
لوبيات الدعاية الأدبية: القوة الخفية وراء الأدب
ما هي لوبيات الدعاية الأدبية؟
ما الذي يجعل كتابا ما يطفو على سطح المشهد الثقافي، بينما يغرق غيره في النسيان؟ ليس الجواب دائما في عمق الفكرة أو جمال الأسلوب. فهناك، تحت جلد الحراك الأدبي، شبكاتٌ محكمة النسيج تُدير حركة الضوء، وتحدّد من يستحق البقاء في العلن ومن يُدفع إلى العتمة. لوبيات الدعاية الأدبية ليست كيانا واحدا، بل هي سلسلة غير مرئية من العلاقات والمصالح المتشابكة. أفراد ومؤسسات، ناشرون بجيوب ممتلئة وشهية للتأثير، نقاد يعرفون كيف تصاغ الكلمة لتهدم أو تُعلي، ولجان جوائز تُحسن لعبة الاختيار حينا وتُخضعها لحسابات دقيقة أحيانا. قد لايجلسون جميعا حول طاولة واحدة، لكنهم يشتركون، بوعي أو دونه، في إعادة توزيع الخريطة الأدبية على مقاس ما هو مرغوب فيه، لا بالضرورة على مقاس ما هو عظيم.
فليس غريبا أن تتسلل بعض النصوص إلى قمة الجوائز الكبرى، نوبل، بوكر، غونكور، لا لأنها استثنائية من حيث الفن، بل لأنها محاطة بهالة دعائية مُحكمة، أو مدعومة بشبكات تعرف متى تُصفق، وكيف تزرع الكاتب في ذاكرة القارئ، كأنه كان هناك منذ الأزل. هذا لا يُقصي الحقيقة القائلة إن بعض الكُتاب يستحقون ما نالوه، لكنه يُنبّهنا إلى هشاشة ميزان التقييم حين تميل كفّته لصالح الضجيج المنظّم لا الصفاء الإبداعي. وهكذا، يصبح السؤال الأهم: هل نحيا زمنا يُقرأ فيه النص لأنّه جيّد، أم لأنه مُوصى به؟
كيف تعمل اللوبيات؟
حين نُزيح الغلاف اللامع للنجاح الأدبي، نكتشف أن خلفه ماكينة دقيقة، باردة في حساباتها، تعرف تماما كيف يُصنع النجم من ورق، وكيف تُروَّج الجملة كما تُروَّج السلعة. هذه ليست صدفة، بل هندسة مدروسة، تُشغّلها لوبيات تعرف أن الأدب، في زمن السوق، لا يكفيه أن يكون جيدا، بل يجب أن يكون مرئيا، محاطا بالضجيج الصحيح. أول أسلحتهم: التسويق المكثف. لا تُترك الكتب لتتحدث عن نفسها، بل يُبنى حولها جدار من الإعلانات، تُفتح لها أبواب البرامج الثقافية، وتُرتَّب لها جولات توقيع كأنها حملات انتخابية. الكاتب لا يعود مجرد كاتب، بل يصبح «وجها» يُسوَّق، يُلمَّع، يُعاد تشكيله، حسبما يقتضيه المزاج العام. ثم تأتي العلاقات الشخصية، تلك الشبكات الناعمة التي لا تظهر في السيرة الذاتية، ولكنها تحسم الكثير. فكاتب يعرف من يصافح في المعارض، من يُجامله في الندوات، من يرسل إليه النسخة الموقّعة مبكرا، هو كاتب يضمن لنصه صدى يتجاوز حدوده. الكلمات تُسمع أفضل حين تُقال من أفواه المؤثرين.
أما الجوائز الأدبية، فهي الضربة القاضية أو التاج النهائي، لحظة التتويج ليست فقط لحظة تقدير، بل لحظة تحويل: من كاتب إلى رمز، من نص إلى ظاهرة. القارئ، أمام كتاب نال جائزة مرموقة، لا يسأل كثيرا عن المضمون، بل يُسلّم كأنه تحت تأثير مغناطيسي بأن القيمة موجودة لأن المؤسسات قالت ذلك. وهكذا، تتحرك اللوبيات كعازفين ماهرين في أوركسترا واحدة: ينسّقون الإيقاع، يختارون النغمة، ويتركون لنا الوهم بأننا نستمع إلى موسيقى الحقيقة.
تأثيرها على القارئ والأدب
للوهلة الأولى، قد يبدو أن لوبيات الدعاية الأدبية تقوم بعمل نبيل: تسلّط الضوء على كاتب كان مجهولا، تدفع بعمل خافت إلى واجهة المشهد، وتمنح القارئ فرصة اكتشاف ما لم يكن ليصل إليه وحده. لكن النبالة، هنا، مشروطة. فهي لا تُمنح إلا لمن ينسجم مع نغمة الجوقة، أو لمن يعرف كيف يُقدّم نفسه كما تُقدَّم السلع ذات العبوات المغرية. في الجانب المعتم من المشهد، يقف الكاتب المستقل، المُجرّد من أدوات النفوذ، يطرق أبواب النشر بصمت، يترك نصوصه تتحدث وحدها، في زمن لم يعد ينصت فيه أحد للكلمات غير المدعومة. موهبة بلا شبكة، إبداع بلا مموّل، صوت بلا مكبّر.. كلّها تُختزل اليوم في خانة «غير قابل للتسويق». أما القارئ، فإنه لا يعود قارئا حرا تماما، بل مستهلكا يتبع إشارات الضوء. ذوقه يُعاد تشكيله دون أن يشعر، يتجه نحو ما تُلمّعه الصحافة الثقافية، وما تروّجه الجوائز، وما يُوضع على واجهات المكتبات الكبرى. هكذا، ينشأ نمط جديد من القراءة: قراءة مشروطة بما هو رائج، لا بما هو صادق، متماهية مع «الموضة الأدبية» لا مع الذات القارئة. النتيجة؟ طوفان من الكتب التي تُقرأ لأن أحدا قرأها قبلنا، لا لأنها تُشبهنا أو تقول شيئا عن حياتنا. كتب تُرفع إلى مصاف الرموز، ثم تُطوى بصمت، بلا أثر. إنّه مشهد يُشبه حفلا صاخبا، نغادره دون أن نتذكر الموسيقى.
التأثير على الهوية الثقافية
حين تُمسك اللوبيات بمقاليد الثقافة، لا يقتصر الأمر على تلميع أسماء أو ترويج أعمال، بل يتعدّاه إلى ما هو أخطر: إعادة تشكيل الهوية نفسها، كمن يُعيد كتابة الذاكرة بلغة لا تشبه أهلها. في المجتمعات التي تستورد سردياتها من الخارج، تصبح هذه القوى أشبه بعدسة مشوّهة ترى بها الذات نفسها، وتعيد تعريف من تكون، لا وفقا لما عاشته، بل وفقا لما يُراد لها أن تصدّقه عن نفسها. إنّ ما يُقدَّم على أنه «ثقافة عالمية كثيرا ما يكون ثقافة مُعلّبة، مُنتَجة في مراكز النفوذ، ثم تُسوَّق على أنها النموذج الذي يجب احتذاؤه. وبهذا، تُفرض رؤى لا تمتّ إلى الواقع المحلي بصلة، ويُطلب من الجمهور أن يرى نفسه في مرايا الآخرين. فتتآكل الصلة بالجذور، وتخفت الرواية الداخلية لحساب رواية مستوردة، مشبعة بالاختزال، والانتقاء، والتسويق الخادع.
في زمن العولمة، حيث تتداخل الحدود وتُختزل الهويات إلى رموز قابلة للتداول، تصبح اللوبيات أدوات فعّالة في ترسيخ هيمنة ثقافية ناعمة، لا حاجة للقوة ما دامت الصورة تكفي، وما دامت «المرجعية العالمية» تُقدَّم بوصفها قدرا لا مناص منه. هنا، لا تُصادَر فقط حرية التعبير، بل يُعاد صوغ الذوق، والوعي، والانتماء، على نحو يُحوّل الثقافة إلى واجهة عرض سياسية واقتصادية مغلّفة بشعارات الجمال. وليست هذه الظاهرة عابرة، بل زلزالا بطيئا يُعيد تشكيل التضاريس الروحية للمجتمع. تختنق الأصوات الأصيلة، وتُهمَّش التجارب التي لا تنسجم مع المزاج السائد، ويُعاد تعريف «القيمة» بمقاييس لا علاقة لها بالحياة أو الصدق أو المعاناة. وهكذا، تنقلب الثقافة من فضاء حرّ للتفكّر إلى سوق مغلق تحكمه الصفقات والمصالح..
تاريخ القوة الخفية للوبيات في صناعة المشهد الثقافي
لم تكن الثقافة عبر الأزمنة مجرد زبدة إبداع عفوي تفيض من نبع الإنسان، بل كانت ساحة تصارع خفية تتشابك فيها المصالح وتتقاطع فيها القوى. في قلب هذا الصراع، برزت اللوبيات كقوى خفية، غير معلنة، تشكّل المشهد الثقافي وفق رؤى تتجاوز الفن إلى السياسة والاقتصاد والدين. من الممالك القديمة حيث كانت البلاطات تفرض على الشعراء ألحانها، إلى العصور الوسطى التي صيغت فيها الصورة الرسمية للمعرفة والهوية، مرورا بالعصر الحديث، حيث استُخدمت الثقافة كأداة للحكم الناعم، تظهر هذه القوى كأنظمة تُعيد رسم الأذواق وتُشرف على صناعة الرأي. ليس فقط عبر دعم نصوص بعينها، بل عبر إقصاء ما يهدد النظام القائم أو يُزعج التوازن المصطنع. يمكننا أن نرصد هذه العمليات عبر تاريخ طويل، حيث يُعاد تشكيل ما نعتبره «تراثا ثقافيا» ليس فقط بمقدار ما هو جدير بالحفظ، بل حسبما يخدم مصالح نخب تملك مفاتيح القوة. هي عملية لا تنفك تكشف أن الثقافة ليست فقط مرآة تعكس المجتمع، بل ساحة تُعاد صياغتها باستمرار، حيث تتصارع الأصوات الحقيقية مع أصوات مدفوعة بمصالح. وهكذا، حين ندرس تاريخ المشهد الثقافي، لا يكفي النظر إلى الأعمال وحدها، بل يجب أن نغوص في طبقات النفوذ التي تحركها هذه اللوبيات، لنفهم كيف يُبنى الذوق، كيف تُرسخ الأساطير، وكيف يُحفظ الموقع لمن يريدون السلطة حتى في أرقى مجالات التعبير الإنساني.
العصر الرقمي: اللوبيات في زمن الخوارزميات
مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، أخذت اللوبيات الثقافية شكلا جديدا أكثر تعقيدا ورقمنة، حيث بات الفضاء الرقمي مسرحا لصراع خفي بين الأصوات والمصالح. لم تعد السيطرة مقتصرة على الناشرين أو الجوائز، بل انتقلت إلى الخوارزميات التي تتحكم في ما يصل إلى أعيننا وآذاننا، فتروّج لمحتوى يُحسب وفق معايير تجارية وسياسية دقيقة، بينما تُدفن الأصوات الأقل شعبية في الظلّ الرقمي، غير المرئي.
في عالم تتسارع فيه وتيرة الإعلام والتسويق الإلكتروني، تصير هذه اللوبيات أكثر قوة وتأثيرا، تتخذ من البيانات والسلوكيات أدوات تحكم ذكية تفرض أجندات مخفية، فتغلف المحتوى الأدبي بطبقات من الدعاية الخفية التي لا تكاد تُرى. على القارئ أن يظل يقظا، متسلحا بالفضول والوعي النقدي، ليميز بين النصوص التي تلامس الروح، وتلك التي تُفرض عليه عبر شبكات التواصل والخوارزميات. ولئن تبدو هذه الظاهرة حديثة، فإن تاريخ اللوبيات الثقافية يعيدنا إلى حقيقة ثابتة: الثقافة لم تكن يوما نتاجا عفويا بريئا، بل نتيجة معقدة لتفاعل بين الإبداع وقوى السلطة. من الكهنة في المعابد القديمة إلى الناشرين في عصر الطباعة، ومن الصالونات الأدبية إلى الجوائز الإعلامية، وصولا إلى الخوارزميات الرقمية اليوم، ظلت هذه القوى تُشرف على ما نراه، نقرأه، ونصدّقه.
ومع كل هذا، تبقى الحقيقة الأعمق أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يعيش في وجدان القارئ، مستقلًا عن اللوبيات، متحررا من الضجيج، قادرا على الحفر في أعماق الإنسان، مهما تآمرت عليه قوى الظلّ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 5 أيام
- القدس العربي
لوبيات الدعاية الأدبية: القوة الخفية وراء الأدب
في الهامش حيث تبدأ الحكايات الحقيقية، لا في متون النصوص، يُكتب سرُّ الأدب الحديث. ففي حين نُسلّم، بخنوع مثالي، بأن الموهبة وحدها تفتح أبواب الخلود الأدبي، تُحاك خلف الستار خيوط لعبة أكثر تعقيدا، لا تعترف بالنص قدر ما تعترف بمن يروّج له، وبأي نبرة، ولأي جمهور. ليست المسألة في جودة الكتابة، بل في من يمتلك مفاتيح الإضاءة. هناك، في الظلّ، تتحرك دوائر خفيّة لا تَكتب ولكن تُقرّر من يُقرأ، ولا تُبدع ولكن تُهندس الذوق، وتعيد تشكيل الهرم الثقافي كما يُعاد ترتيب الأثاث في صالون مغلق. «لوبيات» لا تستأذن أحدا، تتكوّن من ناشرين بنظرات استراتيجية، ونقاد يرتدون أقنعة الاستقلالية، ومن لجان جوائز تكتب الأسماء الفائزة قبل أن تُقرأ النصوص. إنها القوة التي لا تُرى ولكن تُحَسّ، لا تتحدث لكنها تجعل الآخرين يتكلمون باسمها، تُجري عمليات تجميل للأدب، فتُعيد تشكيل ملامحه بما يناسب السوق، المزاج، المرحلة. إنها ليست مؤامرة، بل هي نظام دقيق يشتغل بلا انفعال، كآلة عتيقة تعرف هدفها: تحويل النص الأدبي من تجربة إنسانية معقّدة إلى منتَج قابل للتداول، ممهور بالختم الرسمي للجدارة، حتى لو كان صوته خافتا حدّ الاختفاء. ما هي لوبيات الدعاية الأدبية؟ ما الذي يجعل كتابا ما يطفو على سطح المشهد الثقافي، بينما يغرق غيره في النسيان؟ ليس الجواب دائما في عمق الفكرة أو جمال الأسلوب. فهناك، تحت جلد الحراك الأدبي، شبكاتٌ محكمة النسيج تُدير حركة الضوء، وتحدّد من يستحق البقاء في العلن ومن يُدفع إلى العتمة. لوبيات الدعاية الأدبية ليست كيانا واحدا، بل هي سلسلة غير مرئية من العلاقات والمصالح المتشابكة. أفراد ومؤسسات، ناشرون بجيوب ممتلئة وشهية للتأثير، نقاد يعرفون كيف تصاغ الكلمة لتهدم أو تُعلي، ولجان جوائز تُحسن لعبة الاختيار حينا وتُخضعها لحسابات دقيقة أحيانا. قد لايجلسون جميعا حول طاولة واحدة، لكنهم يشتركون، بوعي أو دونه، في إعادة توزيع الخريطة الأدبية على مقاس ما هو مرغوب فيه، لا بالضرورة على مقاس ما هو عظيم. فليس غريبا أن تتسلل بعض النصوص إلى قمة الجوائز الكبرى، نوبل، بوكر، غونكور، لا لأنها استثنائية من حيث الفن، بل لأنها محاطة بهالة دعائية مُحكمة، أو مدعومة بشبكات تعرف متى تُصفق، وكيف تزرع الكاتب في ذاكرة القارئ، كأنه كان هناك منذ الأزل. هذا لا يُقصي الحقيقة القائلة إن بعض الكُتاب يستحقون ما نالوه، لكنه يُنبّهنا إلى هشاشة ميزان التقييم حين تميل كفّته لصالح الضجيج المنظّم لا الصفاء الإبداعي. وهكذا، يصبح السؤال الأهم: هل نحيا زمنا يُقرأ فيه النص لأنّه جيّد، أم لأنه مُوصى به؟ كيف تعمل اللوبيات؟ حين نُزيح الغلاف اللامع للنجاح الأدبي، نكتشف أن خلفه ماكينة دقيقة، باردة في حساباتها، تعرف تماما كيف يُصنع النجم من ورق، وكيف تُروَّج الجملة كما تُروَّج السلعة. هذه ليست صدفة، بل هندسة مدروسة، تُشغّلها لوبيات تعرف أن الأدب، في زمن السوق، لا يكفيه أن يكون جيدا، بل يجب أن يكون مرئيا، محاطا بالضجيج الصحيح. أول أسلحتهم: التسويق المكثف. لا تُترك الكتب لتتحدث عن نفسها، بل يُبنى حولها جدار من الإعلانات، تُفتح لها أبواب البرامج الثقافية، وتُرتَّب لها جولات توقيع كأنها حملات انتخابية. الكاتب لا يعود مجرد كاتب، بل يصبح «وجها» يُسوَّق، يُلمَّع، يُعاد تشكيله، حسبما يقتضيه المزاج العام. ثم تأتي العلاقات الشخصية، تلك الشبكات الناعمة التي لا تظهر في السيرة الذاتية، ولكنها تحسم الكثير. فكاتب يعرف من يصافح في المعارض، من يُجامله في الندوات، من يرسل إليه النسخة الموقّعة مبكرا، هو كاتب يضمن لنصه صدى يتجاوز حدوده. الكلمات تُسمع أفضل حين تُقال من أفواه المؤثرين. أما الجوائز الأدبية، فهي الضربة القاضية أو التاج النهائي، لحظة التتويج ليست فقط لحظة تقدير، بل لحظة تحويل: من كاتب إلى رمز، من نص إلى ظاهرة. القارئ، أمام كتاب نال جائزة مرموقة، لا يسأل كثيرا عن المضمون، بل يُسلّم كأنه تحت تأثير مغناطيسي بأن القيمة موجودة لأن المؤسسات قالت ذلك. وهكذا، تتحرك اللوبيات كعازفين ماهرين في أوركسترا واحدة: ينسّقون الإيقاع، يختارون النغمة، ويتركون لنا الوهم بأننا نستمع إلى موسيقى الحقيقة. تأثيرها على القارئ والأدب للوهلة الأولى، قد يبدو أن لوبيات الدعاية الأدبية تقوم بعمل نبيل: تسلّط الضوء على كاتب كان مجهولا، تدفع بعمل خافت إلى واجهة المشهد، وتمنح القارئ فرصة اكتشاف ما لم يكن ليصل إليه وحده. لكن النبالة، هنا، مشروطة. فهي لا تُمنح إلا لمن ينسجم مع نغمة الجوقة، أو لمن يعرف كيف يُقدّم نفسه كما تُقدَّم السلع ذات العبوات المغرية. في الجانب المعتم من المشهد، يقف الكاتب المستقل، المُجرّد من أدوات النفوذ، يطرق أبواب النشر بصمت، يترك نصوصه تتحدث وحدها، في زمن لم يعد ينصت فيه أحد للكلمات غير المدعومة. موهبة بلا شبكة، إبداع بلا مموّل، صوت بلا مكبّر.. كلّها تُختزل اليوم في خانة «غير قابل للتسويق». أما القارئ، فإنه لا يعود قارئا حرا تماما، بل مستهلكا يتبع إشارات الضوء. ذوقه يُعاد تشكيله دون أن يشعر، يتجه نحو ما تُلمّعه الصحافة الثقافية، وما تروّجه الجوائز، وما يُوضع على واجهات المكتبات الكبرى. هكذا، ينشأ نمط جديد من القراءة: قراءة مشروطة بما هو رائج، لا بما هو صادق، متماهية مع «الموضة الأدبية» لا مع الذات القارئة. النتيجة؟ طوفان من الكتب التي تُقرأ لأن أحدا قرأها قبلنا، لا لأنها تُشبهنا أو تقول شيئا عن حياتنا. كتب تُرفع إلى مصاف الرموز، ثم تُطوى بصمت، بلا أثر. إنّه مشهد يُشبه حفلا صاخبا، نغادره دون أن نتذكر الموسيقى. التأثير على الهوية الثقافية حين تُمسك اللوبيات بمقاليد الثقافة، لا يقتصر الأمر على تلميع أسماء أو ترويج أعمال، بل يتعدّاه إلى ما هو أخطر: إعادة تشكيل الهوية نفسها، كمن يُعيد كتابة الذاكرة بلغة لا تشبه أهلها. في المجتمعات التي تستورد سردياتها من الخارج، تصبح هذه القوى أشبه بعدسة مشوّهة ترى بها الذات نفسها، وتعيد تعريف من تكون، لا وفقا لما عاشته، بل وفقا لما يُراد لها أن تصدّقه عن نفسها. إنّ ما يُقدَّم على أنه «ثقافة عالمية كثيرا ما يكون ثقافة مُعلّبة، مُنتَجة في مراكز النفوذ، ثم تُسوَّق على أنها النموذج الذي يجب احتذاؤه. وبهذا، تُفرض رؤى لا تمتّ إلى الواقع المحلي بصلة، ويُطلب من الجمهور أن يرى نفسه في مرايا الآخرين. فتتآكل الصلة بالجذور، وتخفت الرواية الداخلية لحساب رواية مستوردة، مشبعة بالاختزال، والانتقاء، والتسويق الخادع. في زمن العولمة، حيث تتداخل الحدود وتُختزل الهويات إلى رموز قابلة للتداول، تصبح اللوبيات أدوات فعّالة في ترسيخ هيمنة ثقافية ناعمة، لا حاجة للقوة ما دامت الصورة تكفي، وما دامت «المرجعية العالمية» تُقدَّم بوصفها قدرا لا مناص منه. هنا، لا تُصادَر فقط حرية التعبير، بل يُعاد صوغ الذوق، والوعي، والانتماء، على نحو يُحوّل الثقافة إلى واجهة عرض سياسية واقتصادية مغلّفة بشعارات الجمال. وليست هذه الظاهرة عابرة، بل زلزالا بطيئا يُعيد تشكيل التضاريس الروحية للمجتمع. تختنق الأصوات الأصيلة، وتُهمَّش التجارب التي لا تنسجم مع المزاج السائد، ويُعاد تعريف «القيمة» بمقاييس لا علاقة لها بالحياة أو الصدق أو المعاناة. وهكذا، تنقلب الثقافة من فضاء حرّ للتفكّر إلى سوق مغلق تحكمه الصفقات والمصالح.. تاريخ القوة الخفية للوبيات في صناعة المشهد الثقافي لم تكن الثقافة عبر الأزمنة مجرد زبدة إبداع عفوي تفيض من نبع الإنسان، بل كانت ساحة تصارع خفية تتشابك فيها المصالح وتتقاطع فيها القوى. في قلب هذا الصراع، برزت اللوبيات كقوى خفية، غير معلنة، تشكّل المشهد الثقافي وفق رؤى تتجاوز الفن إلى السياسة والاقتصاد والدين. من الممالك القديمة حيث كانت البلاطات تفرض على الشعراء ألحانها، إلى العصور الوسطى التي صيغت فيها الصورة الرسمية للمعرفة والهوية، مرورا بالعصر الحديث، حيث استُخدمت الثقافة كأداة للحكم الناعم، تظهر هذه القوى كأنظمة تُعيد رسم الأذواق وتُشرف على صناعة الرأي. ليس فقط عبر دعم نصوص بعينها، بل عبر إقصاء ما يهدد النظام القائم أو يُزعج التوازن المصطنع. يمكننا أن نرصد هذه العمليات عبر تاريخ طويل، حيث يُعاد تشكيل ما نعتبره «تراثا ثقافيا» ليس فقط بمقدار ما هو جدير بالحفظ، بل حسبما يخدم مصالح نخب تملك مفاتيح القوة. هي عملية لا تنفك تكشف أن الثقافة ليست فقط مرآة تعكس المجتمع، بل ساحة تُعاد صياغتها باستمرار، حيث تتصارع الأصوات الحقيقية مع أصوات مدفوعة بمصالح. وهكذا، حين ندرس تاريخ المشهد الثقافي، لا يكفي النظر إلى الأعمال وحدها، بل يجب أن نغوص في طبقات النفوذ التي تحركها هذه اللوبيات، لنفهم كيف يُبنى الذوق، كيف تُرسخ الأساطير، وكيف يُحفظ الموقع لمن يريدون السلطة حتى في أرقى مجالات التعبير الإنساني. العصر الرقمي: اللوبيات في زمن الخوارزميات مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، أخذت اللوبيات الثقافية شكلا جديدا أكثر تعقيدا ورقمنة، حيث بات الفضاء الرقمي مسرحا لصراع خفي بين الأصوات والمصالح. لم تعد السيطرة مقتصرة على الناشرين أو الجوائز، بل انتقلت إلى الخوارزميات التي تتحكم في ما يصل إلى أعيننا وآذاننا، فتروّج لمحتوى يُحسب وفق معايير تجارية وسياسية دقيقة، بينما تُدفن الأصوات الأقل شعبية في الظلّ الرقمي، غير المرئي. في عالم تتسارع فيه وتيرة الإعلام والتسويق الإلكتروني، تصير هذه اللوبيات أكثر قوة وتأثيرا، تتخذ من البيانات والسلوكيات أدوات تحكم ذكية تفرض أجندات مخفية، فتغلف المحتوى الأدبي بطبقات من الدعاية الخفية التي لا تكاد تُرى. على القارئ أن يظل يقظا، متسلحا بالفضول والوعي النقدي، ليميز بين النصوص التي تلامس الروح، وتلك التي تُفرض عليه عبر شبكات التواصل والخوارزميات. ولئن تبدو هذه الظاهرة حديثة، فإن تاريخ اللوبيات الثقافية يعيدنا إلى حقيقة ثابتة: الثقافة لم تكن يوما نتاجا عفويا بريئا، بل نتيجة معقدة لتفاعل بين الإبداع وقوى السلطة. من الكهنة في المعابد القديمة إلى الناشرين في عصر الطباعة، ومن الصالونات الأدبية إلى الجوائز الإعلامية، وصولا إلى الخوارزميات الرقمية اليوم، ظلت هذه القوى تُشرف على ما نراه، نقرأه، ونصدّقه. ومع كل هذا، تبقى الحقيقة الأعمق أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يعيش في وجدان القارئ، مستقلًا عن اللوبيات، متحررا من الضجيج، قادرا على الحفر في أعماق الإنسان، مهما تآمرت عليه قوى الظلّ.


العربي الجديد
٢٦-٠٧-٢٠٢٥
- العربي الجديد
آخر ما كتبه ماريو بارغاس يوسا
في ما يشبه الوصية الأدبية، يكتب الروائي البيروفي الحائز نوبل، ماريو بارغاس يوسا، مقدمة لرواية "لغز ستراديفاريوس الأخير" للكاتب الأرجنتيني أليخاندرو غييرمو رويميرس، نُشرت مؤخراً في صحيفة إل باييس الإسبانية . غير أنّ ما كتبه لا يمكن اعتباره مجرد تقديم لرواية زميل، بل هو تأمّل حميمي في معنى الأدب، والكتابة، والخيال، وفي المصير الشخصي لكاتب أفنى عمره في خدمة الرواية، فضلاً عن كونه آخر ما خطّه الكاتب البيروفي قبل رحيله عن عالمنا. منذ سطورها الأولى، تبدو المقدمة أقرب إلى وصية أدبية مكتوبة بنبرة الهدوء الذي يسبق الانطفاء، وتكشف أن من يكتب لم يعد جزءاً من الحياة الأدبية فحسب، بل يقف عند حافتها، مستشرفاً نهاياتها. يقول يوسا في مستهل تأمله إن الرواية، خلافاً للشعر، ليست فناً يسعى إلى الكمال، بل هي فن يحتمل النقص، ويغتني به. إنّها "شكل أدبي واسع يحتضن الحياة بما فيها من تناقضات، وتفاصيل، ومصادفات، وما من شيء إنساني يمكن اعتباره غريباً عن الرواية. هي الفضاء الذي نمارس فيه حقنا في الفوضى، والضعف، والتعقيد". تدور أحداث الرواية التي يقدّمها يوسا في زمنين: حبكة بوليسية معاصرة تجري وقائعها في باراغواي، وسرد زمني آخر يدور حول مصير كمان من نوع ستراديفاريوس، الذي ينتقل من يد إلى أخرى عبر قرون، ويحمل معه صدى الأزمنة والشخصيات التي مرّ بها. يشير يوسا إلى أنَّ الكمان في الرواية لا يؤدي دوراً تقنياً في الحبكة فحسب، بل يتحوّل إلى "رمز حيّ للذاكرة"، كما يصفه، وإلى استعارة للمصير الإنساني الذي لا يتوقف عن التنقل بين الحروب والحب، بين الصوت والصمت، بين الحياة والموت. لا يُخفي صاحب "حفلة التيس" إعجابه بطريقة رويميرس في المزج بين الواقعي والميتافيزيقي، بين التاريخي والوجداني، إذ يرى أن الرواية لا تكتفي بنقل القارئ إلى أماكن بعيدة، بل تعيد خلق العالم وفق إيقاعٍ آخر، أقل عنفاً، وأكثر انسجاماً. يكتب في أحد المقاطع: "الرواية الجيدة لا تصف الواقع، بل تقترح إمكانية لوجوده بشكل آخر". أهمية أن نستمر في سرد الحكايات حتى ونحن نقترب من نهاياتنا يذهب التأمل في الأدب في هذه المقدمة إلى حدود الذات. فماريو بارغاس يوسا، الذي أمضى عقوداً في الكتابة عن الانقلابات والأزمات السياسية في أميركا اللاتينية، يعود اليوم ليذكّر بأن الأدب ليس وسيلة لفهم الآخرين فقط، بل طريقة لمعرفة الذات. يتأمل في مرور الزمن، في قدرة الخيال على مقاومة النسيان، وفي أهمية أن نستمر في سرد الحكايات حتى ونحن نقترب من نهاياتنا. فالكتابة، في رأيه، ليست مجرد مهنة، بل شكل من أشكال المقاومة. في جزء بارز من المقدمة، يكتب: "الرواية تدريب على الحرية. إنها تضعنا في مواجهة المصائر التي لم نعشها، والقرارات التي لم نتخذها، لكنها تظل جزءاً منّا". ليست المقدمة نصاً نقدياً تقليدياً، بل قطعة أدبية بحد ذاتها، تعلن تقاعده عن الكتابة، أو على الأقل، صمته النهائي. هي تذكير مؤلم بأن عصراً أدبياً طويلاً شارف على نهايته، وأنّ الذين شيّدوا جسور الخيال بين القارئ والعالم، باتوا يغادرون الواحد تلو الآخر. لكنها أيضاً تذكير بما يجعل الرواية باقية: أنها لا ترتبط بأسماء الكتّاب، بل بقدرة الإنسان على الحلم. موقف التحديثات الحية أنشد أنت، يا هوميروس، ملحمة سورية


العربي الجديد
٢٥-٠٧-٢٠٢٥
- العربي الجديد
كتّاب خارج ضجيج الأنستغرام
لم يعد من السهل أن يختار الكاتب الصمت، أو أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وخصوصاً في زمنٍ يُهيمن فيه الحضور الإعلامي، ويُقاس التأثير بعدد المتابعين والظهور المتكرّر. لكن، هل يعني ذلك أن جوهر الأدب هو العزلة؟ ليس بالضرورة. فالكاتب ليس ناسكاً بالمعنى الحرفي، بل شاهدٌ على زمنه، ومشارك في قضاياه، وصاحب رأي قد يكون أقوى من خطاب سياسي أو بيان صحفي. غير أن الإشكال لا يكمن في أن يكون له رأي، بل في أين وكيف يعبّر عنه. فهل المنصّة الرقمية، بما تفرضه من تفاعل فوري، وتعليق عاجل، وتدوين لا يتوقّف، هي المكان المناسب للكتابة العميقة؟ أم أن هذه الحميمية المفروضة تُفرغ الرأي من معناه، وتختزل الكاتب في ردّات فعله اللحظية؟ هنا يبدأ السؤال، لا الإجابة. لطالما شُجّع الكُتّاب في العقدين الأخيرين على الانخراط في "العلامة الشخصية" عبر وسائل التواصل، باعتبارها ضرورة معاصرة للترويج والتأثير. يرى البعض أن الحضور الرقمي يمنح الكاتب منصّة للتفاعل المباشر مع جمهوره، ووسيلة لحماية صوته من التهميش الإعلامي. لكن هذه المنصّات، رغم كل ما تتيحه، تفرض إيقاعاً غريباً عن طبع الكتابة: سرعة، اختزال، استعراض . وهي صفات قد تتعارض مع طبيعة الأدب الذي يطلب التروّي، والتأمّل، وإتقان الغياب أحياناً. النص يعيش بذاته، ولا يحتاج دائماً إلى صورة صاحب من بين الكُتّاب العرب الذين اختاروا الغياب جزءاً من رؤيتهم للكتابة، يبرز اسم ربيع جابر ، الروائي اللبناني الحائز جائزة البوكر. لم يظهر في مقابلات متلفزة، ولا يملك حسابات على المنصّات. حتى صورته الشخصية نادرة. حين سُئل عن ذلك، أجاب: أرفض أن يُسجَّل صوتي متسرّعاً في كل لقاء. الكتاب يحتاج وقفات. الغموض هنا ليس ادّعاءً، بل جزء من عالمه الأدبي، حيث تنمو الشخصيات بعيداً عن ضوء الكاميرا. مثال آخر من الجيل الجديد هو الروائية ليلى سليماني، التي رغم شهرتها الواسعة، اختارت الانسحاب من إنستغرام. في مقابلة مع مجلة Vogue قالت بوضوح: "أريد أن أقتل ليلى اللطيفة التي تظهر على إنستغرام، تلك التي تخاف ألّا يُحبها الآخرون. يجب أن أقتلها لأكون إنسانةً جيدة، ومواطنةً جيدة، وكاتبةً حقيقية". كلامها يعكس معضلة الكاتب المعاصر: كيف تظلّ ذاتك حقيقية في عالم يتطلّب منك أن تبتسم دائماً، وتُعجب ويُعجب بك؟ حتى في التجربة الغربية، نجد كاتبة مثل أليس مونرو، الحائزة جائزة نوبل، وقد اختارت منذ وقت مبكّر الابتعاد عن الإعلام ورفضت التعرّف إلى الكتّاب من وجوههم. في إحدى مقابلاتها قالت: "لا أريد أن يعرفني الناس بوجهي، بل بقصصي فقط". موقفها يعكس قناعة بأن الأدب ليس أداءً شخصياً، بل تجربة تتجاوز الكاتب. ومن أميركا اللاتينية، يبرز مثال سيزار آيرا، الروائي الأرجنتيني الذي كتب أكثر من مئة رواية، لكنه نادر الظهور، ولا يُسوّق نفسه أبداً. وصفه النقاد بأنه يعيش في "برج عاجيّ"، ويكتب بتفرّغ شبه يومي بعيداً عن أي ضجيج إعلامي أو رقمي. كتبه تصل إلى القارئ دون أي وساطة، دون مقابلات أو حسابات شخصية، بل عبر النص وحده. هذه النزعة نحو الغياب لم تبدأ مع الإنترنت، بل سبقتها مواقف شبيهة من كُتّاب كبار، من بينهم نجيب محفوظ، الذي رغم حضوره الأدبي الطاغي، كان في بداياته يرفض الظهور الإعلامي، وقلّما شارك في ندوات أو لقاءات حتى سبعينيات القرن الماضي. عبّر غير مرة عن عدم ارتياحه للكلام عن أعماله، مؤمناً بأن الأدب يجب أن يُقرأ لا أن يُفسَّر. وكان يرى أن "الأديب يجب أن يُعرف من خلال أدبه، لا من خلال كلامه عن أدبه". لكن هذه الظاهرة تطرح سؤالاً أعمق عن العلاقة بين الكاتب والقارئ في زمن المنصّات. هل تزداد الحميمية حين يعرف القارئ تفاصيل حياة الكاتب اليومية؟ أم تفقد النصوص شيئاً من غموضها وقدرتها على أن تُقرأ كعوالم منفصلة؟ تشير دراسات علم النفس الثقافي إلى ما يُعرف بـ"الحميمية المتخيّلة" (parasocial intimacy)، وهي العلاقة التي يبنيها القارئ أو المتابع مع شخصية عامة، دون أن تكون العلاقة متبادلة بالمعنى التقليدي. حين يتابع القارئ الكاتب عبر الصور والمنشورات، يشعر بارتباط أعمق، لكنه في الحقيقة يتفاعل مع صورة منتقاة، لا مع الكاتب الفعلي. وقد يؤدّي هذا التداخل إلى تقليص المسافة التأمّلية الضرورية بين القارئ والنص، حيث يُصبح الكاتب حاضراً في ذهن القارئ بكونه "شخصاً" أكثر منه "صوتاً أدبياً". هل تزداد الحميمية حين يعرف القارئ تفاصيل حياة الكاتب؟ بالمقابل، حين يغيب الكاتب، لا يبقى أمام القارئ سوى النص. لا يعرف صوته، ولا يراه في القصص اليومية، ولا ينتظر منه تعليقاً في كل قضية. يبدو هذا نوعاً من الترف في عصر الحضور المتواصل، لكنه، في نظر البعض، هو الطريقة الوحيدة لاستعادة جوهر الأدب: أن يُقرأ النص بمعزل عن صاحبه، أن يعيش بذاته. قد لا يكون الغياب عن المنصّات موقفاً ضد الحداثة، بقدر ما هو سؤال مفتوح عن طبيعة الكتابة نفسها: هل يجب أن تُرفق دائماً بصورة الكاتب وصوته ورأيه السريع؟ أم أن لها الحق بأن تُترك وحدها، لتخلق علاقتها بالقارئ دون وساطات؟ البعض يرى في الحضور الرقمي دعماً ضرورياً للأدب، وآخرون يخشون أن يُفرّغ هذا الحضور الكاتب من خصوصيته، ويحوّله إلى "شخصية عامة" بدلاً من كونه صانع رؤى. لكن، بين الغياب والحضور، بين الاختفاء الكامل والاستعراض، هناك مساحة رمادية، لا يحدّدها الصمت أو التفاعل فقط، بل يحدّدها سؤال أبعد: هل لا يزال الكاتب قادراً على أن يخلق أثراً أدبياً، حتى حين لا نعرف ما أكله صباحاً أو كيف يعلّق على كل حدث؟ وإذا كان الجواب نعم، فقد لا يحتاج الكاتب إلى أن يكون مرئياً دائماً، بل واضحاً في ما يكتبه. ليس الغياب فضيلة في ذاته، ولا الحضور خطيئة، بل كل شيء يتوقّف على نوع العلاقة التي يريد الكاتب أن يقيمها مع قرّائه: علاقة قائمة على النص، أو على الحياة المحيطة به. وفي النهاية، ليس مطلوباً من الكاتب أن يختفي، بل أن يختار كيف يظهر. والأهم: ألّا يترك الكتابة تغرق في ضجيج لا يشبهها. * كاتبة وروائية من لبنان فنون التحديثات الحية لعبة السلطة والأقنعة في مسرحية الدكتاتور