
فلنحبّه أكثر في غيابه
لن أشكّك، ولن أردّد عبارات الغاضبين من محبّي زياد الرحباني، عن أعداء فقيدنا الذين قالوا فيه شعراً، لكن في جنازته. ولن أشكّك بعواطف أحد أو أطعن بندم صادق أدرك أصحابه قيمة الراحل بعد رحيله، كما أدركوا أنهم، في أحيان كثيرة، تسبّبوا بتعزيز أسباب ذلك الرحيل المبكّر والمُفجع بالتعاون والتضامن مع أحوال وطنية وسياسية كثيرة.
كذلك فإني لست بوارد تفحّص نيّات الأشخاص الذين توافدوا للعزاء بزياد، إن كان ذلك حقاً، أو استعراضاً أمام شاشات البثّ المباشر. إن كان في منطقة الحمرا، حيث كان التشييع الشعبي والعاطفي، أو بكفيا، حيث كان العزاء الرسمي والعائلي، أو أيّ مكان آخر أقيم له فيه عزاء، في لبنان أو تونس إلى مصر وفلسطين. مع العلم أنّ بعض هؤلاء المعزّين لبنانياً، كانوا من أشدّ منتقديه، وأحياناً كارهيه، خصوصاً في المواقف السياسية، لدرجة محاربته، وأنا شاهدة كالكثيرين، إن كان في الإعلام أو في مصادر تمويل أعماله، أو محاولات التخويف وتشويه السمعة باستخدام الشارعين، الفني والسياسي، وحتى الأمني.
في حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم
لكن الموت استباحة. وفي لبنان الموت مناسبة لاستباحة أشدّ، تصل إلى حدّ الوقاحة، خصوصاً إن كان الراحل شخصية عامة، بأهمية تأثير زياد الرحباني، عندها يصبح الإغراء كبيراً. فالرجل الذي لم يكن أحد يجرؤ على تقويله ما لا يريد قوله، لم يعد بيننا. ولم يعد يستطيع الخروج في مؤتمر صحافي أو بيان لتصويب أو نفي، وهذا ما شجّع على استباحة غيابه لاختراع مواقف، أو نسب تصريحات إليه، وترداد كلام مجتزأ قاله في سياق مختلف فتغيّر المراد منه بالكامل، وصولاً إلى تشهيد المتوفى على أحداث، أو التصريح بآراء شخصية على طريقة "لو كان زياد حياً لقال أو فعل كذا"!
فزياد اليوم ليس حيّاً. وإن أحببتم تخيّل ما قد يقوله، فليكن نوعاً من رياضة ذهنية تمارسونها في البيت ومع أصدقائكم، لإن أحداً منّا، وهذه ليست إهانة لنا ولا مديحاً لزياد، لن ينجح في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله.
أليس هذا أصلاً سرّ فرادته؟ متى توقّع أحدنا ما الذي سيقوله زياد وأصاب؟ ألم يكن بالضبط مُذهلاً في هذه النقطة بالذات؟ في كيف يرى الأمور من موقع مختلف لا يخطر ببال أحد منا؟ في كونه رؤيوياً، تأتي رؤيويته من مدى فهمه السريع والمبكّر لبنية البلاد وأعطابها، واستيعابه (الموجع) لآليات تفكير اللبنانيين وأمراضهم الاجتماعية والسياسية، ومتابعته الدؤوبة لكلّ شؤوننا العامة؟
لن ينجح أحد في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله زياد الرحباني
كان له دوماً رأي يُفاجئ بالزاوية التي ينظر منها إلى الأمور. هي زاويته المخترعة، إبداع عقله وروحه وتجاربه. لدرجة أنه حتى لو أخطأ، يبقى رأياً جديراً بالتأمّل، لأنّه من خارج التوقّع صادر عن خيال أوسع وأغنى.
زياد مات. لا يهتم الجسد، على ما أعتقد، بمصادرته جثةً من دون حياة. فليمارس أي إكليروس طقوسه وسلطته المستمدة من "سماء ما" على المتوفى الذي.. توفي. والجنازة والطقوس الدينية هي فعلياً لطمأنة الأحياء. لكن ما هو أخطر من استباحة الجثمان، استباحة اسم الشخص وتوقيعه وإرثه، خصوصاً حين تكون التركة بحجم تركة زياد.
هكذا، انتشرت فيديوهات تَنسب إليه أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان، لا بالركاكة اللغوية التي تحاول تقليد أسلوبه الساخر والفريد بفشل مهول، ولا بالمضمون المُبتذل الذي لا يشبهه مطلقاً، والذي طفق بعض الناس، المحبّين للرجل، يردّدونه كما لو أنّه كان حقيقة ثابتة.
وبغضّ النظر عن تحيّز زياد للمقاومة مهما كانت هُويّتها، فهو لم يلحّن نشيد "السيّد"، ولا قاد أوركسترا لتسجيل هذا العمل، بل من قام بذلك هو المايسترو إحسان المنذر. والراحل، وإن كان قد عبّر في مناسبات كثيرة عن احترامه للسيد حسن نصر الله، فهو لا شك لم يقل إن "الحياة بعد السيد جحيم عسل مسموم"، أو شيء بهذه الركاكة مضموناً ولغةً.
وزياد، وإن كان شيوعياً بالقناعة والفكر، كما صرّح هو بنفسه مرات عدّة، إلا أنّه لم ينتسب رسمياً إلى الحزب، وهذا ثابت، مع أنّه أراد ذلك. وهناك ورقة بخطه كتبها لأحد مسؤولي الحزب ينحو فيها باللائمة على قيادات نصحته بالبقاء حرّاً خارج التنظيم لمزيد من الفائدة.
هذا في الأكثر تداولاً منذ الوفاة. لكن، منذ وقت طويل، يجري تناقل فيديوهات مُجتزأة من مقابلات تلفزيونية مع زياد الرحباني أو حلقات إذاعية بصوته، كما لو كانت كلاماً مُكتملاً، مع أنها مُقتطعة من سياقها التاريخي أو السياسي، ولقد أضاف خبر الوفاة زخماً أكبر إلى انتشارها.
الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة
هذه الفيديوهات، وإن كانت غير مزيّفة، إلا أنّ اجتزاءها يزيّف مضمونها بتقديمه كما لو كان مُكتمل المعنى. كذلك إنّ تناقلها الواسع، بحالها هذا، في لحظة تأثّر عاطفي وألم جماعي لفقدان هذه القامة الاستثنائية، سيرسّخها في الوعي العام كمجرّد جمل متناثرة، محطات كلام من نوع الإيفيهات، أو حتى كنُكات، كما عنوَن أحدهم بخفّة قلّ نظيرها: "نكات زياد الرحباني". كما لو أنّ زياد الذي تعرفون ونعرف، ليس سوى نوع من "جحا"، أو "أبو العبد البيروتي" بطل النُكات المعروفة باسمه.
لذا، يبقى الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة، كما في مقابلاته التلفزيونية والإذاعية وفيديوهات حفلاته المتوفّرة، أو بالنصّ ذي المرجع المضمون، كما في كتاباته في جريدة "السفير" أو "الأخبار"، أو مقابلاته المنشورة في الصحافة المكتوبة، وهي متاحة للجميع، فكما كان هو يقول ببساطة بديهية: عندما يحضر الأصيل لا حاجة للوكيل.
هل يكفي هذا لحماية زياد؟ في حال التزامنا، أو بالأصح التزام الجمهور الواسع، قد يكون الأمر كافياً.
لكن ربما وجب التخوّف من محاولات، فاشلة ومثيرة للسخرية حتى اليوم، جرّبت تقليد وتوليد كلام بصوته أو صوت فيروز بواسطة الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ تطوّر هذه التقنيات السريع معطوفاً على رغبات البعض في استخدام إرثه لكسب رأي عام أو استغلال نتاجه تجارياً، يمكن أن يكون مُقلقاً. مع أني أكاد أجزم بأنّ هذه التقنية ذات التسمية المُضلّلة، لن تستطيع توليد فكرة واحدة من أفكار زياد الرحباني.
لذا لنفكّر، إن كنا نحبّه وممتنين له، كيف نحميه من الاستباحة، كيف نحبّه أكثر في غيابه. فهذه الحماية، أقلّ ما قد نقدّمه ردّاً لجميله الفائق الروعة، والأثر الهائل وعصيّ الوصف، على حياتنا جميعاً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 10 ساعات
- القدس العربي
ساعة ونصف في رحاب زياد الرحباني
كان ذلك في مطلع شهر أغسطس/ آب من عام 2019، حين زرت تونس لنشاط ثقافيّ، وعرفت صدفة، وفي اليوم نفسه، أنّ تاريخ 3/08/2019، يحمل حفلين في مكانين مختلفين، حفلا للموسيقار زياد الرحباني، في الحمامات المدينة الساحلية الخلّابة المنثورة على شاطئ البحر المتوسط، وحفلا للمغنية اللبنانية نانسي عجرم في مدينة بنزرت، ضمن مهرجان بنزرت. ذهبت لشراء تذكرة لحفل زياد، وتبيّن لي أنّ تذاكر حفله نفدت، فاشتريت تذكرة لحفل نانسي عجرم. حملت تذكرة نانسي، وعيناي على حفل زياد الرحباني، ولم يهدأ لي بال على هروب فرصة حضور حفل زياد، وتشنيف أذنيّ بمعزوفاته العذبة، وأغانيه الساخرة والجريئة. بدأت أنوب وألوب عن حلّ. هاتفت إعلامية تونسية، ناشطة في حقل الثقافة، لهذه المهمة، وكان أن جرت الرياح بما اشتهت السفن، وقد نجحت أن توفّر لي تذكرة ومكانا، في الصف الأوّل من المدرج. سافرت من العاصمة تونس إلى مدينة الحمامات، التي تبعد عنها ساعة سفر، إلى المركز الثقافي الدوليّ، الذي غصّت مدرجات مسرحه، من أدناها إلى أقصاها، بجمهور زياد الرحباني. استُقبل زياد الرحباني وفرقته القزحية الجنسيات، المكوّنة من 15 موسيقيّا، بعاصفة من التصفيق والهتاف. زياد عازف البيانو كان زياد الرحباني في هذه الأمسية، عازفا موسيقيّا مُبدعا، لم يُغَنِّ ولم يتحدّث. لم يكن كما هو، صوتا ثائرا مُشاكسا، أو مسرحيّا ساخرا، بل كان صامتا وسارحا في العزف، بوجه غامض مثل موناليزا. لم يشارك جمهوره، ولم يتفاعل مع هتافاته، لم تفرّ من فمه، طوال الأمسية سوى بضع كلمات، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. كان منسجما مع معبودته آلة البيانو، إذ ترك أصابعه تداعب مفاتيحها، لتخرج معزوفات عذبة تشنّف الآذان، وتسرق الأرواح إلى عالم جميل هادئ. كان زياد الموسيقي وحده، منشطرا من ذاته المغنّية، والساخرة، واللاسعة، والناظرة إلى الناس. من غنّى وأبدع في هذا الحفل، في صومعة زياد الرحبانيّ وتحت مظلّته وبين معزوفاته، مع عوده الرنّان، المطرب المصريّ المبدع العوّيد حازم شاهين، خاصة في أغنية «تلفن عيّاش». قُدّت في هذه الأمسية معزوفات وتنويعات غنائية من تأليف زياد، منها «الشرق الأوسط» و»هدوء نسبيّ»، و»الأمل»، «شوه الأيام»، و»أمرك سيدنا»، و»تلفن عياش». كان الرحبانيّ في هذه الأمسية صامتا ومُتعبا، وهو الحامل في معزوفاته وكلماته، الهمّ العربيّ من محيطه إلى خليجه. لم يبتسم زياد، اكتفى بتحية متواضعة، لم يرد ولم ينظر إلى الصبية، التي هتفت حين أطلّ، وسط عواصف التصفيق «كيفك زياد؟». كثير من الجمهور صُدم من صمت زياد، في هذه الأمسية المشتهاة والمنتظرة في تونس، على أحر من الجمر. مهما يكن من أمر، لقد نقش زياد الرحباني في سفر الموسيقى مزامير جديدة، ما عرفتها الموسيقى العربية من قبل. لأنّه التزم بالفنّ الأصيل، وعاش في الفن، كما أنّ الفنّ عاش فيه. زياد المشاكس الخارج عن السرب لقد سلّط زياد الضوء بسخرية سوداء، على أمور هامشية صغيرة، نعيشها ولا ننتبه إليها، فأصبحت مهمة وعميقة في عيوننا، فسكن قلوب الملايين. أدهشنا بنبوغه وفطنته في تصوير خمول مجتمعاتنا، بسخرية لاذعة «بقربوا وبأخروا الساعة ساعة، وبرجعونا 10 سنين لورا، شو فيه ورانا؟ لشو بيلعبوا فيا للساعة؟». لقد نحت زياد الرحباني، بحروف اللغة (اللهجة) اللبنانية المحكية، بنيانا مرمريا من الكلمة الهادفة والموسيقى الملتزمة، التي تحكي قضايا الفرد والسلطة، في زمان انقطاع الخبز والكهرباء عن البلد. زياد الرحباني مدرسة فنّية، تضاهي مدرسة أبيه وأعمامه الرحابنة. لقد عزف زياد الرحباني، بفنّه الملتزم الرّاقي، على أوتار المهمّشين والمعذّبين والمتعبين، من خلال تسييس الأغنية والتزامها بهموم الإنسان اليومية. لقد غنّى في الظلال، بصوت جريء وأسلوب فضائحيّ وبسخرية سوداء، أضحكت ملايين الموجوعين. لقد كتب ولحّن وغنّى زياد الرحباني، الكلمة المحكية البسيطة العميقة، ونثر الفرح والضحك على خراب الحرب في بلده. هذا الراهب الموسيقيّ، الملتزم بالفنّ الأصيل، قدّم أغاني ساخرة بموسيقى ساحرة. نذر حياته للموسيقى، محتفيا ومجسّدا مقولة شوبنهاور، إنّ الموسيقى ترمّم الأرواح المحطّمة. كتب المسرحية المغنّاة المُمَوسقة، فقد غنّى المسرحية وَمَسرَحَ الأغنيّة، التي تحاكي الواقع. ألّف التمثيليات اللاسعة واللاذعة، المُضحكة حتى البكاء. لقد سخر بمرارة وباروديا لا مثيل لها، من واقع عربيّ سرياليّ عجيب عُجاب، ومجتمع استهلاكيّ بامتياز ومقلوب القيم «شوه الأيام اللي وصلنالها / قال إنّه غنيّ عم يعطي فقير…/ بيقولوا لك من عرق جبينه / طلّع مصاري هالانسان / طيّب كيف هايدا وكيف ملايينه / وما مرّه شايفينه عرقان « ما أحوجنا في زمننا إلى مرهم موسيقيّ أصيل، وإزميل حادّ لتكسير أصنام اجتماعية، ترسّب عليها تخلّف اجتماعيّ وسياسيّ من عقود! ما أحوجنا إلى أغانٍ عميقة في زمن التفاهة وغناء « بلاي باك « playback. رحل زياد جسدا، لأنّه عرف وتوقّع كما غنّى « أنا موش كافر، بس المرض كافر!». لكنه سيبقى مدرسة شعبيّة حداثية وملتزمة بالفنّ الأصيل، والتحريضيّ على الغناء التافه والرخيص، عاش مقهورا ورحل مقهورا من واقع ولا أقسى، لأنّه احترف واحترم الفن، وهذه ثنائية نادرة في زمن استهلاكي، خلاصته «شو هالأيام اللي وصلنالا». كاتب فلسطيني


العربي الجديد
منذ 14 ساعات
- العربي الجديد
مهرجان بغداد الدولي للمسرح... قائمة العروض العربية والدولية
"معاً نحتفي بالمسرح... معاً نُحيي بغداد"، شعار الدورة السادسة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي تنطلق فعالياته في العاشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم، وتستمر حتّى السادس عشر منه، بمشاركة فرق عربية وعالمية. تحمل دورة هذا العام اسم المسرحي العراقي ميمون الخالدي، وقد أعلنت إدارة المهرجان عن قائمة العروض المسرحية العربية والدولية، التي يتضمنها برنامج هذا العام، وتشمل 13 عرضاً موزعاً على خشبات المسرح الوطني، ومسرح الرشيد، ومسرح المنصور. تضم العروض العربية خمس مسرحيات، وهي: من المغرب "نشرب إذن"، تقدمها فرقة المركز الثقافي-نجوم المدينة، من تأليف قاسم مطرود وإخراج خالد الزويشي. ومن تونس، يقدم المسرح الوطني التونسي مسرحية "جاكراندا"، من تأليف عبد الحليم مسعود وإخراج نزار السعيدي. ومن الإمارات، يقدم مسرح أم القيوين الوطني عرض "عرج السواحل"، من تأليف سالم الحتاوي وإخراج عيسى كايد. ومن لبنان، تعرض فرقة "جاكبوس بروداكشن" مسرحية "اثنين بالليل"، من تأليف وإخراج سامر حنا، كما تقدم فرقة شادن للرقص المعاصر، من فلسطين، مسرحية "ريش"، من تأليف وإخراج شادن أبو العسل. أما العروض الدولية، فتشمل سبعة أعمال هي: من ألمانيا "خلف قدمي الله"، ومن الهند "رقصة النسيج"، ومن إيران "جزئيات الفوضى"، ومن أوكرانيا "الرجل في الخارج"، مقتبسة عن مسرحية للكاتب الألماني فولفغانغ بورشرت، بالاسم نفسه، وهي إحدى كلاسيكات الأدب الألماني بعد الحرب، ومن بولندا "صمت في طروادة"، ومن إيطاليا "أرضية فارغة"، ومن إسبانيا "حديقة الهِسبيريدات"، وهو عرض بطابع إسباني-مغربي يستلهم أسطورة الهِسبيريدات في الميثولوجيا اليونانية. وقد أُعلن عن قائمة المشاركات العربية والعالمية، على أن يصدر برنامج العروض العراقية في وقت لاحق، وكانت إدارة المهرجان قد فتحت باب المشاركة في الدورة السادسة من بداية مايو/أيار حتى بداية أغسطس/آب، مشترطة أن يتكون الفريق المسرحي من عشرة أشخاص كحد أقصى. يُذكر أن الدورة الخامسة من المهرجان، أقيمت تحت شعار "المسرح يضيء الحياة"، وحملت اسم الكاتب والأكاديمي العراقي شفيق المهدي. فنون التحديثات الحية مدرسة ناس للمسرح الاجتماعي.. فرجة المناطق المحرومة ثقافياً


العربي الجديد
منذ 18 ساعات
- العربي الجديد
كيف نسج أولادُ الجبلِ الهويةَ الدمشقية بالحب؟
سلطان باشا الأطرش، ناجي جبر، محمود جبر، وأبناؤهما، أسمهان وفريد الأطرش، فهد بلّان، وعشرات ومئات غيرهم من أبناء الجبل. كانوا صنّاعاً للهوية السورية، ومساهمين في هوية عاصمتها. في نسيج الهوية الدمشقية، هناك خيوط إذا فُكّت انهارت معها الحكاية الشريرة كلها. من بين تلك الخيوط المتينة، التي حيكت عبر عقود من الدم والثورة والحب والفن والموسيقى، تمتد خيوط دمشقية درزية لا يمكن فصلها. خيوط نسجت علاقة وجدانية وعميقة بين أهل الشام وأبناء السويداء وجرمانا وصحنايا، حيث لم يكن الدروز للدمشقيين مجرّد جيران أو أبناء طائفة، بل شركاء في تشكيل الذاكرة، ومؤرخين للهجة، ومقاتلين في الساحات، وفنانين علقوا في الروح. حين اشتعلت الثورة السورية الكبرى عام 1925، لم يكن جبل العرب وحده من هبّ، بل كانت دمشق أول من قال "نعم" لنداء سلطان باشا الأطرش. لم يرَ الدمشقيون فيه زعيم جبل، بل قائد وطن. فتحوا له أبوابهم، وطبعوا المنشورات، وخبّأوا الثوار، وكتبوا على جدران مدينتهم: "عاش سلطان باشا قائد الثورة السورية". انطلقت الثورة من السويداء إلى صلخد والكفر، ثم إلى قرية المزرعة التي شكّلت معركة فاصلة، ثم امتدت الثورة نحو الغوطة ودمشق أصدر سلطان باشا الأطرش بيان الثورة الشهير في 21 يوليو/ تموز وقال فيه: "أيها العرب السوريون: تذكّروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكّروا أن يد الله مع الجماعة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتمدّنة الناهضة لن تنالها يد البغي، لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارّة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرّية الدين والفكر والضمير وحرّية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا. إلى السلاح، أيها الوطنيون، إلى السلاح، تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح، تأييداً لسيادة الشعب وحرّية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية، وتناسى الأماني القومية". انطلقت الثورة من السويداء إلى صلخد والكفر، ثم إلى قرية المزرعة التي شكّلت معركة فاصلة، ثم امتدت الثورة نحو الغوطة ودمشق، حيث قاتل الدمشقيون إلى جانب أبناء الجبل في المليحة، ويلدا، وببيلا، والنبك، وغيرها. ومن بين أولئك الذين انضموا إلى القتال في صفوف الثورة من دمشق، كان جدّي المجاهد الدمشقي محمد محسن عامر ابن حي العمارة، الذي قاتل في الغوطة تحت راية سلطان باشا الأطرش، تأكيداً على التحام الجبل بالعاصمة. كان لحزب الشعب بقيادة شخصيات دمشقية، مثل عبد الرحمن الشهبندر وتوفيق الحلبي وأسعد البكري، دور أساسي في التنسيق مع سلطان باشا، وقد ذهب وفد من الحزب لمقابلته في كفر اللحف للاتفاق على خطّة لمهاجمة الفرنسيين في دمشق. ورغم تعذر تنفيذ الهجوم نتيجة احتشاد الجنود الفرنسيين المدجّجين في دمشق، إلا أن هذا التنسيق كان تتويجاً لعلاقة نضالية تاريخية بين الجبل والشام. دمشق، حين تتحدث عن نفسها، لا يمكن أن تنسى أولاد الجبل هذه ليست مجرد صفحة من تاريخ الثورة السورية الكبرى، بل قصة وطن تجاوز أبناؤه اختلافاتهم، ليصبحوا درعاً واحداً يحمي سورية؛ الأرض التي لطالما احتضنت الجميع والتي أثبتت دوماً قدرتها على التغنّي بتنوّع أبنائها. أبو عنتر... القبضاي الشامي بروح جبلية بملامحه القاسية وصوته الأجش، دخل ناجي جبر بيوت السوريين من أوسع أبوابها بدور القبضاي الشامي "أبو عنتر". لكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا الوجه الشامي حتى العظم هو ابن السويداء، ابن الجبل، الذي حمل لهجة الشام في فمه كأنها وُلدت فيه، وجعل من شخصية "القبضاي" صورة جامعة بين حارات دمشق وحجارة الجبل. لم يكن أبو عنتر مجرّد شخصية فكاهية، بل جزءاً من الهوية الدمشقية، فجمل أبو عنتر الشهيرة مثل: "يا باطل"، "مالا فكاهة"، "بري عليك"، و"بيتزنزل بدني" بقيت خالدة في الذاكرة الدمشقية وصوره ما زالت تزيّن مقاهي في دمشق القديمة. أسمهان.. الأميرة التي آنس صوتها سهرات الدمشقيين وُلدت أسمهان في جبل العرب، وماتت في مصر، لكن صوتها كان يُقيم في دمشق. عندما كانت تغنّي كانت تفتح نوافذ البيوت، وتُطفأ الأنوار، ويجلس الدمشقيون أمام الراديو. في وقتٍ كانت فيه المرأة تُحاصَر بالصمت والقيود، شقّ صوت أسمهان طريقه كالسهم، غنّت للحب، للموت، للحرية، وتحولت من أميرة سوريّة إلى نجمة عربية. ولم يكن سحرها محصوراً في الجبل، ولا في طبقته الفنية النخبوية، بل كانت حارات دمشق الشعبية تهواها أيضاً، إذ كانت تباع أسطواناتها في سوق الحميدية، ويتردّد صداها في مقاهي الشام القديمة، ويُروى عن صوتها كما يُروى عن المعارك والانتصارات. نسيج سوري يستحيل تفكيكه دمشق، حين تتحدّث عن نفسها، لا يمكن أن تنسى أولاد الجبل، ولا يمكن أن تُنتزع من نسيجها خيوط قيادة الثورة السورية التي حملها سلطان باشا الأطرش، أو محو صور أبو عنتر القبضاي الذي لطالما أضحك الدمشقيين من على جدران المقاهي، كما لا يمكن أن ينسى الدمشقيون عباراته التي صارت جزءاً من نكاتهم، ومن المستحيل أيضاً إسكات صوت أسمهان وأغانيها، فهي ستبقى تنبض في وجدان المدينة؛ هذه الخيوط متشابكة بقوة في نسيج دمشق لا بل في نسيج سورية، ولو فُكّ أي خيط منها، لانهارت اللوحة كلها. حتى بعدما ظنّ نظام الأسد الساقط أنه أطفأ نار الثورة، وأن عبارات الحرية التي انطلقت من الشام ودرعا قد سكتت، عادت السويداء تردّد أغاني ثوار الشام وسورية، مؤكّدةً أن الجبل سيظلّ منارةً للكرامة والحرية، وأن نيران الثورة ستبقى مشتعلة في وجدان أبنائها كما كانت دوماً حاميةً لوحدة الوطن وهويته النابضة بالحياة. الهوية ليست فقط جغرافيا نحتلها، بل هي تاريخ وشعور وروح تتنفس فينا، تجمع بين أبناء الوطن، وتكتب حكاية وطن لا يُفكك بسهولة.