
كل المقاهي لونها الفرح -2-
تذكر كتب التاريخ أن المقاهي أُنشئت أولاً في دول المغرب العربي بعدما وصلتهم من بلاد الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم بعد ذلك لاقت انتشاراً في باقي أوروبا، خاصةً العاصمة لندن، التي جعلت من المقاهي في ذلك الوقت طاولة مفاوضات سياسية، بعيداً عن البروتوكولات الرسمية لإنشاء العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا والدولة العثمانية.
والمقاهي ليست أماكن فقط، بل عبارة عن مزيج من روائح متنوعة، يقول الروائي والكاتب القصصي الأميركي«توماس وولف» واصفاً المقاهي الباريسية بأنها ذاك المزيج المركّز لرائحة المشروبات ورائحة التبغ الفرنسي القديم، والرائحة المنبعثة من شرائح اللحم المقدد والقهوة السوداء الباريسية ورائحة المرأة والعنب المعتق.
جان بول سارتر: «كل مفكر عظيم يحمل بداخله رغبة في لقاء الآخرين، وأفضل مكان لتحقيق ذلك هو المقهى، حيث تُولد الأفكار وتُشعل العقل».
ألبير كامو: «في المقاهي أجد نفسي أكتب، أراقب العالم وهو يمر، وأشعر أنني جزء من حلم لا ينتهي».
فريدريش نيتشه: «المقاهي هي مدارس للسان، مختبرات للأفكار، ومساكن للروح».
مقهى تورتوني في بوينس آيرس يُعد من أبرز المعالم التاريخية والثقافية، وقد استضاف على مر العقود العديد من الأدباء، والكتاب، والسياسيين البارزين الذين ساهموا في تشكيل تاريخ الأدب والفكر والحركة الوطنية في الأرجنتين وأميركا اللاتينية.
هناك محطات في حياة هذا المقهى، المالك والمؤسس الأول في القرن التاسع عشر، هو«إيميليو تورتوني (Emilio Tortoni» الذي أسسه عام 1858، كان رجل أعمال من أصول إيطالية، بعده تولته العائلة، وفي بداية القرن العشرين، تحول لمؤسسة ثقافية وتراثية.
ظهر المقهى كمساحة رمزية في القصص التي تستعرض تاريخ الحركة الأدبية والفكرية في المدينة، وبعض السير الذاتية والكتب التاريخية عن الأدب الأرجنتيني، وكلها كانت تتحدث عن مكانة تورتوني كمركز اجتماعي وثقافي، وتذكر لقاءات الأدباء والفنانين التي كانت تجري في داخله، كذلك له ظهور في السينما والتلفزيون.
لكي تدخل باب مقهى تورتوني عليك أن تقف في طابور طويل، وقد يكون بطول الشارع أحياناً، نظراً للإقبال الكبير عليه من السكان أو الزائرين من السياح، لكنه انتظار يستحق، فالفرحة بمكان تاريخي تتطلب بعضاً من العناء.
في المقهى والمطعم الذي يحتل طابقين في عمارة يغلب عليها طابع المعمار الباريسي، وأعاد تصميم واجهتها المهندس المعماري «أليخاندرو كريستوفر» في نهاية القرن التاسع عشر، يمكنك بعد الظهر تناول غدائك أو عشائك بتجربة شرائح اللحم الأرجنتيني الفاخر، أو تناول شرائح السندويتشات المتنوعة أو «churros con chocolate» اللذيذة والمقرمشة، لكنك في كل الأوقات والأحوال ستشعر دائماً أنك محاط بلطافة وابتسامة الأرجنتينيين، وبكل شيء تاريخي حولك من لوحات واسكتشات رسوم بعضها لم يكتمل، وصفحات جرائد قديمة، وصور وثائقية لأشخاص مروا على المكان أو كانت لهم بصمة على جدران المقهى، هناك أيضاً العديد من التماثيل لكتّاب وأدباء وفنانين يحرسون ظلالهم القديمة في أركان هذا المقهى الذي يعج بالناس، وقلما تجد لك طاولة وكراسي فارغة، والجميع آت تتقدمهم شهرة المكان، ومن مروا عليه في أزمنته المختلفة خلال 167 عاماً من ولادته، ولم تقفل أبوابه يوماً واحداً منذ افتتاحه، حتى في عز الجائحة، حيث يبلغ عدد زواره في الشهر بين 45 -50 ألف زار.
«بورخيس» هذا الروائي العظيم، والذي لم تنصفه جائزة نوبل، كان من الرواد، وله ركن مخصص في المقهى كان يتناول قهوته فيه بعد الظهر خاصة بعد إصابته بالعمى، ويقال أيضاً: إن العالم «أينشتاين» زاره وجلس فيه، والشاعر الإسباني الكبير «فريدريكو غارسيا لوركا»، والفنان الفرنسي الأرجنتيني المشهور «كارلوس غارديل»، الذي أطلق رقصة «التانغو» الأرجنتينية التقليدية إلى العالم لتنال ذاك الصيت والحضور الدولي.. لذا شهرته تعدت الآفاق، وأصبح أقدم وأشهر مقهى في أميركا اللاتينية، وعُد واحداً من أشهر عشر مقاه في العالم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاتحاد
منذ 2 أيام
- الاتحاد
الصدق مع النفس يصنع الفرق
الصدق مع النفس يصنع الفرق هناك أشياء تشبه سحابة غيث ممطرة، يمكن أن نسميها الفرح كله، يتسرب إلى نفوسنا، ولا نخطئ، يمكن أن نقول عنها إنها خيوط من نور وسعادة تلوّن حياتنا، ولا نخطئ، يمكن أن تأتي بها ريح باردة أو فكرة سابحة أو ذاك الصدق مع النفس والآخرين، مثلما لخصها مرة بحديث بعيد عن التنظير والتأطير المثقف والفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر»، في مجرى حديثه عن المثقف الحقيقي، وما تصنع الثقافة الواعية في الحياة، يقول: لو أن كناساً أنهى عمله اليومي، وعاد راجعاً إلى بيته، حاملاً مشترواته لعائلته، وأثناء مروره بالنهج المؤدي لدرب بيته، وجد على الرصيف كومة زبالة، ومرميات، فأنزل مشترواته جانباً، وشمر عن ساعديه، وتناول عدة عمله من جديد، وأزال كل ما يعيق المارة، ويجعل الشارع نظيفاً، كان بإمكان هذا الكناس أن لا يلتفت لتلك الأوساخ، ويمشي إلى بيته مباشرة، ولن يسأله أحد أو يلومه إنسان، غير أنه تصرف بتلك الروح الساكنة في داخله، والمعتادة على العطاء والبذل، لحظتها تحول ذلك الكناس إلى مثقف يفيد بعمله المجتمع، ويرتقي بإنسانيته، وقيمها النبيلة، ذاك هو المثقف الحقيقي في رأي فيلسوف الوجودية «سارتر»، وفي الحضارة الإسلامية إماطة الأذى عن الطريق فيها صدقة، وعند الشعوب المتقدمة من يخدمون مجتمعاتهم بالفعل لا بالصوت هم المثقفون، أما غيرهم فهم المثرثرون، وزيرة الصحة في هولندا، تخدم مع عمال النظافة ساعتين في اليوم، وتشاركهم في أعمال التنظيف، ولا تترفع عليهم، ولا تستقبح عملهم، وفي اليابان أجور عمال النظافة هي من أكبر الأجور في سوق العمل، وكثير من مدن العالم المتحضرة تجد في ساحاتها العامة أو حدائقها تمثالاً لعامل النظافة أو رجل الإطفاء أو غيرهم من الأيدي العاملة والمكافحة، ولعل قصة حلاق الرسام العالمي «بيكاسو» فيها معنى آخر لفعل الثقافة، وما يصنع المثقف، عام 1944 في باريس حيث استقر الرسام الإسباني «بيكاسو» التقى في الحي بمواطنه «اوجينيو آرياس»، وكان لديه محل للحلاقة، أعجب «بيكاسو» بحركة يد ذلك الحلاق، ورقصة المقص، وكأنه فنان مثله يداعب اللون والريشة، فاستسلم له، وترك له رأسه بحرية، مستمتعاً بثرثرته المتسارعة بالإسبانية، وحين انتهى من قص شعره، رفض أن يأخذ منه «فرنك»، فخجل «بيكاسو»، فأخرج من مزودة الرسم لوحة وأعطاها إياه، أخذها الحلاق، ويومها لم يكن «بيكاسو» مشهوراً، ظلت تلك الصداقة تكبر بينهما، وكلما انتهى الحلاق من قص شعر «بيكاسو»، وحاول أن يدخل يده في جيبه، يمنعه الحلاق بتعفف، ويقول له: أنت الآن صديقي، فيقوم «بيكاسو» بإهدائه لوحة جديدة حتى كوّن ثروة حقيقية من أعمال ذلك الرسام الذي لن يتكرر، بلغت 60 لوحة. وحين توفي «بيكاسو» تسارع إلى صديقه الحلاق المقتنون، وإدارات المتاحف، عارضين عليه مئات الملايين لشراء تلك الثروة الفنية التي لم يدفع ثمنها غير ضربات مقص، وثرثرات، وكثير من الحب والود، غير أن الحلاق رفض كل تلك الإغراءات والأموال، وفي ليلة قمرها مشع، حزم حقائبه وتلك اللوحات الفنية متوجهاً إلى قريته الوادعة شمال مدريد «بويتراكو ديل لوزويا» في صمت وبفخر. اليوم.. هذه القرية يؤمها مئات الآلاف من السياح سنوياً، وصمم لها متحفاً أسماه متحف حلاق بيكاسو عام 1985، اليوم يعد قبلة للزوار وعشاق الفن، والبحث عن المدهش، وحين توفي ذلك الحلاق عام 2008 ودعته قريته وإسبانيا كلها وداع المواطنين المخلصين، والأبطال الوطنيين، ذلك لأنه في لحظة تخلى عن الذي هو للخاص من أجل العام، ذلك الشيء الذي يشبه سحابة ممطرة يمكن أن ننعتها بالخير والفرح والسعادة.


البوابة
١٣-٠٧-٢٠٢٥
- البوابة
كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!
في الأدب الكوري الحديث، تبرز الكاتبة "هان كانغ" كصوتٍ متفرّد، يكتب بلغة جديدة وبأسلوب مُبتكر. ذاع صيتها عالميًا بعد روايتها "النباتية"، التي حصدت جائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وتلتها أعمال أخرى مثل "الدرس الإنساني" و"الكتاب الأبيض"، وكلها تؤكد رؤيتها الجمالية المشبعة بحسٍّ وجوديّ دافق. وفي عام 2024، تُوّج هذا المسار الأدبي الفريد بأرفع وسام عالمي، وهو جائزة نوبل في الأدب. وجاء في حيثيات الجائزة أنها "تقديرًا لنثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، فكانت الجائزة تتويجًا لمسيرةٍ أدبية نادرة، وشهادةً بقدرة اللغة الهامسة على أن تُلامس أعماق الإنسانية. وكما هو معلوم، فهي أول كاتبة كورية جنوبية تنال جائزة نوبل، وأول امرأة آسيوية تفوز بها منذ سنوات طويلة. وقد كان يمكنني أن أتحدث عن روايتها الشهيرة "النباتية"، أو عن تأملاتها في "الدرس الإنساني"، لكن شيئًا في رواية "الكتاب الأبيض" استوقفني على نحو خاص، بعد أن انتهيت من قراءتها. لم أجدها رواية تسرد أحداثًا وتتحدث عن مواقف ومشاعر، لكنها عملٌ يشتبك مع الوجع بهدوء، ويتأمل الوجود من زوايا ما لم يحدث. اللون الوحيد المسيطر في هذا العمل هو الأبيض. لكنه بياض لا يُبشّر، بل يحتشد بالفقد، والتطهّر، والحنين إلى خلاصٍ غامض. عملٌ شخصيٌّ وعالميٌّ في آنٍ معًا؛ بسيطٌ وعميق، هامسٌ وصارخ، كأنه صلاة داخلية كتبتها روحٌ تقف على حافة الحياة. "الكتاب الأبيض" – الذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2018، وصدرت ترجمته العربية عن الأستاذ محمد نجيب – ليس رواية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى تراتيل حزينة، مكتوبة بلونٍ أبيض، كلون البراءة، والغياب، والولادة التي لم تكتمل، والكتابة التي تحاول تضميد الزمن، لا وصفه. في مقدمته، تروي الكاتبة "هان كانغ" كيف قررت في أحد فصول الربيع أن تكتب عن "الأشياء البيضاء": القماط، ثوب وليد، ملح، جليد، قمر، ورقة بيضاء، كفن... لكنها لم تكن تكتب عن الأشياء بذاتها، بل عمّا تثيره فيها من فيضٍ شعوريّ قديم. لقد كتبت وكأنها تمسك ببلسمٍ أبيض، لتضعه فوق جرحٍ دفين لم يندمل. وسألت نفسها حينها: هل أريدُ حقًا أن أختبئ بين الكلمات؟ وهل يمكن لشاشٍ أبيض أن يُخفي هذا الألم؟ البياض عندها لم يكن تأمّلًا جماليًّا فحسب، بل استدعاءً لفقدٍ شخصيّ موغل في الطفولة؛ أختها الكبرى التي ماتت بعد ولادتها بساعات قليلة، وكانت هذه الرواية محاولة لمنح تلك الطفلة الغائبة حياةً رمزية على الورق، وردّ اعتبارٍ لها، ولو بلونٍ خافت. تتوقف الكاتبة عن مشروع كتاباتها، وتغادر إلى مدينة غريبة لم تطأها من قبل. تمشي فيها كمن يزرع نفسه من جديد في تربةٍ أخرى، وتواجه الوحدة والبرودة والصداع النصفيّ الذي يلازمها منذ مراهقتها. وتكتب بأنه في ليلة شتائية، يصبح الزمن ملموسًا كالإبر، تخترق قلبها لحظةً بلحظة، وتجبرها على التوقف... لا لشيء، إلا لتحمّل الألم. دعني أنقل لك، عزيزي القارئ، فقرةً من مقدمة "الكتاب الأبيض" لتشارك مشاعرها المتدفقة والمخبوءة في ثنايا خلاياها: "كلُ لحظةٍ هي قفزةٌ إلى الأمامِ من فوقِ جرفٍ غير مرئيّ، حيث تتجدّدُ حوافُ الزمنِ باستمرارٍ. نرفعُ أقدامَنا من على الأرضِ الصلبةِ للحياةِ التي عشناها حتى الآن، ونأخذُ الخطوةَ التالية المحفوفة بالمخاطرِ نحو المجهول، نحو الهواءِ الفارغِ. لا نفعلُ ذلك كي نثبتَ امتلاكَنا لشجاعةٍ من نوعٍ خاصٍّ، بل لأنه لا يوجد أمامنا طريقٌ آخرُ... الآن، في هذه اللحظة، أشعرُ بإثارةٍ مُدَوِخَةٍ تسري في داخلي، بينما أخطو بتهوّرٍ نحو زمنٍ لم أعشه بعد، نحو كتابٍ لم أكتبْه بعد." لا أريد أن أستمر في كتابة الفقرة حتى لا أدخلك عنوة إلى أحزانها... الأسبوع القادم، بإذن الله، أستكمل القراءة في هذا العمل الفريد، للكاتبة التي لا تكتب فحسب، بل تُصغي للألم، وتدوّنه.


الاتحاد
٠٥-٠٧-٢٠٢٥
- الاتحاد
كل المقاهي لونها الفرح -2-
كل المقاهي لونها الفرح -2- تذكر كتب التاريخ أن المقاهي أُنشئت أولاً في دول المغرب العربي بعدما وصلتهم من بلاد الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم بعد ذلك لاقت انتشاراً في باقي أوروبا، خاصةً العاصمة لندن، التي جعلت من المقاهي في ذلك الوقت طاولة مفاوضات سياسية، بعيداً عن البروتوكولات الرسمية لإنشاء العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا والدولة العثمانية. والمقاهي ليست أماكن فقط، بل عبارة عن مزيج من روائح متنوعة، يقول الروائي والكاتب القصصي الأميركي«توماس وولف» واصفاً المقاهي الباريسية بأنها ذاك المزيج المركّز لرائحة المشروبات ورائحة التبغ الفرنسي القديم، والرائحة المنبعثة من شرائح اللحم المقدد والقهوة السوداء الباريسية ورائحة المرأة والعنب المعتق. جان بول سارتر: «كل مفكر عظيم يحمل بداخله رغبة في لقاء الآخرين، وأفضل مكان لتحقيق ذلك هو المقهى، حيث تُولد الأفكار وتُشعل العقل». ألبير كامو: «في المقاهي أجد نفسي أكتب، أراقب العالم وهو يمر، وأشعر أنني جزء من حلم لا ينتهي». فريدريش نيتشه: «المقاهي هي مدارس للسان، مختبرات للأفكار، ومساكن للروح». مقهى تورتوني في بوينس آيرس يُعد من أبرز المعالم التاريخية والثقافية، وقد استضاف على مر العقود العديد من الأدباء، والكتاب، والسياسيين البارزين الذين ساهموا في تشكيل تاريخ الأدب والفكر والحركة الوطنية في الأرجنتين وأميركا اللاتينية. هناك محطات في حياة هذا المقهى، المالك والمؤسس الأول في القرن التاسع عشر، هو«إيميليو تورتوني (Emilio Tortoni» الذي أسسه عام 1858، كان رجل أعمال من أصول إيطالية، بعده تولته العائلة، وفي بداية القرن العشرين، تحول لمؤسسة ثقافية وتراثية. ظهر المقهى كمساحة رمزية في القصص التي تستعرض تاريخ الحركة الأدبية والفكرية في المدينة، وبعض السير الذاتية والكتب التاريخية عن الأدب الأرجنتيني، وكلها كانت تتحدث عن مكانة تورتوني كمركز اجتماعي وثقافي، وتذكر لقاءات الأدباء والفنانين التي كانت تجري في داخله، كذلك له ظهور في السينما والتلفزيون. لكي تدخل باب مقهى تورتوني عليك أن تقف في طابور طويل، وقد يكون بطول الشارع أحياناً، نظراً للإقبال الكبير عليه من السكان أو الزائرين من السياح، لكنه انتظار يستحق، فالفرحة بمكان تاريخي تتطلب بعضاً من العناء. في المقهى والمطعم الذي يحتل طابقين في عمارة يغلب عليها طابع المعمار الباريسي، وأعاد تصميم واجهتها المهندس المعماري «أليخاندرو كريستوفر» في نهاية القرن التاسع عشر، يمكنك بعد الظهر تناول غدائك أو عشائك بتجربة شرائح اللحم الأرجنتيني الفاخر، أو تناول شرائح السندويتشات المتنوعة أو «churros con chocolate» اللذيذة والمقرمشة، لكنك في كل الأوقات والأحوال ستشعر دائماً أنك محاط بلطافة وابتسامة الأرجنتينيين، وبكل شيء تاريخي حولك من لوحات واسكتشات رسوم بعضها لم يكتمل، وصفحات جرائد قديمة، وصور وثائقية لأشخاص مروا على المكان أو كانت لهم بصمة على جدران المقهى، هناك أيضاً العديد من التماثيل لكتّاب وأدباء وفنانين يحرسون ظلالهم القديمة في أركان هذا المقهى الذي يعج بالناس، وقلما تجد لك طاولة وكراسي فارغة، والجميع آت تتقدمهم شهرة المكان، ومن مروا عليه في أزمنته المختلفة خلال 167 عاماً من ولادته، ولم تقفل أبوابه يوماً واحداً منذ افتتاحه، حتى في عز الجائحة، حيث يبلغ عدد زواره في الشهر بين 45 -50 ألف زار. «بورخيس» هذا الروائي العظيم، والذي لم تنصفه جائزة نوبل، كان من الرواد، وله ركن مخصص في المقهى كان يتناول قهوته فيه بعد الظهر خاصة بعد إصابته بالعمى، ويقال أيضاً: إن العالم «أينشتاين» زاره وجلس فيه، والشاعر الإسباني الكبير «فريدريكو غارسيا لوركا»، والفنان الفرنسي الأرجنتيني المشهور «كارلوس غارديل»، الذي أطلق رقصة «التانغو» الأرجنتينية التقليدية إلى العالم لتنال ذاك الصيت والحضور الدولي.. لذا شهرته تعدت الآفاق، وأصبح أقدم وأشهر مقهى في أميركا اللاتينية، وعُد واحداً من أشهر عشر مقاه في العالم.