
هل أنت من الفرقة الناجية؟
@waladjameel
تتسلل فكرة "الفرقة الناجية" إلى الوعي الجمعي كهَمْسٍ يثير القلق ويُغذِّي التساؤلات الوجودية؛ فهي فكرة تتجلى بأشكال مختلفة في نسيج المعتقدات الإنسانية، لتطرح سؤالًا جوهريًا: هل هناك طريق واحد فقط للخلاص، أم أن دروب النجاة تتعدد بتعدد الساعين إليها؟
في السياق الإسلامي، يتردد صدى هذه الفكرة بقوة، مستندة إلى حديث نبوي شريف يُعرف بـ"حديث الافتراق"، الذي يشير إلى أن الأمة ستفترق إلى 73 فرقة، كلها في النار إلّا واحدة. هذا الحديث، الذي بدا في ظاهره إخبارًا بسيطًا، تحوَّل عبر التاريخ إلى محور صراعات فكرية ومذهبية، وشكل أداة لتحديد الهوية الدينية والانتماء، وفي أحيان كثيرة، ذريعة للإقصاء والاحتراز.
من الناحية العقدية، حَمَلَ حديث الافتراق دلالة حصرية للنجاة؛ حيث يشير إلى أن فرقة واحدة فقط هي التي ستنجو، وأن معيار النجاة هو التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا التفسير الصارم دفع كل فرقة وطائفة إسلامية إلى ادعاء أنها هي الفرقة الناجية، وأنها وحدها التي تملك الحقيقة المطلقة. مثلًا ابن تيمية يؤكد في "الفتاوى الكبرى" أن الفرقة الناجية هي أهل السُنة والجماعة، وأنهم يمثلون السواد الأعظم من الأمة، بينما الفرق الأخرى هي أهل البدع والأهواء. هذا التصور، وإن كان يهدف إلى الحفاظ على نقاء العقيدة، إلّا أنه أفرز واقعًا من الانقسامات الحادة؛ حيث تحولت الاختلافات الفقهية والعقدية إلى حواجز صلبة بين أبناء الأمة الواحدة.
وقد تجلّى هذا الادعاء بالحصرية في مواقف الفرق الإسلامية الكبرى؛ فأهل السُنَّة والجماعة يرون أنفسهم الفرقة الناجية، والشيعة الإمامية تؤمن بأن النجاة مرتبطة بولاية أهل البيت، بينما يرى المعتزلة أن منهجهم العقلي هو الطريق الصحيح للخلاص، والإباضية بدورها ترى أنها على الحق.
في المقابل، يطرح الإمام الغزالي في كتاب "المُنقِذ من الضلال" رؤية مختلفة؛ حيث يرى أن النجاة ليست حكرًا على فرقة معينة بالاسم؛ بل هي لمن اتبع المنهج الصحيح الذي يقود إلى معرفة الله والعمل الصالح. وفي السياق ذاته، يشير الفيلسوف ابن رشد في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" إلى أن الحقيقة واحدة، وأن الشريعة والفلسفة كلاهما يهدف إلى الوصول إليها، وأن الخلافات تنشأ من سوء التأويل أو عدم استخدام المنهج العقلي الصحيح.
هذه الرؤى العقدية والفقهية تتشابك مع أبعاد فلسفية عميقة، حيث لم تقتصر فكرة النجاة على البعد الديني البحت؛ بل امتدت لتلامس قضايا الخلاص والتحرر من منظورات مختلفة. ابن سينا، على سبيل المثال، يقدم في كتابه "النجاة" مفهومًا للخلاص لا يقصد به الخلاص الديني بالمعنى الكلامي؛ بل النجاة من الجهل والوهم، مؤكدًا أن المعرفة هي السبيل الوحيد للتحرر.
وفي الفلسفة الغربية، نجد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يبحث عن النجاة من الشك من خلال اليقين العقلي، كما يرى الفليسوف الفرنسي جان بول سارتر أن النجاة تكمن في التحرُّر من سوء النية والوجود الزائف، والعيش بأصالة. أما عالم النفس السويسري كارل يونغ، فيرى أن النجاة هي نجاة نفسية، تتحقق بالتحرر من الانفصال عن الذات وتحقيق التكامل النفسي.
هذه المنظورات الفلسفية المتنوعة تنعكس بدورها على الواقع الاجتماعي؛ حيث كان لفكرة "الفرقة الناجية" أثرٌ بالغ في بناء الهوية الدينية والانقسام الطائفي؛ فكل جماعة سعت إلى ترسيخ هويتها من خلال التأكيد على أنها تمثل الحق المطلق، وأن الآخر هو الضال أو المُبتدِع. وقد أدى هذا التصور إلى تعزيز الانغلاق الديني، وصعوبة التعايش بين الفرق المختلفة، بل وفي بعض الأحيان، إلى نشوب صراعات عنيفة.
ومن هنا يؤكد الدكتور محمد عمارة، الباحث في الفكر الإسلامي، في كتابه "الإسلام والتعددية" أن التعددية هي جوهر الإسلام، وأن مفهوم الفرقة الناجية يجب أن يُفهم في سياق أوسع لا يقصي الآخر. كما يشير الأستاذ رضوان السيد، في مقال نشر في مجلة الفكر العربي، إلى أن التفسيرات الحصرية لمفهوم الفرقة الناجية أدت إلى تضييق مساحات التسامح والتعايش، وخلقت بيئة خصبة للتطرف والإقصاء.
وفي هذا السياق، يطرح الباحث العُماني خميس بن راشد العدوي، في ورقته البحثية "قراءة في فقه الفرقة الناجية"، رؤية نقدية مهمة، إذ يرى أن هذه الروايات قد تكون تأثرت بسياقات تاريخية وسياسية معينة، وأنها لا تُعبِّر بالضرورة عن جوهر الدين الذي يدعو إلى الوحدة والتآلف. كما يؤكد أن هذه الروايات قد استُغلت في بعض الأحيان لتغذية الصراعات المذهبية، ودفعت بالعديد إلى الغلو والإقصاء والتكفير؛ مما أوقع الأمة في فتنة عظيمة. ويخلُص العدوي إلى أن الأمة بحاجة إلى دراسة هذه الروايات بملاحظات موضوعية، لاستخلاص الفوائد منها، وتجنب الوقوع في الغلو والإقصاء.
وبالنظر إلى الأديان الأخرى، نجد أن فكرة النجاة والخلاص ليست حكرًا على الإسلام؛ ففي اليهودية، يتجلى مفهوم "شعب الله المختار" و"بقية إسرائيل" كجماعة مختارة للنجاة. وفي المسيحية، يركز مفهوم الخلاص على الإيمان بالمسيح و"الكنيسة الأمينة" كطريق للنجاة. وفي البوذية، تسعى "السوترا" إلى تحقيق "النيرفانا" والتحرر من المعاناة. هذه المفاهيم، وإن اختلفت في تفاصيلها، إلا أنها تشترك في فكرة وجود طريق أو جماعة معينة للوصول إلى الخلاص. ومع ذلك، فإن التفسيرات الحديثة في هذه الأديان، كما في الإسلام، تتجه نحو فهم أكثر شمولية للنجاة، يركز على القيم الأخلاقية والسلوكية، وعلى التعايش والتسامح بين أتباع الديانات المختلفة.
ويمكن القول إن فكرة "الفرقة الناجية"، وإن كانت تحمل في طياتها دلالات عقدية عميقة، إلّا أنها تحتاج إلى قراءة تحليلية ونقدية في سياق العصر الحديث؛ لأن التمسك بالتفسيرات الحصرية لهذه الفكرة قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام والانغلاق، بينما الفهم الأوسع الذي يركز على النجاة السلوكية والروحية، وعلى القيم المشتركة بين البشر، يمكن أن يفتح آفاقًا أرحب للتعايش والتسامح. فالنجاة الحقيقية قد لا تكمن في الانتماء إلى فرقة بعينها، بل في السعي الدائم نحو الحق والخير والجمال، وفي بناء جسور التواصل والتفاهم بين جميع البشر، على اختلاف معتقداتهم ومشاربهم.
لذا.. فإنَّ إجابة السؤال "هل أنت من الفرقة الناجية؟" لا تكون في تحديد هوية جماعة؛ بل في عمق الالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة، وفي القدرة على احتضان التعددية، والبحث عن النجاة في رحاب واسعة تتسع للجميع. هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم، وكيف يمكننا أن نُحوِّل فكرة النجاة من مصدر للانقسام إلى دافع للوحدة والتعاون الإنساني.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 4 ساعات
- جريدة الرؤية
جلالة السلطان يهنئ رئيسي الهند وكوريا
مسقط- العُمانية بعث حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- برقية تهنئة إلى فخامة الرئيسة دوربادي مورمو رئيسة جمهورية الهند بمناسبة ذكرى استقلال بلادها. أعرب فيها جلالة السُّلطان عن خالص تمنياته لهذا البلد الصديق بتحقيق المزيد من الإنجازات ولعلاقات التعاون والشراكة النمو والتوسع في قطاعات عدة خدمةً لمصالح البلدين. كما بعث حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- برقية تهنئة إلى فخامة الرئيس لي جاي ميونغ رئيس جمهورية كوريا بمناسبة العيد الوطني لبلاده. أعرب جلالة السُّلطان المعظم فيها عن خالص تهانيه وأطيب تمنياته لفخامته بموفور الصحة والسعادة، وللشعب الكوري الصديق مزيدًا من الرخاء والنماء.


الشبيبة
منذ 6 ساعات
- الشبيبة
جلالة السُّلطان يهنئ رئيسي الهند وكوريا
الشبيبة - العمانية بعث حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ برقية تهنئة إلى فخامة الرئيسة/ دوربادي مورمو رئيسة جمهورية الهند بمناسبة ذكرى استقلال بـلادها. أعرب فيها جلالة السُّلطان عن خالص تمنياته لهذا البلد الصديق بتحقيق المزيد من الإنجازات ولعلاقات التعاون والشراكة النمو والتوسع في قطاعات عدة خدمةً لمصالح البلدين. كما بعث حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ برقية تهنئة إلى فخامة الرئيس/ لي جاي ميونغ رئيس جمهورية كوريا بمناسبة العيد الوطني لبلاده. أعرب جلالة السُّلطان المعظم فيها عن خالص تهانيه وأطيب تمنياته لفخامته بموفور الصحة والسعادة، وللشعب الكوري الصديق مزيدًا من الرخاء والنماء.


جريدة الرؤية
منذ يوم واحد
- جريدة الرؤية
662
المعتصم البوسعيدي الإنسان ليس مجرّدَ رقمٍ؛ فالإحصائيّات شاهدةٌ على عالمٍ ماتَ فيه العدل والإنصاف، وسقطتْ فيه أقنعةٌ كثيرة، وفضحتْ غزّة الكرامةِ من فضحت، وذلك الكيان اللقيط المزروع في خاصرةِ أمّتِنا، ما كانت لتقومَ له قائمة لولا الضعف والهوان، والتصهيُن والخذلان، والتقاتل على فتاتِ القضايا، وتأسُّد بعضِنا على بعضٍ، ودَفن الرؤوسِ لحظةَ الحربِ الضروس. وهل نكتفي بذلك؟ لا، بل نطعن في المُقاومةِ، ونرضى بتسليمِ السلاحِ، ونتنازل عن عزّتنا وشرفِنا مقابلَ الخنوعِ، والتباكي، والتسابقِ على مَن منّا أكثر تماسيحَ تذرف الدموع. غزّة، أيّتها الملعب الكبير الذي غيّرَ قواعدَ اللعبة؛ فالفائز ليس أكثرَك أهدافًا، ولا الرامي الحائزَ على أعلى النقاط، الفائز هو المتمّسك بحقِّ أرضهِ، الصابر على ابتلاءِ ربّه، المرابط في الثغور، الثائر على المغتصِبِ وحشدِ الشرور. 662 رياضيًّا وأكثر استشهِدوا في لمحةِ عين، لم يذكرْهم سوى قلّةٍ قليلة، لكنّ عند ربِّهم يذكرون، منهم "بيليه فلسطين" لاعب كرةِ القدمِ النجم سليمان العبيد، رحلَ وكرته تتدحرج مُعلِنةً خسارةَ "الفيفا" رأسِ التناقضاتِ، وميزانِ التقلّبات، والوجهِ القبيحِ للاصطفافِ وتلوينِ الأحداث. لقد اجتمعْنا وتوحَّدْنا- نحن العرب- على موقفٍ واحدٍ، كعادتِنا منذ عهدٍ؛ ألا وهو الصمت والحياد في مواطنَ لا حيادَ فيها، ونحن نتباهى باستضافةِ أقوى البطولات، ونحتفي برئيسِ "الفيفا" أيَّما احتفال، وهو المُبتسم المدّاح، المشيد الصدّاح، الذي قاد حملةَ مقاطعةِ روسيا حينما تجرّأت على حربِها ضدّ أوكرانيا، فوقفْنا معه، ورفعْنا العلمَ الأصفرَ والأزرقَ تضامنًا ومساندةً، ولمّا فعلَ الكيان الصهيونيّ اللقيط فعلتَه، هربْنا إلى مواسمِنا الرياضيّة، وحكاياتِنا المستقبليّة، دونَ تحريكِ سنِّ شَفَةٍ عن وقفِ رياضةِ الكيانِ، والتضامنِ مع رياضةٍ تُباد، وقبلها إنسانٌ يطهّر عِرقيًّا ودينيًّا؛ لأنّه لم يرضَ بالدنيئةِ والذلّ، والجمهور إما يصفّق، أو يشاهِد بصمتٍ كالحَجَر، لا كالبَشَر. كان لِسليمان العبيد رصيدٌ من البطولاتِ والإنجازات، وقد فتِحَت له أبواب الخروجِ من "الأرضِ المحروقة"، لكنه اختارَ قضيّتَه، وطنَه، ناسَه، وأخيرًا جنتَه بإذنِ اللهِ تعالى. تنقّل - رحمه الله - في الملاعبِ من نادي خدماتِ الشاطئ، إلى أنديةِ هلال القدسِ وشبابِ جباليا، وحمل رايةَ المنتخبِ الفدائيّ، وكان، وكان، وكان... كلّها طموحاتٌ وأحلامٌ في وطنٍ لطالما أرادَ فقط السلامَ والأمان. مثل "بيليه فلسطين" كُثُرٌ؛ فبحسبِ بياناتِ الاتحادِ الفلسطيني- قبلَ أيّام- هناك أكثر من 662 شهيدًا من الرياضيين الفلسطينيين ضمنَ قافلةٍ بلغ عددها أكثر من ربعِ مليونٍ، بين شهيدٍ ومصاب، ومجتمع الرياضةِ على استحياءٍ يفتح فاه، والاتحادات الرياضية واللجنة الأولمبية في غياهبِ الجبِّ؛ لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، فأمريكا راعية إرهابِ بني صهيون الذين يصولونَ ويجولونَ في كلِّ الألعابِ ولا حرجَ عليهم، وأمّةٌ لا زالت تتجادل: أيّها الفِرقة الناجية؟ ولعمري، لا ناجٍ أوضح من سليمان العبيدِ ورفاقِه وأهلِ غزةَ ومُقاومتِها العظيمة، وتبًّا لكلِّ رياضةٍ لا مبادئَ فيها، ولا قِيَم.