
مرشح للبابوية يطلب من مكيافيلي كتابة تاريخ فلورنسا
في عام 1520 كان نيقولو مكيافيلي في نحو الـ50 من عمره، ومع ذلك لم تكن مؤلفاته الكبرى صدرت بعد، ونعرف على أية حال أن معظم تلك المؤلفات لن تصدر إلا بعد رحيله في عام 1527، لكنه كان معروفاً في فلورنسا كمؤرخ وكاتب مسرحي، وباحث في عدد لا ينتهي من الشؤون العلمية والعامة. ومن هنا كان من الأمور الطبيعية أن يجري اختياره هو من اللجنة المعاونة للكاردينال جوليوس دي مديتشي، من دون غيره من العلماء والباحثين المتنورين، للاستجابة لرغبة الكاردينال في أن يكتب له تاريخاً مطولاً لفلورنسا، مدينة آل مديتشي، وربما من خلالها، تاريخاً ولو مختصراً بعض الشيء لإيطاليا وربما للعالم كله. وكان من الواضح أن الكاردينال يريد أن يكتب له ذلك التاريخ كزوادة معرفية يصطحبها معه كقارئ نهم ومثقف فضولي، فيما يستعد لكي يصبح البابا المقبل في الفاتيكان تحت اسم البابا كليمان السابع، فهو أراد أن يصل إلى تلك السدة متضلعاً في تاريخ البلاد والعباد وتاريخ المدينة وما يحيط بالأمة كلها. وكان من غير المستغرب بالتالي أن يكلف مكيافيليبالمهمة، وذلك بالصيغة التالية التي حملها مرسوم لا يزال ماثلاً حتى اليوم في أرشيفات الفاتيكان ويقول "إن مسؤولي الدراسات الفلورنسية والبيزانية يعهدون إلى نيقولو مكيافيلي بمهمة كتابة تاريخ فلورنسا، انطلاقاً من الحقبة التي قد يراها هو الأكثر تلاؤماً، وبحسب ما يختار لها من لغة توسكانية أو لاتينية"، والحقيقة أن هذه الوثيقة تعتبر اليوم وثيقة ولادة واحد من الكتب التاريخية الأكثر تداولاً في تاريخ تلك المدينة / المقاطعة.
يذكر أن الهيئة التي تولت إصدار مرسوم التكليف هذا أعطت المؤلف مهلة سنتين عليه أن ينجز المهمة خلالهما، على أن يتقاضى مكافأة سنوية تبلغ 100 فلورين. ولقد وافق المؤلف يومها على الانصياع للمرسوم، لكنه احتج فقط بأن السنتين لا تكفيان، بل ثنى على ذلك بأنه أصلاً لا يمكنه أن يبدأ العمل على المشروع حقاً إلا بدءاً من عام 1523 حين يتقاعد في مدينته سان غاشيانو ويتفرغ لذلك، وكان له ما أراد بحيث أن الكتب الثمانية الأولى من المشروع لن تصل إلى يدي الكاردينال إلا بعد أن أصبح اسمه البابا كليمان الثامن وبات سيد الفاتيكان، وكان ذلك في عام 1525. غير أن تلك الأجزاء الثمانية المنجزة حتى ذلك الحين ستصبح هي المشروع كله، بالنظر إلى أن مكيافيلي لم يكمل العمل عليه على الإطلاق، فبقي "تاريخ فلورنسا" مكتفياً بتلك الأجزاء التي لا يزال مكوناً منها حتى اليوم، من دون أن ننسى أن مكيافيلي نفسه سيرحل عن عالمنا في عام 1527، أي بعد عامين من تسلم البابا لمؤلفه.
الخطة التي لم تنفذ
في البداية المتفق عليها، التي عرضها المؤلف في تقديمه للكتاب، كان يجدر بتاريخ فلورنسا أن يشمل جزءاً أولاً يتألف من أربعة كتب تأتي على صورة مداخل عامة، كما تقول سيرة هذا الكتاب: المدخل الأول من بينها يتناول مجمل الأحداث التي عرفتها إيطاليا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى عام 1434، أما في المداخل الثلاثة التالية فإن المؤلف يعتزم تدوين التاريخ الداخلي لفلورنسا باختصار منذ تأسيسها حتى ذلك التاريخ نفسه 1434، أي العام الذي عاد فيه كوزمو دي مديتشي للمدينة. وبعد ذلك منذ عام 1434، أي بدءاً من الكتاب الخامس، يعد مكيافيلي بتاريخ أكثر تفصيلاً لكل ما عرفته المنطقة من أحداث وتطورات، على أن يقيم نوعاً من الترابط السببي بين مجمل الأحداث الداخلية التي عاشتها المدينة، وتلك الأحداث التي عيشت في العالمين القريب والبعيد، أي أحداث العالم كله كما يفسر مكيافيلي في تقديمه. ولئن كانت تلك هي الخطة التي وضعها مكيافيلي لكتابه في التقديم، فإن النتيجة كما انتهى إليها عمله ووصلت كما هي إلى زمننا هذا تبدو مختلفة إلى حد كبير، وإن في التفاصيل فقط، وليس في البنية العامة للمشروع.
ففي النهاية لدينا هنا في الكتاب الأول نوع من تاريخ عام لإيطاليا يمتد حتى عام 1424 وليس 1434، أما في الكتاب الثاني الذي كرسه المؤلف لفلورنسا وحدها، فلدينا تاريخ للمدينة يتواصل حتى عام 1353، بينما يتناول الكتاب الثالث ما عاشته فلورنسا ليتوقف عند عام 1422. وهو ما يتواصل في الكتاب الرابع على شكل سرد يستأنف في الكتاب الثامن ليصل بالأحداث إلى العام المفصلي 1492، عام سقوط بيزنطة نهائياً في أيدي العثمانيين، وخروج العرب من إسبانيا الأندلسية، واكتشاف كريستوف كولومبوس أميركا، ومن هنا أهميته التي جعلت عدداً من المعلقين يطلقون على الكتاب اسم "تاريخ ما قبل التاريخ".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين شغل مكيافيليدهاءه...
ولكن يبقى هنا السؤال المهم: هل يمكن أن نعزو لهذا الكتاب التاريخي الذي غالباً ما يسهو ذكره عن بال كاتبي سيرة حياة مكيافيلي وشارحي أعماله، قيمة تجعله يوضع في مصاف كتب كبيرة أخرى لهذا المؤلف التنويري الذي ارتبط اسمه بالدهاء والمكر السياسي؟ الجواب بالإجماع هو: أبداً! فالحقيقة أن معظم الذين تحدثوا عن هذا الكتاب، ودائماً استناداً إلى طبعتين صدرتا منه، فقط بدءاً من عام 1532 أي بعد سنوات من رحيل مؤلفه، إحداهما في روما والثانية في فلورنسا نفسها، ويبدو أن ثمة اختلافات بينهما، لكن ما من قيمة إضافية لإحداهما على الأخرى على أية حال، الحقيقة أن ثمة إجماعاً على أن مكيافيلي لم يكن جاداً في عمله، بل إنه استخف به إلى حد كبير وكان متسرعاً على رغم الفترة الزمنية الطويلة التي استغرقها العمل. وآية ذلك أنه في معظم الفصول، بالنسبة إلى معظم الحقب، كان غالباً ما يكتفي بالرجوع إلى مصدرين أو ثلاثة مكتفياً بالنقل عنها وأحياناً بصورة مفككة، بل إنه كان يستخدم تلك المصادر من دون أن يقوم حيالها بأي تمحيص جدي أو تدقيق. وهو لم يبد، بحسب المعلقين، أي اهتمام بالتحقق من صحة الأقوال والمأثور من التعليقات المنقولة عن السلف. بل يرى بعضهم أن مكيافيلي كان يتعمد في عدد من الفصول أن يشوه حقائق معروفة ومواقف متفق عليها لغايات يملك هو سرها، وربما تكون غايات سياسية. ولعل هذا من شأنه في هذا المجال أن يفسر توقف هذا المؤلف، الذي عرف بالدقة في مؤلفات أخرى، عن استكمال هذا المشروع، وربما تبعاً لرغبات إبداها البابا نفسه، إذ كان من الطبيعي لهذا الأخير، وهو المثقف الضليع في شؤون التاريخ، الذي تدين له النهضة الفنية الإيطالية بكثير من إنجازاتها فائقة التقدم، ألا يرضى عن مؤلف يحفل بقدر كبير من ضروب النقص والتناقضات. ومن هنا ربما يكون أوعز لمعاونيه أن يتوقف المشروع عند ما وصل إليه، "من دون أن يحمل المؤلف العجوز ما لا يريد هذا الأخير حمله".
ومن هنا، على أية حال، ما يقترحه عدد ممن تحدثوا عن هذا الكتاب من أنه من المحتمل أن يكون دهاء مكيافيلي المعروف هو ما جعله يشتغل على "تاريخ فلورنسا" بتلك الطريقة الكأداء، التي يمكن اعتبارها نوعاً من حسن التخلص من مشروع كان ثمة عدد من الأمور والخفايا السياسية تكمن في خلفيته، وأراد هو تفادي ذلك كله بدفع البابا إلى رفض استكمال المشروع، مما يريحه شخصياً. ففي نهاية الأمر لم يكن من المنطقي لمؤلف من طينة مكيافيلي عرفت كتبه وستعرف لاحقاً أكثر وأكثر بالدقة في المعلومات والحصافة في التحليل، أن يكرس سنواته الأخيرة لعمل له كل ذلك التهافت الذي ميز "تاريخ فلورنسا" لمجرد أنه تعب عند نهاية حياته، فالأقرب إلى الصواب في نهاية الأمر أنه إذ لم يكن قادراً على رفض مشروع يأمر به الكاردينال الذي سيتحول قريباً إلى بابا، يمكنه أن يدفع البابا نفسه إلى رفض استكمال المشروع، لاعتقاده أن المؤلف المختار ليس مؤهلاً لإنجازه، لا أكثر ولا أقل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الإمارات اليوم
منذ 9 دقائق
- الإمارات اليوم
بني ياس وكلباء يكتفيان بنقطة في ختام حصاد الدوري
اكتفى فريقا بني ياس وكلباء بنقطة التعادل الإيجابي 2-2، اليوم، على استاد الشامخة، ضمن الجولة الختامية لدوري أدنوك للمحترفين لكرة القدم، في مواجهة حملت طابع التوازن والرغبة في إنهاء الموسم بصورة إيجابية، لينهي بذلك «السماوي» الموسم في المركز الـ12 برصيد 27 نقطة، بينما حافظ كلباء على المركز التاسع برصيد 32 نقطة. ورغم أن المواجهة لم تكن مؤثرة على موقع الفريقين في جدول الترتيب بعد ضمان البقاء رسمياً، فإنها شهدت ندية وأهدافاً جميلة أسعدت الجماهير، في ظل تألق نجوم الفريقين لخوض اللقاء بدون أي ضغوط. وافتتح اتحاد كلباء التسجيل مبكراً في الدقيقة 25 عبر هدافه الإيراني المتألق مهدي قائدي من ركلة جزاء، مؤكداً من جديد تأثيره الكبير في صفوف «النمور» بعد موسم استثنائي سجل فيه 16 هدفاً وسبع تمريرات حاسمة. ومع بداية الشوط الثاني، عاد أصحاب الأرض إلى أجواء اللقاء، حين أدرك القائد فواز عوانه التعادل في الدقيقة 55 بضربة رأس متقنة استغل فيها عرضية زميله أندريه بوركا. وواصل بني ياس ضغطه الهجومي، لينجح بيرنارد فاي في تسجيل الهدف الثاني في الدقيقة 68 بعد هجمة منظمة أنهاها بتسديدة مباشرة داخل الشباك. وفي الوقت الذي فرض فيه بني ياس سيطرته على مجريات اللقاء بصورة أكبر استطاع كلباء أن يخطف هدف التعادل بواسطة شهريار موغانلو الذي أعاد المباراة إلى نقطة التعادل في الدقيقة 75، مستغلاً كرة مرتدة من الحارس فهد الظنحاني تابعها بتسديدة ناجحة إلى المرمى.


المشهد العربي
منذ 9 دقائق
- المشهد العربي
لجنة الاتصالات الفيدرالية تقبل استحواذ فيريزون على فرونتير
وافقت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية على صفقة بقيمة 20 مليار دولار تقضي باستحواذ شركة فيريزون كوميونيكيشنز على مزودي خدمات الإنترنت بالألياف الضوئية، فرونتير كوميونيكيشنز. وكانت فيريزون قد اتفقت على شراء فرونتير في سبتمبر الماضي مقابل حوالي 9.6 مليار دولار، بالإضافة إلى تحمل 10 مليارات دولار من ديون فرونتير. وأوضح بريندان كار، رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية، أن الموافقة على هذه الصفقة ستضمن استفادة الأمريكيين من سلسلة من المزايا، وستطلق مليارات الدولارات في مشروعات بناء بنى تحتية جديدة في مختلف أنحاء البلاد. وكان كار قد أعلن في فبراير الماضي عن فتح تحقيق مع فيريزون بشأن ترويجها لبرامج التنوع والمساواة والشمول، مشيرًا إلى أنها قد تكون عاملاً في صفقة فرونتير. وفي رسالة إلى كار اطلعت عليها رويترز، أكدت فيريزون أنها ستزيل موقعها الإلكتروني المخصص لـ "التنوع والشمول"، وستحذف الإشارات إليه من تدريب الموظفين، وستجري تغييرات أخرى على ممارسات التوظيف والتطوير المهني وتنوع الموردين والرعاية المؤسسية، كما أكدت أن جميع هذه الأحكام ستُطبق أيضًا على فرونتير.


جريدة الرؤية
منذ 9 دقائق
- جريدة الرؤية
اقتصادنا.. تحديات وآمال
حاتم الطائي ◄ انعكاسات الزخم الاقتصادي ما تزال غير ملموسة بالدرجة الكافية على المواطن ◄ مشروعات التطوير العقاري والسياحي تفتح الباب أمام مزيد من الاستثمارات النوعية ◄ لا بُد من التخلي عن ثقافة العمل الريعي والاتكالية وتمجيد السلبية والتوجه نحو الإنتاجية والإنجاز لا أحد يُنكر الزخم الذي يكتسبه اقتصادنا الوطني عامًا وراء عام، وما نُحققه من مُنجزات على صعيد الاقتصاد الكُلي من نمو في الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي واستقرار معدلات التضخم، وغيرها من المؤشرات، علاوة على التحسُّن الواضح في المالية العامة مع نجاح خطة التوازن المالي في ضبط الإنفاق العام وزيادة الإيرادات وخفض العجز المالي، والذي تحوَّل إلى فائض مالي خلال السنتين الماليتين الأخيرتين، مع تقديرات بمواصلة تحقيق هذا الفائض المالي في الموازنة العامة للدولة للعام الجاري 2025. لكن في المُقابل، فإنَّ انعكاسات هذا الزخم الاقتصادي على معيشة المواطن ما تزال غير ملموسة بالدرجة الكافية، ما يؤكد أنَّ ثمّة خللٍ يواجه النموذج الاقتصادي والتنموي الذي نسير عليه، ليس فقط من حيث تأثيراته على الحياة اليومية للمواطن، ولكن أيضًا فيما يتعلق بمعدلات نمو بعض المؤشرات، وفي مُقدمتها مؤشر الباحثين عن عمل الذي ما يزال يُراوح مكانه، فأعداد الباحثين عن عمل ما تزال مُرتفعة، وما يتم توفيره من وظائف كل عام لا يتماشى أبدًا مع العدد المُتزايد من الخريجين، أضف إلى ذلك أعداد المُسرَّحين من أعمالهم، وإن كانوا لا يمثلون عددًا كبيرًا، لكنهم يضيفون إلى العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل، وهو المسمى الذي يجب أن نستخدمه بكل واقعية. نقول ذلك، وقد شهدنا خلال الأسبوع الماضي إطلاق حُزم من المشاريع العقارية والسياحية العملاقة، والتي تستقطب استثمارات بأكثر من 2.3 مليار ريال، تتضمن إنشاء مُدن ذكية ومشروعات عقارية وسياحية، يُنفذها أكبر المطورين العقاريين على مستوى الشرق الأوسط، ومن المؤكد أنَّ هذه المشاريع ستضُخ دماءً جديدة في شرايين اقتصادنا الوطني، وستعمل على توفير المزيد من فرص العمل للشباب، وستُحدث انتعاشة مأمولة، خاصة وأن الاستثمار في القطاع العقاري يُعد الأكثر أمانًا، لما يُحقِّقه من قيمة مضافة؛ سواءً للمالك (المستثمر) أو المنظومة الاقتصادية ككُل، علاوة على أنَّ هذه المشاريع تُسهم في تطوير العديد من المناطق، وتُحقق الاستغلال الأمثل لما يملكه وطننا الحبيب من مقومات. ولا ريب أنَّ مشروع "الجبل العالي" في الجبل الأخضر وما يُتيحه من إمكانية التملك الحُر، سيلقى الكثير من النجاح؛ كون ولاية الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية، منطقة استثنائية على مستوى دول الخليج، من حيث اعتدال الطقس وما تنعم به من هدوء في أحضان الطبيعة الخلابة، وسيكون "الجبل العالي" أهم منتجع سياحي في دول الخليج قاطبةً، وسيُنافس كل المنتجعات السياحية، ليس مستوى دولنا فقط، ولكن على مستوى الشرق الأوسط وآسيا، خاصة في ظل المعايير العالمية التي سيتم تنفيذ المشروع وفقها، وما يتضمنه من منتجات تُلبي احتياجات الأفراد، سواء من الوحدات السكنية أو الترفيهية. لقد كتبنا كثيرًا عن ضرورة تحقيق التنمية السياحية في الجبل الأخضر، وأهمية تحويل هذه الجنَّة الخضراء إلى منتجعات سياحية ومجمعات سكنية مُتكاملة، لكي نُحقق التنمية المُستدامة والشاملة، ويستفيد أبناء الجبل الأخضر من هذه التنمية، في صورٍ عدة. ومثل هذه المشاريع لا تخدم جهود التنمية وحسب؛ بل إنها تفتح الباب أمام جذب المزيد من الاستثمارات، وتنويع المشاريع، والعمل على التوجه نحو نموذج أكثر تطورًا واستدامةً في التنمية السياحية والعقارية؛ الأمر الذي سيعود بالنفع على اقتصادنا الوطني، ويخلق المزيد من فرص العمل، ويضمن توسعة القاعدة الاقتصادية للقطاع الخاص. ونظرًا لأنَّ الاقتصاد يعمل وفق تأثير "الدوائر المترابطة" التي تتأثر ببعضها البعض، فمن الضروري العمل على مواجهة التحديات التي تواجه تمكين القطاع الخاص، مثل: تبسيط الإجراءات وإتاحة التمويل منخفض التكلفة عبر طرح حلول تمويلية بأسعار فائدة لا تتعدى 3%، حتى يتمكن هذا القطاع الحيوي من النهوض بمسؤولياته في بناء الوطن وخلق فرص العمل للشباب، وهي القضية الأكثر إلحاحًا؛ إذ إنه رغم ما أطلقه البنك المركزي العُماني، مشكورًا، من مبادرات طموحة، إلّا أنَّ القطاع الخاص يترقب المزيد من التفاصيل والآليات للاستفادة من هذه المبادرات الطموحة، والتي تعوِّل عليها الشركات كثيرًا من أجل تحقيق الانتعاشة المأمولة. ومن بين الحلول التي نأمل اتخاذها لإنعاش الاقتصاد، ضرورة مواصلة زيادة رأس مال بنك التنمية؛ حيث إن الزيادة التي شهدها خلال العام الماضي، يجب أن تتبعها زيادات تُسهم في تذليل عقبات التمويل وإتاحته أمام أكبر عدد ممكن من المستثمرين، وأداء دوره الوطني كمموِّل للمشاريع التنموية. كما يتعين العمل على تحديث التشريعات بصفة مستمرة، لضمان مواكبتها للمتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية، والتي بدأت تؤثر على اقتصادنا، دون أن يكون لنا أي علاقة بها. ولا شك كذلك أن أي قرار اتُخذ خلال الفترة الأخيرة، لم يخدم الصالح العام ولا بيئة الاستثمار، يجب التراجع عنه فورًا، والبحث عن حلول بديلة، لا سيما القرارات الشعبوية التي لم تهدف إلّا إلى إلقاء مزيد من الأعباء على القطاع الخاص، ولا سيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي أُجزمُ أنها إذا ما كانت مُستعدة بالدرجة الكافية لتوظيف الباحثين لسارعت إلى ذلك دون تردد. وهُنا، أهمسُ في أذن الشباب وكذلك المسؤولين، بأهمية تغيير ثقافة العمل، من خلال تبنِّي مفهوم مُغاير للعمل، يقوم على تقديس قيمة العمل، وترسيخ المهنية والجودة في كل تفاصيل أعمالنا. كما أُسدي النصح إلى أصحاب الأعمال- وتحديدًا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة- بأن يبتعدوا عن ثقافة العمل الريعي الذي لا مجهود فيه، وأن يتجهوا إلى العمل القائم على العطاء اليومي والإنتاجية، وهذا يتطلب الكف عن تمجيد التفكير السلبي والاتكالية، كما يجب على أصحاب المشاريع أن يبتعدوا عن المظاهر والشكليات والزخرفة التي لا تُضيف لمعنى الحياة أي جديد. وفي هذا السياق، ومن موقعي في عالم الإعلام، أؤكد أنَّ لوسائل الإعلام دور فاعل للغاية في إبراز قصص النجاح التي تقوم على الجدية والمثابرة في العمل، ولنا مثال بتجربة شباب نزوى في تطوير "حارة العقر" وتحويلها من خرابات إلى نقاط جذب سياحي، وفرص عمل للشباب، ونأمل أن تكون نموذجًا يُحتذى به في تطوير المواقع التراثية والاستفادة منها في تحقيق عائد اقتصادي مُجدٍ في مختلف الولايات. وعندما نتحدث عن الولايات والمُحافظات، لا بُد من الإشارة إلى أدوار المُحافظين في إدارة الملف الاقتصادي وتطوير اقتصاد المحافظات بما يُلبي الطموحات؛ حيث إنَّ كل محافظة تتمتع بميزة تنافسية، ما يُسهم في خلق التكامل الاقتصادي بين المحافظات. وفي هذا الإطار، لا بُد من بذل كل الجهود من أجل التخلص من البيروقراطية، والتركيز على الإنجاز الحقيقي، وأن يخرج المسؤولون من مكاتبهم وينتقلون إلى أرض الواقع لمتابعة أنشطة مؤسساتهم التي يُديرونها، خاصةً وأنا نُعاني من تضخم الإجراءات الإدارية على حساب الإنجاز. وعلى صعيد التعاون الدولي، نؤكد مُجددًا أنَّ الدبلوماسية الاقتصادية التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- تُحقق نجاحات غير مسبوقة، لكن في الوقت نفسه على الوزارات المعنية الاستفادة من مذكرات التفاهم واتفاقيات التعاون التي نوقعها مع مختلف الدول، وكذلك الحال بالنسبة للتحالفات الاقتصادية الدولية، من خلال تعزيز التعاون مع عدد من المجموعات والتحالفات الدولية، مثل مجموعة آسيان، و"بريكس" وغيرها، لتعميق الأداء الاقتصادي. ويبقى القول.. إنَّ مواجهة التحديات ضرورة وطنية، تستلزم تكاتف الجهود والسعي الحثيث من أجل تنفيذ مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"، وذلك يتطلب إرادة صلبة وجدية في العمل، من أجل بناء اقتصادنا، خاصة وأنَّه صغير نسبيًا، ما يعني وجود فرص هائلة من أجل التطوير والنهوض الحقيقي به، لضمان تنوُّعه واستدامته.