز عالمي يعكس قيم الضيافة والثقافة والتقاليد المتجذّرة عبر العصور. في عام 2020، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 أيار/مايو ليكون "اليوم العالمي للشاي"، بهدف تعزيز الوعي العالمي بأهمية الشاي في دعم التنمية الريفية وتعزيز سُبل العيش المستدامة. وجاء هذا الإعلان بموجب القرار 241/74، الذي أُقر في كانون الثاني/يناير من العام نفسه، استناداً إلى توصية صدرت عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) خلال دورتها الحادية والأربعين المنعقدة في حزيران/يونيو 2019. كما يسلط الضوء على المرأة ودورها في قطاع الشاي. ووفقًا لمنظمة اليونيسف، فإن اليوم العالمي للشاي فرصة للاحتفال بالتراث الثقافي والفوائد الصحية والأهمية الاقتصادية لهذا المشروب، مع العمل على جعل إنتاجه مستداماً "من الحقل إلى الكوب" لضمان استمرار فوائده للناس والثقافات والبيئة لأجيال عديدة. ولا يمكن أن نغفل عن مكانة الشاي الخاصة في الحياة الملكية البريطانية، حيث كانت الملكة إليزابيث الثانية من أشهر عشاق الشاي في العالم. كانت تعتبر فنجان الشاي جزءاً لا يتجزأ من يومها، فقد قالت ذات مرة: "الشاي هو الراحة التي لا غنى عنها، حتى في أكثر الأيام ازدحاماً". ومن خلال هذه العادة، عززت الملكة تقليد الشاي البريطاني وجعلته رمزاً للضيافة والأناقة في القصور الملكية، ما أضفى على المشروب بعداً تاريخياً وثقافياً متفرداً. يعتبر الشاي اليوم كنزاً صحياً لما له من فوائد مثبتة. فهو غني بمضادات الأكسدة التي تقلل الالتهابات، ويدعم صحة القلب، ويحسّن صحة الأمعاء، ويخفض نسبة السكر في الدم، ويُعتقد أنه يقلل من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان، كما يعزز التركيز ويحسّن النوم. وللشاي مكانة خاصة في الثقافات العالمية، إذ تُقام مهرجانات وفعاليات للاحتفال به مثل "يوم الشاي الوطني" في المملكة المتحدة، و"مهرجان الشاي الأخضر" في كوريا، و"شاي جورهات" في الهند، إلى جانب معارض دولية في تايوان وأميركا، تعكس جميعها عشق الشعوب لهذا المشروب وطقوسه المتنوعة. أما اقتصادياً، فقد بلغت قيمة سوق الشاي العالمية 49.53 مليار دولار في عام 2023، مع توقعات بأن يتضاعف هذا الرقم ليصل إلى 98.29 مليار دولار بحلول عام 2033. ويأتي هذا النمو بمعدل سنوي مركب قدره 7.09%، ما يعكس زيادة الطلب العالمي المتواصل على الشاي كمشروب وثقافة عالمية. أنواع الشاي تتوزع بين الأخضر، الأسود، الأبيض، والأولونغ، ولكل نوع خصائصه وفوائده الصحية الفريدة. اليوم، لا يقتصر استخدام الشاي على كونه مشروباً تقليدياً فقط، بل أصبح يدخل في مجالات عدة مثل تخفيف التوتر والقلق، تحسين التركيز، ودعم الصحة العامة بفضل محتواه من مضادات الأكسدة والكافيين المعتدل. كما يُستخدم الشاي في بعض العلاجات الطبيعية والتجميلية لما له من تأثير مهدئ ومنشط في آن واحد.


صوت بيروت
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- صوت بيروت
ريتشارد غير يُحرّك الضمير العالمي بقصيدة درويش من أجل غزة
عبّر الممثل الأميركي 'ريتشارد غير' عن دعمه للشعب الفلسطيني من خلال مشاركته الصوتية في أداء قصيدة 'فكّر بغيرك' للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وذلك ضمن حملة أطلقتها مجموعة 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' عبر منصة إنستغرام. وظهر 'غير' وهو يلقي القصيدة، مستحضرا لقاء جمعه بدرويش قبل أعوام طويلة. وقد لاقت المبادرة تفاعلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث وُصف الممثل الأميركي بأنه 'صوت ضمير إنساني' و'مدافع بارز عن حقوق الإنسان'، خصوصًا في ظل دعوته الواضحة لوقف إطلاق النار في غزة، وإنهاء معاناة المدنيين. وبوسم 'وقف إطلاق النار الدائم الآن' نشرت مجموعة 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' الفيديو مع رسالة جاء فيها: 'نُكرّم اليوم جميع من يسعون لإنهاء المعاناة والظلم في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم، وندعو أولئك الذين لم يرفعوا أصواتهم بعد للانضمام إلى هذه القضية الإنسانية. في هذا السياق، نشارككم قصيدة 'فكّر بغيرك' للشاعر محمود درويش، بصوت الممثل وناشط حقوق الإنسان ريتشارد غير، أحد أعضاء مجموعة (فنانون من أجل وقف إطلاق النار)'. وأضافت 'فنانون من أجل وقف إطلاق النار' أنه في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المدنيون في غزة ندعو إلى ضرورة وضع المحبة والتعاطف في صميم جهودنا الجماعية لحماية إنسانيتنا. نحن نلتزم بالعمل من أجل وقف دائم لإطلاق النار، والإفراج عن جميع الرهائن، وإنهاء الحصار على المساعدات الإنسانية التي تسهم في إنقاذ الأرواح. وتقول قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: و'أنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك' (لا تنسَ قوت الحمام) وأَنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك (لا تنسَ من يطلبون السلام) وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك (لا تنسَ شعب الخيام) وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر بغيرك (من فقدوا حقّهم بالكلام) وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك (قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلام)' ولا يخفي النجم الأميركي، البالغ من العمر 75 عاما، تأييده لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي تصريحات سابقة له اعتبر أن الوضع في الأراضي الفلسطينية يعد مستحيلا ولابد إنهاء الاحتلال. ففي عام 2017 انتقد 'غير' المستوطنات التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، واعتبر أنها تمثل شيئا استفزازيا منافيا للعقل. وفي عام 2021 كان من بين مجموعة من المشاهير الموقعين على رسالة ترفض تصنيف مجموعات فلسطينية تعمل في مجال حقوق الإنسان كمنظمات إرهابية، ومن بين الموقعين على الرسالة كل من سوينتون وسوزان ساراندون، والمخرج كين لوتش. وقال في تصريحات له وقتها إن للشعب الفلسطيني مكانة في قلبه، بسبب محنته في ظل الاحتلال الإسرائيلي، كما تحدث عن أمل الفلسطينيين وقدرتهم على الصمود. وكان مكتب وكالة 'الأونروا' في الولايات المتحدة قد أعاد نشر تصريحات الفنان الأميركي الداعمة لفلسطين عبر منصة 'تويتر'، في وقت تعاني فيه الوكالة من ضغوط مالية متزايدة، وسط محاولات ممنهجة من جانب الاحتلال لتعطيل تمويلها والحد من قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين، بالإضافة إلى استهداف منشآتها التعليمية في قطاع غزة بالقصف المباشر. وزار الممثل الأميركي مدينة رام الله الفلسطينية عام 2003 وحرص على زيارة عدد من الفنانين والمثقفين الفلسطينيين في إطار جولة قام بها للتقريب بين الشعوب، خاصة أنه من نجوم هوليود الحريصين على المشاركة في العمل السياسي التطوعي.

المدن
٢٠-٠٤-٢٠٢٥
- المدن
شوربة بصل في "الهورس شو"
منذ توظيفه في شركة American Underwriters الكائنة في مبنى عريضة في شارع الحمرا، شعر متري أنّ جزءًا كبيرًا من أحلامه تحقّق وتبدّل مزاجه كمراهق بدأ يكتشف لذّة التَّدْخِين. وباتَ كل يوم في منطقة رأس بيروت ويتأخر في العودة إلى غرفته في الجبل الصغير، يتنقّل بين مقهى "هورس شو" وشارع بلس، ومرات ينزل إلى أسواق بيروت يتجوّل، وصولًا إلى الزيتونة ومقبرة السنطية ومقهى الحاج داوود ومقهى البحرين. كان متري بعيدًا من أسرته في الضّيعَة الْمَنْسِيَّة، وأصبح قادرًا على احتساء القهوة في الشارع العريق من دون منّة أبيه وعطفه الْقَاسِي أو اِضْطِرَاب أمّه النفسيّ وتوتّرها، وهو المشّاء في تسكّعه الْيَوْمِيّ على الرصيف الطويل، أمام مقاهي الرصيف والواجهات الزجاجية. كان كُل شيء جميلًا. يقارن بين الرصيف الطويل وخطوات المارة، والدروب في هضاب الضِيَعَة، بدا كأنه يعيش في غابة من الرغبات والصور، واكتشف كبته الريفي والبريّ والحلميّ. كان خجولاً منطوياً، يستعيض عن غياب المرأة والحبّ وبراكين رغبته، بالبصبصة وإشباع البصر حتى الأحشاء الدفينة. منذ أًصبحَ متري موظفًا، صار قادرًا على مقاومة الضجر واللاشيء بقليل من القهوة وشراء الكتب. يقرأ تمرّدات جنى جبور ورحلات أمين الريحاني وهذيان رامبو وأنوات المتنبي، لا يصدّق أن يده تلمس الورق الذي يحبّه، وسيرته موزّعة بين الحكايات التي يقصّها الرواة. تستدرجه القراءة للعيش في الأمكنة التي تولد من الكلمات، والأشياء التي تتجلّى في الغياب الآسر. كانَ يتنقل في سيارة الأجرة بين وسط بيروت والجبل الصغير. قبل أن يصبح متري موظفًا في شركة، ويزور شارع الحمرا يوميًا، تحوّل الشارع بالنسبة إليه سحرًا لا يرحم، أو كمن يقرأ في كتاب لا ينتهي، عرفه منذ الصفحة الأولى العام 1960 تاريخ بناء أول سينما على أيدي آل دبغي، وقد بدأ يأخذ الطابع الحضاري الذي عرف به في ما بعد. مقاهٍ ودور سينما حلّت محل مساكن الجنّ التي كانتْ منتشرة في رأس بيروت. وصار الشارع ملاذًا لفتيات بفساتين ملونة قصيرة، يصنعن الرغبات والانتشار، وشعرهن يتطاير على أكتافهن العارية كأنهن باريسيات أو نيويوركيات في فيلم هوليوودي، وأحلام العالم الكون تدور حول سررهنّ المكشوفة. هنّ الفاحشات الجميلات، المزهرات، الحالمات، العاشقات، الخانعات، الساقطات كالحبّ، المنقطعات عن الزواج، الهائمات، الرهوانات... كان متري سعيدًا بالنساء مع أنه يضجر من منبهات السيارات، ودوران عجلاتها على الأسفلت. لم تقمْ في شارع الحمرا مطاعم مثلما قامتْ في شارع بلس. مطعم فيصل ثمّ مطعم الباشا الذي كان اختصاصه الكفتة المشويّة في كَانُون فحم واسع أمام ناظر الزبائن. تذوّق متري الملفوف الكبيس أول مرّة هناك، حيث كان أصحابه آل دفوني مشهورين بتقديم الأطعمة اللبنانية. (بريجيت باردو في الحمرا) بريجيت باردو إذ زارتْ بيروتْ، وذهبتْ تتمشّى مع زوجها حينذاك المسمى غنتر ساخت في شارع الحمرا. نزل متري مهرولًا من الطابق الثاني ليلقي نظرة على الساحرة، كانت الرقابة الغبية تطمسُ مشاهد العري من أفلامها. هكذا أصبحت حياة متري العابرة في الحمرا، جزءًا من حياة الصورة والاستيهامات، بين نساءٍ كنّ على شاكلة بريجيت باردو ومارلين مونرو وهند رستم... يرتدين القصير أو يضعن أحمر الشفاه، أو يدخنّ السجائر أو يصبحن هيبيات متحرّرات من كل قيد. لكن كل شيء لم يكن يغير في طباع متري القروية. في الحمرا، كان مرور متري أمام مقهى هورس شو، أشهر مقاهي المثقفين، تحصيل حاصل. ذات مرة، شاهد إعلانًا في سينما الحمرا عن شوربة البصل التي يقدّمها المقهى الرصيفي، ولم يكن قد سمع من قبل أنّ البصل مادة للشوربة، بل إن البصل مادة للسخرية والتهكّم في الأمثال الشّعبية ولغة الفلاحين. دخل متري المقهى من باب الفضول، ليتذوق شوربة البصل مرتفعة الثمن بالنسبة إليه، اختار طاولة وجلس كأنه يعيش عالمًا جديدًا، لم يكن طعم شوربة البصل هو الذي أسعده، بل فكرة اكتشاف نوع جديد من الطعام، صار جزءًا من الذاكرة في لحظة عابرة... العبور أمام المقهى صار مادّة للتذكار والذكريات وصناعة الحكاية. كلما مرّ متري مساءً، طالعته وجوه تعرّف إليها بفضل قراءاته للصحف والمجلات... كان يجد في المشي أمام المقهى نوعًا من اكتشاف المدينة واكتشاف الذات يوازي الكتابة في الصحيفة. وكان المقهى ملتقى الصحافيين والفنانين، وبعضهم لا يكن للآخر ودًا. (ليلى بعلبكي) متري أرعبته فكرة أن يصبح كاتبًا أو شاعرًا ويجلس في المقهى. وأرعبته فكرة أن يتخيّل العالم بلا نساء. ولم يكن قادرًا على كتابة الشعر، ويشعر أنه غير محبوب من النساء. ذكراه الأولى عن الأديبة ليلى بعلبكي ناصعة. هي التي كانت تعلم أنّ ثقافتها وتحرّرها يتحكمان في الشعراء والكتّاب. وبشعرها "المنفوش" تداوم مساءً في المقهى، وتجلس على طاولة الرصيف حتى تحت المطر. الحرمان جعل متري يجاهد لأن يعبر بطيئاً، يتمشى ذهاباً وإياباً كي يلمح جزءًا ضئيلًا من سراب جسمها عندما تضع ساقاً فوق ساق. لا يعرف متري كم الوقت الذي أمضاه على الرصيف بحثًا عن سرابها. ليلى أو "مدام تقلا" عملتْ في مجلس النواب موظّفة "دكتيلو" في ستينيات القرن الماضي قبل شهرتها التي قامت على قصة "أنا أحيا (1958)" وشغلت العالم العربي بروايتها "سفينة حنان إلى القمر". كانتْ ثورة. تزوجتْ واختفتْ. وبقي متري يمر أمام كرسيها في مقهى "هورس شو" (حدوة الحصان-جالبة الحظ)، الذي لم يكن مجرّد مقهى، بل كان روح المدينة وشاهدًا على نموّها وتطوّرها وانبعاث الأحلام فيها منذ خمسينيات القرن الماضي. كان إميل دبغي أول من كسر احتكار ساحة البرج للعروض السينمائية، ودشّن عرض الأفلام في سينما "الحمرا" التي امتلكها. وابن شقيقته منح، لمعت في رأسه فكرة افتتاح مقهى بالقرب من السينما، فاحتل الزاوية عند تقاطع شوارع عديدة... جان، المولع بسباق الخيل واسطبلات فرعون، لمْ يجدْ أفضل من "حدوة الحصان" اسمًا للمقهى. وكان يوم الافتتاح بمناسبة عيد الاستقلال في 22 / 11/ 1959. أصبح "الهورس شو" مركز الجذب الرئيس، فتزاحم فيه الفنانون والأدباء والصحافيون ورجال الفكر والثقافة، إضافة إلى السياسيين من لبنان والعالم العربي... صار المقهى ملتقى غريبًا عجيبًا لبيروت كل مساءٍ. أجمل الذكريات في ذهن متري عن المقهى كان في عيد الميلاد كل عام، إذ تنافس فنانو بيروت في تزيين واجهاته الزجاجية بلوحات مستوحاة من المناسبة. البعلبكيّ رفيق شرف، والأرمنيّ مقدسيّ المولد بول غيراغوسيان، والفتاة الجميلة ناديا صيقلي، شاركوا في المناسبة. أكلتْ الحرب "الهورس شو" ورصيف الشارع. رحل الشّعراء والمثقفون والمبدعون. باع منح دبغي "الهورس شو" في العام 1982. قال له السينمائي مارون بغدادي عندما هاجر إلى فرنسا: لن أعود يا منح إلا عندما يعود "الهورس شو". لمْ يعد "الهورس شو" ومات مارون في غرفة المصعد.