
التربية في العصر الرقمي.. أي جيل نريد؟
وكثيرًا ما نسمع عن مواضيع عديدة يتم تداولها على نطاق واسع حول موضوع التربية وتحدياتها، حتى أصبحت تناقَش حولها الأطروحات على جميع المستويات، ومن هذه المواضيع:
التكنولوجيا وصراع الأجيال.
تحديات المراهَقة وخصوصياتها التربوية.
تأثير البيئة الاجتماعية على ثقافة وسلوك الطفل.
الإنترنت وتفكك نظام الأسرة.
سوء استخدام التكنولوجيا وتداعيات العولمة على الطفل.
التربية الأسرية والتوازن النفسي للطفل.
العنف والإهمال الأسري والمستوى الدراسي.
إلى غير ذلك من المواضيع الأخرى ذات الأهمية والعلاقة بمسألة تربية وتنشئة الأجيال، التي تحتاج منا إلى وقفة صادقة وجادة، نبحث من خلالها عن إجابات وحلول نابعة من قيمنا وانتمائنا الوطني والأخلاقي، لنضع بعد ذلك مخططًا عمليًا شاملًا لأهم التحديات التربوية الموجودة في البيئة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وسبل التعامل معها بما يحقق غايات التربية الحسنة والمتوازِنة.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ومن هنا، ينبغى التنبيه إلى أهمية الدورات التأهيلية في الإرشاد الأسري ومهارات الحياة في تكوين الخلية الأولى للمجتمع (الأسرة)؛ وفق أسس منهجية سليمة قائمة على التكافل الأسري، والوعي الأبوي بأهمية التربية في تحقيق التوازن النفسي، ومحاربة الآفات الاجتماعية والمشكلات الدراسية.
وفي هذا السياق يطيب لي أن ألفت عناية القراء إلى توجيه نبوي كريم، قدّم من خلاله النبي- صلى الله عليه وسلم- نصيحةً ذهبيةً لذلك الصحابي الذي قدم هدية لأحد أبنائه دون البقية، فرفضت زوجته ذلك وطلبت منه أن يستفتي النبيَّ- عليه الصلاة والسلام- فذهب إليه فسأله، فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "هل أعطيت سائر ولدِك مثل هذا؟"؛ قال له الأب: لا. فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". [رواه البخاري ومسلم].
وهذه ملاحظة قد تبدو لدى كثير من الآباء بسيطة وهامشية، لكنها بالغة الأهمية في تحقيق التوازن السلوكي والنفسي للأبناء، وتنشئتهم على قيم العدل والمحبة والتعاون، وتحضيرهم لتحمل المسؤوليات المهنية والاجتماعية مستقبلًا، وجعلهم لبنة طيبة في بناء مجتمع صالح ومثمر، فغِراس الأمس هي حصاد الغد.
ومن الأدبيات التربوية التي يجب على الوالدين مراعاتها، خاصة في زمن التكنولوجيات والتواصل العالمي، الانتباه إلى مسألة الخصوصيات الثقافية لجيل اليوم، فليس من الحكمة أن نتعامل معه وفق الأساليب التربوية التي كانت صالحة في سياقات زمنية سابقة، فالوعي بتحديات الحاضر، والتحكم في مهارات التربية الحديثة، ذلك يجنبنا الوقوع في مشكلة "صراع الأجيال"، مع ما تحمله من مخاطر حقيقية تهدد أمن المجتمع وتنسف هويته، وتفصل الخلف عن السلف وجدانيًا ووجوديًا.
ومن هذه المخاطر: الجرائم الإلكترونية كالقرصنة والابتزاز الإلكتروني وتجنيد الأحداث (أي الأطفال دون سن الرشد) لأغراض إجرامية، والدخول للمواقع المشبوهة، وإدمان الألعاب الإلكترونية الخطيرة التي أودت بحياة كثير من أبنائنا، والتأثر بالمواقع التي تروِّج للإلحاد والانحلال الأخلاقي، أو استنزاف الأوقات الكثيرة في مواقع التواصل كالتيك توك، وقضاء أغلبها في تصفح المواضيع غير الجادة واستهلاك مادة التفاهة.
ومن هنا يتبين لنا مدى أهمية القاعدة التربوية التي تُنسب إلى الخليفة الراشد، سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، القائلة: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم؛ فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". وهو لا يقصد التجرد من القيم الأخلاقية الصالحة التي ورثها الخلف عن السلف، بل يجب مراعاة متطلبات الواقع الحديث وتطوراته بما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة السمحة والفطرة السليمة.
وفي هذا الصدد، يُعتبر أسلوب المرافقة الوالِدِيَّة من أهم الأساليب التربوية الحديثة لاحتواء الطفل، ومعرفة حاجاته، وتوجيهه بطريقة ذكية وحكيمة، وذلك من خلال مهارة الإصغاء والتفاعل والحوار، ومناقشة المظاهر الاجتماعية المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها، بقصد إقناع الطفل بصفة طوعية، بعيدًا عن أساليب الإكراه والزجر والمنع التعسفي، فكما هو معلوم: "كل ممنوع مرغوب".
ففي عصر الانفتاح العالمي، لا يمكن ضبط سلوكات الطفل ومراقبته باستمرار في الشارع والمدرسة، ومع الرفاق، وفي الإنترنت والهاتف الذكي، بل يجب على المربي أن يستعمل أساليب تربوية ذكية، تقوم على المحبة والمودة والصحبة الصادقة والقدوة الحسنة، واعتماد الوالدين أسلوب القصص التربوية الهادفة، كما يجب ألا يقتصر اهتمامهم على الجوانب المادية فحسب، بل لا بد أن يتعداه إلى الجوانب الأخلاقية والمعرفية والفكرية.
وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد
ختامًا: ما زلت أُؤمن إيمانًا قاطعًا أن أكبر تحدٍّ يواجه الآباء في العصر الحالي هو صناعة جيل رسالي صالح، نافعٍ لأمته، مخلصٍ لوطنه، وَفِيٍّ لقيمه، بارٍّ بالوالدين في الدنيا والآخرة، مصداقًا لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" [رواه مسلم].
إعلان
هكذا نبني الجيل القيادي القادم، الذي يسهم في تنمية بلده ومجتمعه وبناء حضارته.. الجيل الأمين الفهيم الرزين، الذي يحسن تقدير مواطن الخير فيسبق إليها، وتقدير مواطن الشر فيفر منها.
هو جيل يؤتمن على أمجاد الآباء، ويحافظ على رسالة الشهداء، ويواصل مسيرة التشييد والبناء، جيل متعلم يسابق في مضمار المعرفة فَيَبُزُّ أقرانه، ويسمو بأفكاره وأخلاقه فيرسم أبهى صور الإبداع والتميز.
جيل يحيا لهموم أمته، واعٍ بالتحديات التي تواجهها، والدسائس التي تحاك لها، جيل كيس فطن لا تخدعه المؤامرات، ولا ينساق وراء الإشاعات، ولا تلوث عقله الملهيات، جيل يَألم لألم فلسطين وغزة وبورما والصومال، ويشغل باله ما يكابده إخوانه في الدين والإنسانية من ظلم وأسى وحرمان، جيل حريص على تقديم الإضافة النوعية، ليترك من ورائه أثرًا طيبًا وفضيلة بهيَّة، يذكره بها أهل الأرض، ويسمو بها في السماء درجات عَلِيَّة.
وفق الله الآباء لما فيه خير البلاد وصلاح العباد، وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
رحلة تأملية في طبائع البشر وأنماط عقولهم
عندما بلغت السابعة من عمري، بدأت ألتقط ملامح هذا العالم الكبير، وشرعت أميّز بين الوجوه، والأصوات، والأنماط التي تسكنها الأرواح. كان والدي رجلًا واسع العلاقات، يتنقّل بين طبقات المجتمع كأنه يجوب خرائط داخلية للبشر: علماءَ، مفكرين، رجالِ أعمال، فلاحين، عمّالٍ، فقراءَ وأثرياءٍ، من شتّى المدن والقوميات. وكنت أنا، الطفل المراقب بصمت، أندهش أمام تنوّع العقول، وتناقض النفسيات، واختلاف طريقة كل إنسان في النظر إلى الحياة. ومع مرور السنوات وتجوالي في بلدان وقارات وثقافات متعددة، تبلورت لدي إجابة من زاويتين أساسيتين: العقل والروح. فالعقل هو البوصلة التي ترسم خريطة الواقع، والروح هي المحرك الذي يحدد اتجاه السير. لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة ومن هذا التقاطع، وتلك الملاحظات المتراكمة منذ الطفولة، استخلصت خمسة أنماط شائعة للعقلية، تحدد نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، وتكشف عن معدن أصحابها: عقلية ريادي الأعمال: هو ليس مجرد رجل أعمال، بل إنه روح تسعى لتضيف معنى للحياة؛ لا يرى المال كغاية، بل كوسيلة لزرع فكرة، أو إنجاح مشروع، أو تغيير مجتمع.. يؤمن أن الإنسان قيمة، وأن كل علاقة شراكة روحية قبل أن تكون مصلحة مادية. هذا العقل خلاق، مبتكر، يعيش من أجل أن يترك أثرًا، لا مجرد رقم في حساب. عقلية السمسار: أخطر العقليات، لأنه يتغذى على كل شيء.. "ذهابًا وإيابًا يأخذ"، مقياسه الوحيد في الحياة: كم استفدت؟ كم قبضت؟ كم أخذت عمولة؟ كل علاقة عنده مشروع للاستغلال، وكل شخص فرصة للربح. يعيش بنهج "لا أترك شيئًا يفلت مني"، حتى لو اضطر أن يأخذ من فمك لقمة خبزك. كثير منهم يرتدون زيّ الموظفين، لكن في داخلهم تاجر عمولات لا يشبع. إعلان الحياة عنده دفتر حسابات مستمر، والعاطفة فيها بند غير مدرج، والحياة صفقة مستمرة، والإنسانية أمر ثانوي. عقلية الطبيب (النخبوي): لا يُشترط أن يكون طبيبًا فعليًّا، بل يحمل عقلية النخبة المتفوقة التي تؤمن أن العالم لا يفهم، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة والعلم والجدارة بالقيادة. يرى نفسه القائد الطبيعي والبقية توابع، يميل للتعالي والانغلاق، ويجد صعوبة في التواصل البشري الطبيعي، يعتقد أن المكان الطبيعي له هو الأعلى، حتى لو كان في غرفة صغيرة. عقلية الموظف (الأمني/ العسكري): قاسية في التسمية، لكنها تصف نوعًا من البشر يعيش في قوقعة الجهل، يغلفه طبع عشائري، لا يقبل النقاش، فوضوي في سلوكه، يرفض التغيير، ويرى العالم من فتحة ضيقة مليئة بالحكم الموروثة والخرافات. وجوده في المجتمع ضجيج بلا أثر. الرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا تأمل في معنى الرزق: امتحان كل معدن رغم تباين هذه العقليات في أهدافها وطرقها، فإنها غالبًا ما تلتقي عند مفترق واحد ضيّق: مفهوم الرزق. فغالبًا ما يحصرون الرزق في المال أو الملك أو السلطة، وهنا يكمن التناقض أو القصور؛ فالمال قد يكون فتنة لا نعمة، وقوة العقل قد تكون استدراجًا لا تفضيلًا، والعلاقات والذكاء والنفوذ.. كلها أمانات لا امتيازات، وإن اختبار كل عقلية ومعدن يكمن في كيفية تعامله مع ما أُوتي. فالرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل في كيفية تعاملك مع ما أُعطيت. الرزق هو أن تُوفَّق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا، أن يبارَك في وقتك وعملك، أن يُكتب لك أثرٌ طيبٌ في الحياة. فلا تظنن أن كثرة المال دليل على الأفضلية؛ فكل إنسان يُختبر بما أُعطي، واختباره الحقيقي هو في معدن عقليته وروحه، ورب العالمين لا يسأل الناس سواسية، بل يسألهم على قدر طاقتهم، وما استخدموا فيه بوصلة عقلهم ومحرك روحهم. لكل منا معدن يتشكل منه، وعقل يغزل رؤيته، وروح تحرّك دوافعه.. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة. والسؤال عن معدننا ليس مجرد فضول، بل هو اختبار لمسارنا وعلاقتنا بما رُزقنا. فاسأل نفسك بصدق: من أي معدن أنا؟ وأي عقل يسكنني؟ وما هو الرزق الذي أسعى إليه حقًا؟ وهل ما أنا عليه، هو ما أريد أن أكونه فعلًا؟


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
اليوم العالمي للسكان.. بطالة الشباب تكشف عجز السياسات أمام الانفجار السكاني
في 11 من يوليو/تموز من كل عام، تحتفل دول العالم باليوم العالمي للسكان، وهو مناسبة تهدف إلى رفع مستوى الوعي بالتحديات والفرص التي يطرحها النمو السكاني المتسارع. ومنذ أن أقرته الأمم المتحدة عام 1989، أصبح هذا اليوم مناسبة سنوية لتذكير العالم بحجم المسؤولية المشتركة في إدارة قضايا السكان وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ارتفع عدد سكان العالم من 1.6 مليار نسمة في عام 1900 إلى أكثر من 8 مليارات نسمة اليوم. هذا النمو الهائل يُمارس ضغطا متزايدا على الموارد الطبيعية الحيوية كالغذاء والماء والطاقة، ويثير تساؤلات جوهرية بشأن قدرة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول، خاصة النامية منها، على استيعاب هذه الزيادة. 1.8 مليار شاب في العالم يأتي شعار الأمم المتحدة لهذا العام ليحمل عنوانا محوريا: "تمكين الشباب من بناء الأسر التي يطمحون إليها في عالم عادل ومفعم بالأمل"، في إشارة إلى أهمية توفير الفرص والموارد التي تسمح لهم بتأسيس مستقبل قائم على الكرامة والاستقلال. ويبلغ عدد الشباب في العالم اليوم نحو 1.8 مليار شخص تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عامًا، ما يجعلهم الجيل الأكبر في تاريخ البشرية. هذا الجيل يواجه تحديات مركبة تشمل انعدام الأمن الاقتصادي، والتفاوت بين الجنسين، وضعف أنظمة التعليم والصحة، بالإضافة إلى التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ والنزاعات المسلحة، بحسب تقارير الأمم المتحدة. ويُشدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش ، على أهمية دور الشباب بقوله: "إنهم لا يشكلون مستقبلنا فحسب؛ بل يطالبون بمستقبل عادل وشامل ومستدام". ورغم هذه الأهمية، فإن أبرز الحقوق المهدورة للشباب في كثير من المجتمعات تتمثل في غياب فرص العمل اللائقة، وهو ما يحرمهم من الاستقلال الاقتصادي، ويعوق قدرتهم على تأسيس أسر، ويدفع أعدادًا متزايدة منهم نحو الفقر والتهميش. 65 مليون شاب عاطل عن العمل ووفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية ، بلغ عدد الشباب العاطلين عن العمل في العالم عام 2024 نحو 65 مليون شاب وشابة، بينما وصلت نسبة غير المنخرطين في العمل أو التدريب إلى 20.4%. وقد بلغت البطالة ذروتها في عام 2020 خلال جائحة كورونا، حيث وصل عدد العاطلين إلى نحو 75 مليون شخص، بحسب منصة "ستاتيستا". وتُظهر الأرقام تفاوتا صارخا بين الدول ذات الدخول المختلفة؛ ففي الدول مرتفعة الدخل، يعمل 80% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 20% فقط في الدول منخفضة الدخل. الأخطر من ذلك أن ما يقرب من ثلثي الشباب العاملين في الدول الفقيرة يشغلون وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم التعليمية، ما يشير إلى فجوة واضحة بين المهارات المكتسبة واحتياجات سوق العمل، كما جاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي. الدول ذات الأداء الأسوأ: وهي الدول التي تسجل أعلى نسب للشباب خارج دوائر التعليم والعمل والتدريب (نييت NEET). وتعود هذه المعدلات المرتفعة إلى ظروف متنوعة، من بينها النزاعات المسلحة كما في الصومال وأفغانستان، أو هجرة الكفاءات إلى الخارج كما هو الحال في دول جزر المحيط الهادي. السويد هولندا آيسلندا مالطا حيث سجلت هذه الدول أدنى معدلات بطالة بين الشباب، بفضل أنظمة تعليمية متقدمة، وتدريب مهني فعّال، وسياسات تعليمية متصلة بسوق العمل. لكن حتى هذه الدول تواجه تحدياتها الخاصة، فاليابان على سبيل المثال، تشهد انكماشا سكانيا وشيخوخة متسارعة، مما يؤدي إلى انخفاض طبيعي في معدلات البطالة بين الشباب نتيجة تقلص حجم القوة العاملة، وهو ما يثير في المقابل قلقًا من نقص العمالة في المستقبل القريب. البطالة في العالم العربي.. أزمة متجذرة في المنطقة العربية، حيث يمثل الشباب غالبية السكان، تبرز أزمة البطالة كإحدى أكثر الأزمات إلحاحا وتعقيدا. ورغم تعافي بعض الاقتصادات العربية نسبيا من آثار الجائحة، فإن أسواق العمل لا تزال تعاني من ضعف هيكلي في خلق فرص العمل، وهو ما يعكس فجوة بين النمو الاقتصادي النظري والنمو الحقيقي في فرص التشغيل. وبحسب منظمة العمل الدولية، يُتوقع أن تبقى معدلات البطالة في المنطقة مرتفعة عند 9.8% خلال عام 2024، وهي نسبة أعلى من معدلات ما قبل الجائحة. وتُعزى هذه النسبة المرتفعة إلى عوامل مركبة تشمل عدم الاستقرار السياسي، والنزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، وضعف القطاع الخاص، والضغوط الديمغرافية المتصاعدة. وقدّرت المنظمة أن 17.5 مليون شخص في العالم العربي يبحثون عن عمل، مما رفع معدل فجوة الوظائف في عام 2023 إلى نحو 23.7%. تحديات هيكلية في أسواق العمل العربية ويشير تقرير "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024" إلى أن المشكلات لا تتعلق فقط بعدد الوظائف المتاحة، بل بجودتها أيضًا. فعدد كبير من الشباب يعمل في القطاع غير المنظم، دون حماية اجتماعية أو مزايا أساسية. وفي عام 2023، عانى نحو 7.1 ملايين عامل في المنطقة من فقر العمل، أي ما يعادل 12.6% من إجمالي القوى العاملة. وتُعزز هذه الأرقام المؤشرات على وجود خلل بنيوي في أنظمة التعليم وتنمية المهارات، حيث لا تزال المخرجات التعليمية غير متوافقة مع حاجات السوق. بل إن الشباب من خريجي الجامعات يواجهون معدلات بطالة مرتفعة نتيجة هذا التباين بين التأهيل والطلب. توصيات إستراتيجية لحل الأزمة وخلص التقرير إلى مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى تحويل النمو السكاني إلى فرصة اقتصادية، وأبرزها: إعلان تبني سياسات اقتصادية وقطاعية شاملة تعزز فرص التشغيل، وتستجيب بمرونة لاحتياجات السوق المحلي. دعم الصناعات التحويلية، وتطوير الخدمات ذات القيمة المضافة لخلق فرص عمل مستدامة وعالية الإنتاجية. إصلاح منظومة التعليم وربطها بالتدريب المهني، مع تعزيز التعلم المستمر مدى الحياة. تسهيل الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد الرسمي، وتحقيق العدالة بين الجنسين في سوق العمل. تحسين أنظمة معلومات سوق العمل، لتوفير بيانات دقيقة تساعد صناع القرار على تصميم سياسات أكثر استجابة للواقع. قنبلة سكانية أم فرصة تنموية؟ إن التحديات التي تطرحها الزيادة السكانية، خصوصًا في فئة الشباب، ليست أرقامًا مجردة، بل انعكاسات حية لواقع اجتماعي واقتصادي يواجه خطر الانفجار إن لم تُعالَج أسبابه البنيوية بجدية واستباق. ولذلك، فإن الاستثمار في الشباب -عبر التعليم الجيد، وتطوير المهارات، وتوفير فرص العمل اللائق- لم يعد خيارا تنمويا فحسب، بل أصبح ضرورة إستراتيجية لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فمجتمعات لا توفر لأجيالها الشابة ما يكفل لها العيش بكرامة، لن تستطيع مواكبة التحولات العالمية، ولا بناء مستقبل مستدام.


الجزيرة
٠٤-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
رحلة التعب والمشقة.. نساء يُجدن لغة الصبر والإرادة
الساعة الرابعة فجراً بتوقيت فلسطين، بدأ صوت المؤذن عالياً وواضحاً.. تستيقظ في الصباحات لكي ترتشف كوباً من الشاي مع كسرة خبز يابسة، قضمتان أو ثلاثة، تستعد حتى تقلها السيارة إلى وجهتها الجديدة للعمل في الأراضي الزراعية. فور وصولها إلى عملها ترتدي القفازات وتمسك المنجل بيمينها، وتبدأ بقص الزعتر المروي من سهول قريتها، قرية النصارية، شمال شرق مدينة نابلس. ألم من نوع آخر شهد جسد المرأة الخمسينية وخزات الشوك بأنواعة، والقفازات لم تحمِ يديها مرة من لدغة أفعى كانت تتربص تحت العشب الجاف، ولا من لسعة النحل في موعد إزهار المحاصيل، وهي لا تجد الحماية من ضربات الشمس الساطعة، التي تضرم في العقل جنوناً من نوع آخر، فتوقع بذاك الجسد المترامي ألماً من نوع آخر. وكي لا ننسى، هناك برد الشتاء الذي يتسلل إلى أطراف الأقدام، حيث العمل في ساعات النهار الباردة الباكرة؛ فيحبس الدم في مقدمة الأصابع تاركاً علامات التصبغ ظاهرة للعيان، وكأنك اضطررت لتسلق مكان عالٍ، والفرق هنا أن العمل أمر مجبولة عليه تلك الخمسينية، حيث لا حل آخر، وأن التسلق للأعالي هواية لا اضطرار. رغم ذلك، لا يكفي أن تعمل الشهر كله دون انقطاع، بل إنها تجد نفسها ملزمة للعمل في مناطق أخرى، حتى تتمكن من تلبية كافة الالتزامات المفروضة عليها. وعلى الرغم من أنها لا تحمل شهادة إتمام الثانوية العامة فإنها كانت مواظبة على تعليم أبنائها في المدارس، وبعد انتهاء دوام المدارس تقوم بجمع الحقائب المدرسية لتضع الماء والطعام.. بعد أن كانت الحقائب المدرسية أداة توضع في داخلها الكتب المدرسية، أضحت وسيلة لحفظ الكرامات، ووسيلة لكسب الرزق الممزوج بالتعب والمشقة. في الأغوار، تعمل الغالبية العظمى من السكان في الأراضي الزراعية؛ ما يجعلهم في عزلة عن العالم الخارجي وعن مجريات الأحداث، فهم مطالبون بالعمل في الخضراوات؛ حتى يتم توزيعها على مدن الضفة الغربية. الانعزال داخل المزارع جعلهم بعيدين كل البعد عن الانخراط في العمل السياسي، ولعل ساعات العمل المتواصلة تحرمهم من التمتع بالحياة اليومية. لا إجازات في عملها، تعمل في أجور متدنية لا تكفي الشهر بأكمله؛ والتغيب ليوم واحد يحرمها من الأجرة اليومية، انحناء الظهر يعطيها عمراً يتجاوز بكثير عمرها الحقيقي، وكل واحد من خطوط الوجه يحكي قصة ومعاناة، ولعل الخطوط ازدادت بعد وفاه زوجها، وفرض مسؤولية مضاعفة عليها. تقول الحاجة: "لا انتهاء من هذا العمل إلا بانتهاء العمر، لا قوانين واضحة تفرض حماية للنساء الأرامل، ونشاط الجمعيات الخيرية ضعيف وغير كافٍ، لا توجد حلول جذرية مفروضة على الأرض، تشعر بالتعب، مريض… عليك العمل". الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات عدو من نوع آخر بينما الحرب مستمرة منذ ما يقارب العامين، يواصل الاحتلال الإسرائيلي توسعه في أراضي الضفة الغربية على حساب السكان، لا يكفي أن تكون ظروف العمل صعبة على حاجة في الخمسين من عمرها.. الاحتلال يضيق الخناق والرزق على السكان؛ فمنذ بداية الحرب يستولي المستوطنون على أراضي السكان، ويحرمونهم من العمل في أراضيهم أو استصلاحها. مع كل صباح، على الحاجة الخمسينية أن تلتفت للإنارة القريبة من المزرعة خلسة، وأن تُبعد أحفادها حتى لا يعبروا إلى الطرف الآخر من الشارع، كي لا يعتدي عليهم المستوطنون، ممن استولوا على أراضي القرية عنوة، وحرموا السكان من حصاد محصول القمح في تلك الأراضي الوعرة، التي يصعب الوصول إليها. الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات، أولئك اللواتي يسطرن عنوان الصمود والتحدي، ولا يأبهن أكتب عنهن أم لا؛ فكل ما يعرفن العمل، وهنَّ يُجدن لغة الصبر والإرادة.