logo
رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم

رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم

الجزيرةمنذ 16 ساعات
عندما بلغت السابعة من عمري، بدأت ألتقط ملامح هذا العالم الكبير، وشرعت أميّز بين الوجوه، والأصوات، والأنماط التي تسكنها الأرواح.
كان والدي رجلًا واسع العلاقات، يتنقّل بين طبقات المجتمع كأنه يجوب خرائط داخلية للبشر: علماءَ، مفكرين، رجالِ أعمال، فلاحين، عمّالٍ، فقراءَ وأثرياءٍ، من شتّى المدن والقوميات.
وكنت أنا، الطفل المراقب بصمت، أندهش أمام تنوّع العقول، وتناقض النفسيات، واختلاف طريقة كل إنسان في النظر إلى الحياة.
ومع مرور السنوات وتجوالي في بلدان وقارات وثقافات متعددة، تبلورت لدي إجابة من زاويتين أساسيتين: العقل والروح.
فالعقل هو البوصلة التي ترسم خريطة الواقع، والروح هي المحرك الذي يحدد اتجاه السير.
لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة
ومن هذا التقاطع، وتلك الملاحظات المتراكمة منذ الطفولة، استخلصت خمسة أنماط شائعة للعقلية، تحدد نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، وتكشف عن معدن أصحابها:
عقلية ريادي الأعمال: هو ليس مجرد رجل أعمال، بل إنه روح تسعى لتضيف معنى للحياة؛ لا يرى المال كغاية، بل كوسيلة لزرع فكرة، أو إنجاح مشروع، أو تغيير مجتمع.. يؤمن أن الإنسان قيمة، وأن كل علاقة شراكة روحية قبل أن تكون مصلحة مادية.
هذا العقل خلاق، مبتكر، يعيش من أجل أن يترك أثرًا، لا مجرد رقم في حساب.
عقلية السمسار: أخطر العقليات، لأنه يتغذى على كل شيء.. "ذهابًا وإيابًا يأخذ"، مقياسه الوحيد في الحياة: كم استفدت؟ كم قبضت؟ كم أخذت عمولة؟ كل علاقة عنده مشروع للاستغلال، وكل شخص فرصة للربح.
يعيش بنهج "لا أترك شيئًا يفلت مني"، حتى لو اضطر أن يأخذ من فمك لقمة خبزك. كثير منهم يرتدون زيّ الموظفين، لكن في داخلهم تاجر عمولات لا يشبع.
إعلان
الحياة عنده دفتر حسابات مستمر، والعاطفة فيها بند غير مدرج، والحياة صفقة مستمرة، والإنسانية أمر ثانوي.
عقلية الطبيب (النخبوي): لا يُشترط أن يكون طبيبًا فعليًّا، بل يحمل عقلية النخبة المتفوقة التي تؤمن أن العالم لا يفهم، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة والعلم والجدارة بالقيادة.
يرى نفسه القائد الطبيعي والبقية توابع، يميل للتعالي والانغلاق، ويجد صعوبة في التواصل البشري الطبيعي، يعتقد أن المكان الطبيعي له هو الأعلى، حتى لو كان في غرفة صغيرة.
عقلية الموظف (الأمني/ العسكري): قاسية في التسمية، لكنها تصف نوعًا من البشر يعيش في قوقعة الجهل، يغلفه طبع عشائري، لا يقبل النقاش، فوضوي في سلوكه، يرفض التغيير، ويرى العالم من فتحة ضيقة مليئة بالحكم الموروثة والخرافات. وجوده في المجتمع ضجيج بلا أثر.
الرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا
تأمل في معنى الرزق: امتحان كل معدن
رغم تباين هذه العقليات في أهدافها وطرقها، فإنها غالبًا ما تلتقي عند مفترق واحد ضيّق: مفهوم الرزق.
فغالبًا ما يحصرون الرزق في المال أو الملك أو السلطة، وهنا يكمن التناقض أو القصور؛ فالمال قد يكون فتنة لا نعمة، وقوة العقل قد تكون استدراجًا لا تفضيلًا، والعلاقات والذكاء والنفوذ.. كلها أمانات لا امتيازات، وإن اختبار كل عقلية ومعدن يكمن في كيفية تعامله مع ما أُوتي.
فالرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا، أن يبارَك في وقتك وعملك، أن يُكتب لك أثرٌ طيبٌ في الحياة. فلا تظنن أن كثرة المال دليل على الأفضلية؛ فكل إنسان يُختبر بما أُعطي، واختباره الحقيقي هو في معدن عقليته وروحه، ورب العالمين لا يسأل الناس سواسية، بل يسألهم على قدر طاقتهم، وما استخدموا فيه بوصلة عقلهم ومحرك روحهم.
لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة. والسؤال عن معدننا ليس مجرد فضول، بل هو اختبار لمسارنا وعلاقتنا بما رُزقنا. فاسأل نفسك بصدق: من أي معدن أنا؟ وأي عقل يسكنني؟ وما هو الرزق الذي أسعى إليه حقًا؟ وهل ما أنا عليه، هو ما أريد أن أكونه فعلًا؟
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم
رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم

الجزيرة

timeمنذ 16 ساعات

  • الجزيرة

رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم

عندما بلغت السابعة من عمري، بدأت ألتقط ملامح هذا العالم الكبير، وشرعت أميّز بين الوجوه، والأصوات، والأنماط التي تسكنها الأرواح. كان والدي رجلًا واسع العلاقات، يتنقّل بين طبقات المجتمع كأنه يجوب خرائط داخلية للبشر: علماءَ، مفكرين، رجالِ أعمال، فلاحين، عمّالٍ، فقراءَ وأثرياءٍ، من شتّى المدن والقوميات. وكنت أنا، الطفل المراقب بصمت، أندهش أمام تنوّع العقول، وتناقض النفسيات، واختلاف طريقة كل إنسان في النظر إلى الحياة. ومع مرور السنوات وتجوالي في بلدان وقارات وثقافات متعددة، تبلورت لدي إجابة من زاويتين أساسيتين: العقل والروح. فالعقل هو البوصلة التي ترسم خريطة الواقع، والروح هي المحرك الذي يحدد اتجاه السير. لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة ومن هذا التقاطع، وتلك الملاحظات المتراكمة منذ الطفولة، استخلصت خمسة أنماط شائعة للعقلية، تحدد نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، وتكشف عن معدن أصحابها: عقلية ريادي الأعمال: هو ليس مجرد رجل أعمال، بل إنه روح تسعى لتضيف معنى للحياة؛ لا يرى المال كغاية، بل كوسيلة لزرع فكرة، أو إنجاح مشروع، أو تغيير مجتمع.. يؤمن أن الإنسان قيمة، وأن كل علاقة شراكة روحية قبل أن تكون مصلحة مادية. هذا العقل خلاق، مبتكر، يعيش من أجل أن يترك أثرًا، لا مجرد رقم في حساب. عقلية السمسار: أخطر العقليات، لأنه يتغذى على كل شيء.. "ذهابًا وإيابًا يأخذ"، مقياسه الوحيد في الحياة: كم استفدت؟ كم قبضت؟ كم أخذت عمولة؟ كل علاقة عنده مشروع للاستغلال، وكل شخص فرصة للربح. يعيش بنهج "لا أترك شيئًا يفلت مني"، حتى لو اضطر أن يأخذ من فمك لقمة خبزك. كثير منهم يرتدون زيّ الموظفين، لكن في داخلهم تاجر عمولات لا يشبع. إعلان الحياة عنده دفتر حسابات مستمر، والعاطفة فيها بند غير مدرج، والحياة صفقة مستمرة، والإنسانية أمر ثانوي. عقلية الطبيب (النخبوي): لا يُشترط أن يكون طبيبًا فعليًّا، بل يحمل عقلية النخبة المتفوقة التي تؤمن أن العالم لا يفهم، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة والعلم والجدارة بالقيادة. يرى نفسه القائد الطبيعي والبقية توابع، يميل للتعالي والانغلاق، ويجد صعوبة في التواصل البشري الطبيعي، يعتقد أن المكان الطبيعي له هو الأعلى، حتى لو كان في غرفة صغيرة. عقلية الموظف (الأمني/ العسكري): قاسية في التسمية، لكنها تصف نوعًا من البشر يعيش في قوقعة الجهل، يغلفه طبع عشائري، لا يقبل النقاش، فوضوي في سلوكه، يرفض التغيير، ويرى العالم من فتحة ضيقة مليئة بالحكم الموروثة والخرافات. وجوده في المجتمع ضجيج بلا أثر. الرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا تأمل في معنى الرزق: امتحان كل معدن رغم تباين هذه العقليات في أهدافها وطرقها، فإنها غالبًا ما تلتقي عند مفترق واحد ضيّق: مفهوم الرزق. فغالبًا ما يحصرون الرزق في المال أو الملك أو السلطة، وهنا يكمن التناقض أو القصور؛ فالمال قد يكون فتنة لا نعمة، وقوة العقل قد تكون استدراجًا لا تفضيلًا، والعلاقات والذكاء والنفوذ.. كلها أمانات لا امتيازات، وإن اختبار كل عقلية ومعدن يكمن في كيفية تعامله مع ما أُوتي. فالرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا، أن يبارَك في وقتك وعملك، أن يُكتب لك أثرٌ طيبٌ في الحياة. فلا تظنن أن كثرة المال دليل على الأفضلية؛ فكل إنسان يُختبر بما أُعطي، واختباره الحقيقي هو في معدن عقليته وروحه، ورب العالمين لا يسأل الناس سواسية، بل يسألهم على قدر طاقتهم، وما استخدموا فيه بوصلة عقلهم ومحرك روحهم. لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة. والسؤال عن معدننا ليس مجرد فضول، بل هو اختبار لمسارنا وعلاقتنا بما رُزقنا. فاسأل نفسك بصدق: من أي معدن أنا؟ وأي عقل يسكنني؟ وما هو الرزق الذي أسعى إليه حقًا؟ وهل ما أنا عليه، هو ما أريد أن أكونه فعلًا؟

التربية في العصر الرقمي.. أي جيل نريد؟
التربية في العصر الرقمي.. أي جيل نريد؟

الجزيرة

time٠٢-٠٧-٢٠٢٥

  • الجزيرة

التربية في العصر الرقمي.. أي جيل نريد؟

تلعب التربية دورًا مهمًا وخطيرًا في حياة الأمم، فهي أداة المجتمع للمحافظة على مقوماته الأساسية، وأساليب حياته وأنماط التفكير الخاصة به، كما تعمل على تشكيل وعي المواطنين، والكشف عن طاقاتهم ومواردهم واستثمارها. وكثيرًا ما نسمع عن مواضيع عديدة يتم تداولها على نطاق واسع حول موضوع التربية وتحدياتها، حتى أصبحت تناقَش حولها الأطروحات على جميع المستويات، ومن هذه المواضيع: التكنولوجيا وصراع الأجيال. تحديات المراهَقة وخصوصياتها التربوية. تأثير البيئة الاجتماعية على ثقافة وسلوك الطفل. الإنترنت وتفكك نظام الأسرة. سوء استخدام التكنولوجيا وتداعيات العولمة على الطفل. التربية الأسرية والتوازن النفسي للطفل. العنف والإهمال الأسري والمستوى الدراسي. إلى غير ذلك من المواضيع الأخرى ذات الأهمية والعلاقة بمسألة تربية وتنشئة الأجيال، التي تحتاج منا إلى وقفة صادقة وجادة، نبحث من خلالها عن إجابات وحلول نابعة من قيمنا وانتمائنا الوطني والأخلاقي، لنضع بعد ذلك مخططًا عمليًا شاملًا لأهم التحديات التربوية الموجودة في البيئة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وسبل التعامل معها بما يحقق غايات التربية الحسنة والمتوازِنة. علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن هنا، ينبغى التنبيه إلى أهمية الدورات التأهيلية في الإرشاد الأسري ومهارات الحياة في تكوين الخلية الأولى للمجتمع (الأسرة)؛ وفق أسس منهجية سليمة قائمة على التكافل الأسري، والوعي الأبوي بأهمية التربية في تحقيق التوازن النفسي، ومحاربة الآفات الاجتماعية والمشكلات الدراسية. وفي هذا السياق يطيب لي أن ألفت عناية القراء إلى توجيه نبوي كريم، قدّم من خلاله النبي- صلى الله عليه وسلم- نصيحةً ذهبيةً لذلك الصحابي الذي قدم هدية لأحد أبنائه دون البقية، فرفضت زوجته ذلك وطلبت منه أن يستفتي النبيَّ- عليه الصلاة والسلام- فذهب إليه فسأله، فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "هل أعطيت سائر ولدِك مثل هذا؟"؛ قال له الأب: لا. فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". [رواه البخاري ومسلم]. وهذه ملاحظة قد تبدو لدى كثير من الآباء بسيطة وهامشية، لكنها بالغة الأهمية في تحقيق التوازن السلوكي والنفسي للأبناء، وتنشئتهم على قيم العدل والمحبة والتعاون، وتحضيرهم لتحمل المسؤوليات المهنية والاجتماعية مستقبلًا، وجعلهم لبنة طيبة في بناء مجتمع صالح ومثمر، فغِراس الأمس هي حصاد الغد. ومن الأدبيات التربوية التي يجب على الوالدين مراعاتها، خاصة في زمن التكنولوجيات والتواصل العالمي، الانتباه إلى مسألة الخصوصيات الثقافية لجيل اليوم، فليس من الحكمة أن نتعامل معه وفق الأساليب التربوية التي كانت صالحة في سياقات زمنية سابقة، فالوعي بتحديات الحاضر، والتحكم في مهارات التربية الحديثة، ذلك يجنبنا الوقوع في مشكلة "صراع الأجيال"، مع ما تحمله من مخاطر حقيقية تهدد أمن المجتمع وتنسف هويته، وتفصل الخلف عن السلف وجدانيًا ووجوديًا. ومن هذه المخاطر: الجرائم الإلكترونية كالقرصنة والابتزاز الإلكتروني وتجنيد الأحداث (أي الأطفال دون سن الرشد) لأغراض إجرامية، والدخول للمواقع المشبوهة، وإدمان الألعاب الإلكترونية الخطيرة التي أودت بحياة كثير من أبنائنا، والتأثر بالمواقع التي تروِّج للإلحاد والانحلال الأخلاقي، أو استنزاف الأوقات الكثيرة في مواقع التواصل كالتيك توك، وقضاء أغلبها في تصفح المواضيع غير الجادة واستهلاك مادة التفاهة. ومن هنا يتبين لنا مدى أهمية القاعدة التربوية التي تُنسب إلى الخليفة الراشد، سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، القائلة: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم؛ فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". وهو لا يقصد التجرد من القيم الأخلاقية الصالحة التي ورثها الخلف عن السلف، بل يجب مراعاة متطلبات الواقع الحديث وتطوراته بما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة السمحة والفطرة السليمة. وفي هذا الصدد، يُعتبر أسلوب المرافقة الوالِدِيَّة من أهم الأساليب التربوية الحديثة لاحتواء الطفل، ومعرفة حاجاته، وتوجيهه بطريقة ذكية وحكيمة، وذلك من خلال مهارة الإصغاء والتفاعل والحوار، ومناقشة المظاهر الاجتماعية المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها، بقصد إقناع الطفل بصفة طوعية، بعيدًا عن أساليب الإكراه والزجر والمنع التعسفي، فكما هو معلوم: "كل ممنوع مرغوب". ففي عصر الانفتاح العالمي، لا يمكن ضبط سلوكات الطفل ومراقبته باستمرار في الشارع والمدرسة، ومع الرفاق، وفي الإنترنت والهاتف الذكي، بل يجب على المربي أن يستعمل أساليب تربوية ذكية، تقوم على المحبة والمودة والصحبة الصادقة والقدوة الحسنة، واعتماد الوالدين أسلوب القصص التربوية الهادفة، كما يجب ألا يقتصر اهتمامهم على الجوانب المادية فحسب، بل لا بد أن يتعداه إلى الجوانب الأخلاقية والمعرفية والفكرية. وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد ختامًا: ما زلت أُؤمن إيمانًا قاطعًا أن أكبر تحدٍّ يواجه الآباء في العصر الحالي هو صناعة جيل رسالي صالح، نافعٍ لأمته، مخلصٍ لوطنه، وَفِيٍّ لقيمه، بارٍّ بالوالدين في الدنيا والآخرة، مصداقًا لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" [رواه مسلم]. إعلان هكذا نبني الجيل القيادي القادم، الذي يسهم في تنمية بلده ومجتمعه وبناء حضارته.. الجيل الأمين الفهيم الرزين، الذي يحسن تقدير مواطن الخير فيسبق إليها، وتقدير مواطن الشر فيفر منها. هو جيل يؤتمن على أمجاد الآباء، ويحافظ على رسالة الشهداء، ويواصل مسيرة التشييد والبناء، جيل متعلم يسابق في مضمار المعرفة فَيَبُزُّ أقرانه، ويسمو بأفكاره وأخلاقه فيرسم أبهى صور الإبداع والتميز. جيل يحيا لهموم أمته، واعٍ بالتحديات التي تواجهها، والدسائس التي تحاك لها، جيل كيس فطن لا تخدعه المؤامرات، ولا ينساق وراء الإشاعات، ولا تلوث عقله الملهيات، جيل يَألم لألم فلسطين وغزة وبورما والصومال، ويشغل باله ما يكابده إخوانه في الدين والإنسانية من ظلم وأسى وحرمان، جيل حريص على تقديم الإضافة النوعية، ليترك من ورائه أثرًا طيبًا وفضيلة بهيَّة، يذكره بها أهل الأرض، ويسمو بها في السماء درجات عَلِيَّة. وفق الله الآباء لما فيه خير البلاد وصلاح العباد، وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد.

مرايا معطوبة.. تعكس المظهر وتخفي الجوهر
مرايا معطوبة.. تعكس المظهر وتخفي الجوهر

الجزيرة

time٢٠-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

مرايا معطوبة.. تعكس المظهر وتخفي الجوهر

في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتداخل فيه القيم مع المغريات، باتت ثقافة الاستهلاك سيدًا متوَّجًا يوجّه سلوك الأفراد والمجتمعات، ويعيد تشكيل ضمائرهم ووعيهم، وحتى مشاعرهم. فلم تعد الحاجة أمّ الاختراع، بل أصبحت الرغبة سيّدة القرار، ولم يعد الإنسان يقيس نفسه بما يملك من فضائل أو مبادئ، بل بما يملك من أشياء. لقد غزت ثقافة الاستهلاك كل زاوية في حياة الناس، وفرضت منطقها الجديد: "كن كما تملك، لا كما تكون"، وهذا المنطق -وإن بدا في ظاهره عصريًّا ومبهرًا، فإنه يحمل في جوهره تحوّلًا خطيرًا في طبيعة الإنسان، وفي علاقته بذاته والآخرين. فلم يعد المظهر وسيلة للتعبير عن النّفس، بل أصبح غاية في حد ذاته، وتحوّل السعي خلف الموضة والرفاهية من خيار إلى واجب، ومن ترف إلى ضرورة. المظهر أولًا.. والجوهر إلى النسيان في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك، أصبح الاهتمام بالمظهر عبادة العصر، وتحوّلت المقاييس من عمق الفكر إلى ماركة الحذاء، ومن دفء القلب إلى بريق الهاتف المحمول! لم يعد الإنسان يُقاس بما يحمل من حكمة أو عطف، بل بساعة يضعها على معصمه، أو سيارة يركبها.. هذه التحولات لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج آلة دعائية جبارة، تُقنِع الناس ليل نهار بأن السعادة تُشترى، وبأن القيمة تُكتسب من الخارج لا من الداخل. تحت هذا التأثير، تبلدت المشاعر، وانكمشت إنسانية الناس، وصرنا إلى زمن تُرى فيه المأساة على شاشة الهاتف، ثم يُمر عليها كما يمر المرء على إعلان ترويجي؛ صار الحزن شعورًا ثقيلًا لا يناسب جدولَ أعمال مزدحمًا بالصورة والتسوق والظهور. لقد أثرت ثقافة الاستهلاك على قدرة الإنسان على الإحساس بالآخر، والتفاعل مع ألمه، لأنه بات يعتبر المأساة استهلاكًا عاطفيًّا لا فائدة منه. المعيشة كحلبة سباق واحدة من أكثر الظواهر خطورة، التي كرّستها ثقافة الاستهلاك، هي نمط الحياة التنافسي المتسارع؛ فلم يعد كافيًا للمرء أن يعيش ضمن إمكاناته، بل بات ملزمًا بمجاراة من حوله في نمط حياتهم، حتى وإن كان ذلك يفوق قدرته المالية. وهنا تبدأ المعركة الأخلاقية بين الرضا بالقليل، أو اللجوء إلى الوسائل الملتوية لتحقيق المزيد. كثيرون اليوم لا يرضون بدخلهم، ليس لأنه لا يكفي حاجاتهم، بل لأنه لا يفي بمتطلبات الصورة التي رسموها لأنفسهم. ولأجل تلك الصورة، يبرر البعض الكذب والغش والاحتيال، ويُسوّغ السرقة، بل ويُجمّل الخيانة! كل ذلك من أجل الحفاظ على وهم النجاح الذي تبيعه ثقافة الاستهلاك تحت اسم "المظهر الاجتماعي". في السابق، كان المنطق يُبنى على أسس أخلاقية وإنسانية، أما اليوم، فتُعاد برمجته وفق معادلة استهلاكية: "إن كان يُباع، فهو جيد؛ وإن لم يكن، فهو لا يستحق النظر"! معايير السوق لا الضمير إن أخطر ما تفعله ثقافة الاستهلاك هو إعادة تشكيل منطق الناس، وتوجيه بوصلتهم الأخلاقية؛ فالأمر لم يعد متعلقًا فقط بما نشتريه أو نلبسه، بل بكيفية فهمنا لما هو صواب وما هو خطأ. في ظل هذه الثقافة، أصبح الحق مرتبطًا بالقوة الشرائية، والباطل هو العجز عن المواكبة.. بات الناس يقيسون الأمور بمعايير السوق لا بمعايير الضمير. في السابق، كان المنطق يُبنى على أسس أخلاقية وإنسانية، أما اليوم، فتُعاد برمجته وفق معادلة استهلاكية: "إن كان يُباع، فهو جيد؛ وإن لم يكن، فهو لا يستحق النظر"! بهذه البساطة، يُختزل التعقيد الإنساني، وتُطمس الفطرة، ويُستبدل العقل بالبطاقة الائتمانية. الأثرياء الحقيقيون لا يكترثون والمفارقة العجيبة أنّ هذا اللهاث وراء المظاهر لا يحدث غالبًا في الطبقات الثرية فعلًا، بل في الطبقات المتوسطة التي تمثّل العمود الفقري للمجتمعات. إعلان هؤلاء الناس الذين يُشقون أنفسهم ليلًا ونهارًا، ويستهلكهم التعب، لا لشيء إلا لمواكبة نمط حياة مصطنع.. قد يستدين أحدهم ليشتري ساعة فاخرة، أو هاتفًا حديثًا، أو حتى سيارة لا تتناسب مع دخله وغير اقتصادية، فقط لمواكبة نمط الحياة الذي يسعى إليه. إنه نزيف خفي للكرامة والطمأنينة، سببه وهم الجماعة وضغط المجتمع، حيث لا يُقاس الإنسان بما يُنجز أو بما يشعر، بل بما يُظهر. والأسوأ أن هذه المحاكاة تنصبّ على صورة نمطية مشوّهة، بينما الواقع يُظهر أن الأغنياء الحقيقيين لا يكترثون لمثل هذه المظاهر الزائفة، فتراهم يرتدون ملابس عادية، ويعيشون ببساطة محسوبة، لأنهم لا يحتاجون لإثبات شيء لأحد. أما المنهكون في دروب الاستهلاك، فهم الذين يقعون في فخ "الاستعراض"، فيغرقون في الديون لا لشيء إلا ليبدو عليهم الثراء، دون أن يملكوه حقًّا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store