
أي إنسانية؟
لقد تغيرت القيم الأساسية للإنسانية عبر الزمن والمكان. ففي مجتمعات ما قبل التاريخ والقبلية، كان البقاء والولاء للعشيرة هما القيمتان المهيمنتان. وفي العصور الوسطى، كانت العبادة الدينية والإذعان للسيد أو الحاكم هما المحرك الأساسي للمجتمع. أما في بدايات العصر الحديث، فقد سادت قيم مذهب الإنسانيّة والعقلانية، ثم جاءت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر بجنوح نحو الابتكار والقومية. لكنني أجد صعوبة أكبر في تحديد القيم الرئيسية التي تعرّف الإنسانية في يومنا هذا. يمكنني التفكير في مواضيع مثل التنوع والشمول، والتكنولوجيا والاستدامة، لكنني لست واثقاً من أننا نطبّق هذه القيم بشكل جيد فعلاً. لا يمكننا القول إننا نهتم كثيراً بكوكبنا أو ببعضنا بعضاً هذه الأيام.
أردت أن أستعرض القيم التي نعبّر عنها كبشرية اليوم، سواء أعجبتنا أم لا، من خلال مثالين ظلّا يشغلان تفكيري كثيراً. أولاً، أود التطرق إلى ظاهرة حديثة وهي إنفاق المليارديرات مبالغ هائلة من المال على رحلات قصيرة إلى الفضاء. أتذكر أيام سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وتحديداً اللحظة التي أرسل فيها الأميركيون «شمبانزي» يُدعى «هام» إلى الفضاء عام 1961. عاد الشمبانزي بطلاً، وتصدّرت صورته أغلفة الصحف والمجلات. نشرت مجلة «تايم» كاريكاتيراً يصوّره وهو يرتدي نظارات ويعقد مؤتمراً صحافياً، ويؤشر بعصا إلى لوح وكأنه أستاذ جامعي. سأله أحد الصحافيين عن شعوره وهو يسافر في الفضاء، فكان ردّه: «أشعر وكأنني أتناول موزة».
المليارديرات الذين يسافرون إلى الفضاء لمدة عشر دقائق لا يختلفون كثيراً عن ذلك الشمبانزي. أتساءل: ما الذي يحصلون عليه من إمكانية قولهم إنهم أمضوا عشر دقائق في الفضاء مقابل إنفاق عشرات الملايين من الدولارات. وعلى نطاق عالمي، أتساءل: كيف لا نزال نبرر إنفاق مئات المليارات على الفضاء بينما هناك أولويات كثيرة على الأرض لا نلبّيها. مع أن سباق الفضاء الأولي جلب الكثير من التطورات للبشرية ما زلنا نستفيد منها حتى اليوم، إلا أن تبرير هذا الإنفاق الضخم أصبح أكثر صعوبة، في وقت يمكن فيه استخدام هذه الأموال للمحافظة على كوكبنا. بدلاً من منح امتيازات ضريبية للمليارديرات الذين يحبون اللعب في الفضاء، كان بإمكاننا ضمان نظافة كوكبنا وصحته، وأن الحياة على الأرض نابضة بالحياة ومتنوعة، وأن نؤمّن مستقبلاً أفضل لأطفالنا.
ثانياً، أردت التطرق إلى تحول شهدناه خلال حياتنا. نحن نطيل أعمار كبار السن عبر رعاية طبية باهظة التكلفة، ثم نقوم بإبعادهم عن عائلاتهم ووضعهم في دور رعاية المسنين، بتكلفة باهظة كذلك. النتيجة هي ليس فقط أننا لم نعد نحصل على الفوائد المتبادلة المذهلة التي يوفرها لنا عيش الأبناء والأحفاد والأجداد في المنزل نفسه -ويشمل التعلم والرعاية المتبادلة-، بل إن الأموال التي يدخرها كبار السن طوال حياتهم تُستنزف تدريجياً، ولم تعد متوافرة لمساعدة الجيل الأصغر على التقدّم خطوة للأمام في الحياة. صحيح أن هناك دولاً لا يزال يعيش فيها المسنّون مع أبنائهم وأحفادهم، لكن حتى في مجتمعات تقليدية وجماعية مثل المملكة العربية السعودية، بدأنا نرى تزايداً في عدد دور رعاية المسنين.
لقد أصبح العالم الطبي والأطباء هم الكهنة الجدد، وملابسهم البيضاء تضفي عليهم هالة من الكياسة تحتم علينا أن نجلهم اليوم. ولكن من خلال إطالة الحياة بهذه الطريقة، أشعر بأننا نفقد أيضاً التعاطف الذي ينبغي أن يحدد جميع العلاقات الإنسانية، ونفقد الروابط القوية بين الأجيال والقبول بدورات الحياة الطبيعية. نحن نعاقب كلاً من كبار السن الذين يتم إلقاؤهم في دور رعاية المسنين التي لا روح فيها، وكذلك الجيل الأصغر سناً الذي لم يعد بإمكانه الاعتماد على المساعدة المالية التي اعتادوا الحصول عليها من والديهم خلال السنوات الصعبة في حضانة أبنائهم. بمعنى آخر، هو فشل في الحب؛ إذ لم تعد الأجيال تهتم ببعضها كما كانت تفعل من قبل.
من خلال هذين المثالين، أردت أن أطرح سؤالاً: كيف نعرّف قيمنا كإنسانية في عصرنا الحالي؟ بدلاً من العناية بالكوكب الذي يمنحنا الحياة، نحن نقدم إعفاءات ضريبية لأغنياء يلهون في الفضاء. وبدلاً من أن تعيش العائلات معاً وتتعلم من بعضها بعضاً، نحن نُقصي كبار السن ونستهلك مدخراتهم في العلاج بدلاً من استخدامها لدعم الأجيال القادمة. أود أن نعيد التفكير في قيمنا بصفتنا بشراً، وأن نتأمل في الكيفية التي نودّ بها أن يُعرّف عصرنا، حتى ينظر إلينا أحفادنا في المستقبل بشيء من الفخر والامتنان. لنتفكّر في أي عالم، أي مجتمع، أي إنسانية نريد حقاً، فنحن نرسم ملامحها من خلال أفعالنا كل يوم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعودي جيمر
منذ ساعة واحدة
- سعودي جيمر
الكثير من الانفجارات والروبوتات الشرسة في أحدث عروض أسلوب لعب MindsEye
أصدرت شركة Build A Rocket Boy اليوم عرضًا دعائيًا جديداً للعبة MindsEye يستعرض المزيد من أحداث القصة، حيث ينطلق جاكوب دياز في مغامرة إلى مدينة ريدروك لاستعادة ذكرياته. تزداد الأمور تعقيدًا عندما تصبح الروبوتات المنتشرة في المدينة واعية وعنيفة. إلى جانب القيادة المعتادة وإطلاق النار من خلف السواتر، يكشف العرض الدعائي عن بعض عناصر اللعب الجديدة، مثل لعبة مصغرة مؤقتة لإنعاش شخص ما بالضغط على زر. كما ستقود طائرات لإطلاق صواريخ على الأعداء، بل وحتى خوض مغامرات في الفضاء. وبينما ستقاتل الروبوتات المعادية، يمتلك جاكوب أيضًا طائرة بدون طيار مرافقة يتحكم بها جهاز MindsEye المزروع فيه. يتيح لك الجهاز مسح ساحة المعركة وتحديد مواقع الأعداء مع توفير الدعم عبر صعق الخصوم من حولك. كما يمكنك ترقيته لاختراق الروبوتات للقتال نيابةً عنك. تنطلق MindsEye في 10 يونيو لأجهزة Xbox Series X/S وPS5 والكمبيوتر الشخصي بسعر 59.99 دولارًا أمريكيًا. اطلع على المزيد من التفاصيل حول خطة دعم اللعبة بعد الإطلاق من هنا. أعشق ألعاب الفيديو منذ أيام جهاز العائلة، و أفضل ألعاب المغامرات أمثال Tomb Raider و Assassins Creed (قبل التحول للـRPG)، ليس لدي تحيز لأي جهاز منزلي بالنسبة لي الأفضل هو الذي يقدم الألعاب الأكثر تميزاً. ما يهمني هو التجارب ذات السرد القصصي المشوق فالقصة هي أساس المتعة أكثر من الجيمبلاي.


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
زحل في برج الحمل لأول مرة منذ عام 1999
يعود كوكب زحل القوي، أحد أكثر الكواكب الخارجية تأثيراً في علم الفلك، في 25 مايو (أيار) إلى برج الحمل الناري لأول مرة منذ 1999، ويظل لمدة ثلاثة أشهر تقريباً. ومن المتوقع أن يؤثر هذا الحدث بشكل ملحوظ على مواليد أبراج الحمل، والسرطان، والميزان، والجدي، والدلو، حسب صحيفة «ميترو» اللندنية. وكل تلك الأبراج، باستثناء الدلو، هي أبراج أساسية تقود المشهد الفلكي وباقي الأبراج. وينضم برج الدلو إليهم؛ لأنه مثل الجدي، يحكمه كوكب زحل تقليدياً، لكن أضيف له كوكب أورانوس حديثاً ليشارك زحل. وحسب علماء الفلك، يرتبط كوكب زحل بالزمن ذاته؛ الصبر والانضباط والبُنى والحدود والسلطة والحكمة، لكنه معروف أيضاً بتسببه في إبطاء وتيرة حدوث الأمور، وتكوين العقبات والتحديات. ويعود اسم «زحل» إلى الرومان، لكنه كان يُعرف في الأساطير اليونانية باسم «كرونوس» (ومنها جاءت كلمة «كرونولوجي» أي الترتيب الزمني للأحداث)، وكذلك يُشار إليه بـ«أبو الزمن العجوز». وزحل هو آخر الكواكب السبعة التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولذلك اعتُبر رمزاً لحدود وعينا. وتستغرق رحلة زحل عبر السماوات 29.5 سنة أرضية؛ حيث يبدأ من برج الحمل وينتهي عند برج الحوت، آخر الأبراج الفلكية. ومن المقرر أن يعود إلى برج الحوت في زيارته الأخيرة ضمن هذه الدورة الكوكبية ابتداءً من 1 سبتمبر (أيلول)، بسبب حركته التراجعية السنوية، التي تمتد لخمسة أشهر وتبدأ في منتصف يوليو (تموز)، ومن ثم يعود مرة أخرى إلى برج الحمل في 14 فبراير (شباط) من العام المقبل، ويبقى فيه حتى ربيع عام 2028.


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
رحلة إلى المليار الأول... «جيمس ويب» يُصوِّر أقدم مجرّات الكون
أجرى التلسكوب الفضائي «جيمس ويب» عملية مراقبة تُعدّ «الأبعد له حتى اليوم» في أعماق الكون، مُستهدفاً هدفاً واحداً، وكاشفاً عن مجرّات تشكَّلت في الماضي السحيق، وفق ما نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن «المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية» و«وكالة الفضاء الأوروبية». وقال «المركز الفرنسي»، في بيان: «بفضل تأثير عدسة الجاذبية، كشفت عملية المراقبة هذه عن أولى المجرّات والنجوم التي تشكَّلت خلال المليار سنة الأولى من تاريخ الكون»، موضحاً أنّ «معهد باريس للفيزياء الفلكية» شارك في هذه البحوث. واحتاج التلسكوب إلى 120 ساعة من الرصد لالتقاط هذه الصورة الجديدة، وهي أطول مدة يركّز فيها «جيمس ويب» على هدف واحد حتى الآن. وأشارت «وكالة الفضاء الأوروبية» إلى أنّ ما تحقَّق يُعدّ «أعمق عملية رصد يُجريها (جيمس ويب) لهدف واحد حتى اليوم»، مما يجعل هذه اللقطة الجديدة واحدة من أعمق الصور التي التُقطت للكون على الإطلاق. تظهر في وسط الصورة الساطع «أبيل إس 1063»، وهي مجموعة ضخمة من المجرات تقع على بُعد 4.5 مليار سنة ضوئية من الأرض. وتتمتَّع هذه الأجرام السماوية العملاقة بقدرة على انحناء الضوء الصادر عن الأجسام الواقعة خلفها، مولّدة نوعاً من العدسة المكبّرة الكونية يُعرف بـ«عدسة الجاذبية». وأوضحت «وكالة الفضاء الأوروبية»، في بيانها، أنّ ما يثير اهتمام العلماء هو تلك «الأقواس المشوَّهة» التي تدور حول «أبيل إس 1063». وبما أنَّ رصد أعماق الكون يعني أيضاً العودة بالزمن إلى الوراء، يأمل العلماء فَهْم كيفية تشكُّل المجرّات الأولى، خلال مرحلة تُعرف بـ«الفجر الكوني»، عندما لم يكن عمر الكون يتجاوز بضعة ملايين من السنوات. وتتكوَّن الصورة من 9 لقطات منفصلة بأطوال موجية مختلفة ضمن نطاق الأشعة تحت الحمراء القريبة، وفق ما أوضحت «وكالة الفضاء الأوروبية». ومنذ بدء تشغيله عام 2022، دشَّن «جيمس ويب» عصراً جديداً من الاكتشافات العلمية. وقد كشف، على وجه الخصوص، أنَّ المجرات في الكون المبكر كانت أكبر بكثير مما كان يُعتقد سابقاً، مما يثير تساؤلات جوهرية حول فهمنا الحالي للكون.