شوربة بصل في "الهورس شو"
منذ توظيفه في شركة American Underwriters الكائنة في مبنى عريضة في شارع الحمرا، شعر متري أنّ جزءًا كبيرًا من أحلامه تحقّق وتبدّل مزاجه كمراهق بدأ يكتشف لذّة التَّدْخِين. وباتَ كل يوم في منطقة رأس بيروت ويتأخر في العودة إلى غرفته في الجبل الصغير، يتنقّل بين مقهى "هورس شو" وشارع بلس، ومرات ينزل إلى أسواق بيروت يتجوّل، وصولًا إلى الزيتونة ومقبرة السنطية ومقهى الحاج داوود ومقهى البحرين.
كان متري بعيدًا من أسرته في الضّيعَة الْمَنْسِيَّة، وأصبح قادرًا على احتساء القهوة في الشارع العريق من دون منّة أبيه وعطفه الْقَاسِي أو اِضْطِرَاب أمّه النفسيّ وتوتّرها، وهو المشّاء في تسكّعه الْيَوْمِيّ على الرصيف الطويل، أمام مقاهي الرصيف والواجهات الزجاجية. كان كُل شيء جميلًا. يقارن بين الرصيف الطويل وخطوات المارة، والدروب في هضاب الضِيَعَة، بدا كأنه يعيش في غابة من الرغبات والصور، واكتشف كبته الريفي والبريّ والحلميّ. كان خجولاً منطوياً، يستعيض عن غياب المرأة والحبّ وبراكين رغبته، بالبصبصة وإشباع البصر حتى الأحشاء الدفينة.
منذ أًصبحَ متري موظفًا، صار قادرًا على مقاومة الضجر واللاشيء بقليل من القهوة وشراء الكتب. يقرأ تمرّدات جنى جبور ورحلات أمين الريحاني وهذيان رامبو وأنوات المتنبي، لا يصدّق أن يده تلمس الورق الذي يحبّه، وسيرته موزّعة بين الحكايات التي يقصّها الرواة. تستدرجه القراءة للعيش في الأمكنة التي تولد من الكلمات، والأشياء التي تتجلّى في الغياب الآسر. كانَ يتنقل في سيارة الأجرة بين وسط بيروت والجبل الصغير.
قبل أن يصبح متري موظفًا في شركة، ويزور شارع الحمرا يوميًا، تحوّل الشارع بالنسبة إليه سحرًا لا يرحم، أو كمن يقرأ في كتاب لا ينتهي، عرفه منذ الصفحة الأولى العام 1960 تاريخ بناء أول سينما على أيدي آل دبغي، وقد بدأ يأخذ الطابع الحضاري الذي عرف به في ما بعد. مقاهٍ ودور سينما حلّت محل مساكن الجنّ التي كانتْ منتشرة في رأس بيروت. وصار الشارع ملاذًا لفتيات بفساتين ملونة قصيرة، يصنعن الرغبات والانتشار، وشعرهن يتطاير على أكتافهن العارية كأنهن باريسيات أو نيويوركيات في فيلم هوليوودي، وأحلام العالم الكون تدور حول سررهنّ المكشوفة. هنّ الفاحشات الجميلات، المزهرات، الحالمات، العاشقات، الخانعات، الساقطات كالحبّ، المنقطعات عن الزواج، الهائمات، الرهوانات... كان متري سعيدًا بالنساء مع أنه يضجر من منبهات السيارات، ودوران عجلاتها على الأسفلت.
لم تقمْ في شارع الحمرا مطاعم مثلما قامتْ في شارع بلس. مطعم فيصل ثمّ مطعم الباشا الذي كان اختصاصه الكفتة المشويّة في كَانُون فحم واسع أمام ناظر الزبائن. تذوّق متري الملفوف الكبيس أول مرّة هناك، حيث كان أصحابه آل دفوني مشهورين بتقديم الأطعمة اللبنانية.
(بريجيت باردو في الحمرا)
بريجيت باردو إذ زارتْ بيروتْ، وذهبتْ تتمشّى مع زوجها حينذاك المسمى غنتر ساخت في شارع الحمرا. نزل متري مهرولًا من الطابق الثاني ليلقي نظرة على الساحرة، كانت الرقابة الغبية تطمسُ مشاهد العري من أفلامها. هكذا أصبحت حياة متري العابرة في الحمرا، جزءًا من حياة الصورة والاستيهامات، بين نساءٍ كنّ على شاكلة بريجيت باردو ومارلين مونرو وهند رستم... يرتدين القصير أو يضعن أحمر الشفاه، أو يدخنّ السجائر أو يصبحن هيبيات متحرّرات من كل قيد. لكن كل شيء لم يكن يغير في طباع متري القروية. في الحمرا، كان مرور متري أمام مقهى هورس شو، أشهر مقاهي المثقفين، تحصيل حاصل.
ذات مرة، شاهد إعلانًا في سينما الحمرا عن شوربة البصل التي يقدّمها المقهى الرصيفي، ولم يكن قد سمع من قبل أنّ البصل مادة للشوربة، بل إن البصل مادة للسخرية والتهكّم في الأمثال الشّعبية ولغة الفلاحين. دخل متري المقهى من باب الفضول، ليتذوق شوربة البصل مرتفعة الثمن بالنسبة إليه، اختار طاولة وجلس كأنه يعيش عالمًا جديدًا، لم يكن طعم شوربة البصل هو الذي أسعده، بل فكرة اكتشاف نوع جديد من الطعام، صار جزءًا من الذاكرة في لحظة عابرة... العبور أمام المقهى صار مادّة للتذكار والذكريات وصناعة الحكاية. كلما مرّ متري مساءً، طالعته وجوه تعرّف إليها بفضل قراءاته للصحف والمجلات... كان يجد في المشي أمام المقهى نوعًا من اكتشاف المدينة واكتشاف الذات يوازي الكتابة في الصحيفة. وكان المقهى ملتقى الصحافيين والفنانين، وبعضهم لا يكن للآخر ودًا.
(ليلى بعلبكي)
متري أرعبته فكرة أن يصبح كاتبًا أو شاعرًا ويجلس في المقهى. وأرعبته فكرة أن يتخيّل العالم بلا نساء. ولم يكن قادرًا على كتابة الشعر، ويشعر أنه غير محبوب من النساء. ذكراه الأولى عن الأديبة ليلى بعلبكي ناصعة. هي التي كانت تعلم أنّ ثقافتها وتحرّرها يتحكمان في الشعراء والكتّاب. وبشعرها "المنفوش" تداوم مساءً في المقهى، وتجلس على طاولة الرصيف حتى تحت المطر. الحرمان جعل متري يجاهد لأن يعبر بطيئاً، يتمشى ذهاباً وإياباً كي يلمح جزءًا ضئيلًا من سراب جسمها عندما تضع ساقاً فوق ساق. لا يعرف متري كم الوقت الذي أمضاه على الرصيف بحثًا عن سرابها. ليلى أو "مدام تقلا" عملتْ في مجلس النواب موظّفة "دكتيلو" في ستينيات القرن الماضي قبل شهرتها التي قامت على قصة "أنا أحيا (1958)" وشغلت العالم العربي بروايتها "سفينة حنان إلى القمر". كانتْ ثورة. تزوجتْ واختفتْ. وبقي متري يمر أمام كرسيها في مقهى "هورس شو" (حدوة الحصان-جالبة الحظ)، الذي لم يكن مجرّد مقهى، بل كان روح المدينة وشاهدًا على نموّها وتطوّرها وانبعاث الأحلام فيها منذ خمسينيات القرن الماضي.
كان إميل دبغي أول من كسر احتكار ساحة البرج للعروض السينمائية، ودشّن عرض الأفلام في سينما "الحمرا" التي امتلكها. وابن شقيقته منح، لمعت في رأسه فكرة افتتاح مقهى بالقرب من السينما، فاحتل الزاوية عند تقاطع شوارع عديدة... جان، المولع بسباق الخيل واسطبلات فرعون، لمْ يجدْ أفضل من "حدوة الحصان" اسمًا للمقهى. وكان يوم الافتتاح بمناسبة عيد الاستقلال في 22 / 11/ 1959. أصبح "الهورس شو" مركز الجذب الرئيس، فتزاحم فيه الفنانون والأدباء والصحافيون ورجال الفكر والثقافة، إضافة إلى السياسيين من لبنان والعالم العربي...
صار المقهى ملتقى غريبًا عجيبًا لبيروت كل مساءٍ. أجمل الذكريات في ذهن متري عن المقهى كان في عيد الميلاد كل عام، إذ تنافس فنانو بيروت في تزيين واجهاته الزجاجية بلوحات مستوحاة من المناسبة. البعلبكيّ رفيق شرف، والأرمنيّ مقدسيّ المولد بول غيراغوسيان، والفتاة الجميلة ناديا صيقلي، شاركوا في المناسبة. أكلتْ الحرب "الهورس شو" ورصيف الشارع. رحل الشّعراء والمثقفون والمبدعون. باع منح دبغي "الهورس شو" في العام 1982. قال له السينمائي مارون بغدادي عندما هاجر إلى فرنسا: لن أعود يا منح إلا عندما يعود "الهورس شو". لمْ يعد "الهورس شو" ومات مارون في غرفة المصعد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صوت لبنان
منذ يوم واحد
- صوت لبنان
كريم عبدالعزيز: "المشروع X" تجربة سينمائية مختلفة تستلهم التاريخ
العربيةنجم سينمائي منذ نعومة أظفاره، بدأ رحلته الفنية صغيرا، وعمل مع كبار النجوم والمخرجين في السينما والدراما التلفزيونية. أثبت نفسه بموهبته واختياراته الفنية المختلفة بعيدا عن أسرته الفنية فأصبح نجم شباك يتهافت عليه الجمهور وينتظر أعماله بشغف كبير.. إنه الفنان كريم عبدالعزيز. وفي تصريحاته مع "العربية.نت" و"الحدث.نت"، كشف الفنان كريم عبدالعزيز عن تفاصيل أحدث أعماله السينمائية، وهو فيلم "المشروع X"، الذي يُعرض حاليا في دور العرض السينمائية.وتحدث عن تفاصيل الشخصية التي يلعبها وسر انجذابه للعمل، ورأيه في قصة الفيلم وكواليس التصوير في بلاد مختلفة، والعمل مع المخرج بيتر ميمي والأكشن في الفيلم وطريقة تنفيذه، كما تحدث عن أصعب المشاهد التي صورها وسعادته بعرض الفيلم بطريقة "أي ماكس"، كما كشف أيضا عن أعماله الفنية الحالية. وتحدث الفنان كريم عبدالعزيز عن أحدث أعماله السينمائية، وهو فيلم"المشروع X"، قائلا إنه تحمس للغاية للفيلم منذ عرضه عليه المخرج بيتر ميمي.وأضاف أن قصة الفيلم مختلفة وبها عناصر مشوقة للغاية، "فالحديث عن الحضارة المصرية القديمة لا ينضب، ومخزوننا التاريخي يمكن أن يشكّل أساسًا غنيًا لأعمال سينمائية ملهمة"، بحسب تعبيره، لذلك فقد انجذب للفيلم حين تحدث معه المخرج بيتر ميمي وقرأ السيناريو وشده للغاية، ووافق على الفور. وأشار عبدالعزيز إلى أن الدور الذي يقدمه في الفيلم يختلف جذريًا عن أدواره السابقة، فلم يقدم مثل هذا الدور من قبل، حيث يجسد شخصية "يوسف الجمال"، عالم آثار مصري يكرّس حياته لكشف أسرار الحضارة الفرعونية، لا سيما الغموض المحيط بالهرم الأكبر.وأضاف أن أحداث الفيلم تتصاعد عندما يصطدم الجمال بعصابة دولية لتهريب الآثار، ما يفتح الباب أمام سلسلة من المواجهات، وهذا ما جذبه للفيلم، فأي شيء له علاقة بالحضارة المصرية القديمة له مكانة خاصة لديه ويجذبه بشكل كبير، فهو يرى أن "لدينا العديد من القصص التي نستطيع تقديم أعمال كثيرة عليها". وأكد عبد العزيز أن تصوير الفيلم استغرق نحو 9 أشهر، حيث بدأوا التصوير منذ سبتمبر الماضي، واصفًا التجربة بأنها "كانت مليئة بالتحديات"، لكنها في الوقت ذاته أتاحت له فرصة خوض مغامرة فنية جديدة وتعلم منها كثيرا، مؤكدا اعتزازه بالعمل دائما مع المخرج بيتر ميمي. وعن كواليس العمل، قال عبدالعزيز إن الفيلم تم تصويره بأعلى دقة واحترافية، فهو ينتمي لنوعية أفلام الحركة والتشويق، وتم تصويره في عدة دول من بينها إيطاليا وتركيا وإسبانيا، إضافة إلى مواقع مصرية ساحلية مطلة على البحر الأحمر، وهو ما أضفى على العمل طابعًا بصريًا مميزًا، مضيفا إلى أنه لم يتعب كثيرا في تصوير مشاهد الأكشن "لأنها نفذت بشكل احترافي للغاية"، وقد استمتع بالعمل مع الفريق بأكمله رغم الإرهاق، ولكن المهم هو النتيجة النهائية الرائعة، فالإنتاج وفر لهم كل سبل الراحة والدقة حتى يخرج الفيلم بأعلى صورة ممكنة، بحسب تعبيره.وأضاف أن أصعب مشهد "هو القفز من القطار، حيث كان القطار يمر سريعا وبجانبه سيارة الفنانة ياسمين صبري"، أيضا تمشي بشكل سريع، ولكن لم يتعرض هو أو أي من الفريق لأي نوع من الإصابات. وعبر عبدالعزيز عن سعادته بعرض الفيلم في السينمات بتقنية "أي ماكس"، مؤكدا أنها خطوة جديدة ومهمة في طريقة عرض الأفلام، ويتمنى أن تنال إعجاب الجمهور. وعن أعماله القادمة، أشار عبدالعزيز إلى أنه يعرض حاليا مسرحية "الباشا" ضمن موسم جدة.

المدن
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- المدن
"توفيق الباشا/ رحلته إلى العالمية" للأب بديع الحاج
يصدر قريبًا عن جامعة الروح القدس الكسليك كتاب "توفيق الباشا/ رحلته إلى العالمية" للأب بديع الحاج. جاء في المقدمة: "فنّان أقلع عكس التيّار، فهو رغم ما اعترضه من عواصف وأنواء، استطاع أن يوصل سفينته إلى برّ الأمان، وجلس يراقب المسيرة الفنيّة في وطنه من دون أن يكلّ أو يملّ ومن دون أن يستريح فيريح المتطفّلين على الفنّ الغنائيّ العربيّ الذين كان يقف لهم بالمرصاد. كأنّ أحدًا قد أوكل اليه أمر الموسيقى العربيّة وأوقفه وصيًّا عليها. لذلك ما فتىء منذ أربعة عقود ونيّف من الزمن يحمل هموم الموسيقى في الشرق العربيّ، لم يبخل على العاملين فيها بنصائحه وتوجيهاته، واضعًا علمه وخبرته في خدمتها في المنتديات والمؤتمرات العربيّة والدوليّة". (* محمّد كريّم) الموسيقى ليست مجرّد أصوات متناغمة، بل هي انعكاس لروح الشعوب وهويّتها الثقافيّة. وفي هذا الإطار، برزت شخصيّات موسيقيّة كرّست حياتها لإعلاء شأن الموسيقى العربيّة وتطويرها، ومن بين هؤلاء كان توفيق الباشا، الذي شكّل علامة فارقة في مسيرة الموسيقى العربيّة، جامعًا بين الأصالة والحداثة في رحلة إبداعيّة امتدّت لعقود. يأتي هذا الكتاب، "توفيق الباشا – رحلة الموسيقى العربيّة إلى العالميّة"، ليضيء على مسيرة فنّان اختار الطريق الصعب، فكان رائدًا ومجدّدًا في مجال الموسيقى العربيّة. لم يكتفِ الباشا بما هو سائد، بل سعى إلى كسر الحواجز التقليديّة، فاستلهم من تراث الموسيقى العربيّة وأضاف إليه لمسات جديدة، مزاوجًا بين الشرق والغرب، وبين التراث والتجديد، وبين الموشّح العربيّ والصياغة السيمفونيّة. يأتي هذا العمل التوثيقيّ ليرصد محطّات مفصليّة في سيرة الموسيقار توفيق الباشا، مستندًا إلى مصادر موثوقة تنوّعت بين أرشيفه الشخصيّ، ومذكّراته الخاصّة، وحواراته الصحفيّة والإذاعيّة، ولا سيّما تلك التي أجراها معه الصحافيّ سعد سامي رمضان. وقد قمنا بتفريغ التسجيلات الصوتيّة وتحويلها من اللهجة اللبنانيّة المحكيّة إلى اللغة العربيّة الفصحى، مع الحرص على الحفاظ على روحيّة الحديث ودقّته. ولإضاءة السياقات الثقافيّة والجغرافيّة التي أحاطت بتجربة الباشا، تمّ التعريف بالأماكن والشخصيّات والأعمال العالميّة والعربيّة والمحليّة التي ورد ذكرها في حديثه، مع دعم الوقائع والأفكار بالمصادر المكتوبة المتوفرّة، حرصًا على الموثوقيّة والدقّة. كما يتناول هذا الكتاب إسهامات توفيق الباشا في مجال التأليف الموسيقيّ، وجهوده في نشر الموسيقى العربيّة على المسارح العالميّة، ودوره البارز في إعادة إحياء التراث الموسيقيّ بأسلوب علميّ حديث، جامع بين الأصالة والابتكار. إنّ هذا الكتاب ليس مجرّد سيرة ذاتيّة لموسيقيّ كبير، بل هو شهادة على مرحلة مهمّة من تاريخ الموسيقى العربيّة، ومحاولة لفهم كيف يمكن لهذا الفنّ أن يتطوّر دون أن يفقد جوهره. فكما كان الباشا مؤمنًا بقدرة الموسيقى العربيّة على الوصول إلى العالميّة، يأتي هذا الكتاب ليؤكّد أن تراثنا الموسيقي قادر على التجدّد والبقاء، ما دام هناك من يسعى إلى تطويره بحكمة وشغف. في هذا الكتاب، نستعرض سيرة توفيق الباشا، لا كحياة شخصية فحسب، بل كرحلة موسيقيّة وفنيّة غنيّة بالتحوّلات والتجارب. رحلة بدأت من أعماق التراث العربيّ، وانطلقت نحو آفاق الحداثة والعالميّة، سعيًا إلى تجديد الموسيقى العربية وإبراز طاقاتها الكامنة. يتضمّن هذا العمل أيضًا مختارات من مقالات توفيق الباشا التي تناول فيها واقع الموسيقى العربية، وآفاق تطويرها بما يتيح لها مكانةً لائقة على الساحة العالمية. كما نورد شهادات وكتابات من عايشوه عن قرب، سواء من أفراد أسرته أو من النقّاد والمحلّلين الموسيقيّين الذين رافقوا مسيرته أو تتبّعوا أعماله. وفي القسم الأخير من الكتاب، نُقدّم عرضًا تفصيليًّا لأعماله، مستندين إلى أرشيف الإذاعة اللبنانيّة، واستوديو بعلبك، إضافة إلى أرشيفه الشخصيّ، وذلك في محاولة لتوثيق هذا الإرث الموسيقيّ الكبير وإبرازه كجزء حيّ من الذاكرة الثقافيّة العربيّة. ________________________ (*) جريدة النهار، الأربعاء 7 كانون الأول 2005. محمّد كريّم، كما عرفتهم، بيروت، دار نلسن، 2015، ص 188-189. (**) في إطار نشاطات معرض بيروت للكتاب دورته الـ66، وبالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت، تقام في 20 / 3/ 2025 ندوة حول مئوية توفيق الباشا في الأسبملي هول، يشارك فيها الأب بديع الحاج، الناقد عبيدو باشا، الناشر سليمان بختي، بالاضافة إلى أمسية موسيقية لعبد الرحمن الباشا.

المدن
٢٠-٠٤-٢٠٢٥
- المدن
شوربة بصل في "الهورس شو"
منذ توظيفه في شركة American Underwriters الكائنة في مبنى عريضة في شارع الحمرا، شعر متري أنّ جزءًا كبيرًا من أحلامه تحقّق وتبدّل مزاجه كمراهق بدأ يكتشف لذّة التَّدْخِين. وباتَ كل يوم في منطقة رأس بيروت ويتأخر في العودة إلى غرفته في الجبل الصغير، يتنقّل بين مقهى "هورس شو" وشارع بلس، ومرات ينزل إلى أسواق بيروت يتجوّل، وصولًا إلى الزيتونة ومقبرة السنطية ومقهى الحاج داوود ومقهى البحرين. كان متري بعيدًا من أسرته في الضّيعَة الْمَنْسِيَّة، وأصبح قادرًا على احتساء القهوة في الشارع العريق من دون منّة أبيه وعطفه الْقَاسِي أو اِضْطِرَاب أمّه النفسيّ وتوتّرها، وهو المشّاء في تسكّعه الْيَوْمِيّ على الرصيف الطويل، أمام مقاهي الرصيف والواجهات الزجاجية. كان كُل شيء جميلًا. يقارن بين الرصيف الطويل وخطوات المارة، والدروب في هضاب الضِيَعَة، بدا كأنه يعيش في غابة من الرغبات والصور، واكتشف كبته الريفي والبريّ والحلميّ. كان خجولاً منطوياً، يستعيض عن غياب المرأة والحبّ وبراكين رغبته، بالبصبصة وإشباع البصر حتى الأحشاء الدفينة. منذ أًصبحَ متري موظفًا، صار قادرًا على مقاومة الضجر واللاشيء بقليل من القهوة وشراء الكتب. يقرأ تمرّدات جنى جبور ورحلات أمين الريحاني وهذيان رامبو وأنوات المتنبي، لا يصدّق أن يده تلمس الورق الذي يحبّه، وسيرته موزّعة بين الحكايات التي يقصّها الرواة. تستدرجه القراءة للعيش في الأمكنة التي تولد من الكلمات، والأشياء التي تتجلّى في الغياب الآسر. كانَ يتنقل في سيارة الأجرة بين وسط بيروت والجبل الصغير. قبل أن يصبح متري موظفًا في شركة، ويزور شارع الحمرا يوميًا، تحوّل الشارع بالنسبة إليه سحرًا لا يرحم، أو كمن يقرأ في كتاب لا ينتهي، عرفه منذ الصفحة الأولى العام 1960 تاريخ بناء أول سينما على أيدي آل دبغي، وقد بدأ يأخذ الطابع الحضاري الذي عرف به في ما بعد. مقاهٍ ودور سينما حلّت محل مساكن الجنّ التي كانتْ منتشرة في رأس بيروت. وصار الشارع ملاذًا لفتيات بفساتين ملونة قصيرة، يصنعن الرغبات والانتشار، وشعرهن يتطاير على أكتافهن العارية كأنهن باريسيات أو نيويوركيات في فيلم هوليوودي، وأحلام العالم الكون تدور حول سررهنّ المكشوفة. هنّ الفاحشات الجميلات، المزهرات، الحالمات، العاشقات، الخانعات، الساقطات كالحبّ، المنقطعات عن الزواج، الهائمات، الرهوانات... كان متري سعيدًا بالنساء مع أنه يضجر من منبهات السيارات، ودوران عجلاتها على الأسفلت. لم تقمْ في شارع الحمرا مطاعم مثلما قامتْ في شارع بلس. مطعم فيصل ثمّ مطعم الباشا الذي كان اختصاصه الكفتة المشويّة في كَانُون فحم واسع أمام ناظر الزبائن. تذوّق متري الملفوف الكبيس أول مرّة هناك، حيث كان أصحابه آل دفوني مشهورين بتقديم الأطعمة اللبنانية. (بريجيت باردو في الحمرا) بريجيت باردو إذ زارتْ بيروتْ، وذهبتْ تتمشّى مع زوجها حينذاك المسمى غنتر ساخت في شارع الحمرا. نزل متري مهرولًا من الطابق الثاني ليلقي نظرة على الساحرة، كانت الرقابة الغبية تطمسُ مشاهد العري من أفلامها. هكذا أصبحت حياة متري العابرة في الحمرا، جزءًا من حياة الصورة والاستيهامات، بين نساءٍ كنّ على شاكلة بريجيت باردو ومارلين مونرو وهند رستم... يرتدين القصير أو يضعن أحمر الشفاه، أو يدخنّ السجائر أو يصبحن هيبيات متحرّرات من كل قيد. لكن كل شيء لم يكن يغير في طباع متري القروية. في الحمرا، كان مرور متري أمام مقهى هورس شو، أشهر مقاهي المثقفين، تحصيل حاصل. ذات مرة، شاهد إعلانًا في سينما الحمرا عن شوربة البصل التي يقدّمها المقهى الرصيفي، ولم يكن قد سمع من قبل أنّ البصل مادة للشوربة، بل إن البصل مادة للسخرية والتهكّم في الأمثال الشّعبية ولغة الفلاحين. دخل متري المقهى من باب الفضول، ليتذوق شوربة البصل مرتفعة الثمن بالنسبة إليه، اختار طاولة وجلس كأنه يعيش عالمًا جديدًا، لم يكن طعم شوربة البصل هو الذي أسعده، بل فكرة اكتشاف نوع جديد من الطعام، صار جزءًا من الذاكرة في لحظة عابرة... العبور أمام المقهى صار مادّة للتذكار والذكريات وصناعة الحكاية. كلما مرّ متري مساءً، طالعته وجوه تعرّف إليها بفضل قراءاته للصحف والمجلات... كان يجد في المشي أمام المقهى نوعًا من اكتشاف المدينة واكتشاف الذات يوازي الكتابة في الصحيفة. وكان المقهى ملتقى الصحافيين والفنانين، وبعضهم لا يكن للآخر ودًا. (ليلى بعلبكي) متري أرعبته فكرة أن يصبح كاتبًا أو شاعرًا ويجلس في المقهى. وأرعبته فكرة أن يتخيّل العالم بلا نساء. ولم يكن قادرًا على كتابة الشعر، ويشعر أنه غير محبوب من النساء. ذكراه الأولى عن الأديبة ليلى بعلبكي ناصعة. هي التي كانت تعلم أنّ ثقافتها وتحرّرها يتحكمان في الشعراء والكتّاب. وبشعرها "المنفوش" تداوم مساءً في المقهى، وتجلس على طاولة الرصيف حتى تحت المطر. الحرمان جعل متري يجاهد لأن يعبر بطيئاً، يتمشى ذهاباً وإياباً كي يلمح جزءًا ضئيلًا من سراب جسمها عندما تضع ساقاً فوق ساق. لا يعرف متري كم الوقت الذي أمضاه على الرصيف بحثًا عن سرابها. ليلى أو "مدام تقلا" عملتْ في مجلس النواب موظّفة "دكتيلو" في ستينيات القرن الماضي قبل شهرتها التي قامت على قصة "أنا أحيا (1958)" وشغلت العالم العربي بروايتها "سفينة حنان إلى القمر". كانتْ ثورة. تزوجتْ واختفتْ. وبقي متري يمر أمام كرسيها في مقهى "هورس شو" (حدوة الحصان-جالبة الحظ)، الذي لم يكن مجرّد مقهى، بل كان روح المدينة وشاهدًا على نموّها وتطوّرها وانبعاث الأحلام فيها منذ خمسينيات القرن الماضي. كان إميل دبغي أول من كسر احتكار ساحة البرج للعروض السينمائية، ودشّن عرض الأفلام في سينما "الحمرا" التي امتلكها. وابن شقيقته منح، لمعت في رأسه فكرة افتتاح مقهى بالقرب من السينما، فاحتل الزاوية عند تقاطع شوارع عديدة... جان، المولع بسباق الخيل واسطبلات فرعون، لمْ يجدْ أفضل من "حدوة الحصان" اسمًا للمقهى. وكان يوم الافتتاح بمناسبة عيد الاستقلال في 22 / 11/ 1959. أصبح "الهورس شو" مركز الجذب الرئيس، فتزاحم فيه الفنانون والأدباء والصحافيون ورجال الفكر والثقافة، إضافة إلى السياسيين من لبنان والعالم العربي... صار المقهى ملتقى غريبًا عجيبًا لبيروت كل مساءٍ. أجمل الذكريات في ذهن متري عن المقهى كان في عيد الميلاد كل عام، إذ تنافس فنانو بيروت في تزيين واجهاته الزجاجية بلوحات مستوحاة من المناسبة. البعلبكيّ رفيق شرف، والأرمنيّ مقدسيّ المولد بول غيراغوسيان، والفتاة الجميلة ناديا صيقلي، شاركوا في المناسبة. أكلتْ الحرب "الهورس شو" ورصيف الشارع. رحل الشّعراء والمثقفون والمبدعون. باع منح دبغي "الهورس شو" في العام 1982. قال له السينمائي مارون بغدادي عندما هاجر إلى فرنسا: لن أعود يا منح إلا عندما يعود "الهورس شو". لمْ يعد "الهورس شو" ومات مارون في غرفة المصعد.