
رحلة التعب والمشقة.. نساء يُجدن لغة الصبر والإرادة
ألم من نوع آخر
شهد جسد المرأة الخمسينية وخزات الشوك بأنواعة، والقفازات لم تحمِ يديها مرة من لدغة أفعى كانت تتربص تحت العشب الجاف، ولا من لسعة النحل في موعد إزهار المحاصيل، وهي لا تجد الحماية من ضربات الشمس الساطعة، التي تضرم في العقل جنوناً من نوع آخر، فتوقع بذاك الجسد المترامي ألماً من نوع آخر.
وكي لا ننسى، هناك برد الشتاء الذي يتسلل إلى أطراف الأقدام، حيث العمل في ساعات النهار الباردة الباكرة؛ فيحبس الدم في مقدمة الأصابع تاركاً علامات التصبغ ظاهرة للعيان، وكأنك اضطررت لتسلق مكان عالٍ، والفرق هنا أن العمل أمر مجبولة عليه تلك الخمسينية، حيث لا حل آخر، وأن التسلق للأعالي هواية لا اضطرار.
رغم ذلك، لا يكفي أن تعمل الشهر كله دون انقطاع، بل إنها تجد نفسها ملزمة للعمل في مناطق أخرى، حتى تتمكن من تلبية كافة الالتزامات المفروضة عليها. وعلى الرغم من أنها لا تحمل شهادة إتمام الثانوية العامة فإنها كانت مواظبة على تعليم أبنائها في المدارس، وبعد انتهاء دوام المدارس تقوم بجمع الحقائب المدرسية لتضع الماء والطعام.. بعد أن كانت الحقائب المدرسية أداة توضع في داخلها الكتب المدرسية، أضحت وسيلة لحفظ الكرامات، ووسيلة لكسب الرزق الممزوج بالتعب والمشقة.
في الأغوار، تعمل الغالبية العظمى من السكان في الأراضي الزراعية؛ ما يجعلهم في عزلة عن العالم الخارجي وعن مجريات الأحداث، فهم مطالبون بالعمل في الخضراوات؛ حتى يتم توزيعها على مدن الضفة الغربية. الانعزال داخل المزارع جعلهم بعيدين كل البعد عن الانخراط في العمل السياسي، ولعل ساعات العمل المتواصلة تحرمهم من التمتع بالحياة اليومية.
لا إجازات في عملها، تعمل في أجور متدنية لا تكفي الشهر بأكمله؛ والتغيب ليوم واحد يحرمها من الأجرة اليومية، انحناء الظهر يعطيها عمراً يتجاوز بكثير عمرها الحقيقي، وكل واحد من خطوط الوجه يحكي قصة ومعاناة، ولعل الخطوط ازدادت بعد وفاه زوجها، وفرض مسؤولية مضاعفة عليها.
تقول الحاجة: "لا انتهاء من هذا العمل إلا بانتهاء العمر، لا قوانين واضحة تفرض حماية للنساء الأرامل، ونشاط الجمعيات الخيرية ضعيف وغير كافٍ، لا توجد حلول جذرية مفروضة على الأرض، تشعر بالتعب، مريض… عليك العمل".
الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات
عدو من نوع آخر
بينما الحرب مستمرة منذ ما يقارب العامين، يواصل الاحتلال الإسرائيلي توسعه في أراضي الضفة الغربية على حساب السكان، لا يكفي أن تكون ظروف العمل صعبة على حاجة في الخمسين من عمرها.. الاحتلال يضيق الخناق والرزق على السكان؛ فمنذ بداية الحرب يستولي المستوطنون على أراضي السكان، ويحرمونهم من العمل في أراضيهم أو استصلاحها.
مع كل صباح، على الحاجة الخمسينية أن تلتفت للإنارة القريبة من المزرعة خلسة، وأن تُبعد أحفادها حتى لا يعبروا إلى الطرف الآخر من الشارع، كي لا يعتدي عليهم المستوطنون، ممن استولوا على أراضي القرية عنوة، وحرموا السكان من حصاد محصول القمح في تلك الأراضي الوعرة، التي يصعب الوصول إليها.
الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات، أولئك اللواتي يسطرن عنوان الصمود والتحدي، ولا يأبهن أكتب عنهن أم لا؛ فكل ما يعرفن العمل، وهنَّ يُجدن لغة الصبر والإرادة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
العيزرية قرية مقدسية سميت على اسم نبي
العيزرية هي إحدى بلدات محافظة القدس، يحيط بها جدار الفصل الإسرائيلي من أغلب جهاتها، ويعزلها عن البلدات والمدن المحيطة بها. الموقع تقع قرية العيزرية على بعد كيلومترين شرق مدينة القدس. تحدّها من الجنوب بلدة أبوديس، ومن الغرب رأس العامود والمسجد الأقصى، وعلى أراضيها من ناحية الشّرق أقيمت مستوطنة معاليه أدوميم والخان الأحمر، ومن الشّمال قرية الزعيم ومن الشّمال الغربي جبل الزيتون. التسمية تقول بعض الروايات إن العيزرية سميت نسبة إلى نبي الله عزير، الّذي أماته الله 100 عام كما جاء في سورة البقرة في قوله تعالى "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259)". ويقال أيضا إنها سُميت بهذا الاسم نسبة إلى "لعازر"، وهو شخصية إنجيلية مرتبطة بقصة قيامة لعازر على يد السيد المسيح، وفق المعتقدات المسيحية، ولهذا السبب كانت القرية محطة للحجاج المسيحيين على مر العصور. وقد ذُكرت العيزريّة في الإنجيل والتوراة باسم بيت عنيا ومعناه بيت البؤس أو بيت التّمور. وكانت قرية العيزرية تعرف عند الفرنجة في العصر الوسيط باسم "بنتانينا سانت لازار". السكان حسب التعداد العام للسكان والمساكن الذي أجراه الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء عام 2023، بلغ عدد سكان العيزرية نحو 23 ألفا و692 نسمة، لكن عدد السكان الفعلي فيها يتجاوز 50 ألف نسمة. ويعود هذا الاختلاف إلى عدد السكان الذين يحملون الهوية الإسرائيلية (الزرقاء) ويرفضون التسجيل في الإحصاء الفلسطيني، لأن ذلك يؤثر على وضعيتهم القانونية وإقامتهم في القدس. التاريخ بدأ الوجود البشري في العيزرية منذ العصور الكنعانية، كما كشفت التنقيبات عن آثار رومانية وبيزنطية تعود للقرنين الرابع والخامس الميلاديين، من بينها بقايا أديرة وكنائس ومعاصر زيتون وأحواض مياه. في الفترة البيزنطية (القرن الرابع-القرن السابع ميلادي)، أصبحت البلدة مركزا دينيا مهما. إذ أمرت الإمبراطورة البيزنطية أوفيميا ببناء كنيسة على قبر العازر حوالي عام 480م، مما عزّز مكانتها بين مراكز الحج المسيحي في فلسطين، إلى جانب القدس وبيت لحم والناصرة. مع فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس عام 1187م، دخلت العيزرية ضمن السيطرة الإسلامية، وشهدت فترة من التجديد والبناء في إطار مشروع صلاح الدين لإعادة إحياء المدينة المقدسة ومحيطها بعد طرد الصليبيين منها. وفي الفترة الأيوبية (1187–1250م)، جُددت بعض الكنائس وحُوّلت أخرى إلى مساجد، وجرى الحفاظ على المعالم الدينية المسيحية الكبرى بدافع التعايش الديني الذي شجّع عليه صلاح الدين. كما أُقيمت في العيزرية منشآت تعليمية ودينية إسلامية، ومنها زوايا صوفية ومدارس شرعية لخدمة المجتمع المسلم المتنامي في المنطقة. وفي أعقاب النكبة عام 1948، وبعد اتفاقات الهدنة لعام 1949، أصبحت قرية العيزرية تحت الحكم الأردني، لكن بعد النكسة عام 1967 سقطت بيد الاحتلال الإسرائيلي. أهم معالم القرية من أبرز معالم القرية كنيسة أليعاز للاتين، التي تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وقد شيدت في عهد الإمبراطور قسطنطين، وهي الفترة التي تم الاعتراف فيها بالديانة المسيحية، وبدأ فيها بناء الكنائس في فلسطين. وتم اكتشاف بقايا أرضيات فسيفسائية في الساحة الرئيسية للدير تضم زخارف هندسية تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في كنيسة المهد بمدينة بيت لحم جنوب القدس، ويضم الموقع أيضا قبورا تعود للفترة البيزنطية. وتضم البلدة القديمة في العيزرية الآن بقايا 4 كنائس وخامسة شُيّدت فوق 3 كنائس أثرية، وعلى مقربة من كنيسة أليعاز تقع كنيسة الروم، ويتوسط الكنيستين جامع العُزير الذي بُني في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي. ومن المعالم الأخرى قبر أليعازر، وهو مبنى لقبر شخصية تاريخية مقدسة لدى المسيحيين موجود في العيزرية، وتحديدا على طرف سفح جبل الزيتون. وهو مكان يحج له المسيحيون من جميع أقطار العالم، فبحسب إنجيل يوحنا حصلت به معجزة إحياء يسوع لعازر من الأموات. القبر موجود في كنيسة الروم الأرثوذكس، ويلاصقه مسجد العزير، الذي يلاصق بدوره كنيسة الروم الكاثوليك. وأيضا القناطر وهو برج صليبي، بني إلى الجنوب الغربي من الدير القديم، بطول (14.6 مترا) وعرض (14.8 مترا)، وتبلغ سماكة جدرانه 4 أمتار، ويعتقد أنهما كانا برجين للدفاع عن خزان مياه روماني في الحقبة الصليبية. بين عامي 1949 و1953، وجد باحثون حفريات أثرية عبارة عن كهوف في الجهة الجنوبية للبرج الصليبي، إضافة إلى أساسات الغرف، وأماكن لتخزين احتياجات السكان وحفظ المياه، وكذا تخزين الأعلاف للدواب. كما وجد المنقبون لُقى أثرية أخرى كالأسرجة والجرار وعملات معدنية، واعتبروا ذلك أدلة على أن المنطقة كانت مأهولة بالسكان منذ القرن السادس والخامس قبل الميلاد. جدار الفصل الإسرائيلي شكّلت العيزرية المدخل الشرقي الطبيعي والتاريخي لمدينة القدس، إذ كانت طريقها الرئيسي نحو أريحا ووادي القلط والأغوار، ومعبرا للقوافل التجارية والحجاج القادمين من الضفة الشرقية لنهر الأردن. وكان من الممكن الوصول منها في دقائق فقط إلى باب الأسباط أو جبل الزيتون. بعد إغلاق مدينة القدس في بداية التسعينيات من القرن العشرين وعزلها عن الضفة الغربية بالحواجز العسكرية، حدث نوع من الانتقال في الاستثمار الاقتصادي والتجاري والعمراني، إلى الضواحي مثل الرام والعيزرية. ومن ناحية أخرى، فإن سياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين في القدس في ما يتعلّق بالضرائب الباهظة المفروضة على السكن والأملاك وضرائب الدخل، وسوء الوضع الاقتصادي للتجار في القدس مع عزلها عن الضفّة، دفع بكثيرين منهم إلى الانتقال للعمل والسكن في الضواحي مثل العيزرية والرام وبير نبالا. وشهدت هذه الضواحي في السّنوات الماضية حركة عمرانية ضخمة، إذ ازدادت المنشآت السكنيّة والتجارية والورش فيها، وأصبح يسكنها عشرات الآلاف من حملة الهوية المقدسية، بينما انتقل آلاف من مناطق مختلفة من محافظات الضفة الغربية للسكن والعمل فيها لقربها من القدس، ولازدياد الحركة التجارية فيها. من أبرز المخططات الإسرائيلية الجارية في المنطقة ما يسمى "مشروع إي 1″، الذي يهدف إلى ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس الغربية عبر امتداد عمراني استيطاني، يمر عبر أراضي العيزرية وأبو ديس والسواحرة. يعد هذا المشروع من أخطر ما يهدد مستقبل العيزرية والقدس، إذ يُقسم الضفة الغربية فعليا إلى قسمين شمالي وجنوبي، ويُجهز على إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا. كما يُحاصر التجمعات الفلسطينية شرق القدس، ويمنع أي توسع عمراني طبيعي لها.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
هذه ليست حياتنا.. لكن غزة كتبت ملحمة تستحق أن تُروى
هذه ليست حياتنا، لكنها ملحمة تستحق التخليد هذه ليست حياتنا، إنها شيء أشبه بكابوسٍ متتابعٍ لا نهاية له، ولا حدّ. ليس له علاقة بتفاصيل أيامنا. نعم، إنه الواقع السرمدي لتسلسل أحداث يوم جديد علينا، لم نعهدها من قبل. نبدؤُه من صلاة الفجر، حيث البحث عن سُبل الحياة من ماء وغذاء، وتوفير بدائل الكهرباء لتعيننا على التواصل مع العالم الخارجي. إنه كابوس خانق، نودّ أن نستيقظ منه في أي لحظة، قبل خروج الروح من الجسد. لم يعد روتيننا اليومي هو الاستعداد الطبيعي للانطلاق إلى العمل، وذهاب الأبناء إلى المدرسة، وإعداد وجبات الطعام في دقائق معدودة، والانطلاق لحياتنا المعتادة، بل أصبح لدينا حياة جديدة، تعتمد على شحّ المياه، وما يرافقها من تفاصيل تجعل حياة الغزّي أكثر صعوبة. بات "الدلو" بديلًا عن ماسورة المياه، والحطب و"البابور" بديلين عن الغاز، والخيمة بديلة عن البيت، وأصبح سندويش "الدُقة" أو الزعتر وجبة غداء لعائلة فيها الطفل والمسن والشاب ومعيل الأسرة. اختفت أصناف الخضار والفواكه والمملّحات والحلويات من البيت الغزّي، تلك التي كانت تتفنن الزوجة الغزّية في إعدادها بكل حب لعائلتها، وتتباهى بخبرتها ونَفَسها. غاب كل شيء عن حياة الغزيين، وما كان قبل الحرب أساسيًا وضروريًا بات رفاهية مطلقة لا يمكن الحصول عليها. أما الدقيق (الطحين) فله حكايات من مفاصل الألم والمعاناة؛ أصبحت اللقمة مغمسة بشلال من دماء الفلسطينيين التي تسيل على أرض غزة عند ما يُعرف بنقاط "توزيع المساعدات" زورًا وبهتانًا، إذ إنها في الحقيقة مصائد موت ونقاط لمسلسل الإعدامات المتكررة للمدنيين المُجوّعين الذين خاطروا بأرواحهم للحصول على رغيف خبز يسكتون به جوع أطفالهم. رأى العالم أجمع إعدامهم على الهواء مباشرة، دون أن يتحرك أحد أو يرفّ له جفن. هناك خبر عاجل يومي بعدد الشهداء عند مصائد الموت، بفعل مجازر متتابعة لم تمنع الآخرين من الذهاب مرةً تلو أخرى، بفعل سياسة التجويع التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب على قطاع غزة قبل أكثر من 640 يومًا. وقد بلغ عدد الشهداء الذين استُهدفوا عند ما يسمى بنقاط التوزيع قرابة 400 شهيد، ولا يزال العدد في تزايد مستمر ما دامت كارثة "نقاط التوزيع" لم تنتهِ، ولم تُوزَّع المساعدات عبر المنافذ المعروفة، كالأونروا والمؤسسات الإغاثية الدولية، بطريقة تحفظ كرامة الغزي ولا تهدد حياته. ولا يقتصر الأمر على شحّ الماء وندرة الغذاء، فانعدام الغاز والسولار والبنزين ترك آثاره على حياة الغزيين، وشكّل صعوبة إضافية لمسلسل إنهاكهم اليومي. لم يعد الماء يُرفع إلى الطوابق العليا لمن حالفه الحظ وعاد إلى بيته، ذلك "البيت الواقف" -وهو مصطلح غزّي أفرزته الحرب- أي البيت الذي لا يزال يستند إلى أرضية وأعمدة، لكنه مُفرَّغ أو محترق بفعل القصف الصاروخي أو قذائف المدفعية. يهدف الاحتلال من خلال ذلك إلى جعل قطاع غزة مكانًا غير صالح للعيش، وتنفيذ خطة التهجير التي يسعى إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب- حيث اعترف بأن تدمير منازل الفلسطينيين في غزة يتم عمدًا، لجعل عودة الغزيين مستحيلة. ففي واحدة من أفظع الكوارث العمرانية في العصر الحديث، كشفت تقارير أممية أن أكثر من 70% من مباني قطاع غزة تعرّضت للتدمير الكلي أو الجزئي منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ووفقًا لصور الأقمار الصناعية، فإن ما يزيد عن 190 ألف مبنى سُوّي بالأرض أو لحقت به أضرار جسيمة، بما يشمل منازل ومدارس ومساجد ومستشفيات ومرافق عامة. ولم يقتصر الدمار على الحجر فقط، بل هدم حياة مئات آلاف الأسر، وحوّل أحياءً بأكملها إلى "مدن أشباح" بعدما كانت تضج بالحياة. قطاع غزة اليوم يقف على أنقاض أكثر من نصف عمرانه، بينما لا يزال القصف مستمرًا، ومشاهد الركام تُطبع في ذاكرة أجيال لن تنسى. إنها حقًا ليست حياتنا، ولا تشبهها في شيء. فمحظوظٌ من لم يتدمر بيته أو مولده الكهربائي، إذ أصبحت "الشحّتة" -أي الاستدانة من الجار- أمرًا صعبًا وثقيلًا وغير مرغوب به في زمن الندرة. الأمر ينطبق أيضًا على السيارات؛ فعددها ندر، وما تبقى منها يسير بالكاد، وقد أتلفتها الحرب. فإن رأيت سيارة على الطريق، بدت كأنها "الضالة" التي تبحث عنها منذ زمن، بينما تسير غالبًا مشيًا على الأقدام لمسافات طويلة نظرًا لشحّ المواصلات وغلاء أسعار الوقود، إذ أصبحت الأجرة التي كانت شيكلين، سبعة شواكل اليومَ. أما السيارة التي اعتاد الغزيون ركوبها كوسيلة نقل، فقد استُبدلت بباص متهالك عدّله سائقه ببعض الكراسي، يجعلك في حالة اهتزاز دائم طوال الطريق ليتسع لأكبر عدد من الركاب. وإن وجدته، فأنت في نعمةٍ مغبونٍ عليها، فالمسافات طويلة، ولا يمكن أن تُقضى الحوائج جميعها مشيًا. وفي مشهد يعكس التحولات القسرية التي فرضتها الحرب، أصبح "التوك توك" وسيلة النقل الرئيسية لعبور شارع الرشيد، الشريان الحيوي الذي يربط شمال غزة بجنوبها، بعد أن حظر الاحتلال مرور المركبات المدنية. أما "الكارات" التي تجرها الحمير، فقد تحوّلت إلى وسيلة نقل مركزية للغذاء والماء والنازحين. ويقول بعض الأهالي بمرارة ساخرة: "لقد خدمتنا الحمير والخيول في هذه الحرب أكثر من بعض البشر". إعلان هي حياة لا تشبه حياتنا، ومشاهد لم تكن لتخطر في الخيال، فرضتها إبادة جماعية مستمرة منذ 640 يومًا، ابتلعت كل ما هو جميل. لم يتخيل أحد منا يومًا قبل الحرب أن يسكن خيمة تكون هي مضيفته ومطبخه ومكان نومه، في مساحة لا تتجاوز أربعة أمتار في أربعة، في أحسن الأحوال. لم تعد حارتنا كما كانت، حتى لمن منّ الله عليه بالعودة إليها؛ فحارتي يغشاها الدمار من كل صوب، ومقابلها مخيم امتلأ بالعائلات التي كانت تسترها جدران منازلها، أما اليوم فتحيط بها قطعة قماش لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء. وامتلأت الحارة بالأطفال الذين يحملون "القلن" للحصول على الماء النظيف الشحيح. لقد تدمرت المدارس، وتوقفت المسيرة التعليمية في غزة منذ بدء العدوان، باستثناء بعض الروضات والمدارس التي لا تزال تعمل رغم الحرب، وكان حظها أن بقيت قيد الإنشاء دون ضرر. بينما يتسابق أطفال آخرون للحصول على "التكية" -ما توفر من بقوليات تسد جوع المُجوَّعين، لا الجوعى. لم يكن أهل غزة يومًا جائعين، فمن يعرفهم وعايشهم، يعرف أن الرجل الغزّي كان يشتري الخضار والفاكهة بـ"البُكسة"، لا بالكيلو، تحسبًا لضيف مفاجئ لا يمكن أن يخرج من بيته دون ضيافة. لم تعرف غزة يومًا شراء الخضار بالحبة، أما اليوم فلا خضار ولا فاكهة في متناول الناس، وإن وُجدت فهي شحيحة وبأسعار خيالية تفوق القدرة الشرائية للجميع، بعدما تركت الحرب آثارها على الموظف والعامل والمهندس والطبيب؛ الكل سواسية في ترسانة الجوع التي أطبقها المحتل الغاصب وبعد أن عاث الاحتلال دمارًا في قطاع غزة، ودمر الشجر والبشر والحجر، لم تبقَ أراضٍ زراعية صالحة. وتشير تقارير إلى أن أكثر من 80% من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة أو غير قابلة للاستعمال بحلول مايو/ أيار 2025. وتُقدَّر المساحات الصالحة المتبقية بحوالي 15 ألف دونم فقط، أغلبها على أطراف الساحل، ما جعل المحاصيل الزراعية شحيحة جدًا. أما عن باقي "التفاصيل" -التي لم تعد تفاصيل، بل إعصارًا من الحصار والخذلان- فقد باتت مؤلمة من كل جهة. فاللحوم، والأسماك، والأجبان، والعصائر، والحاجيات الأساسية، تحوّلت إلى رفاهية مطلقة لا تمت لواقع الغزيين بصلة. من لديه طفل، يتمنى له اليوم قطعة دجاج، أو سندويش جبنة -غير متوفرة بفعل الحصار- أو حتى "باكيت بسكويت"، والذي أصبحت القطعة الواحدة منه بعشرة شواكل. ورفاهية تجهيز حاجيات طفلك الذاهب إلى الروضة -التي تعمل رغم الحرب، وتودعه فيها وكل لحظة تَخْشى من قصف أعمى- أصبحت حلمًا لا يناله الجميع. فإذا وفرتَ له سندويشًا صغيرًا من الخبز محشوًا بـ"الدُقّة" أو الزعتر، فأنت في ترفٍ لا يُتاح لكثيرين. فالخبز في حد ذاته بات رفاهية غير متوفرة في أسواق غزة، بعد أن أُغلِقت المنافذ، ليُترَك الغزيون يواجهون الموت بصمت، فإن لم يكن بصاروخ، فبالجوع والعطش. هذه المفارقات العجيبة التي تكاد تعصف بعقولنا، تجعلنا نقف مذهولين أمام شابٍ فلسطيني، خلع عباءة الذل، وارتدى لباس العز. ودّع أهله وزوجته وصغاره، ليخرج مدافعًا عن وطنه السليب منذ عام 1948 ورغم مشاهد الدم المتدفقة، لم تُحرّك المصالح السياسية والاقتصادية للدول العربية ساكنًا؛ فغلبت التبعية الاقتصادية على كل انسجام إنساني أو تعاطف فطري مع أطفالٍ ونساء تحت القصف. فمعظم الدول لا تزال تدور في فلك الاستهلاك، غير القادر على اتخاذ قرارات تمسّ جوهر السيادة الأخلاقية. هذه المفارقات العجيبة التي تكاد تعصف بعقولنا، تجعلنا نقف مذهولين أمام شابٍ فلسطيني، خلع عباءة الذل، وارتدى لباس العز. ودّع أهله وزوجته وصغاره، ليخرج مدافعًا عن وطنه السليب منذ عام 1948، تاركًا خلفه وصيةً وبندقيةً صنعها بيديه، وبعلمٍ تسلح به، رافضًا هوان سائر الأمة. خرج عاملًا بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُم﴾. حياتُنا اليوم في ظل الإبادة الجماعية ليست حياتَنا حقًا، لا تشبهها بشيء إعلان فغزة التي كانت جميلة بمساجدها وكنائسها، ومدارسها وجامعاتها، وحدائقها وبحرها، مطاعمها وكافيهاتها، ونخيلها وزيتونها، كل شيء فيها كان حيًا. ورغم القصف وقسوة الهجوم، صمد شباب غزة ونساؤها وأطفالها أمام واحدة من أعنف حملات القصف في العصر الحديث. فقد أسقطت إسرائيل، وفق تقارير متعددة، ما بين 70 ألفًا إلى 100 ألف طن من المتفجرات على القطاع منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى منتصف 2025، في قصف غير مسبوق طال البيوت والملاجئ والمخيمات. لكن رغم هذا التدمير، ظلت غزة واقفة، تنفض الغبار عن جراحها، وتعيد صياغة معنى الصمود. نعم، لم يكن أهل غزة يومًا جائعين، بل جُوّعوا عمدًا. رغم أكثر من 37 ألف شهيد، وأكثر من 85 ألف جريح، ودمار أكثر من 80% من المباني، وتشريد 1.7 مليون إنسان، لم تنكسر غزة. ورغم 17 ألف طفل يتيم، ما زال صوت "الحدث الأمني" يتردد في الشمال والجنوب، بصوت رجالٍ خرجوا من باطن الأرض، يُثخِنون في العدو. شباب غزة بطوفانهم لم يكونوا مجرد مقاتلين؛ كانوا زلزالًا بشريًّا كسر هيبة الاحتلال. وقفوا بقلوب لا تعرف الخوف، دافعوا عن وطنهم وأرضهم وأطفالهم، عن أسرى الحرية، عن شرف أمةٍ كانت نائمة. لقد قدموا ما لم تقدمه جيوش ولا تحالفات؛ قدموا أرواحهم قرابين للكرامة والحرية. وتركوا للأمة ملحمة ستظل محفورة في الذاكرة، تقول للعالم: غزة ليست جغرافيا محاصَرة، بل روحًا مقاومة لا تُقهر. وإن كان الثمن باهظًا، فإن ما تنتظره غزة أغلى: نصر وعد الله به الصادقين، وتمكين لمن صبر وثبت. وكما كانت غزة على قدر الدماء، فهي على قدر المعجزة. وسيرى العالم قريبًا أن هذا الشعب الذي صمد تحت النار، سيعلو صوته فوق الركام، مردّدًا: "كنا هنا.. وثبتنا.. وانتصرنا".


الجزيرة
منذ 6 أيام
- الجزيرة
من شدة الجوع.. محمد أكل الرمل بدل الخبز في غزة
في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة ، جلس الطفل محمد منذر الدربي عاجزا عن كبح جوعه، فمدّ يده إلى الأرض وأكل الرمل، ولم تكن نوبة غضب ولا لحظة عبث، بل فعلا نابعا من جوع حقيقي، بعدما فشل مرارا في الحصول على المساعدات. وخرج محمد، ابن الـ13 عاما، كغيره من الأطفال بعد أن سمع أنباء عن وجود مساعدات قُرب البحر. وكان أحدهم يركض في الشارع ويهتف بأن شاحنة إغاثة وصلت، جهّز الطفل نفسه وركض، متأملا أن يعود بشيء، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الشاحنة إلا بعد أن فرغت من حمولتها. وتكرر المشهد أكثر من 12 مرة، وفي كل مرة يركض محمد، ينتظر ويحاول، ثم يعود خالي الوفاض. وفي إحدى المرات انهار تماما، ولم يكن في البيت طحين ولا أي نوع من الطعام، فاضطر إلى أكل الرمل. يقول الطفل إن الحياة قبل الحرب كانت مختلفة، وكل شيء متوفر من الطعام والشراب، أما بعد الحرب، فلا طحين، لا ماء، ولا حتى ما يسد به الجوع. محمد، الذي كان يمتنع دائما عن طلب المساعدة من أحد بسبب اعتزازه بنفسه، اضطر بعد الحرب إلى العمل عند ابن عمه ليتمكن من شراء الطعام لأخته الصغيرة، ويختم حديثه "كنا نعيش بكرامة وأصبحنا نطلب لنعيش". ووسط هذا الواقع، لا يجد محمد سوى سؤال واحد يردده باستمرار: "وين العالم عنّا؟ نحنا جوعانين".