
غاليبولي الإيطالية تستضيف "حنظلة" قبل إبحارها لكسر الحصار عن غزة
عُرف "حنظلة" طفلا في رسوم رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ، يظهر بقدمين حافيتين مديرا ظهره وكأنه يقول للعالم "لا ألتفت حتى تعود فلسطين"، لكنه ظهر اليوم بهيئة أخرى، على شكل سفينة محملة بالطعام والأدوية وشحنات من الضمير الإنساني، وكأن العلي يعود مجددا ليس بريشة، بل بسفينة صغيرة محملة بإيمان عنيد لكسر الحصار عن قطاع غزة.
أما سلطات غاليبولي وسكانها، فقد استقبلوا النشطاء الدوليين على متن السفينة بتسهيل كل العقبات اللوجستية وبلفتات فنية وثقافية تعبر عن تضامن كبير لكسر حصار غزة بحركة رمزية لكنها موجعة في وجه الصمت الدولي.
تعاون كبير
وأشاد عضو اللجنة الدولية لكسر الحصار أنس نيروخ بالمساعدات والتسهيلات التي توفرها سلطات غاليبولي لطاقم السفينة، مؤكدا وجود تعاون كبير من البلدية وعناصر الشرطة وسلطات الموانئ التابعة لها.
وأوضح للجزيرة نت أنه تم تنظيم أول نشاط الثلاثاء الماضي للترحيب بالسفينة، حيث قام متضامنون إيطاليون مع أطفالهم بخطوة رمزية، تمثلت في زراعة شجرة زيتون في قلب ساحة المدينة.
كما ألقى نيروخ كلمة نقل من خلالها عبارات الشكر من أهل فلسطين والسلام من بلاد الشام، أكد فيها أن دعمهم لن ينسوه، وأنهم يقفون في الجهة الصحيحة من التاريخ، وسيفتخر أطفالهم بما يقومون به اليوم، مضيفا أن "هذه الشجرة ستُثمر وستكون شاهدا على تقديمكم خطوة إنسانية في هذا العالم".
وأشار المتحدث إلى الاجتماع الذي عقد مع السلطات البحرية أمس الأول الأربعاء من أجل بحث بعض الأمور المتعلقة بتأخير موعد انطلاق السفينة حنظلة إلى يوم الأحد المقبل بسبب ظروف تقنية، قائلا "كانوا متفهمين جدا رغم كل الصعوبات والترتيبات المرتبطة، بما في ذلك تخصيص مكان لها في ميناء غاليبولي".
ومنذ وصولها إلى الميناء، يتوافد العشرات كبارا وصغارا للتعبير عن تضامنهم، سواء للتعرف على طاقم "حنظلة" والتقاط الصور، أو لتنظيم أنشطة فنية ووقفات موسيقية، بالإضافة إلى جولات بالدراجات الهوائية في أرجاء المدينة لشباب يحملون العلم والكوفية الفلسطينيين.
وبلفتات تجمع بين الإبداع والبراءة، منح الأطفال الدمى الخاصة بهم ورسوم للنشطاء لتقديمها إلى أطفال غزة، كُتب عليها "السلام" و"الحب" بألوان مختلفة.
دعم واسع
ومن بين المنظمين لهذه المبادرة، قالت ماريغالا للجزيرة نت "نحن هنا لدعم أسطول الحرية، نرسم مع أطفالنا رسوما، سواء للأطفال في المنزل أو لبيعها وجمع بعض المال لإعطائها لسفينة الحرية. نحن جميعا هنا لنقول كفى ل لإبادة الجماعية ، وكفى 100 عام من الاحتلال غير الشرعي لفلسطين. فلسطين حرة".
بدوره، قال باولو -وهو أب لطفلين- للجزيرة نت "أخبرني بعض الأصدقاء عن السفينة فقررت المجيء مع أطفالي لإرسال رسومهم وألعابهم المفضلة، لا نساعدهم بالكثير للأسف، لكننا نعتقد أن هذه المبادرات الرمزية سترسم ابتسامات جميلة على وجوه أطفال فلسطين".
وبالقرب من السفينة، تجمع العشرات من السكان المحليين أمس الخميس، بعضهم جاء وهو يعرف جيدا تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وآخرون اكتفوا بالصمت، كمن يحدق في مشهد لا يفهم كل تفاصيله، لكنه يعرف أنه صادق.
رمزية المدينة
وفي هذه المدينة الصغيرة الشاهدة على حروب القرن الماضي، وقف الأهالي هذه المرة أمام نوع آخر من المواجهة، ليس بالبنادق، بل بقلوب مشدودة إلى الضفة الأخرى من المتوسط.
ووضع العلم الفلسطيني على واجهة قلعة غاليبولي الإيطالية، وهي حصن ذو أهمية تاريخية ومعمارية عميقة في المدينة، فقد شهد هذا البناء الذي يعود تاريخه إلى العصر الروماني تحولات عديدة في ظل قوى حاكمة مختلفة، وجعلها موقعها الإستراتيجي على البحر الأيوني (أحد أفرع البحر الأبيض المتوسط) حصنا دفاعيا بالغ الأهمية، يحمي المدينة من الغزوات على مر القرون.
ومنذ إعادة افتتاحها عام 2014، لا تعتبر هذه القلعة مركزا ثقافيا ووجهة سياحية شهيرة فحسب، بل أصبحت رمزا للصمود والقوة نظرا لتاريخها السابق، ولتاريخها اليوم باحتضانها سفينة حنظلة، التي من المقرر أن تبدأ رحلتها الأحد القادم لكسر الحصار عن أهالي غزة الصامدين في وجه قصف الاحتلال الغاشم.
وقالت ماريا، وهي من سكان غاليبولي، للجزيرة نت "نتابع الأخبار ونشاهد ما يحدث للفلسطينيين من إبادة وتجويع، إنهم يعيشون كابوسا حقيقيا، ولهذا لا نرى هذه السفن كقوارب عائمة فقط، بل رسالة إنسانية وسياسية مفادها كفى ظلما وحصارا، وهي مرحب بها في مدينتنا دائما".
كانت بداية أنشطة اللجنة الدولية لكسر الحصار عام 2009 عندما تمكنت من دخول غزة برا، تلاها تنظيم قوافل بحرية مثل قافلة أسطول الحرية" مافي مرمرة" في مايو/أيار 2010، وأسفر اعتداء جيش الاحتلال عليها آنذاك عن استشهاد 10 نشطاء. وقبل ذلك، نجحت سفينتان في الوصول إلى القطاع، ثم استمرت المحاولات حتى يومنا هذا.
وتوجهت سفينة "نور" عام 2011 من مدينة كافالا إلى تركيا، وكانت شبه سرية لكن تم توقيفها في ميناء فتحية، وبعد ذلك بـ4 سنوات انطلقت سفينة "جوليان" من اليونان، ثم قافلة أخرى في صيف 2018 حملت اسم "رزان النجار" لكنها لم تنجح بسبب عقبات من السلطات اليونانية.
وفي يونيو/حزيران الماضي، تمت قرصنة السفينة " مادلين" من قبل زوارق إسرائيلية عندما كانت تبحر في المياه الدولية، وكان على متنها 12 ناشطا وناشطة، نصفهم من حاملي الجنسية الفرنسية.
وفي هذا الإطار، يرى أنس نيروخ، عضو اللجنة الدولية لكسر الحصار، أن "مادلين" حققت أهدافها وأوصلت رسالتها، مشيرا إلى أنه استضاف 3 من ركابها في الأردن بعد إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي سراحهم.
ومن أمام السفينة حنظلة، أضاف نيروخ للجزيرة نت أنه "كان من الجيد زيارتهم للأردن لأن طبيعة وتضاريس البلاد لا تختلف عن التضاريس الفلسطينية، فشعروا كأنهم فعليا في فلسطين".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
قصة أبطال العطش والجوع تترجم إلى 18 لغة عالمية
يبقى الطفل الفلسطيني هو البطل في حرب الإبادة الدائرة على قطاع غزة. الأطفال هم المستقبل، وآلة القتل الإسرائيلية لا تريد فلسطينيا، ولا تريد لهذا المستقبل أن يكون. ووسط هذه الإبادة التي تدور رحاها على مرأى من العالم كله، بدت بطولة أطفال غزة، الذين قتل منهم ما لا يقل عن ثلاثين ألف طفل، أكثر تعبيرا عن عشق الحياة، وأكثر حرصا على السلام في مواجهة ماكينة القتل الإسرائيلية الغاشمة. ومن بطولات أطفال غزة استوحت كاتبة الأطفال الأردنية د. أماني سليمان داود قصة "أطفال طابور الماء"، التي قام المركز القومي للترجمة بالقاهرة بترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لتصدر بثلاث لغات، ليقرأ العالم قصة أطفال غزة الذين يعيشون بلا ماء ولا طعام، أطفال صغار تأمر عليهم المحتل بالأسلحة المحرمة والمجرمة دوليا، وأخيرا بسلاح التجويع. والقصة تلقي ضوءا، ولو ضئيلا، على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر. ومن ناحيته، أعلن مركز الأزهر للترجمة عن توجهه لترجمة قصة "أبطال طابور الماء" إلى خمس عشرة لغة، تضاف إلى الإنجليزية والفرنسية، في محاولة لتقديم قدر بسيط من التعاطف والتفهم والمشاركة من أجل غزة وأطفالها، الذين منحوا الطفولة معاني جديدة، فصار لزاما علينا تعديل رؤيتنا لموقعهم ووعيهم ودورهم. أطفال غزة في طابور الماء "إلى الطفل الفلسطيني الذي يعلم البشرية أبجدية البطولة" بهذا الإهداء الموحي تفتتح كاتبة الأطفال د. أماني سليمان داود قصتها "أبطال في طابور الماء". تبدأ القصة بمنظر طابور طويل، ويقف في الطابور ثلاثة أصدقاء: يوسف، ومصطفى، وإبراهيم، طلاب في الصف السابع، وكل منهم ينتظر دوره بصبر لملء الماء. يقول يوسف -وهو طفل يعشق الميديا ويصور كل ما يحدث بهاتفه الجوال- "كنا طلابا في فصول دراسية سعيدة، لكننا لم نكمل سنتنا الدراسية. لم نهرب من المدرسة، ولم نتركها بإرادتنا، بل هربت المدرسة نفسها، وتحولت غرفها إلى ملاجئ، وصارت مركزا لإيواء النازحين من القصف". ويتساءل يوسف: "أتعرفون ما معنى إيواء؟ هو أن تضع قلبك في خيمة، وتشد عليه بحبل كي لا يطير خوفا". ويضيف يوسف: "في الماضي كنا نجري في ساحات المدرسة، نلعب، نقرأ القصص، نضحك كثيرا ونحلم أكثر. أما اليوم، فقد أغلقت مدرستنا، ليس لأننا في عطلة، بل لأن القنابل سبقتها وأوقفت الدروس، فتحولت المدرسة إلى مأوى كبير تنام فيه العائلات المشردة من بيوتها، وتعلق على جدرانها ملابس مبللة بدلا من اللوحات". لقد وقعت الحرب… تمنينا لو كان ما نحن فيه الآن مجرد كابوس نصحو منه بعد قليل، لكن الكابوس طال كثيرا. استيقظنا على صوت قنابل تهز الأرض تحت أقدامنا، وتحولت حاراتنا إلى رماد، وغدا الحي كله كومة من دخان وغبار، وفي كل لحظة قد يعبر صاروخ من فوقنا أو تسقط قنبلة علينا. غزة الجميلة كانت لوحة ملونة بالفرح والبهجة، تعج بيوتها بصخب الحياة، أمست بيوت غزة كالعصافير المذعورة، وصارت ترابا هامدا. صفرت ريح الخراب في الأحياء، كما غابت رائحة الزعتر، حتى السماء لم تعد زرقاء، صارت سوداء كأنها تلبس وشاحا من الحزن. نعيش في خيام كالحة اللون، نصبت على عجل. في فصل الشتاء، تتمايل خيامنا كلما هبت الريح، وتصرخ إذا ما اشتدت، كأنها خائفة. قررت مع أصدقائي أن نساعد الكبار والجرحى والنساء بسقيا الماء، فالماء أمسى شحيحا منذ أن نشبت الحرب. في كل صباح، نحمل دلاء بلاستيكية أو أي آنية نجدها فيما تبقى من خراب حولنا، ونقف في طابور الماء. طويل طابور الماء كليالينا الباردة، ننتظر دورنا كي نملأ الأواني، ونسير في طريق وعر مملوء بالحجارة، ندعو الله ألا نتعثر وينسكب الماء الذي انتظرنا بالساعات ليأتي دورنا. فمنذ أن بدأت الحرب، لم يعد هناك ماء، ولم يعد هناك خبز أو طحين، وفرى الجوع والعطش أجسادنا. لحظات ويقطع صوت الزنانة حالة الخوف المشوبة بالحذر. الملعونة لا تهدأ ولا تنام، ودائما ما تبحث عن شيء تفجره. نغطي آذاننا، لكن الصوت يخترق جلودنا، ولم يعد هناك أطفال في الشوارع يلعبون ويلهون ويضحكون. والآن، لا تسمع إلا أصوات صافرات سيارات الإسعاف، وصراخ الأمهات، وأنين الجرحى، وبكاء المنكوبين. أطفال في زمن القصف ويحدثنا يوسف عن أصحابه ويقول: "إبراهيم يحب الغناء، وله صوت جميل، وكانوا يختارونه ليغني الأناشيد الوطنية في الإذاعة المدرسية. ولجمال صوته، كانت الطيور تنتظر سماعه، وظل يشدو بصوته الشجي حتى أثناء الحرب، إلى أن سقطت قذيفة على بيتهم واستشهد والده وأخوه وبعض أقاربه. جاء مع أمه وأخته الصغيرة ليسكن في الخيمة بجوارنا، ومنذ أن استشهد أفراد أسرته، انقلب إبراهيم إلى شخص صامت، ووجهه جامد كالصخر، لم يعد يغني، بل صار حزينا، دائما ما تغرق وجهه دموعه. ومع ذلك، كانت هوايته أن يجمع أطفال الخيام ويعلمهم كيف يكتبون ويقرؤون الحروف، وكأنه يبني المدرسة من جديد". "أما صديقي مصطفى، بطل التايكوندو، فقد كان يقودنا كل عام في البطولات المدرسية. ومع بداية الحرب، سقط صاروخ على منزلهم في أطراف الحي، وانتشل من تحت الأنقاض بإصابات بالغة، ووالده برجل مبتورة. ومنذ ذلك الوقت، فقد القدرة على الكلام، لكنه لم يستسلم، فهو يدور ليربت على أكتاف الأطفال اليتامى، ويحملهم على كتفيه وبين ذراعيه القويتين، ويبتسم لهم، ويحرك عينيه وأنفه بحركات تضحكهم، ويساعدهم في ربط وتصليح حبال الخيام، وإزالة الحجارة والزجاج المتطاير من أثر القصف المستمر على خيامهم". ويتحدث يوسف عن نفسه ويقول: "أما أنا، فأحب الكاميرا، وحلمي أن أصبح مذيعا مشهورا كي أستطيع تصوير جمال مدن فلسطين. كنت أقرأ النشرة المدرسية كل صباح، ورغم كل الدمار الذي لم يترك بيتا ولا حجرا في جدار إلا ونال منه، رغم كل هذا الدمار، أستعمل هاتفي المحمول الصغير وأصور ما يحدث في المخيم. وكلما جاءت إشارة إنترنت صغيرة، أبث لكم الحقيقة، وأوثق يومياتي، وألاحق الطوابير والوجوه المتعبة، وأرسل للعالم صور أطفال لا يحملون البنادق، بل دلاء الماء والأحلام، لا يبحثون عن القتال، بل عن قطرة ماء. سأجعل العالم يرى من هم أهل غزة، وماذا فعل العدو المحتل بنا، وحتى تضيع إشارة الاتصال، لا أضيع وقتا، وأشارك إبراهيم ومصطفى في نقل الماء وبعض المعونات التي تصلنا، ونقوم بتوزيعها على الأهالي في المخيم". الأمل لا يُقصف يا أصحابي، بقي قليل من شحن هاتفي، وليس هناك كهرباء في غزة، وقبل أن ينطفئ، سأحدثكم عما جرى قبل أيام. بينما كنا ننقل الماء، سمعنا صراخا قويا، التفتنا، ورأينا لهبا يخرج من خيمة أم زيد. وفي لحظة، تجمدت في مكاني وأنا أرى مصطفى وإبراهيم يقتحمان الخيمة، ويدخلان وسط النار والدخان، وسحبا طفلين صغيرين. وجريت وراءهما، وحملت طفلا رضيعا. خرجنا والدخان يملأ صدورنا، وجلسنا بوجوه لفحتها النيران وسودها الدخان، ولا نشعر بما أصابنا من جروح. في تلك الليلة، عاد إبراهيم يغني، ويصدح صوته لأطفال المخيم بأغنيات غزة التي تحترق وتنهض. وأمسك مصطفى عودا، وكتب على التراب: "لقد عاد صوتي". نظرنا نحوه غير مصدقين، ووقف يصرخ بصوت أدهشنا جميعا: "لن نخرج من أرضنا، سنطرد عدونا، ونحرر وطننا. سيغني إبراهيم لبحر غزة بصوته الجميل، وحتما سأفوز يوما بميدالية ذهبية في بطولة عالمية". ضحكنا حينها وبكينا من الفرح، أحسسنا بشيء يلمع في صدورنا مثل شعاع شمس وسط الغبار، وفي تلك اللحظة ضممته بكلتا ذراعي، وأقسمت له: "سأنقل خبر فوزك للعالم كله". وفي صباح اليوم التالي، استأنفنا العمل في نقل بعض المساعدات، وعدنا إلى طابور الماء. لكن القصف العشوائي عاد فجأة، فجرينا شمالا ويمينا، نحمل إلى الخيام العطشى والحزينة شيئا أنفس من الماء؛ نحمل الأمل الذي لا يقصف، ولا يحرق. إنه الأمل وحده، الذي يجتمع عليه أطفال غزة، أملا في حياة ومستقبل أكثر عدلا وحرية. المقاومة بالحكاية وعن أسباب كتابتها لقصة (أبطال في طابور الماء) تقول المؤلفة د. أماني سليمان داود (أكاديمية وقاصة أردنية) للجزيرة نت: "كتبت هذه القصة لا ليقرأها الطفل وحسب، بل ليقرأها المواطن العربي والمواطن الغربي، وألقي ولو ضوءا ضئيلا على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر، ولعلني أراها طرقة ولو خافتة على جدار الخزان، طرقة مني، وطرقة من كل من ساهم في إنتاج هذا العمل رسما وترجمة وإخراجا ونشرا، لعل الطرقات تعلو، والعالم يسمع". وتتمنى "لعلنا إذا ما دققنا على جدار الخزان لا نموت، ولا ننتهي كما انتهى "رجال في الشمس" التي غزل كلماتها الجميلة الشهيد البطل غسان كنفاني… لعل كتابة القصة شكل من أشكال المقاومة بالكلمة، ولو جاءت خجلى. لا بد من صدى لها، وسنسمع كل العالم صوتنا. ربما من هنا تأتي فكرة قصة (أبطال في طابور الماء)، ومن هنا تنطلق أصوات أبطالها يوسف ومصطفى وإبراهيم". وتضيف سليمان "كتابة قصة (أبطال في طابور الماء) تجربة فريدة بالنسبة لي؛ إذ حضرت شخوص القصة إلى ذهني منذ شهور، وظلت تمور في داخلي؛ تغيب ثم سرعان ما تتجلى في كل طفل أراه في غزة أثناء متابعتي لما يجري هناك. كانت الشخوص تتضح ملامحها مع مرور الوقت في ذهني، ورغم الوجع والخراب الذي كنت أشاهده في مأساة غزة، إلا أن روح هذه الشخوص الثلاثة الذين غدوا أبطال القصة ظلت أرواحا قوية مشرئبة بالأمل، متمسكة بفكرة البقاء والانتصار، لا تنهار رغم ما واجهته من فقد لأقاربها الذين استشهدوا في الحرب، ومن إصابات بالغة بدلت بالضرورة شكل حياتهم إلى الأبد. وتكمل الكاتبة أنه "مع قرب اكتمال تصوري لأبطال قصتي حضر مشروع المركز القومي للترجمة، بفكرته النبيلة ورؤيته الإنسانية الشفافة، حينها آن لشخوصي المتخيلين أن يعبروا من عتبة المخيلة إلى الواقع الفني الجمالي، ويتشكلوا حبرا على الورق. فظهر (يوسف) الطفل الذي يحلم بأن يغدو إعلاميا في المستقبل؛ ينقل صورة وطنه وبهاء طبيعته، وسحر تفاصيله، وظهر (إبراهيم) صاحب الصوت الجميل الشجي الذي رغم استشهاد والده وأخيه وبعض أقاربه، ظل صوته — وإن فقده لبعض الوقت كرد فعل على الصدمة — يصدح بالغناء كأن الغناء شكل من أشكال المقاومة، ومحاولة للتصبر على المأساة. كما ظهر (مصطفى) الفتى الرياضي الذي شاهد بعينه والده وهو ينتشل من تحت أنقاض بيته الذي سقط عليه، ورغم ذلك استطاع بروحه الأبية المقاومة أن يستثمر قوته البدنية في مساعدة الآخرين من حوله في حيه الذي غدا مخيما يكاد يتهاوى كلما اشتدت الرياح". شهادة على مأساة حقيقية أبطال ثلاثة شكلوا استعارات ورموزا للطفل الغزي الذي كان له بيت ومدرسة وأزقة أليفة يلعب فيها وسماء تظله بزرقتها الصافية، وهوايات محببة يمارسها يوميا، ثم مع مجيء الحرب تبدلت كل التفاصيل الجميلة، واندثرت الأحلام، فانقطعت أوصال الحياة الطبيعية، فصار لزاما على هؤلاء الأطفال أن يحملوا الكثير من عبء الحياة، وأن يتنازلوا عن طفولتهم في سبيل أدوار شاقة وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بها. وتختتم المؤلفة حديثها بفلسفة طابور الماء في الحياة بكل دلالاته وفلسفته وتأويلاته، وتقول: "ندرك جميعنا ماهية الطوابير في اليومي والهامشي من حيواتنا الطبيعية، ولكن، كيف يغدو الطابور في الحرب؟! والأبطال في طابور الماء هم أبطال في طابور الحياة التي نصطف فيها، متشبثين باستحقاقنا لها لأننا لا نحب الموت بل نحب الحياة إذا استطعنا إليها سبيلا". وما بين حياة أطفال غزة قبل الحرب وحياتهم أثناء الحرب التي ما تزال مشتعلة، تقف قصة (أبطال في طابور الماء) كشاهد على حقيقة مأساة صار لزاما أن تسجل كسردية ضد المحو، وضد الظلم، وضد زوال الرواية الحقيقية لصاحب الحق قبالة رواية العدو المحتل الزائفة، نعلي بها صوت الطفل الغزي، قد يكون مبحوحا لكنه الصوت الذي يتأبى الانطفاء، سردية تمثل شكلا من أشكال حفظ الذاكرة نوجهها لكل أطفال العالم، علهم ينتبهون لأطفال مثلهم يستحقون الحياة ويملكون حقوقا مساوية لهم تماما، علهم يسمعون بطفلنا المقاوم الذي وجد نفسه وحيدا يواجه العالم بصدر عار ومعدة خاوية، حيث غدا في الحرب بلا رغيف يقيم أوده وبلا جدار.


الجزيرة
منذ 16 ساعات
- الجزيرة
عشرات المشاهير في ألمانيا يدعون لحظر توريد أسلحة إلى إسرائيل
انضم 162 ممثلا وموسيقيا وإعلاميا ألمانيا إلى الدعوة لوقف توريد أسلحة ألمانية إلى إسرائيل. ووفقا لمنظمة "آفاز" فإن من بين الموقعين الجدد على الدعوة المغنيين نينا خوبا وكلويسو، والمخرج فاتح أكين، وآري فولمان الممثل الإسرائيلي الحائز على جائزة غولدن غلوب، والممثلة زاندرا هولر. وتقول "آفاز" العالمية إنها نظمت هذه الحملة، علما بأنها تعرّف نفسها بأنها شبكة حملات عالمية تهدف إلى التأثير على القرارات السياسية من خلال أصوات المواطنين. ويوم الخميس الماضي، حث أكثر من 200 شخصية بارزة بألمانيا المستشار فريدريش ميرتس على وقف توريد أسلحة لإسرائيل وفرض عقوبات عليها في رسالة مفتوحة. وحتى صباح اليوم الأربعاء، بلغ إجمالي المشاهير الموقعين على الرسالة 367 شخصا. ومن بين الموقعين الأوائل على الرسالة الإعلاميان يوكو فينترشايت وكلاس هويفر-أوملاوف، والموسيقيان شيرين دافيد وتسارتمان، والممثلات جيسيكا شفارتس وهايكه ماكاتش وليف ليزا فريز، والممثلون بينو فورمان ودانيال برول ويورغن فوغل، والكاتب مارك-أوفه كلينغ. وفيما يتعلق بالوضع الراهن في قطاع غزة، انتقد موقعو الرسالة أيضا إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نيته احتلال قطاع غزة بأكمله، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية. وجاء في الرسالة "سيد ميرتس، لقد حان وقت التصرف!".


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
"اقتصاد الموت" وتسليع الإبادة الجماعية في غزة
شاهدت قبل أيام على التيك توك مقطعا لأحد الفلسطينيين في غزة وهو يقوم بخبز طحينه الذي ظفر به بعد معاناة شديدة. يحدثنا وهو مبتسم عن مغامرة الحصول على كيس الطحين من بين القصف والدبابات والدمار. طالعت هذا المشهد وأنا جالس في حديقة منزلي مستمتعا بنسمات ليلية منعشة بعد نهار شديد الحرارة قائظ. انتابني مزيج من المتعة والشفقة والعجز والحمد على النجاة من مصير هذا الغزّي. وبعد أن فرغت من مطالعة كثير من المشاهد المشابهة التي أتت بها خوارزميات السوشيال ميديا، انتقلت إلى محطات الأخبار الكثيرة التي غمرتني بمشاهد وصور الأطفال الجوعى ضامري الأجساد، وتدفقت تقارير المراسلين بمن استشهد وعدد المصابين وأحوال المستشفيات وانهيار المنظومات الصحية.. كل هذا وفي الخلفية هدير المحللين الإستراتيجيين والخبراء العسكريين. بعدها انتقلت إلى تقارير مراسلي الصحف الأميركية والبريطانية التي امتلأت بتصريحات السياسيين وتسريبات المفاوضين والوسطاء.. تغمرني هذه التدفقات فأزداد عجزا، وأطالع مشاهد التيك توك فأُصاب بالمتعة، ثم يتبلّد حسي فأفقد الشغف.. لكن دورة "تسليع المأساة" تعود من جديد تحت هدير التغطية وتدفق الفيديوهات واللايك والشير. يشير مفهوم "تسليع المعاناة" إلى العملية التي يتم فيها تحويل الألم والموت وسوء حظ الآخرين إلى منتج أو مشهد قابل للاستهلاك، للترفيه، وإرضاء الذات. الكوارث والوفيات الجماعية والمعاناة الإنسانية يتم تجميلها وتعبئتها بشكل مبهر من قبل وسائل الإعلام ومحطات الأخبار وصناعات الترفيه الثقافي لتسلية الجماهير العالمية. يمكن رؤية ذلك في البرامج التلفزيونية والروايات والأفلام ومقاطع السوشيال ميديا، وحتى تغطيات الأحداث الواقعية، حيث إن مشاهدة آلام الآخرين تعزز الشعور بالتفوق أو البقاء. السياحة المظلمة، وهي اتجاه ما بعد حداثي، حيث يزور السياح الأماكن المرتبطة بالموت الجماعي والخسارة والألم والحزن، مثل أوشفيتز -معسكر المحرقة الشهير- والسجون أو المناطق المنكوبة بالكوارث. يُنظر إلى هذه الممارسة على أنها وسيلة للزوار لتفسير محدوديتهم من خلال معاناة الآخرين، أو اكتساب إحساس بقيمة حياتهم الخاصة. تشير بعض الدراسات إلى أن زوار هذه الأماكن ليسوا بالضرورة حساسين تجاه المآسي، ولكنهم يسعون للنظر إلى شيء مختلف يؤكد مكانتهم الخاصة. دعاني بعض الأصدقاء إلى سياحة مبهرة في جبال المغرب، حيث نبيت وسط فقراء هذه المناطق، نعيش كما يعيشون ونأكل مما يأكلون، وهي في نفس الوقت صدقة مخفية لأننا ندفع لهم ما تجود به أنفسنا من مال لا يطلبونه ولا يفرضون قيمته. لكني أدركت متأخرا أن هذا النوع من السياحة هو شكل آخر من أشكال التوسط بين السياح والسكان المحليين، حيث يصبح الفقر نفسه سلعة، مما يؤدي إلى إدامة الوضع الراهن للنخبة الحاكمة. غالبا ما يُخفي هذا النظام الحقائق المادية والثقافية التي تُسبب المعاناة، ويغلفها في شكل مشاهد تعزز هياكل السلطة القائمة وسوء توزيع الثروة المتفشي. هذه الديناميكية ليست جديدة، حيث ترسم أوجه تشابه مع كيف تحولت المحرقة، وهي مأساة حقيقية، إلى وجهة سياحية مطلوبة بشدة تستغل الموت لأغراض الترفيه. يعكس الوضع الحالي كيف استغلت الرأسمالية المعاناة تاريخيا، فالدول نفسها التي اضطهدت السكان الأصليين خلال الحكم الاستعماري ترسل الآن سياحا إلى هذه المستعمرات، مستغلة معاناة الآخرين كشكل من أشكال "السلب البصري". إن استهلاك معاناة الآخرين، سواء من خلال أخبار الإبادة في غزة والهجمات الإرهابية أو الزيارات إلى مواقع الكوارث، يعزز الشعور بالنرجسية والتفوق لدى "الساعين إلى الموت" أو الجمهور العالمي. وهذا يسمح لثقافات العالم الأول بتعزيز شعورها العالي بالتفوق على المحيط. إن تحويل المعاناة إلى سلعة يثير تساؤلات أخلاقية مهمة حول استغلال آلام الآخرين لتحقيق الربح- كما يقوم به بعض المؤثرين على السوشيال ميديا، أو الترفيه، وتقويض الفكر النقدي- كما يقوم به بعض الخبراء والمحللين، وتعزيز التفاوتات الاجتماعية- كما قمت به في جبال المغرب البديعة. فهو يسمح للمتميزين بتعزيز مكانتهم، بينما تظل القضايا الأساسية دون معالجة. يمكن أن يؤدي هذا التسليع للموت إلى شعور بالعجز لدى الأفراد، حيث يشعرون بأن العالم خارج عن سيطرتهم، وأنهم مجرد متفرجين على المآسي التي يتم تسليعها. إن تسليع المعاناة في غزة متجذر بعمق في نظام تستفيد فيه محطات تلفزيونية شهيرة، وكيانات تجارية قوية من مختلف القطاعات، بشكل مباشر وغير مباشر من تدمير الفلسطينيين وتشريدهم واستغلالهم، محولة محنتهم إلى مكاسب اقتصادية ومسرحية للاستهلاك العالمي. يُظهر هذا "اقتصاد الإبادة الجماعية" المتكامل؛ كيف يُستدام الصراع لأنه مُربح للكثيرين، مما يُؤكد الحاجة المُلحة للمساءلة. يسلط تقرير المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة الضوء على الكيفية التي كانت بها المساعي الاستعمارية والإبادة الجماعية المرتبطة بها مدفوعة وممكّنة تاريخيا من قبل قطاع الشركات، وهو نمط من الهيمنة يُعرف باسم "الرأسمالية العنصرية الاستعمارية". ويتجلى هذا بوضوح في الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، حيث استفادت الكيانات التجارية من الاحتلال غير القانوني والفصل العنصري وحملة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ساهم الفاعلون من الشركات في تسريع عملية النزوح والتهجير، مما ساهم في تدمير غزة وتشريد الفلسطينيين في الضفة الغربية. ويشمل ذلك قطاعات مختلفة، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة، وشركات التكنولوجيا، وشركات البناء والتشييد، والصناعات الاستخراجية والخدمية، والبنوك، وصناديق التقاعد، وشركات التأمين، والجامعات، والجمعيات الخيرية. هذه الكيانات تُمكّن من ارتكاب انتهاكات هيكلية وجرائم مثل الفصل العنصري والإبادة الجماعية، إلى جانب الجرائم الملحقة مثل التمييز والتهجير القسري والتجويع. استفادت دول من موقفها المتواطئ في غزة حين انهمرت عليها المعونات العسكرية والتدفقات المالية من مؤسسات التمويل وغيرها، وكأنها في صفقة كبيرة تقايض المليارات بالتاريخ والجيو-إستراتيجيا والأمن القومي. تبيّن وفق دراسة حديثة لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الأميركية، أنه بين 2020 و2024، تلقت خمس شركات كبرى عقودا بقيمة 2.4 تريليون دولار من البنتاغون، وهو ما يمثل ما يقرب من 54% من إجمالي الإنفاق التقديري للوزارة البالغ 4.4 تريليونات دولار خلال تلك الفترة. حصلت هذه الشركات الخمس مجتمعة – وهي لوكهيد مارتن، وبوينغ، وRTX المعروفة سابقا باسم (Raytheon)، وجنرال ديناميكس، وشركة نورثروب غرومان- على مبلغ 356 مليار دولار المخصص لميزانية الدبلوماسية والتنمية والمساعدات الإنسانية الأميركية (باستثناء المساعدات العسكرية) خلال نفس الفترة. تستفيد هذه الشركات أيضا من عمليات نقل الأسلحة. على سبيل المثال، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 18 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل في العام الأول بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وتم تقديم 66 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا منذ الغزو الروسي 2022، كما تجاوزت مبيعات الأسلحة الممولة من الخارج للحلفاء الأوروبيين 170 مليار دولار في 2023 و2024 وحدهما. تحافظ صناعة الأسلحة على قوة سياسية كبيرة من خلال ملايين التبرعات للحملات الانتخابية، وتوظيف 950 من جماعات الضغط اعتبارا من 2024، بزيادة عن عام 2020، بالإضافة إلى ظاهرة "الباب الدوار"، حيث ينتقل كبار المسؤولين الحكوميين والبنتاغون إلى مناصب مربحة مع هذه الشركات أو شركات رأس المال الاستثماري التي تستثمر في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العسكرية. وأخيرًا وليس آخرًا، فإن هذه الشركات تقوم بتمويل مراكز الأبحاث المتشددة التي تدافع عن سياسات تخدم مصالحها، والخدمة في اللجان الاستشارية الحكومية التي تُشكل سياسات الدفاع، حيث غالبا ما يكون لأغلبية الأعضاء علاقات بصناعة الأسلحة. وتدعم هذه الشركات زيادة الحروب من خلال عدة آليات، مدفوعة في المقام الأول بالمصالح المالية، والتأثير السياسي، والترويج للتقنيات العسكرية الجديدة. يُضاف إلى الشركات الخمس الكبرى عدد من شركات التكنولوجيا العسكرية الناشئة مثل Palantir، وSpaceX، وAnduril. تزعم هذه الشركات أنها تقدم "نسخة جديدة وأكثر فاعلية وأقل تكلفة وأكثر مرونة من المجمع الصناعي العسكري". تزعم أن أسلحتها التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وشبه المستقلة، التي لا تحتاج إلى عنصر بشري، يمكن أن توفر جيلا مستقبليا من الأسلحة بشكل أكثر فاعلية وبتكلفة أقل، ويمكنها توسيع الهيمنة العسكرية الأميركية العالمية. تستفيد أيضا شركات التكنولوجيا الكبرى مثل أمازون، ومايكروسوفت، وغوغل، وأوراكل، وآي بي إم، حيث تقتسم بشكل جماعي 10 مليارات دولار لبرنامج الحوسبة السحابية التابع للبنتاغون. إن أحد الأخطار الكبيرة للحرب التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، هو إمكانية أن تتمكن الأسلحة الجديدة من اختيار الأهداف دون تدخل بشري. إن حروب التكنولوجيا المتقدمة المستقبلية ستُعطي الأولوية للسرعة في تحديد الأهداف وتدميرها، مما قد يؤدي إلى استبعاد البشر من عملية صنع القرار. مثل هذه الأنظمة قد تجعل الحروب "أكثر احتمالية وأكثر فتكا". إن تحويل الكوارث إلى سلعة، والذي أشار إليه جان بودريار -عالم الاجتماع الفرنسي الشهير- بـ"مشهد الكارثة"، يحوّل الأحداث المأساوية إلى ترفيه، مما قد يؤدي بشكل متناقض إلى تكرارها من خلال تجاهل أسبابها الجذرية. تُلاحظ هذه الظاهرة في التغطية الإعلامية، حيث تُنشر "قسوة الهجمات" لكسب المشتركين والمشاهدين، حيث يشعر الجمهور بالدمار لكنه غير قادر على التوقف عن المشاهدة. يصف مفهوم "رأسمالية الموت" Thana Capitalism -الذي صاغه ماكسيميليانو إي. كورستانجي، عالم الاجتماع الأرجنتيني- مرحلة من الرأسمالية، حيث يكون الموت سلعة أساسية للتبادل والاستهلاك، ويتم تناول المعاناة الإنسانية واستهلاكها بصريا للترفيه وتعزيز الأنا. يتضمن ذلك زيارات لمواقع الموت الجماعي والمعاناة، والتي يُعاد تدويرها ويستهلكها جمهور عالمي بصريا، مما يخلق "اقتصادا منغمسا في الموت"، وهي مرحلة جديدة من الرأسمالية حيث يصبح موت الآخرين والمعاناة البشرية سلعة رئيسية يتم تبادلها واستهلاكها. يُجادل كورستانجي بأن طبقة ناشئة من "الباحثين عن مشاهد الموت" تستهلك هذه المشاهد الكئيبة ليس بالضرورة بدافع التعاطف، بل غالبا لتعزيز شعورهم بالحياة والتفوق، أو للحصول على الإثارة. يصبح موت "الآخر" (أولئك الذين يعانون) إثباتا لبقاء المرء ومكانته في نظام لا يفوز فيه إلا الأصلح. يقوم هذا النوع من الاستهلاك بتعزيز شكل من أشكال الداروينية الاجتماعية، حيث يشعر الأفراد بأنهم في "سباق" دائم من أجل البقاء. إن مشاهدة معاناة الآخرين، لا سيما من خلال الوسائط البصرية، قد تؤدي إلى تعزيز نرجسي لسلامة الفرد ونجاحه، بدلا من ارتباط حقيقي أو رغبة في المساعدة. إن استهلاك معاناة "الآخرين" يسمح للأفراد (غالبا من الشمال العالمي) بتعزيز شعورهم بالتفوق والامتياز والمكانة الفريدة. هذه "السعادة المرضية" متجذرة في الداروينية الاجتماعية، حيث إن كون المرء "ناجيا" يدل على القوة الأخلاقية والاستثنائية. تستغل السلطات الحاكمة في كل مكان، وخاصة في المنطقة العربية، "ثقافة الخوف" كأداة تأديبية (مثلا، من الإرهاب، أو تغير المناخ، أو الجريمة، أو عدم الاستقرار والفوضى، وأخيرا التجويع في غزة) للسيطرة على الجماهير وتبرير سياسات قد تُرفض لولا ذلك، مثل زيادة المراقبة والمنع من التظاهر أو إجراءات التقشف. هذا التهويل يصرف الانتباه عن المشاكل الهيكلية التي تُسببها سياساتهم. في جوهره، يُحول تسليع المعاناة المشاكل المجتمعية المعقدة إلى سرديات قابلة للاستهلاك، والتي بدلا من تعزيز الفهم النقدي أو دفع التغيير النظامي، تُعزز رؤية عالمية نرجسية ومتعالية على الذات، وتُديم أوجه عدم المساواة وديناميكيات القوة التي تولد المعاناة في المقام الأول.