
ساعة ونصف في رحاب زياد الرحباني
بدأت أنوب وألوب عن حلّ. هاتفت إعلامية تونسية، ناشطة في حقل الثقافة، لهذه المهمة، وكان أن جرت الرياح بما اشتهت السفن، وقد نجحت أن توفّر لي تذكرة ومكانا، في الصف الأوّل من المدرج.
سافرت من العاصمة تونس إلى مدينة الحمامات، التي تبعد عنها ساعة سفر، إلى المركز الثقافي الدوليّ، الذي غصّت مدرجات مسرحه، من أدناها إلى أقصاها، بجمهور زياد الرحباني. استُقبل زياد الرحباني وفرقته القزحية الجنسيات، المكوّنة من 15 موسيقيّا، بعاصفة من التصفيق والهتاف.
زياد عازف البيانو
كان زياد الرحباني في هذه الأمسية، عازفا موسيقيّا مُبدعا، لم يُغَنِّ ولم يتحدّث. لم يكن كما هو، صوتا ثائرا مُشاكسا، أو مسرحيّا ساخرا، بل كان صامتا وسارحا في العزف، بوجه غامض مثل موناليزا. لم يشارك جمهوره، ولم يتفاعل مع هتافاته، لم تفرّ من فمه، طوال الأمسية سوى بضع كلمات، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. كان منسجما مع معبودته آلة البيانو، إذ ترك أصابعه تداعب مفاتيحها، لتخرج معزوفات عذبة تشنّف الآذان، وتسرق الأرواح إلى عالم جميل هادئ. كان زياد الموسيقي وحده، منشطرا من ذاته المغنّية، والساخرة، واللاسعة، والناظرة إلى الناس. من غنّى وأبدع في هذا الحفل، في صومعة زياد الرحبانيّ وتحت مظلّته وبين معزوفاته، مع عوده الرنّان، المطرب المصريّ المبدع العوّيد حازم شاهين، خاصة في أغنية «تلفن عيّاش». قُدّت في هذه الأمسية معزوفات وتنويعات غنائية من تأليف زياد، منها «الشرق الأوسط» و»هدوء نسبيّ»، و»الأمل»، «شوه الأيام»، و»أمرك سيدنا»، و»تلفن عياش». كان الرحبانيّ في هذه الأمسية صامتا ومُتعبا، وهو الحامل في معزوفاته وكلماته، الهمّ العربيّ من محيطه إلى خليجه. لم يبتسم زياد، اكتفى بتحية متواضعة، لم يرد ولم ينظر إلى الصبية، التي هتفت حين أطلّ، وسط عواصف التصفيق «كيفك زياد؟». كثير من الجمهور صُدم من صمت زياد، في هذه الأمسية المشتهاة والمنتظرة في تونس، على أحر من الجمر. مهما يكن من أمر، لقد نقش زياد الرحباني في سفر الموسيقى مزامير جديدة، ما عرفتها الموسيقى العربية من قبل. لأنّه التزم بالفنّ الأصيل، وعاش في الفن، كما أنّ الفنّ عاش فيه.
زياد المشاكس الخارج عن السرب
لقد سلّط زياد الضوء بسخرية سوداء، على أمور هامشية صغيرة، نعيشها ولا ننتبه إليها، فأصبحت مهمة وعميقة في عيوننا، فسكن قلوب الملايين. أدهشنا بنبوغه وفطنته في تصوير خمول مجتمعاتنا، بسخرية لاذعة «بقربوا وبأخروا الساعة ساعة، وبرجعونا 10 سنين لورا، شو فيه ورانا؟ لشو بيلعبوا فيا للساعة؟». لقد نحت زياد الرحباني، بحروف اللغة (اللهجة) اللبنانية المحكية، بنيانا مرمريا من الكلمة الهادفة والموسيقى الملتزمة، التي تحكي قضايا الفرد والسلطة، في زمان انقطاع الخبز والكهرباء عن البلد. زياد الرحباني مدرسة فنّية، تضاهي مدرسة أبيه وأعمامه الرحابنة. لقد عزف زياد الرحباني، بفنّه الملتزم الرّاقي، على أوتار المهمّشين والمعذّبين والمتعبين، من خلال تسييس الأغنية والتزامها بهموم الإنسان اليومية. لقد غنّى في الظلال، بصوت جريء وأسلوب فضائحيّ وبسخرية سوداء، أضحكت ملايين الموجوعين. لقد كتب ولحّن وغنّى زياد الرحباني، الكلمة المحكية البسيطة العميقة، ونثر الفرح والضحك على خراب الحرب في بلده. هذا الراهب الموسيقيّ، الملتزم بالفنّ الأصيل، قدّم أغاني ساخرة بموسيقى ساحرة. نذر حياته للموسيقى، محتفيا ومجسّدا مقولة شوبنهاور، إنّ الموسيقى ترمّم الأرواح المحطّمة.
كتب المسرحية المغنّاة المُمَوسقة، فقد غنّى المسرحية وَمَسرَحَ الأغنيّة، التي تحاكي الواقع. ألّف التمثيليات اللاسعة واللاذعة، المُضحكة حتى البكاء. لقد سخر بمرارة وباروديا لا مثيل لها، من واقع عربيّ سرياليّ عجيب عُجاب، ومجتمع استهلاكيّ بامتياز ومقلوب القيم «شوه الأيام اللي وصلنالها / قال إنّه غنيّ عم يعطي فقير…/ بيقولوا لك من عرق جبينه / طلّع مصاري هالانسان / طيّب كيف هايدا وكيف ملايينه / وما مرّه شايفينه عرقان «
ما أحوجنا في زمننا إلى مرهم موسيقيّ أصيل، وإزميل حادّ لتكسير أصنام اجتماعية، ترسّب عليها تخلّف اجتماعيّ وسياسيّ من عقود! ما أحوجنا إلى أغانٍ عميقة في زمن التفاهة وغناء « بلاي باك « playback.
رحل زياد جسدا، لأنّه عرف وتوقّع كما غنّى « أنا موش كافر، بس المرض كافر!». لكنه سيبقى مدرسة شعبيّة حداثية وملتزمة بالفنّ الأصيل، والتحريضيّ على الغناء التافه والرخيص، عاش مقهورا ورحل مقهورا من واقع ولا أقسى، لأنّه احترف واحترم الفن، وهذه ثنائية نادرة في زمن استهلاكي، خلاصته «شو هالأيام اللي وصلنالا».
كاتب فلسطيني

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 3 أيام
- القدس العربي
ساعة ونصف في رحاب زياد الرحباني
كان ذلك في مطلع شهر أغسطس/ آب من عام 2019، حين زرت تونس لنشاط ثقافيّ، وعرفت صدفة، وفي اليوم نفسه، أنّ تاريخ 3/08/2019، يحمل حفلين في مكانين مختلفين، حفلا للموسيقار زياد الرحباني، في الحمامات المدينة الساحلية الخلّابة المنثورة على شاطئ البحر المتوسط، وحفلا للمغنية اللبنانية نانسي عجرم في مدينة بنزرت، ضمن مهرجان بنزرت. ذهبت لشراء تذكرة لحفل زياد، وتبيّن لي أنّ تذاكر حفله نفدت، فاشتريت تذكرة لحفل نانسي عجرم. حملت تذكرة نانسي، وعيناي على حفل زياد الرحباني، ولم يهدأ لي بال على هروب فرصة حضور حفل زياد، وتشنيف أذنيّ بمعزوفاته العذبة، وأغانيه الساخرة والجريئة. بدأت أنوب وألوب عن حلّ. هاتفت إعلامية تونسية، ناشطة في حقل الثقافة، لهذه المهمة، وكان أن جرت الرياح بما اشتهت السفن، وقد نجحت أن توفّر لي تذكرة ومكانا، في الصف الأوّل من المدرج. سافرت من العاصمة تونس إلى مدينة الحمامات، التي تبعد عنها ساعة سفر، إلى المركز الثقافي الدوليّ، الذي غصّت مدرجات مسرحه، من أدناها إلى أقصاها، بجمهور زياد الرحباني. استُقبل زياد الرحباني وفرقته القزحية الجنسيات، المكوّنة من 15 موسيقيّا، بعاصفة من التصفيق والهتاف. زياد عازف البيانو كان زياد الرحباني في هذه الأمسية، عازفا موسيقيّا مُبدعا، لم يُغَنِّ ولم يتحدّث. لم يكن كما هو، صوتا ثائرا مُشاكسا، أو مسرحيّا ساخرا، بل كان صامتا وسارحا في العزف، بوجه غامض مثل موناليزا. لم يشارك جمهوره، ولم يتفاعل مع هتافاته، لم تفرّ من فمه، طوال الأمسية سوى بضع كلمات، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. كان منسجما مع معبودته آلة البيانو، إذ ترك أصابعه تداعب مفاتيحها، لتخرج معزوفات عذبة تشنّف الآذان، وتسرق الأرواح إلى عالم جميل هادئ. كان زياد الموسيقي وحده، منشطرا من ذاته المغنّية، والساخرة، واللاسعة، والناظرة إلى الناس. من غنّى وأبدع في هذا الحفل، في صومعة زياد الرحبانيّ وتحت مظلّته وبين معزوفاته، مع عوده الرنّان، المطرب المصريّ المبدع العوّيد حازم شاهين، خاصة في أغنية «تلفن عيّاش». قُدّت في هذه الأمسية معزوفات وتنويعات غنائية من تأليف زياد، منها «الشرق الأوسط» و»هدوء نسبيّ»، و»الأمل»، «شوه الأيام»، و»أمرك سيدنا»، و»تلفن عياش». كان الرحبانيّ في هذه الأمسية صامتا ومُتعبا، وهو الحامل في معزوفاته وكلماته، الهمّ العربيّ من محيطه إلى خليجه. لم يبتسم زياد، اكتفى بتحية متواضعة، لم يرد ولم ينظر إلى الصبية، التي هتفت حين أطلّ، وسط عواصف التصفيق «كيفك زياد؟». كثير من الجمهور صُدم من صمت زياد، في هذه الأمسية المشتهاة والمنتظرة في تونس، على أحر من الجمر. مهما يكن من أمر، لقد نقش زياد الرحباني في سفر الموسيقى مزامير جديدة، ما عرفتها الموسيقى العربية من قبل. لأنّه التزم بالفنّ الأصيل، وعاش في الفن، كما أنّ الفنّ عاش فيه. زياد المشاكس الخارج عن السرب لقد سلّط زياد الضوء بسخرية سوداء، على أمور هامشية صغيرة، نعيشها ولا ننتبه إليها، فأصبحت مهمة وعميقة في عيوننا، فسكن قلوب الملايين. أدهشنا بنبوغه وفطنته في تصوير خمول مجتمعاتنا، بسخرية لاذعة «بقربوا وبأخروا الساعة ساعة، وبرجعونا 10 سنين لورا، شو فيه ورانا؟ لشو بيلعبوا فيا للساعة؟». لقد نحت زياد الرحباني، بحروف اللغة (اللهجة) اللبنانية المحكية، بنيانا مرمريا من الكلمة الهادفة والموسيقى الملتزمة، التي تحكي قضايا الفرد والسلطة، في زمان انقطاع الخبز والكهرباء عن البلد. زياد الرحباني مدرسة فنّية، تضاهي مدرسة أبيه وأعمامه الرحابنة. لقد عزف زياد الرحباني، بفنّه الملتزم الرّاقي، على أوتار المهمّشين والمعذّبين والمتعبين، من خلال تسييس الأغنية والتزامها بهموم الإنسان اليومية. لقد غنّى في الظلال، بصوت جريء وأسلوب فضائحيّ وبسخرية سوداء، أضحكت ملايين الموجوعين. لقد كتب ولحّن وغنّى زياد الرحباني، الكلمة المحكية البسيطة العميقة، ونثر الفرح والضحك على خراب الحرب في بلده. هذا الراهب الموسيقيّ، الملتزم بالفنّ الأصيل، قدّم أغاني ساخرة بموسيقى ساحرة. نذر حياته للموسيقى، محتفيا ومجسّدا مقولة شوبنهاور، إنّ الموسيقى ترمّم الأرواح المحطّمة. كتب المسرحية المغنّاة المُمَوسقة، فقد غنّى المسرحية وَمَسرَحَ الأغنيّة، التي تحاكي الواقع. ألّف التمثيليات اللاسعة واللاذعة، المُضحكة حتى البكاء. لقد سخر بمرارة وباروديا لا مثيل لها، من واقع عربيّ سرياليّ عجيب عُجاب، ومجتمع استهلاكيّ بامتياز ومقلوب القيم «شوه الأيام اللي وصلنالها / قال إنّه غنيّ عم يعطي فقير…/ بيقولوا لك من عرق جبينه / طلّع مصاري هالانسان / طيّب كيف هايدا وكيف ملايينه / وما مرّه شايفينه عرقان « ما أحوجنا في زمننا إلى مرهم موسيقيّ أصيل، وإزميل حادّ لتكسير أصنام اجتماعية، ترسّب عليها تخلّف اجتماعيّ وسياسيّ من عقود! ما أحوجنا إلى أغانٍ عميقة في زمن التفاهة وغناء « بلاي باك « playback. رحل زياد جسدا، لأنّه عرف وتوقّع كما غنّى « أنا موش كافر، بس المرض كافر!». لكنه سيبقى مدرسة شعبيّة حداثية وملتزمة بالفنّ الأصيل، والتحريضيّ على الغناء التافه والرخيص، عاش مقهورا ورحل مقهورا من واقع ولا أقسى، لأنّه احترف واحترم الفن، وهذه ثنائية نادرة في زمن استهلاكي، خلاصته «شو هالأيام اللي وصلنالا». كاتب فلسطيني


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
فلنحبّه أكثر في غيابه
لن أشكّك بنيّات أحد، فنحن أولاد القرى، وحتى المدن، وفي تربيتنا، أنّ مجالس تقبّل العزاء مفتوحة الأبواب هي للجميع، حرفياً. كذلك فإنها غالباً ما تتحوّل الى أمكنة مواتية للمصالحات الصعبة بين متخاصمين. ففي حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم، وإن كان البعض يستعرض حتى في مناسبات كهذه. لن أشكّك، ولن أردّد عبارات الغاضبين من محبّي زياد الرحباني، عن أعداء فقيدنا الذين قالوا فيه شعراً، لكن في جنازته. ولن أشكّك بعواطف أحد أو أطعن بندم صادق أدرك أصحابه قيمة الراحل بعد رحيله، كما أدركوا أنهم، في أحيان كثيرة، تسبّبوا بتعزيز أسباب ذلك الرحيل المبكّر والمُفجع بالتعاون والتضامن مع أحوال وطنية وسياسية كثيرة. كذلك فإني لست بوارد تفحّص نيّات الأشخاص الذين توافدوا للعزاء بزياد، إن كان ذلك حقاً، أو استعراضاً أمام شاشات البثّ المباشر. إن كان في منطقة الحمرا، حيث كان التشييع الشعبي والعاطفي، أو بكفيا، حيث كان العزاء الرسمي والعائلي، أو أيّ مكان آخر أقيم له فيه عزاء، في لبنان أو تونس إلى مصر وفلسطين. مع العلم أنّ بعض هؤلاء المعزّين لبنانياً، كانوا من أشدّ منتقديه، وأحياناً كارهيه، خصوصاً في المواقف السياسية، لدرجة محاربته، وأنا شاهدة كالكثيرين، إن كان في الإعلام أو في مصادر تمويل أعماله، أو محاولات التخويف وتشويه السمعة باستخدام الشارعين، الفني والسياسي، وحتى الأمني. في حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم لكن الموت استباحة. وفي لبنان الموت مناسبة لاستباحة أشدّ، تصل إلى حدّ الوقاحة، خصوصاً إن كان الراحل شخصية عامة، بأهمية تأثير زياد الرحباني، عندها يصبح الإغراء كبيراً. فالرجل الذي لم يكن أحد يجرؤ على تقويله ما لا يريد قوله، لم يعد بيننا. ولم يعد يستطيع الخروج في مؤتمر صحافي أو بيان لتصويب أو نفي، وهذا ما شجّع على استباحة غيابه لاختراع مواقف، أو نسب تصريحات إليه، وترداد كلام مجتزأ قاله في سياق مختلف فتغيّر المراد منه بالكامل، وصولاً إلى تشهيد المتوفى على أحداث، أو التصريح بآراء شخصية على طريقة "لو كان زياد حياً لقال أو فعل كذا"! فزياد اليوم ليس حيّاً. وإن أحببتم تخيّل ما قد يقوله، فليكن نوعاً من رياضة ذهنية تمارسونها في البيت ومع أصدقائكم، لإن أحداً منّا، وهذه ليست إهانة لنا ولا مديحاً لزياد، لن ينجح في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله. أليس هذا أصلاً سرّ فرادته؟ متى توقّع أحدنا ما الذي سيقوله زياد وأصاب؟ ألم يكن بالضبط مُذهلاً في هذه النقطة بالذات؟ في كيف يرى الأمور من موقع مختلف لا يخطر ببال أحد منا؟ في كونه رؤيوياً، تأتي رؤيويته من مدى فهمه السريع والمبكّر لبنية البلاد وأعطابها، واستيعابه (الموجع) لآليات تفكير اللبنانيين وأمراضهم الاجتماعية والسياسية، ومتابعته الدؤوبة لكلّ شؤوننا العامة؟ لن ينجح أحد في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله زياد الرحباني كان له دوماً رأي يُفاجئ بالزاوية التي ينظر منها إلى الأمور. هي زاويته المخترعة، إبداع عقله وروحه وتجاربه. لدرجة أنه حتى لو أخطأ، يبقى رأياً جديراً بالتأمّل، لأنّه من خارج التوقّع صادر عن خيال أوسع وأغنى. زياد مات. لا يهتم الجسد، على ما أعتقد، بمصادرته جثةً من دون حياة. فليمارس أي إكليروس طقوسه وسلطته المستمدة من "سماء ما" على المتوفى الذي.. توفي. والجنازة والطقوس الدينية هي فعلياً لطمأنة الأحياء. لكن ما هو أخطر من استباحة الجثمان، استباحة اسم الشخص وتوقيعه وإرثه، خصوصاً حين تكون التركة بحجم تركة زياد. هكذا، انتشرت فيديوهات تَنسب إليه أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان، لا بالركاكة اللغوية التي تحاول تقليد أسلوبه الساخر والفريد بفشل مهول، ولا بالمضمون المُبتذل الذي لا يشبهه مطلقاً، والذي طفق بعض الناس، المحبّين للرجل، يردّدونه كما لو أنّه كان حقيقة ثابتة. وبغضّ النظر عن تحيّز زياد للمقاومة مهما كانت هُويّتها، فهو لم يلحّن نشيد "السيّد"، ولا قاد أوركسترا لتسجيل هذا العمل، بل من قام بذلك هو المايسترو إحسان المنذر. والراحل، وإن كان قد عبّر في مناسبات كثيرة عن احترامه للسيد حسن نصر الله، فهو لا شك لم يقل إن "الحياة بعد السيد جحيم عسل مسموم"، أو شيء بهذه الركاكة مضموناً ولغةً. وزياد، وإن كان شيوعياً بالقناعة والفكر، كما صرّح هو بنفسه مرات عدّة، إلا أنّه لم ينتسب رسمياً إلى الحزب، وهذا ثابت، مع أنّه أراد ذلك. وهناك ورقة بخطه كتبها لأحد مسؤولي الحزب ينحو فيها باللائمة على قيادات نصحته بالبقاء حرّاً خارج التنظيم لمزيد من الفائدة. هذا في الأكثر تداولاً منذ الوفاة. لكن، منذ وقت طويل، يجري تناقل فيديوهات مُجتزأة من مقابلات تلفزيونية مع زياد الرحباني أو حلقات إذاعية بصوته، كما لو كانت كلاماً مُكتملاً، مع أنها مُقتطعة من سياقها التاريخي أو السياسي، ولقد أضاف خبر الوفاة زخماً أكبر إلى انتشارها. الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة هذه الفيديوهات، وإن كانت غير مزيّفة، إلا أنّ اجتزاءها يزيّف مضمونها بتقديمه كما لو كان مُكتمل المعنى. كذلك إنّ تناقلها الواسع، بحالها هذا، في لحظة تأثّر عاطفي وألم جماعي لفقدان هذه القامة الاستثنائية، سيرسّخها في الوعي العام كمجرّد جمل متناثرة، محطات كلام من نوع الإيفيهات، أو حتى كنُكات، كما عنوَن أحدهم بخفّة قلّ نظيرها: "نكات زياد الرحباني". كما لو أنّ زياد الذي تعرفون ونعرف، ليس سوى نوع من "جحا"، أو "أبو العبد البيروتي" بطل النُكات المعروفة باسمه. لذا، يبقى الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة، كما في مقابلاته التلفزيونية والإذاعية وفيديوهات حفلاته المتوفّرة، أو بالنصّ ذي المرجع المضمون، كما في كتاباته في جريدة "السفير" أو "الأخبار"، أو مقابلاته المنشورة في الصحافة المكتوبة، وهي متاحة للجميع، فكما كان هو يقول ببساطة بديهية: عندما يحضر الأصيل لا حاجة للوكيل. هل يكفي هذا لحماية زياد؟ في حال التزامنا، أو بالأصح التزام الجمهور الواسع، قد يكون الأمر كافياً. لكن ربما وجب التخوّف من محاولات، فاشلة ومثيرة للسخرية حتى اليوم، جرّبت تقليد وتوليد كلام بصوته أو صوت فيروز بواسطة الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ تطوّر هذه التقنيات السريع معطوفاً على رغبات البعض في استخدام إرثه لكسب رأي عام أو استغلال نتاجه تجارياً، يمكن أن يكون مُقلقاً. مع أني أكاد أجزم بأنّ هذه التقنية ذات التسمية المُضلّلة، لن تستطيع توليد فكرة واحدة من أفكار زياد الرحباني. لذا لنفكّر، إن كنا نحبّه وممتنين له، كيف نحميه من الاستباحة، كيف نحبّه أكثر في غيابه. فهذه الحماية، أقلّ ما قد نقدّمه ردّاً لجميله الفائق الروعة، والأثر الهائل وعصيّ الوصف، على حياتنا جميعاً.


العربي الجديد
٠٥-٠٨-٢٠٢٥
- العربي الجديد
الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل
حين رحل زياد الرحباني في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لم يكن موته مجرّد نهاية حياة فنّان، بل كان تجسيداً مكثّفاً لحالة أعمق نعيشها: الزمن المُعلَّق. موت الابن الذي كان يمثّل الحداثة والتمرّد، وبقاء الأمّ التي تجسّد الأصالة والذاكرة، يضعنا أمام مفارقة وجودية عميقة. كأنّ الزمن نفسه قد انقلب على قوانينه، فصار الماضي أكثر حياةً من المستقبل، والذاكرة أقوى من الأمل. لمحاولة فهم هذه المفارقة، نحتاج أن نستدعي تأمّلات مارتن هايدغر في كتابه "الوجود والزمان". الزمن فيها ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو النسيج الأساس لوجودنا. نحن كائنات زمانية في جوهرنا، ممتدّون بين الميلاد والموت، مُلقون (Geworfenheit) في عالم من الإمكانات. الماضي ليس شيئاً انتهى، بل ما يشكّل هُويَّتنا، والمستقبل ليس ما لم يأت بعد، بل أفق إمكاناتنا. لكن في زمننا المُعلَّق، انقطع هذا الامتداد. المستقبل صار مسدوداً والماضي عبئاً لا يُحتمل. يأتي هنري برغسون في "المادة والذاكرة" ليقدّم لنا مفتاحاً آخرَ لفهم حالتنا. حين يميّز بين الزمن الآلي، الذي تقيسه الساعات، والزمن الحيّ، الذي يسمّيه الديمومة (Duration). تدفّق مستمرّ من التجدّد، حيث كلّ لحظة فريدة. الوعي الإنساني يعيش في توتّر خلّاق بين الماضي المحفوظ في الذاكرة، والمستقبل الذي يستدعي الفعل. لكن الذاكرة تحوّلت، في زمننا المُعلَّق، من قوة محرّرة إلى ثقل مشلول، والمستقبل من دعوة إلى الإبداع إلى تكرار مملّ للحاضر. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً لعلّ موت زياد يجسّد هذا الانقطاع بشكل رمزي صارخ. الابن الذي سخر من كلّ شيء، حتى من إرث والديه، يرحل قبل الأمّ. الأيقونة فيروز، الصوت الذي غنّى للأمل والحرية، تجلس صامتةً في بيروت المُعلَّقة هي الأخرى بين أزمنة متناقضة. صمتها ليس صمت الحزن فقط، بل صمت زمن فقد قدرته على الكلام ذي المعنى. هذا الصمت المُطبق يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لشيءٍ جديدٍ أن يحدث في زمنٍ توقَّف عن الحركة؟ آلان باديو في "الكينونة والحدث"، يُعرّف الحدث قطيعةً جذريةً مع النظام القائم، انبثاق للجديد من قلب المستحيل. الحدث عند باديو ليس مجرّد واقعة، بل لحظة تأسيس حقيقة جديدة. لكن زمننا المُعلَّق يبدو كأنه زمن موت الحدث بهذا المعنى. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً، تتكرّر الكوارث من دون أن تولّد وعياً مختلفاً. ربّما لهذا بالذات كان موت زياد مؤثّراً إلى هذا الحدّ. ليس لأنه حدث بالمعنى الباديوي، بل لأنه جاء ليؤكّد استحالة الحدث في زمننا. زياد الذي كانت مسرحياته ولحظات سخريته محاولات لإيجاد شقوق في جدار الواقع، يرحل من دون أن تنجح هذه الشقوق في أن تصبح فتحات نحو مستقبل مختلف. لكن فالتر بنيامين، الذي كتب أطروحات حول فلسفة التاريخ في ظروف مشابهة من اليأس التاريخي، يذكّرنا بأن التاريخ ليس خطّاً مستقيماً من التقدّم، بل مليء بلحظات كامنة يسمّيها "الزمن-الآن" أو "الزمن الآني" (Jetztzeit)، لحظات مشحونة بإمكانية ثورية، إذ يمكن للماضي أن يتفجرّ في الحاضر. ربّما كان زياد يحاول إيجاد مثل هذه اللحظات، وربّما يكون رحيله نفسه إحداها. في الموت الآخر الذي نحياه، نشهد فيه أطفالاً يموتون قبل أن يعرفوا طعم الحليب. أجساد تتآكل من الداخل، جائعة ليس للخبز فقط، بل للمعنى نفسه. أرض تستحيل ذاكرةً عوض حضارة. يتحدّث موريس بلانشو في كتابة "الفاجعة" عن الكتابة محاولةً مستحيلةً للاقتراب ممّا لا يُقترَب منه، لتسمية ما يهرب من كلّ تسمية. يكتب قائلاً: "الفاجعة هي ما يحرمنا من ذلك الملجأ الأخير الذي هو الفكر في الموت". نحن الآن في قلب هذه الفاجعة، حيث حتى الموت فقد معناه نهايةً، وصار مجرّد استمرار آخر للعدم. في هذا الموت البطيء، الزمن نفسه يتحلّل. كلّ لحظة تصبح أبدية من العذاب، وكلّ أبدية تنضغط في لحظة. نحاول أن نحيا "بلا ولا شي" عوض أن نحبّ... لا ماضٍ نستند إليه، لا مستقبل ننتظره، لا حاضر نملكه. مجرّد ديمومة فارغة، زمن بلا محتوى، حياة بلا حياة. وهل عشنا حقّاً إذا صرنا نحيا هكذا، معلّقين في العدم، نتنفّس لكن لا نحيا، نشهد لكن لا نفعل، نعرف لكن لا نستطيع؟ هنا بلانشو نفسه يذكّرنا أن الكتابة عن الفاجعة ليست بحثاً عن حلول، بل محاولة للبقاء شهوداً. ليس الأمل التقليدي ما نحتاجه، بل شيء أكثر صلابةً وواقعية. يتحدّث جاك دريدا في البقايا عن تلك الآثار التي تنجو من المحو وتحمل في طيّاتها بذرة المعنى. زياد كان سيّد هذا الفن، فنّ العثور على الحياة في الموت، على الضحك في البكاء. في موسيقاه، النشاز ليس خطأً، بل لغة أخرى للانسجام، والصمت ليس فراغاً بل نوتة امتلاء. علّمنا أن البقاء ليس مجرّد استمرار بيولوجي، بل فعل إبداعي يومي، مقاومة بالفنّ ضدّ العدم. علنا ابن فيروز، الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، نستحضر في لحن عابر ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي غنّى زياد عن الإيمان بطريقة الكافر، وعن الكفر بقلب المؤمن، في "أنا مش كافر". هذا التناقض الخلّاق هو جوهر فنّه، وربّما جوهر ما نحتاجه للنجاة. ليس الإيمان الساذج ولا الكفر المطلق، بل تلك المنطقة الرمادية حيث يمكن للمعنى أن ينبثق من العبث. سارتر كان يتحدّث عن الغثيان إدراكاً للعبثية المطلقة للوجود، لكنّ زياد علّمنا أن نرقص على إيقاع هذا الغثيان، أن نحوّله موسيقى... موسيقاه التي مزجت المتناقضات، مسرحياته التي حوّلت المأساة ضحكاً أسودَ، كانت دروساً في البقاء وسط الانهيار. ابن فيروز الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، جعلنا نستحضر في سطر واحد (أو في لحن عابر) ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي. في "كيفك انت" أو "بلا ولا شي" نستعيد لحظاتٍ من زمن آخر، لكن نعيشها بشكل جديد. هذه معجزة الفنّ، قدرته على جعلنا نحيا حتى ونحن نموت. السؤال ليس كيف نموت ونحن أحياء، بل كيف نحيا حتى ونحن نموت، كيف نجد في الموت بذرة حياة، في الصمت صوتاً، في اليأس أملاً. في زمنٍ يموت فيه كلّ شيء، نتعلّم من زياد أن البقاء ليس مجرّد استمرار، بل فعلٌ وجودي. أن نخلق المعنى وسط اللامعنى، أن نقيم في الزمن المعلّق لا خضوعاً، بل وعياً، لأن سؤال: كيف نكون في زمن لا يتحرّك؟ لا يُجاب عليه بالخروج منه، بل بالإقامة فيه وتقبّله حتى نفهمه، حتى نخلخل صمته. لتجاوزه. زياد لم يدلّنا على باب، بل على نغمة؛ لم يعطنا مخرجاً، بل جعلنا نصغي للتيه. وهناك، فقط هناك، بلحن زياد، يمكن أن نقول: "إيه... في أمل".