
اليوم العالمي للسكان.. بطالة الشباب تكشف عجز السياسات أمام الانفجار السكاني
ومنذ أن أقرته الأمم المتحدة عام 1989، أصبح هذا اليوم مناسبة سنوية لتذكير العالم بحجم المسؤولية المشتركة في إدارة قضايا السكان وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
ارتفع عدد سكان العالم من 1.6 مليار نسمة في عام 1900 إلى أكثر من 8 مليارات نسمة اليوم. هذا النمو الهائل يُمارس ضغطا متزايدا على الموارد الطبيعية الحيوية كالغذاء والماء والطاقة، ويثير تساؤلات جوهرية بشأن قدرة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول، خاصة النامية منها، على استيعاب هذه الزيادة.
1.8 مليار شاب في العالم
يأتي شعار الأمم المتحدة لهذا العام ليحمل عنوانا محوريا: "تمكين الشباب من بناء الأسر التي يطمحون إليها في عالم عادل ومفعم بالأمل"، في إشارة إلى أهمية توفير الفرص والموارد التي تسمح لهم بتأسيس مستقبل قائم على الكرامة والاستقلال.
ويبلغ عدد الشباب في العالم اليوم نحو 1.8 مليار شخص تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عامًا، ما يجعلهم الجيل الأكبر في تاريخ البشرية. هذا الجيل يواجه تحديات مركبة تشمل انعدام الأمن الاقتصادي، والتفاوت بين الجنسين، وضعف أنظمة التعليم والصحة، بالإضافة إلى التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ والنزاعات المسلحة، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
ويُشدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش ، على أهمية دور الشباب بقوله: "إنهم لا يشكلون مستقبلنا فحسب؛ بل يطالبون بمستقبل عادل وشامل ومستدام".
ورغم هذه الأهمية، فإن أبرز الحقوق المهدورة للشباب في كثير من المجتمعات تتمثل في غياب فرص العمل اللائقة، وهو ما يحرمهم من الاستقلال الاقتصادي، ويعوق قدرتهم على تأسيس أسر، ويدفع أعدادًا متزايدة منهم نحو الفقر والتهميش.
65 مليون شاب عاطل عن العمل
ووفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية ، بلغ عدد الشباب العاطلين عن العمل في العالم عام 2024 نحو 65 مليون شاب وشابة، بينما وصلت نسبة غير المنخرطين في العمل أو التدريب إلى 20.4%.
وقد بلغت البطالة ذروتها في عام 2020 خلال جائحة كورونا، حيث وصل عدد العاطلين إلى نحو 75 مليون شخص، بحسب منصة "ستاتيستا".
وتُظهر الأرقام تفاوتا صارخا بين الدول ذات الدخول المختلفة؛ ففي الدول مرتفعة الدخل، يعمل 80% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 20% فقط في الدول منخفضة الدخل.
الأخطر من ذلك أن ما يقرب من ثلثي الشباب العاملين في الدول الفقيرة يشغلون وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم التعليمية، ما يشير إلى فجوة واضحة بين المهارات المكتسبة واحتياجات سوق العمل، كما جاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي.
الدول ذات الأداء الأسوأ:
وهي الدول التي تسجل أعلى نسب للشباب خارج دوائر التعليم والعمل والتدريب (نييت NEET). وتعود هذه المعدلات المرتفعة إلى ظروف متنوعة، من بينها النزاعات المسلحة كما في الصومال وأفغانستان، أو هجرة الكفاءات إلى الخارج كما هو الحال في دول جزر المحيط الهادي.
السويد
هولندا
آيسلندا
مالطا
حيث سجلت هذه الدول أدنى معدلات بطالة بين الشباب، بفضل أنظمة تعليمية متقدمة، وتدريب مهني فعّال، وسياسات تعليمية متصلة بسوق العمل.
لكن حتى هذه الدول تواجه تحدياتها الخاصة، فاليابان على سبيل المثال، تشهد انكماشا سكانيا وشيخوخة متسارعة، مما يؤدي إلى انخفاض طبيعي في معدلات البطالة بين الشباب نتيجة تقلص حجم القوة العاملة، وهو ما يثير في المقابل قلقًا من نقص العمالة في المستقبل القريب.
البطالة في العالم العربي.. أزمة متجذرة
في المنطقة العربية، حيث يمثل الشباب غالبية السكان، تبرز أزمة البطالة كإحدى أكثر الأزمات إلحاحا وتعقيدا. ورغم تعافي بعض الاقتصادات العربية نسبيا من آثار الجائحة، فإن أسواق العمل لا تزال تعاني من ضعف هيكلي في خلق فرص العمل، وهو ما يعكس فجوة بين النمو الاقتصادي النظري والنمو الحقيقي في فرص التشغيل.
وبحسب منظمة العمل الدولية، يُتوقع أن تبقى معدلات البطالة في المنطقة مرتفعة عند 9.8% خلال عام 2024، وهي نسبة أعلى من معدلات ما قبل الجائحة. وتُعزى هذه النسبة المرتفعة إلى عوامل مركبة تشمل عدم الاستقرار السياسي، والنزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، وضعف القطاع الخاص، والضغوط الديمغرافية المتصاعدة.
وقدّرت المنظمة أن 17.5 مليون شخص في العالم العربي يبحثون عن عمل، مما رفع معدل فجوة الوظائف في عام 2023 إلى نحو 23.7%.
تحديات هيكلية في أسواق العمل العربية
ويشير تقرير "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024" إلى أن المشكلات لا تتعلق فقط بعدد الوظائف المتاحة، بل بجودتها أيضًا. فعدد كبير من الشباب يعمل في القطاع غير المنظم، دون حماية اجتماعية أو مزايا أساسية.
وفي عام 2023، عانى نحو 7.1 ملايين عامل في المنطقة من فقر العمل، أي ما يعادل 12.6% من إجمالي القوى العاملة.
وتُعزز هذه الأرقام المؤشرات على وجود خلل بنيوي في أنظمة التعليم وتنمية المهارات، حيث لا تزال المخرجات التعليمية غير متوافقة مع حاجات السوق. بل إن الشباب من خريجي الجامعات يواجهون معدلات بطالة مرتفعة نتيجة هذا التباين بين التأهيل والطلب.
توصيات إستراتيجية لحل الأزمة
وخلص التقرير إلى مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى تحويل النمو السكاني إلى فرصة اقتصادية، وأبرزها:
إعلان
تبني سياسات اقتصادية وقطاعية شاملة تعزز فرص التشغيل، وتستجيب بمرونة لاحتياجات السوق المحلي.
دعم الصناعات التحويلية، وتطوير الخدمات ذات القيمة المضافة لخلق فرص عمل مستدامة وعالية الإنتاجية.
إصلاح منظومة التعليم وربطها بالتدريب المهني، مع تعزيز التعلم المستمر مدى الحياة.
تسهيل الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد الرسمي، وتحقيق العدالة بين الجنسين في سوق العمل.
تحسين أنظمة معلومات سوق العمل، لتوفير بيانات دقيقة تساعد صناع القرار على تصميم سياسات أكثر استجابة للواقع.
قنبلة سكانية أم فرصة تنموية؟
إن التحديات التي تطرحها الزيادة السكانية، خصوصًا في فئة الشباب، ليست أرقامًا مجردة، بل انعكاسات حية لواقع اجتماعي واقتصادي يواجه خطر الانفجار إن لم تُعالَج أسبابه البنيوية بجدية واستباق.
ولذلك، فإن الاستثمار في الشباب -عبر التعليم الجيد، وتطوير المهارات، وتوفير فرص العمل اللائق- لم يعد خيارا تنمويا فحسب، بل أصبح ضرورة إستراتيجية لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
فمجتمعات لا توفر لأجيالها الشابة ما يكفل لها العيش بكرامة، لن تستطيع مواكبة التحولات العالمية، ولا بناء مستقبل مستدام.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
اليوم العالمي للسكان.. بطالة الشباب تكشف عجز السياسات أمام الانفجار السكاني
في 11 من يوليو/تموز من كل عام، تحتفل دول العالم باليوم العالمي للسكان، وهو مناسبة تهدف إلى رفع مستوى الوعي بالتحديات والفرص التي يطرحها النمو السكاني المتسارع. ومنذ أن أقرته الأمم المتحدة عام 1989، أصبح هذا اليوم مناسبة سنوية لتذكير العالم بحجم المسؤولية المشتركة في إدارة قضايا السكان وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ارتفع عدد سكان العالم من 1.6 مليار نسمة في عام 1900 إلى أكثر من 8 مليارات نسمة اليوم. هذا النمو الهائل يُمارس ضغطا متزايدا على الموارد الطبيعية الحيوية كالغذاء والماء والطاقة، ويثير تساؤلات جوهرية بشأن قدرة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول، خاصة النامية منها، على استيعاب هذه الزيادة. 1.8 مليار شاب في العالم يأتي شعار الأمم المتحدة لهذا العام ليحمل عنوانا محوريا: "تمكين الشباب من بناء الأسر التي يطمحون إليها في عالم عادل ومفعم بالأمل"، في إشارة إلى أهمية توفير الفرص والموارد التي تسمح لهم بتأسيس مستقبل قائم على الكرامة والاستقلال. ويبلغ عدد الشباب في العالم اليوم نحو 1.8 مليار شخص تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عامًا، ما يجعلهم الجيل الأكبر في تاريخ البشرية. هذا الجيل يواجه تحديات مركبة تشمل انعدام الأمن الاقتصادي، والتفاوت بين الجنسين، وضعف أنظمة التعليم والصحة، بالإضافة إلى التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ والنزاعات المسلحة، بحسب تقارير الأمم المتحدة. ويُشدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش ، على أهمية دور الشباب بقوله: "إنهم لا يشكلون مستقبلنا فحسب؛ بل يطالبون بمستقبل عادل وشامل ومستدام". ورغم هذه الأهمية، فإن أبرز الحقوق المهدورة للشباب في كثير من المجتمعات تتمثل في غياب فرص العمل اللائقة، وهو ما يحرمهم من الاستقلال الاقتصادي، ويعوق قدرتهم على تأسيس أسر، ويدفع أعدادًا متزايدة منهم نحو الفقر والتهميش. 65 مليون شاب عاطل عن العمل ووفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية ، بلغ عدد الشباب العاطلين عن العمل في العالم عام 2024 نحو 65 مليون شاب وشابة، بينما وصلت نسبة غير المنخرطين في العمل أو التدريب إلى 20.4%. وقد بلغت البطالة ذروتها في عام 2020 خلال جائحة كورونا، حيث وصل عدد العاطلين إلى نحو 75 مليون شخص، بحسب منصة "ستاتيستا". وتُظهر الأرقام تفاوتا صارخا بين الدول ذات الدخول المختلفة؛ ففي الدول مرتفعة الدخل، يعمل 80% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 20% فقط في الدول منخفضة الدخل. الأخطر من ذلك أن ما يقرب من ثلثي الشباب العاملين في الدول الفقيرة يشغلون وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم التعليمية، ما يشير إلى فجوة واضحة بين المهارات المكتسبة واحتياجات سوق العمل، كما جاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي. الدول ذات الأداء الأسوأ: وهي الدول التي تسجل أعلى نسب للشباب خارج دوائر التعليم والعمل والتدريب (نييت NEET). وتعود هذه المعدلات المرتفعة إلى ظروف متنوعة، من بينها النزاعات المسلحة كما في الصومال وأفغانستان، أو هجرة الكفاءات إلى الخارج كما هو الحال في دول جزر المحيط الهادي. السويد هولندا آيسلندا مالطا حيث سجلت هذه الدول أدنى معدلات بطالة بين الشباب، بفضل أنظمة تعليمية متقدمة، وتدريب مهني فعّال، وسياسات تعليمية متصلة بسوق العمل. لكن حتى هذه الدول تواجه تحدياتها الخاصة، فاليابان على سبيل المثال، تشهد انكماشا سكانيا وشيخوخة متسارعة، مما يؤدي إلى انخفاض طبيعي في معدلات البطالة بين الشباب نتيجة تقلص حجم القوة العاملة، وهو ما يثير في المقابل قلقًا من نقص العمالة في المستقبل القريب. البطالة في العالم العربي.. أزمة متجذرة في المنطقة العربية، حيث يمثل الشباب غالبية السكان، تبرز أزمة البطالة كإحدى أكثر الأزمات إلحاحا وتعقيدا. ورغم تعافي بعض الاقتصادات العربية نسبيا من آثار الجائحة، فإن أسواق العمل لا تزال تعاني من ضعف هيكلي في خلق فرص العمل، وهو ما يعكس فجوة بين النمو الاقتصادي النظري والنمو الحقيقي في فرص التشغيل. وبحسب منظمة العمل الدولية، يُتوقع أن تبقى معدلات البطالة في المنطقة مرتفعة عند 9.8% خلال عام 2024، وهي نسبة أعلى من معدلات ما قبل الجائحة. وتُعزى هذه النسبة المرتفعة إلى عوامل مركبة تشمل عدم الاستقرار السياسي، والنزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، وضعف القطاع الخاص، والضغوط الديمغرافية المتصاعدة. وقدّرت المنظمة أن 17.5 مليون شخص في العالم العربي يبحثون عن عمل، مما رفع معدل فجوة الوظائف في عام 2023 إلى نحو 23.7%. تحديات هيكلية في أسواق العمل العربية ويشير تقرير "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024" إلى أن المشكلات لا تتعلق فقط بعدد الوظائف المتاحة، بل بجودتها أيضًا. فعدد كبير من الشباب يعمل في القطاع غير المنظم، دون حماية اجتماعية أو مزايا أساسية. وفي عام 2023، عانى نحو 7.1 ملايين عامل في المنطقة من فقر العمل، أي ما يعادل 12.6% من إجمالي القوى العاملة. وتُعزز هذه الأرقام المؤشرات على وجود خلل بنيوي في أنظمة التعليم وتنمية المهارات، حيث لا تزال المخرجات التعليمية غير متوافقة مع حاجات السوق. بل إن الشباب من خريجي الجامعات يواجهون معدلات بطالة مرتفعة نتيجة هذا التباين بين التأهيل والطلب. توصيات إستراتيجية لحل الأزمة وخلص التقرير إلى مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى تحويل النمو السكاني إلى فرصة اقتصادية، وأبرزها: إعلان تبني سياسات اقتصادية وقطاعية شاملة تعزز فرص التشغيل، وتستجيب بمرونة لاحتياجات السوق المحلي. دعم الصناعات التحويلية، وتطوير الخدمات ذات القيمة المضافة لخلق فرص عمل مستدامة وعالية الإنتاجية. إصلاح منظومة التعليم وربطها بالتدريب المهني، مع تعزيز التعلم المستمر مدى الحياة. تسهيل الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد الرسمي، وتحقيق العدالة بين الجنسين في سوق العمل. تحسين أنظمة معلومات سوق العمل، لتوفير بيانات دقيقة تساعد صناع القرار على تصميم سياسات أكثر استجابة للواقع. قنبلة سكانية أم فرصة تنموية؟ إن التحديات التي تطرحها الزيادة السكانية، خصوصًا في فئة الشباب، ليست أرقامًا مجردة، بل انعكاسات حية لواقع اجتماعي واقتصادي يواجه خطر الانفجار إن لم تُعالَج أسبابه البنيوية بجدية واستباق. ولذلك، فإن الاستثمار في الشباب -عبر التعليم الجيد، وتطوير المهارات، وتوفير فرص العمل اللائق- لم يعد خيارا تنمويا فحسب، بل أصبح ضرورة إستراتيجية لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فمجتمعات لا توفر لأجيالها الشابة ما يكفل لها العيش بكرامة، لن تستطيع مواكبة التحولات العالمية، ولا بناء مستقبل مستدام.


الجزيرة
٠٢-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
التربية في العصر الرقمي.. أي جيل نريد؟
تلعب التربية دورًا مهمًا وخطيرًا في حياة الأمم، فهي أداة المجتمع للمحافظة على مقوماته الأساسية، وأساليب حياته وأنماط التفكير الخاصة به، كما تعمل على تشكيل وعي المواطنين، والكشف عن طاقاتهم ومواردهم واستثمارها. وكثيرًا ما نسمع عن مواضيع عديدة يتم تداولها على نطاق واسع حول موضوع التربية وتحدياتها، حتى أصبحت تناقَش حولها الأطروحات على جميع المستويات، ومن هذه المواضيع: التكنولوجيا وصراع الأجيال. تحديات المراهَقة وخصوصياتها التربوية. تأثير البيئة الاجتماعية على ثقافة وسلوك الطفل. الإنترنت وتفكك نظام الأسرة. سوء استخدام التكنولوجيا وتداعيات العولمة على الطفل. التربية الأسرية والتوازن النفسي للطفل. العنف والإهمال الأسري والمستوى الدراسي. إلى غير ذلك من المواضيع الأخرى ذات الأهمية والعلاقة بمسألة تربية وتنشئة الأجيال، التي تحتاج منا إلى وقفة صادقة وجادة، نبحث من خلالها عن إجابات وحلول نابعة من قيمنا وانتمائنا الوطني والأخلاقي، لنضع بعد ذلك مخططًا عمليًا شاملًا لأهم التحديات التربوية الموجودة في البيئة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وسبل التعامل معها بما يحقق غايات التربية الحسنة والمتوازِنة. علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن هنا، ينبغى التنبيه إلى أهمية الدورات التأهيلية في الإرشاد الأسري ومهارات الحياة في تكوين الخلية الأولى للمجتمع (الأسرة)؛ وفق أسس منهجية سليمة قائمة على التكافل الأسري، والوعي الأبوي بأهمية التربية في تحقيق التوازن النفسي، ومحاربة الآفات الاجتماعية والمشكلات الدراسية. وفي هذا السياق يطيب لي أن ألفت عناية القراء إلى توجيه نبوي كريم، قدّم من خلاله النبي- صلى الله عليه وسلم- نصيحةً ذهبيةً لذلك الصحابي الذي قدم هدية لأحد أبنائه دون البقية، فرفضت زوجته ذلك وطلبت منه أن يستفتي النبيَّ- عليه الصلاة والسلام- فذهب إليه فسأله، فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "هل أعطيت سائر ولدِك مثل هذا؟"؛ قال له الأب: لا. فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". [رواه البخاري ومسلم]. وهذه ملاحظة قد تبدو لدى كثير من الآباء بسيطة وهامشية، لكنها بالغة الأهمية في تحقيق التوازن السلوكي والنفسي للأبناء، وتنشئتهم على قيم العدل والمحبة والتعاون، وتحضيرهم لتحمل المسؤوليات المهنية والاجتماعية مستقبلًا، وجعلهم لبنة طيبة في بناء مجتمع صالح ومثمر، فغِراس الأمس هي حصاد الغد. ومن الأدبيات التربوية التي يجب على الوالدين مراعاتها، خاصة في زمن التكنولوجيات والتواصل العالمي، الانتباه إلى مسألة الخصوصيات الثقافية لجيل اليوم، فليس من الحكمة أن نتعامل معه وفق الأساليب التربوية التي كانت صالحة في سياقات زمنية سابقة، فالوعي بتحديات الحاضر، والتحكم في مهارات التربية الحديثة، ذلك يجنبنا الوقوع في مشكلة "صراع الأجيال"، مع ما تحمله من مخاطر حقيقية تهدد أمن المجتمع وتنسف هويته، وتفصل الخلف عن السلف وجدانيًا ووجوديًا. ومن هذه المخاطر: الجرائم الإلكترونية كالقرصنة والابتزاز الإلكتروني وتجنيد الأحداث (أي الأطفال دون سن الرشد) لأغراض إجرامية، والدخول للمواقع المشبوهة، وإدمان الألعاب الإلكترونية الخطيرة التي أودت بحياة كثير من أبنائنا، والتأثر بالمواقع التي تروِّج للإلحاد والانحلال الأخلاقي، أو استنزاف الأوقات الكثيرة في مواقع التواصل كالتيك توك، وقضاء أغلبها في تصفح المواضيع غير الجادة واستهلاك مادة التفاهة. ومن هنا يتبين لنا مدى أهمية القاعدة التربوية التي تُنسب إلى الخليفة الراشد، سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، القائلة: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم؛ فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". وهو لا يقصد التجرد من القيم الأخلاقية الصالحة التي ورثها الخلف عن السلف، بل يجب مراعاة متطلبات الواقع الحديث وتطوراته بما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة السمحة والفطرة السليمة. وفي هذا الصدد، يُعتبر أسلوب المرافقة الوالِدِيَّة من أهم الأساليب التربوية الحديثة لاحتواء الطفل، ومعرفة حاجاته، وتوجيهه بطريقة ذكية وحكيمة، وذلك من خلال مهارة الإصغاء والتفاعل والحوار، ومناقشة المظاهر الاجتماعية المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها، بقصد إقناع الطفل بصفة طوعية، بعيدًا عن أساليب الإكراه والزجر والمنع التعسفي، فكما هو معلوم: "كل ممنوع مرغوب". ففي عصر الانفتاح العالمي، لا يمكن ضبط سلوكات الطفل ومراقبته باستمرار في الشارع والمدرسة، ومع الرفاق، وفي الإنترنت والهاتف الذكي، بل يجب على المربي أن يستعمل أساليب تربوية ذكية، تقوم على المحبة والمودة والصحبة الصادقة والقدوة الحسنة، واعتماد الوالدين أسلوب القصص التربوية الهادفة، كما يجب ألا يقتصر اهتمامهم على الجوانب المادية فحسب، بل لا بد أن يتعداه إلى الجوانب الأخلاقية والمعرفية والفكرية. وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد ختامًا: ما زلت أُؤمن إيمانًا قاطعًا أن أكبر تحدٍّ يواجه الآباء في العصر الحالي هو صناعة جيل رسالي صالح، نافعٍ لأمته، مخلصٍ لوطنه، وَفِيٍّ لقيمه، بارٍّ بالوالدين في الدنيا والآخرة، مصداقًا لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" [رواه مسلم]. إعلان هكذا نبني الجيل القيادي القادم، الذي يسهم في تنمية بلده ومجتمعه وبناء حضارته.. الجيل الأمين الفهيم الرزين، الذي يحسن تقدير مواطن الخير فيسبق إليها، وتقدير مواطن الشر فيفر منها. هو جيل يؤتمن على أمجاد الآباء، ويحافظ على رسالة الشهداء، ويواصل مسيرة التشييد والبناء، جيل متعلم يسابق في مضمار المعرفة فَيَبُزُّ أقرانه، ويسمو بأفكاره وأخلاقه فيرسم أبهى صور الإبداع والتميز. جيل يحيا لهموم أمته، واعٍ بالتحديات التي تواجهها، والدسائس التي تحاك لها، جيل كيس فطن لا تخدعه المؤامرات، ولا ينساق وراء الإشاعات، ولا تلوث عقله الملهيات، جيل يَألم لألم فلسطين وغزة وبورما والصومال، ويشغل باله ما يكابده إخوانه في الدين والإنسانية من ظلم وأسى وحرمان، جيل حريص على تقديم الإضافة النوعية، ليترك من ورائه أثرًا طيبًا وفضيلة بهيَّة، يذكره بها أهل الأرض، ويسمو بها في السماء درجات عَلِيَّة. وفق الله الآباء لما فيه خير البلاد وصلاح العباد، وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد.


الجزيرة
١٩-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
فن التفاوض مع الأطفال.. مهارات أساسية يحتاجها الآباء
يرى بعض الآباء أن التفاوض مع الأطفال ليس خيارا مناسبا، خصوصا عندما يقابل الطفل بالرفض التوجيهات التقليدية مثل "افعل! لأنني قلت ذلك". غير أن الخبراء يؤكدون أن التفاوض يُعد مهارة حياتية ضرورية تساعد الطفل على تعلم الحوار واتخاذ القرارات، وينصحون بممارسة التفاوض ضمن ضوابط واضحة، مع الحفاظ على هيبة الوالدين ودورهم في توجيه السلوك وتحديد الحدود. التفاوض مع الأطفال وأهميته يعد النقاش للتوصل إلى اتفاقٍ ما يرضي الطرفين هو جوهر التفاوض. لكن التفاوض مع الأطفال أمر غاية الصعوبة، وقد يكون الأطفال أصعب المفاوضين الذين يحتاجون مهارات خاصة عند التفاوض. يشرح تقرير على موقع "ماذرلي" مهارات التفاوض في التربية، موضحا أنها قدرة الوالدين على الحوار والتفاهم مع الأطفال للوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين، بدلا من فرض الرأي أو التصادم. ويساعد التفاوض مع الطفل على إكسابه عددا من المهارات: تعزيز العلاقات السليمة. تعلم حل المشكلات. خلق بيئة من التعاون والتعاطف في الأسر. تعزيز الاحترام والثقة بالنفس. الاستماع المتبادل وتقبل وجهات النظر المختلفة. التفاهم وتعلم اتخاذ القرار المشترك. التواصل بشأن رغباتهم واحتياجاتهم بطريقة معقولة. كيفية التواصل والتوصل إلى حلول وسط واتخاذ القرارات المناسبة. المرونة وتنفيذ رغبة الآباء. كيف يمكن التفاوض؟ يحتاج الآباء إلى أساليب للتفاوض مع أبنائهم، وينصح موقع "رايزينغ تشيلدرين" بعدد من الخطوات تساعد في تفاوض ناجح مع الأطفال، منها: استخدام نبرة صوت هادئة وواضحة لتجنب التوتر والنزاع. الاستماع للطفل دون مقاطعة لفهم مشاعره واحتياجاته. التعبير عن الرأي بوضوح وهدوء، والطلب من الطفل أن يشرح وجهة نظره. طرح أسئلة مفتوحة لتشجيعه على التفكير والحوار. أخذ استراحة إذا تصاعدت الأمور وإعادة المحاولة لاحقا بهدوء. اقتراح حلول وبدائل مرنة، بدلا من الرفض القاطع. إظهار الاستعداد للتنازلات المعقولة، وتشجيع الطفل على إيجاد حل مشترك. توضيح الاتفاق النهائي، حتى يفهم الطفل ما تم التوصل إليه. الاتفاق على العواقب مسبقا في حال خرق الاتفاق. إنهاء المحادثة بإيجابية، حتى لو لم تكن المفاوضات مثالية. الثناء على التزام الطفل بالاتفاق لتشجيع التكرار في المستقبل. نصائح للتفاوض من جهتها، ترى سونيا كانغ -الأستاذة المشاركة في قسم الإدارة في جامعة تورنتو مورنينغتون، والمعينة في قسم السلوك التنظيمي وإدارة الموارد البشرية في كلية روتمان للإدارة- أن بعض المناقشات الصعبة التي تجرى مع الأطفال قد تكون عاطفية ومتكررة وغير متوقعة، وقد تجعل الآباء يفقدون الأمل. وعلى موقع جامعة تورنتو، تطرح كانغ عددا من النصائح للآباء عند التفاوض مع الأطفال منها: إعطاء الأولوية للعلاقة مع الطفل لتوفير الأمان والدعم العاطفي. الحفاظ على علاقة قائمة على التعلق الآمن لبناء شخصية مستقرة وواثقة. تحديد ما هو قابل للتفاوض وما ليس كذلك، والسماح بالمشاركة في اتخاذ بعض القرارات. عدم الدخول في معارك غير ضرورية والتركيز على الهدف الأساسي، لا التفاصيل. تقبُّل جميع مشاعر الطفل حتى مع عدم الاتفاق معها، وتوفير بيئة آمنة للتعبير. مساعدة الطفل على التعرف على مشاعره والتعبير عنها بكلمات. التفاعل مع مشاعره واحتياجاته العاطفية. الحزم بشأن السلوك وتوجيه الطفل نحو التصرف الصحيح. استخدام وصف دقيق للموقف بدلا من إصدار الأحكام. تشجيع الطفل بالتذكير بأفعاله الإيجابية السابقة. منح الطفل وقتا ومساحة للتصرف الصحيح والحازم عند الحاجة. التفاوض ليس دائما الخيار الأمثل رغم أهمية التفاوض بوصفه وسيلة تربوية، فإنه لا يُناسب جميع المواقف. تشير تيري كورتزبيرغ، أستاذة في كلية روتجرز للأعمال في نيوارك، إلى أن هناك حالات يكون فيها الامتناع عن التفاوض هو الخيار الأفضل، إما لأن الموقف لا يستحق الجهد، أو لأنه يتطلب قرارًا حاسمًا لا يحتمل النقاش. وتوضح أن بعض الآباء يعتقدون أن كل خلاف يستوجب حوارا، بينما تكمن الحكمة التربوية في اختيار الأسلوب المناسب في التوقيت المناسب. إعلان وفي حوار لها على موقع جامعة روتجرز، توضح كورتزبيرغ أن الحزم ضروري في بعض الحالات، مثل ما يتعلق بالأمان أو القيم الأساسية غير القابلة للتفاوض، وفي هذه المواقف قد يكون استخدام عبارات حاسمة مثل "افعل! لأنني قلت ذلك" مبررا. لكنها تحذر من الإفراط في استخدام هذه العبارات، لأنها مع الوقت تفقد تأثيرها، ويتعلم الأطفال تجاهلها وتجاهل من يكررها. في المقابل، ترى كورتزبيرغ أن التفاوض قد يكون مفيدا في مواقف أخرى، لأنه يوضح للأطفال منطق القرارات ويشعرهم بأنهم جزء من عملية اتخاذها، مما يعزز التزامهم بالقواعد واحترامهم إياها. وتشدّد على أهمية السياق والتوقيت في تحديد متى يكون التفاوض مجديًا، ومتى يجب الابتعاد عنه. وتختم بالقول إن "الذكاء التربوي لا يعني التفاوض الدائم، بل معرفة متى نفتح الحوار ومتى يكون الحسم هو الحل الأنسب".