أحدث الأخبار مع #AKP


الجزيرة
٢٧-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
أردوغان والمعارضة في انتخابات تركيا القادمة: توقعات الربح والخسارة
كنّا نحن الصحفيين والمحللين السياسيين، ومنذ انطلاق الثورة السورية، نتحدث عبر شاشات التلفاز عن التحولات الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط، وعن تزايد النفوذ التركي في المنطقة. ولم نكن وحدنا في ذلك؛ فالرئيس الأميركي دونالد ترامب والإعلام العالمي بأسره كانوا يتناولون الأمر ذاته. غير أن مجريات الأمور داخل تركيا شهدت منعطفًا مفاجئًا في شهر فبراير/ شباط من هذا العام، حين أطلق النائب العام في إسطنبول سلسلة تحقيقات طالت بلديات تابعة لأحزاب المعارضة وبعض وسائل الإعلام، وتوّّجت بفتح قضايا بحق رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، وعدد من معاونيه. ومنذ ذلك الحين، لم يغادر هذا الموضوع الشاشات، إذ انصبّ جلّ اهتمام الرأي العام على هذه التحقيقات لما يقرب من شهر كامل. لكن هذا التغير المفاجئ في جدول الأحداث لم يكن وليد تطورات استثنائية أو غير اعتيادية، وإنما لا يمكن فهمه دون التوقف قليلًا عند طبيعة وضع المعارضة داخل تركيا. حال المعارضة في تركيا من النظرة الخارجية، ومن خلال ما يُنشر من أخبار، قد يتكوّن انطباع مفاده أن الدولة التركية تسعى إلى إسكات المعارضة، والزجّ بها في السجون، وفرض مشهد سياسي خالٍ من أي صوت معارض. وإذا ما نظرنا إلى عدد القضايا المفتوحة والأسماء التي أُدخلت السجن، فلن نجد هذا الانطباع بعيدًا كل البعد عن الواقع. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فقد شارك في الانتخابات الأخيرة في تركيا خمسةٌ وثلاثون حزبًا سياسيًا، من بينها اثنان وثلاثون تعدّ في صفوف المعارضة. وحاليًا، ثمة ستة عشر حزبًا ممثلًا في البرلمان، ثلاثة عشر منها تنتمي إلى المعارضة. أما القنوات التلفزيونية التي تدعم المعارضة فهي الأكثر مشاهدة، وصحفها هي الأكثر مبيعًا. بمعنى آخر، فإن المعارضة لا تزال حاضرة بفاعلية في المشهد السياسي، ولكنها محقّة في نقطة جوهرية: إذ بينما لا تُفتح أي تحقيقات بحق البلديات والمؤسسات الإعلامية التابعة للسلطة، فإن التحقيقات القضائية لا تكاد تنقطع ضد الجهات المعارضة، مما يصعّب تفسير هذا التفاوت في المعاملة. وقد يُفاجَأ القارئ إذا علم أن قسمًا مهمًا من تلك القضايا أُطلق بمبادرة من أعضاء في المعارضة أنفسهم. فعلى سبيل المثال، في مؤتمر عام لحزب الشعب الجمهوري (CHP) عام 2023، قام أعضاء من الحزب بالإبلاغ طوعًا السلطات القضائية عن شراء أصوات المندوبين بالرشوة، وهو ما أدى إلى فتح قضايا. كذلك، أبلغ موظفون في بلدية بيكوز التابعة للحزب ذاته عن تورّط رئيس البلدية في قضايا فساد، فتم فتح ملفات ضده. وفي آخر سلسلة من التحقيقات التي طالت أكرم إمام أوغلو ومرافقيه، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان بنفسه أن القسم الأكبر من الشكاوى والمعلومات المقدّمة إلى القضاء جاءت من شخصيات تنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري. ما الذي يدفع إلى مثل هذا السلوك؟ السبب يكمن في احتدام صراع القوى داخل الحزب الرئيسي للمعارضة، حتى قبل أن يصل إلى السلطة. وبما أنه لا توجد قوى سياسية بديلة حقيقية لحزب العدالة والتنمية (AKP)، فإن هذا الصراع الداخلي داخل المعارضة يزداد شدة. لذلك بات مألوفًا في الأوساط التركية قولهم: "تركيا لا تعاني من أزمة سلطة، بل من أزمة معارضة". في ظلّ النجاحات الإقليمية التي تحققت في الملف السوري، وتنامي مكانة تركيا عالميًا، يُطرح السؤال: لماذا ينشغل الرأي العام بقضايا تحقيقية تضرّ بحزب العدالة والتنمية بدلًا من التركيز على إنجازاته؟ تبدو قيادة الحزب مرتبكة نوعًا ما في التعامل مع هذا الملف، إذ تقول إن السلطة القضائية ملزمة قانونيًا بمتابعة البلاغات والشكاوى المتعلقة بالفساد، ولا يمكنها تجاهلها مراعاةً لحسابات سياسية. أما القضاء نفسه، فيؤكد أنه لا يتحرك بناءً على الأجندة السياسية أو حساسياتها، ولهذا لا يمكن منع هذه التحقيقات من تصدّر الساحة. بيدَ أن هناك قضيتين أساسيتين لا ينبغي إغفالهما: أولًا: النظام القضائي في تركيا يخضع منذ خمس سنوات لنقاش مستمر حول مدى حياده واستقلاله، وقد تراجعت ثقة المجتمع فيه بشكل حاد. فتركيا، ومنذ نحو خمسين عامًا، لم تنجح في حل معضلة تسييس القضاء، وهي ليست مشكلة تقتصر على حزب بعينه، بل مشكلة بنيوية طالما عانى منها جميع من تولى السلطة. اليوم، حتى إذا أثبتت التحقيقات وجود فساد في بلدية معارضة أو ضد شخصية بعينها، فإن إقناع الرأي العام بذلك يبدو عسيرًا. بل إن بثّ مشاهد حية لأخذ الرُّشا وتبادل الأموال لا يضمن تصديق الناس، نظرًا لما بلغه انعدام الثقة في العدالة من عمق. ثانيًا: تمويل السياسة لا يزال معضلة مستعصية. وتُعد أبرز مزاعم التحقيقات الأخيرة أن ملايين الدولارات التي اختُلست من بلديات معارضة كانت تهدف إلى تمويل الحملة الانتخابية للرئاسة المقبلة. فالعمل السياسي مكلف للغاية، وتلجأ الأحزاب أحيانًا إلى استغلال موارد البلديات ومزايا السلطة لتأمين التمويل. ورغم أن الأحزاب مؤسسات قائمة على التبرعات، فإن هذه التبرعات لا تفي بالحاجة، مما يدفع البعض إلى طرق أبواب التمويل غير القانوني. ومن الشائع الحديث في كل موسم انتخابي عن دفع مبالغ ضخمة وغير مُعلَنة لقاء الترشح لمناصب نيابية أو بلدية. وقد جرت محاولات سابقة لسنّ قوانين تنظّم تمويل الحياة السياسية وتجعلها شفافة وخاضعة للرقابة، لكنها باءت بالفشل. تزعم المعارضة أن التحقيقات الجارية بحق أكرم إمام أوغلو وفريقه إنما هي مؤامرة دبّرتها السلطة الحاكمة، وتصفها بأنها مختلقة ولا أساس لها من الصحة. لكن، هل آتت هذه التحقيقات أُكُلها لصالح الحكومة؟ أعتقد أن الجواب هو: لا. ففي انتخابات 2019، فاز إمام أوغلو بمنصب رئيس بلدية إسطنبول بفارق خمسة عشر ألف صوت، لكن تم إلغاء النتيجة بزعم وجود تلاعب. حينها اتّهمت المعارضة السلطة الحاكمة بالتدخل السياسي، غير أن الإعادة الانتخابية جاءت بنتيجة مدوّية، إذ فاز إمام أوغلو بفارق 800 ألف صوت، وسجّل بذلك أكبر خسارة انتخابية في تاريخ حزب العدالة والتنمية. يكمن السبب في ذلك في الحساسية العالية التي يبديها الناخب التركي تجاه مظلومية الأشخاص. وهذه ظاهرة موثّقة بتاريخ طويل من الأمثلة. وقد تترك التحقيقات الراهنة أثرًا مشابهًا، فإذا اقتنع الناخبون بأن أكرم إمام أوغلو وحزبه يتعرضان للاضطهاد، فقد يمنحونه وحزبه تأييدًا كاسحًا. ورغم أن المعارضة تدّعي أن الهدف من التحقيقات هو إقصاء إمام أوغلو سياسيًا، فإن ثمة بُعدًا آخر؛ فمرشح الحزب الآخر، منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، يحظى بشعبية أكبر منه، بل إن استطلاعات الرأي تُظهر أنه قادر على الفوز في حال ترشّحه. غير أن فئة داخل الحزب تُفضّل ترشيح إمام أوغلو؛ بسبب الصراع الداخلي على القيادة، وتسعى لتقديمه على غيره. وعليه، فإن كانت الحكومة تعوّل على هذه التحقيقات لقطع الطريق أمام المعارضة، فهي مخطئة. فالسياسي لا يُهزم إلا في صناديق الاقتراع، لا في أروقة المحاكم. نقاط القوة والضعف ردّت المعارضة سريعًا على التحقيقات بإطلاق حملة اتصالات سياسية قوية، ونظّمت خلال أسبوع واحد تظاهرات ضخمة شارك فيها عشرات الآلاف، مستثمرةً بذلك حالة المظلومية لصالحها. وقد تمكّنت من فرض سيطرتها النفسية على المشهد السياسي، ويُعتقد أنها لو دخلت انتخابات مبكرة خلال عام واحد فستفوز على الأرجح. لكنّ أمام الانتخابات ثلاث سنوات كاملة، ولا يمكن التوجّه لانتخابات مبكرة دستوريًا دون موافقة حزب العدالة والتنمية. وهنا تبرز ثلاثة تحديات أمام المعارضة: أن تواصل زخمها السياسي على مدار ثلاث سنوات، وتُقنع الجمهور بقدرتها على إدارة الدولة، وتُبقي مظلوميتها حاضرة في الوعي العام. أن تُنهي الصراع الداخلي داخل حزب الشعب الجمهوري، وتحافظ على وحدة الصف وتضامن أحزاب المعارضة. أن تستوعب التحولات الدولية، وتستجيب للمخاوف الأمنية الناتجة عن الحروب والأزمات، وتُخرج من بين صفوفها زعيمًا يُضاهي الرئيس أردوغان في الثقة والقبول العالمي. وهذه جميعها تحديات صعبة على المعارضة، بينما تملك أفضلية في ملف المظلومية وأخطاء السلطة. أما نقاط القوة والضعف في صف الحكومة، فهي كالتالي: الاقتصاد الذي بدأ يتعافى عاد إلى دائرة الخطر، والمخاوف الاقتصادية لدى الناس تزايدت. وقد أنفقت الدولة 25 مليار دولار لموازنة سعر الصرف، مما أثقل كاهل الخزينة. وإذا لم تُعالَج هذه المشكلات قبل الانتخابات، فإن خسارتها مرجّحة. ضرورة حلّ أزمة تمويل السياسة، وتعزيز ثقة المواطنين بمنظومة العدالة لمكافحة الفساد بفاعلية. الحاجة إلى سن قوانين وتنظيمات جديدة تُخضع البلديات والمؤسسات التابعة للسلطة لرقابة عادلة وشفافة تُثبت خلوّها من الفساد. اكتسبت تركيا، بفضل الثورة السورية، مكانة دولية مرموقة، وحقق أردوغان نجاحات كبيرة في ملفات أوكرانيا، وغزة، وسوريا، مما جعله الشخصية الأكثر ثقةً داخل تركيا. أطلق الرئيس مشروعات ضخمة في مجالات الدفاع، والتكنولوجيا، والطاقة، والسياسة الخارجية، مما عزز اقتصاد البلاد وثقة الجمهور بقدراته القيادية. إذا نجحت مبادرة "تركيا بلا إرهاب" في حمل حزب العمال الكردستاني على إلقاء السلاح وإنهاء التهديد، فستكون مكسبًا إستراتيجيًا ضخمًا للحكومة، وستنعكس إيجابًا على شعبيتها. ثلاث سنوات قادرة على قلب الموازين صحيح أن الأجواء النفسية في الداخل التركي تميل حاليًا نحو المعارضة، إلا أن الموقف الدولي لا يزال يفضل حزب العدالة والتنمية وأردوغان. حتى الولايات المتحدة وأوروبا لم تصدر عنهما انتقادات جادة بخصوص التحقيقات الجارية، مما يدل على أن التوازن الخارجي ما زال يميل لصالح الحكومة. وإذا ما نظرنا إلى أن الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تُجرى قبل عام 2028، فإن الوقت لا يزال طويلًا، وكفيلًا بقلب الطاولة على جميع الأطراف. ومن المؤكد أن المعارضة والسلطة ستبذلان أقصى جهودهما للحفاظ على موقعيهما خلال هذه المدة. غير أن التحولات الدولية أثبتت قدرتها على التأثير العميق، وهو ما يجعل من حظوظ المعارضة أقل، بالنظر إلى قلة خبرتها وصعوبة إقناعها للجمهور. وفي المقابل، لا بدّ من التنويه إلى أن الحكومة نفسها باتت بحاجة إلى انطلاقة جديدة وهجوم سياسي متجدّد.


وطنا نيوز
١٠-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- وطنا نيوز
قنبلة سجين تتطاير شظاياها فوق عواصم الإقليم
كتب: عريب الرنتاوي من معزله القصيّ، فوق جزيرة إمرالي الصغيرة في أطراف بحر مرمرة، فجّر السجين الأشهر عبدالله أوجلان، قنبلةً من العيار الثقيل، سيكون لها تداعيات وارتدادات تتخطى الجغرافيا التركية لتطاول الإقليم. وستُحدث شظاياها تبدلات في توازنات القوى الكردية في دول الانتشار، وتعيد ترتيب أولوياتها ومقارباتها، ومعها ستتغير مقاربات ورهانات قوى إقليمية ودولية، بالذات في الحواضن الأربعة لما بات يعرف بـ'المسألة الكردية'. من بين الزعامات الثلاثة التي توزعت عليها الحركة الكردية في المنطقة: طالباني، البارزاني، وأوجلان، يتميز الأخير، بزعامة كاريزمية، عابرة للحدود. تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني قبل خمسة عقود، تضرب جذورًا عميقة في أوساط كردية سورية، وعراقية وإيرانية، فضلًا عن نفوذه الوازن في مغتربات الأكراد وشتاتهم. ومن هنا يمكن التكهن، بأن الرسالة التي وجهها الرجل إلى حزبه، ستتردد أصداؤها في جنبات المكونات والكيانات الكردية في مختلف الأرجاء، وهذا ما يبعث على ارتياح البعض ويثير قلق البعض. والرسالة بما تضمنته من أفكار، هي حصيلة مراجعات ممتدة وعميقة، أجراها الرجل في محبسه (1999 – حتى اليوم)، وقد تضمنت كتبٌ عدة أنجزها في سجنه، بعضًا من فصول هذه المراجعات، قرّبته من مفهوم 'الأمة الديمقراطية'، وخففته من الخطاب القومي الحاد، بما يستبطن، أو يُشتق منه، مشاريع انفصالية، تحت مسميات عدة: الفدرالية، تقرير المصير، الإدارة الذاتية، وأحيانًا 'اللامركزية الموسّعة'. عبدالله أوجلان، اليساري، الماركسي – اللينيني سابقًا، يدعو في رسالته، لا إلى وقف إطلاق النار، أو هدنة مؤقتة، كما سبق له أن فعل، بل إلى إسقاط السلاح ونبذ العنف، وإنهاء نهج 'الكفاح المسلح' وأدواته، بل ويطالب بحل الحزب 'PKK' (تأسس عام 1978)، ومواصلة العمل السياسي تحت مسميات متخففة من إرث ذلك الحزب. ذلكم تطور نوعي وعامل تغيير إستراتيجي 'Game Changer'، سيكون له ما بعده. القصة باختصار مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، بدا أن صفحة جديدة في العلاقات التركية – الكردية الداخلية قد فُتحت. لم تعد 'المسألة الكردية' مسيّجة بالتابوهات. أصبحت عنوانًا على بساط، تتفق بشأنه الآراء وتفترق. بخلاف ما كان عليه الحال من قبل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر أنه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1998، كنت في زيارة أولى لأنقرة، بدعوة من 'خارجيتها'، وصادف أن التوقيع على اتفاق أضنة قد تم بعد وصولي بأيام قلائل. وأثناء اجتماع مع وزير الخارجية التركية آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من الخارجية ممازحًا: ما الموضوعات المحظور طرحها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، بالذات 'الجنرالات' منهم؟ قالت أنصح بألا تسأل عن دور الجيش في السياسة، ولا عن المسألة الكردية، وهي النصيحة التي لم ألتزم بها على أية حال، بل حرصت على إثارة المسألتين، في كل لقاء أجريته خلال الأسبوعين اللذين استغرقتهما الزيارة. بدا أن حزب العدالة والتنمية 'AKP'، لديه فائض مشتركات مع أكراد بلاده، بما لا يقارن مع أسلافه، من علمانيين وقوميين وجنرالات، تعاقبوا على حكم البلاد لسنوات وعقود مديدة. وبدأنا نشهد سنوات انفراج رافقت سنوات صعود الحزب وامتلاء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة له. إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو/ حزيران عام 2015، التي لم يتمكن بنتيجتها الحزب من الفوز بعددٍ كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة ذاتها، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، ليبدأ بعدها فصل من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول وديار بكر وجوارها، ولتعود العلاقات التركية – الكردية إلى سابق عهود الأزمة والتأزم. لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد، من خوض غمار الانتخابات العامة، وتشكيل أحزاب سياسية، وتحقيق مكتسبات انتخابية، جعلت منهم في مراحل معينة 'بيضة قبّان' وازنة. ولم تَحُل الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم، دون استمرار حضورهم في الحياة السياسية، وإن كان على 'حبل مشدود'. نقطة تحوّل في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، كان دولت بهتشلي أصدر نداءً اقترح فيه دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي، والإعلان عن وقف 'الإرهاب' وحل حزبه. يومها قُوبلت مبادرة زعيم الحركة القومية، بفيض من التساؤلات، لا سيما أنها تصدر عن واحدٍ من أكثر خصوم الحركة الكردية تشددًا، ما الذي يدور في الخفاء، وما هي أهداف المبادرة، ولماذا الآن، وهل هي منسّقة مع الشقيق الأكبر، حزب العدالة والتنمية والزعيم التركي رجب طيب أردوغان؟ لم تمضِ سوى 48 ساعة، حتى كان الإرهاب يضرب في أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، يومها ترددت الاتهامات بالسعي لإجهاض مبادرة بهتشلي، وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، لتتجدد بعد ذلك العمليات الحربية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا. لكن ما نفهمه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في السادس والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أو بالأحرى، ما نستنتجه من هذه الرسالة /القنبلة، أن قنوات التواصل بين الجانبين، لم تنقطع، برغم صخب المعارك وأصوات التفجيرات والغارات. وأحسب أن رسالة أوجلان، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد هذه الاتصالات و'التفاهمات'، أما جزؤُها الغاطس، فسيتكشّف في قادمات الأيام. لم ينتظر المراقبون المتلهفون للتعرف على 'استجابة' قيادة الحزب وقيادة قنديل لدعوة أوجلان طويلًا. الرد جاء سريعًا ومفصلًا، في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية للحزب، عبّر من خلاله عن تأييده التام للمبادرة، مطالبًا سلطات أنقرة، بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة 'الأب الروحي' شخصيًا في أعماله، بعد إصدار ما يلزم من قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، وهذا يشمل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يقبع زعيمه صلاح الدين ديمرطاش في السجن منذ عدة سنوات. نحن إذن، أمام كرة بدأت بالتدحرج. ومن دون تهوين أو تهويل لحجم وصلابة العقبات والمعوّقات التي تحول دون إنجاز ملف 'السلم الأهلي'، إلا أن جملة من البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها، تدفع على الاعتقاد بأننا إزاء أكثر المحاولات جديّة لإغلاق ملف 'المسألة الكردية' في تركيا، بكل ما قد يترتب من تداعيات على قضايا الكرد وأحوالهم في دول الجوار. داخليًا؛ قال زعيم الحزب كلمته، واستجابت قيادته للنداء: إلقاء السلاح، إنهاء ظاهرة 'الكفاح المسلح'، و'حل الحزب'، جملة التزامات من النوع غير القابلة للتراجع عنها إن حصلت 'Irreversible'، والحزب استبدل غايات كفاحه التي تحمل معاني 'الانفصال' و'الفدرالية' بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي. تلكم تطورات كفيلة بتبديد الخوف والقلق على سلامة الوحدة الترابية للبلاد، وسيادتها وسلامة نسيجها الاجتماعي. في المقابل، تبدو الدولة التركية بحاجة لترتيب بيتها الداخلي، لمواجهة استحقاقات إقليمية تطل برأسها، وتحديدًا على حدودها الجنوبية، مع وجود 'جيب كردي انفصالي'، لم يعد قادته يترددون في البوح باستعدادهم للتحالف مع 'الشيطان/إسرائيل' إن هو مدّ لهم يد العون، وما قاله تلميحًا مظلوم عبدي (القائد العام لقوات قسد الكردية في سوريا)، سبق لإلهام أحمد (المسؤولة الحزبية الكردية في سوريا) أن قالته لـ'جيروزاليم بوست' تصريحًا. أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد خرج من آخر انتخابات في مارس/ آذار الماضي، بفوز غير مؤزّر، فيما زعيمه و'الأب الروحي' له، يواجه استحقاق الخروج من المسرح السياسي في ختام آخر ولاياته الرئاسية، المصادر في أنقرة، تتحدث عن مصلحة للحزب في تجديد حضوره الشعبي وقواعده الانتخابية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور، لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية. أزيد من أربعين عامًا من العنف المسلح، أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وعشرات المليارات من الدولارات، خسائر مادية. لا الحزب الكردي نجح في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر مزيدًا من الأرض والقواعد والشعبية مؤخرًا، لا سيما بعد رحيل نظام الأسد إلى ذمّة التاريخ، ولا الدولة التركية تخلصت من شبح 'الإرهاب' الذي قضّ مضاجعها. تركيا تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة، عنوانها السلم الأهلي، وترتيب البيت الداخلي، وسد ثغرات الداخل؛ استعدادًا لتحديات الخارج. لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ليس ثمة متضررون من هذا المسار الجديد الذي بدأ يشق طريقه، وستبدي لنا قادمات الأيام فصولًا منه، لا نعرفها حتى اليوم. هؤلاء لن يرفعوا الرايات البيضاء أمام قطار المصالحة، لكن يبدو أن قوة الزخم التي يتوفر عليها هذا المسار السياسي، ستكون كفيلة بإزالة هذه العقبات وتدوير الزوايا الحادة في مواقف وتوجهات المعارضين. شظايا تتطاير أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة، هم فريق 'قسد' من أكراد سوريا، وهو فريق مركزي على أية حال، ويعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا. هم لم يفقدوا حليفًا مشاركًا وموثوقًا في الميدان فحسب، بل هم الأقرب لنهج حزب العمال الكردستاني وتوجهات زعامته التاريخية. سيتعين على 'قسد' بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح، والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد. سيتعين عليها التخلي عن أحلامها في 'الفدرالية' و'الإدارة الذاتية الموسعة' والتي تشفّ عن طموحات انفصالية لا يحد منها سوى المصاعب التي تعترض ترجمتها. سيتعين عليها التخلي عن نهج الاستقواء بالأجنبي، أميركيًا كان أم إسرائيليًا، تلكم رهانات خائبة، تبدو سوريا الجديدة، وتركيا ما بعد المصالحة، في وضع أفضل لإحباط مراميها وأهدافها. بيان أوجلان الذي قالت 'قسد' إنها ليست معنية به، رسم سقوفًا لطموحات كرد سوريا وتطلعاتهم، ووضع قيودًا على أدوات كفاحهم ومستقبل خياراتهم المسلحة. وشق طريقًا سيساعد 'قسد' على الاندماج بالدولة السورية، والعمل على 'السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي'. بخلاف ذلك، ستكون الحركة الكردية عرضة لمسلسل من الانشقاقات لا يتوقف، وستقوى شوكة الكرد من أنصار المدرسة البارزانية، القريبة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، إذ من المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك، في غير صالح السليمانية والطالبانية، وهي كانت بدأت الاختلال في ضوء انكماش الدور الإيراني إثر 'الطوفان'، وتنامي دور تركيا بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. وأحسب أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للمسألة الكردية في تركيا. لا لأنها تضع مشكلات كبرى في طريق ترجمة 'حلف الأقليات' ودعوات نتنياهو – ساعر لحماية الأكراد فحسب، بل لأنها تجرد إسرائيل من ورقة يمكن أن تحركها ضد أنقرة، ما دام أن العلاقة بين البلدين، قد وضعت على سكة تصادم بعد أن كانت على سكة تعاون، كما يتّضح في التطورات المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، سياسية ومسلحة، أقل حضورًا من نظيراتها في دول الانتشار الكردي، وإن كانت تتسبب بصداع مزمن لطهران. ومن جهة ثانية، فإن تقارير ما بعد انهيار نظام الأسد، كانت تتحدث عن رهان إيران على 'قسد' لمقارعة النظام السوري الجديد، وهي تقارير لا يوجد ما يكفي من الأدلة على صدقيتها، سوى معلومات شحيحة، عن لقاءات في السليمانية جرت للبحث في هذا الموضوع. واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، استقبلت بيان أوجلان بترحيب رسمي، ذلك أن فكفكة العقد بين أنقرة وحزب العمال، مع ما قد تفضي من تراجع منسوب التوتر بين 'قسد' و'أنقرة'، يمكن أن يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأميركية من تلك البقعة، وهي المهمة التي أخفق دونالد ترامب في إنجازها في ولايته الأولى، وربما يكون راغبًا في إنجازها في ولايته الثانية، وهو – أي ترامب – سبق أن أبدى ارتياحه لتنامي الدور التركي في سوريا، باعتبار أن ثمة 'حليفًا موثوقًا' يمكن أن يتولى أمر سوريا، بخلاف إسرائيل، التي تخشى هذا الدور، لدرجة أنها بدأت تضغط للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، لعدم ترك الأخيرة نهبًا لنفوذ تركي متفرّد. رسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة، بصورة جذرية تلتقي مع جذريتها، فسترسم سقوفًا للحركات الكردية في الإقليم، لا يُنتظر معها، العودة للاستفتاء على مستقبل الإقليم في العراق، ولا بقاء 'قسد' و'الإدارة الذاتية' خارج الدولة السورية، أو بموازاتها، ولن يكون ممكنًا بعدها، التفكير بأية ولادات من خارج رحم الدولة، لحركات انفصالية بدأت تطل برأسها الكريه من تحت مظلة 'حلف الأقليات' بالزعامة والحماية الإسرائيليتين


أخبارنا
٠٩-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- أخبارنا
عريب الرنتاوي يكتب : قنبلة سجين تتطاير شظاياها فوق عواصم الإقليم
أخبارنا : كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية من معزله القصيّ، فوق جزيرة إمرالي الصغيرة في أطراف بحر مرمرة، فجّر السجين الأشهر عبدالله أوجلان، قنبلةً من العيار الثقيل، سيكون لها تداعيات وارتدادات تتخطى الجغرافيا التركية لتطاول الإقليم. وستُحدث شظاياها تبدلات في توازنات القوى الكردية في دول الانتشار، وتعيد ترتيب أولوياتها ومقارباتها، ومعها ستتغير مقاربات ورهانات قوى إقليمية ودولية، بالذات في الحواضن الأربعة لما بات يعرف بـ"المسألة الكردية". من بين الزعامات الثلاثة التي توزعت عليها الحركة الكردية في المنطقة: طالباني، البارزاني، وأوجلان، يتميز الأخير، بزعامة كاريزمية، عابرة للحدود. تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني قبل خمسة عقود، تضرب جذورًا عميقة في أوساط كردية سورية، وعراقية وإيرانية، فضلًا عن نفوذه الوازن في مغتربات الأكراد وشتاتهم. ومن هنا يمكن التكهن، بأن الرسالة التي وجهها الرجل إلى حزبه، ستتردد أصداؤها في جنبات المكونات والكيانات الكردية في مختلف الأرجاء، وهذا ما يبعث على ارتياح البعض ويثير قلق البعض. والرسالة بما تضمنته من أفكار، هي حصيلة مراجعات ممتدة وعميقة، أجراها الرجل في محبسه (1999 – حتى اليوم)، وقد تضمنت كتبٌ عدة أنجزها في سجنه، بعضًا من فصول هذه المراجعات، قرّبته من مفهوم "الأمة الديمقراطية"، وخففته من الخطاب القومي الحاد، بما يستبطن، أو يُشتق منه، مشاريع انفصالية، تحت مسميات عدة: الفدرالية، تقرير المصير، الإدارة الذاتية، وأحيانًا "اللامركزية الموسّعة". عبدالله أوجلان، اليساري، الماركسي – اللينيني سابقًا، يدعو في رسالته، لا إلى وقف إطلاق النار، أو هدنة مؤقتة، كما سبق له أن فعل، بل إلى إسقاط السلاح ونبذ العنف، وإنهاء نهج "الكفاح المسلح" وأدواته، بل ويطالب بحل الحزب "PKK" (تأسس عام 1978)، ومواصلة العمل السياسي تحت مسميات متخففة من إرث ذلك الحزب. ذلكم تطور نوعي وعامل تغيير إستراتيجي "Game Changer"، سيكون له ما بعده. القصة باختصار مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، بدا أن صفحة جديدة في العلاقات التركية – الكردية الداخلية قد فُتحت. لم تعد "المسألة الكردية" مسيّجة بالتابوهات. أصبحت عنوانًا على بساط، تتفق بشأنه الآراء وتفترق. بخلاف ما كان عليه الحال من قبل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر أنه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1998، كنت في زيارة أولى لأنقرة، بدعوة من "خارجيتها"، وصادف أن التوقيع على اتفاق أضنة قد تم بعد وصولي بأيام قلائل. وأثناء اجتماع مع وزير الخارجية التركية آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من الخارجية ممازحًا: ما الموضوعات المحظور طرحها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، بالذات "الجنرالات" منهم؟ قالت أنصح بألا تسأل عن دور الجيش في السياسة، ولا عن المسألة الكردية، وهي النصيحة التي لم ألتزم بها على أية حال، بل حرصت على إثارة المسألتين، في كل لقاء أجريته خلال الأسبوعين اللذين استغرقتهما الزيارة. بدا أن حزب العدالة والتنمية "AKP"، لديه فائض مشتركات مع أكراد بلاده، بما لا يقارن مع أسلافه، من علمانيين وقوميين وجنرالات، تعاقبوا على حكم البلاد لسنوات وعقود مديدة. وبدأنا نشهد سنوات انفراج رافقت سنوات صعود الحزب وامتلاء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة له. إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو/ حزيران عام 2015، التي لم يتمكن بنتيجتها الحزب من الفوز بعددٍ كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة ذاتها، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، ليبدأ بعدها فصل من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول وديار بكر وجوارها، ولتعود العلاقات التركية – الكردية إلى سابق عهود الأزمة والتأزم. لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد، من خوض غمار الانتخابات العامة، وتشكيل أحزاب سياسية، وتحقيق مكتسبات انتخابية، جعلت منهم في مراحل معينة "بيضة قبّان" وازنة. ولم تَحُل الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم، دون استمرار حضورهم في الحياة السياسية، وإن كان على "حبل مشدود". نقطة تحوّل في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، كان دولت بهتشلي أصدر نداءً اقترح فيه دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي، والإعلان عن وقف "الإرهاب" وحل حزبه. يومها قُوبلت مبادرة زعيم الحركة القومية، بفيض من التساؤلات، لا سيما أنها تصدر عن واحدٍ من أكثر خصوم الحركة الكردية تشددًا، ما الذي يدور في الخفاء، وما هي أهداف المبادرة، ولماذا الآن، وهل هي منسّقة مع الشقيق الأكبر، حزب العدالة والتنمية والزعيم التركي رجب طيب أردوغان؟ لم تمضِ سوى 48 ساعة، حتى كان الإرهاب يضرب في أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، يومها ترددت الاتهامات بالسعي لإجهاض مبادرة بهتشلي، وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، لتتجدد بعد ذلك العمليات الحربية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا. لكن ما نفهمه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في السادس والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أو بالأحرى، ما نستنتجه من هذه الرسالة /القنبلة، أن قنوات التواصل بين الجانبين، لم تنقطع، برغم صخب المعارك وأصوات التفجيرات والغارات. وأحسب أن رسالة أوجلان، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد هذه الاتصالات و"التفاهمات"، أما جزؤُها الغاطس، فسيتكشّف في قادمات الأيام. لم ينتظر المراقبون المتلهفون للتعرف على "استجابة" قيادة الحزب وقيادة قنديل لدعوة أوجلان طويلًا. الرد جاء سريعًا ومفصلًا، في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية للحزب، عبّر من خلاله عن تأييده التام للمبادرة، مطالبًا سلطات أنقرة، بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة "الأب الروحي" شخصيًا في أعماله، بعد إصدار ما يلزم من قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، وهذا يشمل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يقبع زعيمه صلاح الدين ديمرطاش في السجن منذ عدة سنوات. نحن إذن، أمام كرة بدأت بالتدحرج. ومن دون تهوين أو تهويل لحجم وصلابة العقبات والمعوّقات التي تحول دون إنجاز ملف "السلم الأهلي"، إلا أن جملة من البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها، تدفع على الاعتقاد بأننا إزاء أكثر المحاولات جديّة لإغلاق ملف "المسألة الكردية" في تركيا، بكل ما قد يترتب من تداعيات على قضايا الكرد وأحوالهم في دول الجوار. داخليًا؛ قال زعيم الحزب كلمته، واستجابت قيادته للنداء: إلقاء السلاح، إنهاء ظاهرة "الكفاح المسلح"، و"حل الحزب"، جملة التزامات من النوع غير القابلة للتراجع عنها إن حصلت "Irreversible"، والحزب استبدل غايات كفاحه التي تحمل معاني "الانفصال" و"الفدرالية" بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي. تلكم تطورات كفيلة بتبديد الخوف والقلق على سلامة الوحدة الترابية للبلاد، وسيادتها وسلامة نسيجها الاجتماعي. في المقابل، تبدو الدولة التركية بحاجة لترتيب بيتها الداخلي، لمواجهة استحقاقات إقليمية تطل برأسها، وتحديدًا على حدودها الجنوبية، مع وجود "جيب كردي انفصالي"، لم يعد قادته يترددون في البوح باستعدادهم للتحالف مع "الشيطان/إسرائيل" إن هو مدّ لهم يد العون، وما قاله تلميحًا مظلوم عبدي (القائد العام لقوات قسد الكردية في سوريا)، سبق لإلهام أحمد (المسؤولة الحزبية الكردية في سوريا) أن قالته لـ"جيروزاليم بوست" تصريحًا. أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد خرج من آخر انتخابات في مارس/ آذار الماضي، بفوز غير مؤزّر، فيما زعيمه و"الأب الروحي" له، يواجه استحقاق الخروج من المسرح السياسي في ختام آخر ولاياته الرئاسية، المصادر في أنقرة، تتحدث عن مصلحة للحزب في تجديد حضوره الشعبي وقواعده الانتخابية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور، لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية. أزيد من أربعين عامًا من العنف المسلح، أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وعشرات المليارات من الدولارات، خسائر مادية. لا الحزب الكردي نجح في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر مزيدًا من الأرض والقواعد والشعبية مؤخرًا، لا سيما بعد رحيل نظام الأسد إلى ذمّة التاريخ، ولا الدولة التركية تخلصت من شبح "الإرهاب" الذي قضّ مضاجعها. تركيا تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة، عنوانها السلم الأهلي، وترتيب البيت الداخلي، وسد ثغرات الداخل؛ استعدادًا لتحديات الخارج. لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ليس ثمة متضررون من هذا المسار الجديد الذي بدأ يشق طريقه، وستبدي لنا قادمات الأيام فصولًا منه، لا نعرفها حتى اليوم. هؤلاء لن يرفعوا الرايات البيضاء أمام قطار المصالحة، لكن يبدو أن قوة الزخم التي يتوفر عليها هذا المسار السياسي، ستكون كفيلة بإزالة هذه العقبات وتدوير الزوايا الحادة في مواقف وتوجهات المعارضين. شظايا تتطاير أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة، هم فريق "قسد" من أكراد سوريا، وهو فريق مركزي على أية حال، ويعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا. هم لم يفقدوا حليفًا مشاركًا وموثوقًا في الميدان فحسب، بل هم الأقرب لنهج حزب العمال الكردستاني وتوجهات زعامته التاريخية. سيتعين على "قسد" بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح، والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد. سيتعين عليها التخلي عن أحلامها في "الفدرالية" و"الإدارة الذاتية الموسعة" والتي تشفّ عن طموحات انفصالية لا يحد منها سوى المصاعب التي تعترض ترجمتها. سيتعين عليها التخلي عن نهج الاستقواء بالأجنبي، أميركيًا كان أم إسرائيليًا، تلكم رهانات خائبة، تبدو سوريا الجديدة، وتركيا ما بعد المصالحة، في وضع أفضل لإحباط مراميها وأهدافها. بيان أوجلان الذي قالت "قسد" إنها ليست معنية به، رسم سقوفًا لطموحات كرد سوريا وتطلعاتهم، ووضع قيودًا على أدوات كفاحهم ومستقبل خياراتهم المسلحة. وشق طريقًا سيساعد "قسد" على الاندماج بالدولة السورية، والعمل على "السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي". بخلاف ذلك، ستكون الحركة الكردية عرضة لمسلسل من الانشقاقات لا يتوقف، وستقوى شوكة الكرد من أنصار المدرسة البارزانية، القريبة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، إذ من المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك، في غير صالح السليمانية والطالبانية، وهي كانت بدأت الاختلال في ضوء انكماش الدور الإيراني إثر "الطوفان"، وتنامي دور تركيا بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. وأحسب أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للمسألة الكردية في تركيا. لا لأنها تضع مشكلات كبرى في طريق ترجمة "حلف الأقليات" ودعوات نتنياهو – ساعر لحماية الأكراد فحسب، بل لأنها تجرد إسرائيل من ورقة يمكن أن تحركها ضد أنقرة، ما دام أن العلاقة بين البلدين، قد وضعت على سكة تصادم بعد أن كانت على سكة تعاون، كما يتّضح في التطورات المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، سياسية ومسلحة، أقل حضورًا من نظيراتها في دول الانتشار الكردي، وإن كانت تتسبب بصداع مزمن لطهران. ومن جهة ثانية، فإن تقارير ما بعد انهيار نظام الأسد، كانت تتحدث عن رهان إيران على "قسد" لمقارعة النظام السوري الجديد، وهي تقارير لا يوجد ما يكفي من الأدلة على صدقيتها، سوى معلومات شحيحة، عن لقاءات في السليمانية جرت للبحث في هذا الموضوع. واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، استقبلت بيان أوجلان بترحيب رسمي، ذلك أن فكفكة العقد بين أنقرة وحزب العمال، مع ما قد تفضي من تراجع منسوب التوتر بين "قسد" و"أنقرة"، يمكن أن يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأميركية من تلك البقعة، وهي المهمة التي أخفق دونالد ترامب في إنجازها في ولايته الأولى، وربما يكون راغبًا في إنجازها في ولايته الثانية، وهو – أي ترامب – سبق أن أبدى ارتياحه لتنامي الدور التركي في سوريا، باعتبار أن ثمة "حليفًا موثوقًا" يمكن أن يتولى أمر سوريا، بخلاف إسرائيل، التي تخشى هذا الدور، لدرجة أنها بدأت تضغط للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، لعدم ترك الأخيرة نهبًا لنفوذ تركي متفرّد. رسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة، بصورة جذرية تلتقي مع جذريتها، فسترسم سقوفًا للحركات الكردية في الإقليم، لا يُنتظر معها، العودة للاستفتاء على مستقبل الإقليم في العراق، ولا بقاء "قسد" و"الإدارة الذاتية" خارج الدولة السورية، أو بموازاتها، ولن يكون ممكنًا بعدها، التفكير بأية ولادات من خارج رحم الدولة، لحركات انفصالية بدأت تطل برأسها الكريه من تحت مظلة "حلف الأقليات" بالزعامة والحماية الإسرائيليتين.


الجزيرة
٠٥-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
قنبلة سجين تتطاير شظاياها فوق عواصم الإقليم
من معزله القصيّ، فوق جزيرة إمرالي الصغيرة في أطراف بحر مرمرة، فجّر السجين الأشهر عبدالله أوجلان، قنبلةً من العيار الثقيل، سيكون لها تداعيات وارتدادات تتخطى الجغرافيا التركية لتطاول الإقليم. وستُحدث شظاياها تبدلات في توازنات القوى الكردية في دول الانتشار، وتعيد ترتيب أولوياتها ومقارباتها، ومعها ستتغير مقاربات ورهانات قوى إقليمية ودولية، بالذات في الحواضن الأربعة لما بات يعرف بـ"المسألة الكردية". من بين الزعامات الثلاثة التي توزعت عليها الحركة الكردية في المنطقة: طالباني، البارزاني، وأوجلان، يتميز الأخير، بزعامة كاريزمية، عابرة للحدود. تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني قبل خمسة عقود، تضرب جذورًا عميقة في أوساط كردية سورية، وعراقية وإيرانية، فضلًا عن نفوذه الوازن في مغتربات الأكراد وشتاتهم. ومن هنا يمكن التكهن، بأن الرسالة التي وجهها الرجل إلى حزبه، ستتردد أصداؤها في جنبات المكونات والكيانات الكردية في مختلف الأرجاء، وهذا ما يبعث على ارتياح البعض ويثير قلق البعض. والرسالة بما تضمنته من أفكار، هي حصيلة مراجعات ممتدة وعميقة، أجراها الرجل في محبسه (1999 – حتى اليوم)، وقد تضمنت كتبٌ عدة أنجزها في سجنه، بعضًا من فصول هذه المراجعات، قرّبته من مفهوم "الأمة الديمقراطية"، وخففته من الخطاب القومي الحاد، بما يستبطن، أو يُشتق منه، مشاريع انفصالية، تحت مسميات عدة: الفدرالية، تقرير المصير، الإدارة الذاتية، وأحيانًا "اللامركزية الموسّعة". عبدالله أوجلان، اليساري، الماركسي – اللينيني سابقًا، يدعو في رسالته، لا إلى وقف إطلاق النار، أو هدنة مؤقتة، كما سبق له أن فعل، بل إلى إسقاط السلاح ونبذ العنف، وإنهاء نهج "الكفاح المسلح" وأدواته، بل ويطالب بحل الحزب "PKK" (تأسس عام 1978)، ومواصلة العمل السياسي تحت مسميات متخففة من إرث ذلك الحزب. ذلكم تطور نوعي وعامل تغيير إستراتيجي "Game Changer"، سيكون له ما بعده. القصة باختصار مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، بدا أن صفحة جديدة في العلاقات التركية – الكردية الداخلية قد فُتحت. لم تعد "المسألة الكردية" مسيّجة بالتابوهات. أصبحت عنوانًا على بساط، تتفق بشأنه الآراء وتفترق. بخلاف ما كان عليه الحال من قبل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر أنه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1998، كنت في زيارة أولى لأنقرة، بدعوة من "خارجيتها"، وصادف أن التوقيع على اتفاق أضنة قد تم بعد وصولي بأيام قلائل. وأثناء اجتماع مع وزير الخارجية التركية آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من الخارجية ممازحًا: ما الموضوعات المحظور طرحها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، بالذات "الجنرالات" منهم؟ قالت أنصح بألا تسأل عن دور الجيش في السياسة، ولا عن المسألة الكردية، وهي النصيحة التي لم ألتزم بها على أية حال، بل حرصت على إثارة المسألتين، في كل لقاء أجريته خلال الأسبوعين اللذين استغرقتهما الزيارة. بدا أن حزب العدالة والتنمية "AKP"، لديه فائض مشتركات مع أكراد بلاده، بما لا يقارن مع أسلافه، من علمانيين وقوميين وجنرالات، تعاقبوا على حكم البلاد لسنوات وعقود مديدة. وبدأنا نشهد سنوات انفراج رافقت سنوات صعود الحزب وامتلاء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة له. إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو/ حزيران عام 2015، التي لم يتمكن بنتيجتها الحزب من الفوز بعددٍ كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة ذاتها، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، ليبدأ بعدها فصل من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول وديار بكر وجوارها، ولتعود العلاقات التركية – الكردية إلى سابق عهود الأزمة والتأزم. لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد، من خوض غمار الانتخابات العامة، وتشكيل أحزاب سياسية، وتحقيق مكتسبات انتخابية، جعلت منهم في مراحل معينة "بيضة قبّان" وازنة. ولم تَحُل الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم، دون استمرار حضورهم في الحياة السياسية، وإن كان على "حبل مشدود". نقطة تحوّل في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، كان دولت بهتشلي أصدر نداءً اقترح فيه دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي، والإعلان عن وقف "الإرهاب" وحل حزبه. يومها قُوبلت مبادرة زعيم الحركة القومية، بفيض من التساؤلات، لا سيما أنها تصدر عن واحدٍ من أكثر خصوم الحركة الكردية تشددًا، ما الذي يدور في الخفاء، وما هي أهداف المبادرة، ولماذا الآن، وهل هي منسّقة مع الشقيق الأكبر، حزب العدالة والتنمية والزعيم التركي رجب طيب أردوغان؟ لم تمضِ سوى 48 ساعة، حتى كان الإرهاب يضرب في أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، يومها ترددت الاتهامات بالسعي لإجهاض مبادرة بهتشلي، وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، لتتجدد بعد ذلك العمليات الحربية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا. لكن ما نفهمه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في السادس والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أو بالأحرى، ما نستنتجه من هذه الرسالة /القنبلة، أن قنوات التواصل بين الجانبين، لم تنقطع، برغم صخب المعارك وأصوات التفجيرات والغارات. وأحسب أن رسالة أوجلان، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد هذه الاتصالات و"التفاهمات"، أما جزؤُها الغاطس، فسيتكشّف في قادمات الأيام. لم ينتظر المراقبون المتلهفون للتعرف على "استجابة" قيادة الحزب وقيادة قنديل لدعوة أوجلان طويلًا. الرد جاء سريعًا ومفصلًا، في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية للحزب، عبّر من خلاله عن تأييده التام للمبادرة، مطالبًا سلطات أنقرة، بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة "الأب الروحي" شخصيًا في أعماله، بعد إصدار ما يلزم من قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، وهذا يشمل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يقبع زعيمه صلاح الدين ديمرطاش في السجن منذ عدة سنوات. نحن إذن، أمام كرة بدأت بالتدحرج. ومن دون تهوين أو تهويل لحجم وصلابة العقبات والمعوّقات التي تحول دون إنجاز ملف "السلم الأهلي"، إلا أن جملة من البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها، تدفع على الاعتقاد بأننا إزاء أكثر المحاولات جديّة لإغلاق ملف "المسألة الكردية" في تركيا، بكل ما قد يترتب من تداعيات على قضايا الكرد وأحوالهم في دول الجوار. داخليًا؛ قال زعيم الحزب كلمته، واستجابت قيادته للنداء: إلقاء السلاح، إنهاء ظاهرة "الكفاح المسلح"، و"حل الحزب"، جملة التزامات من النوع غير القابلة للتراجع عنها إن حصلت "Irreversible"، والحزب استبدل غايات كفاحه التي تحمل معاني "الانفصال" و"الفدرالية" بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي. تلكم تطورات كفيلة بتبديد الخوف والقلق على سلامة الوحدة الترابية للبلاد، وسيادتها وسلامة نسيجها الاجتماعي. في المقابل، تبدو الدولة التركية بحاجة لترتيب بيتها الداخلي، لمواجهة استحقاقات إقليمية تطل برأسها، وتحديدًا على حدودها الجنوبية، مع وجود "جيب كردي انفصالي"، لم يعد قادته يترددون في البوح باستعدادهم للتحالف مع "الشيطان/إسرائيل" إن هو مدّ لهم يد العون، وما قاله تلميحًا مظلوم عبدي (القائد العام لقوات قسد الكردية في سوريا)، سبق لإلهام أحمد (المسؤولة الحزبية الكردية في سوريا) أن قالته لـ"جيروزاليم بوست" تصريحًا. أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد خرج من آخر انتخابات في مارس/ آذار الماضي، بفوز غير مؤزّر، فيما زعيمه و"الأب الروحي" له، يواجه استحقاق الخروج من المسرح السياسي في ختام آخر ولاياته الرئاسية، المصادر في أنقرة، تتحدث عن مصلحة للحزب في تجديد حضوره الشعبي وقواعده الانتخابية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور، لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية. أزيد من أربعين عامًا من العنف المسلح، أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وعشرات المليارات من الدولارات، خسائر مادية. لا الحزب الكردي نجح في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر مزيدًا من الأرض والقواعد والشعبية مؤخرًا، لا سيما بعد رحيل نظام الأسد إلى ذمّة التاريخ، ولا الدولة التركية تخلصت من شبح "الإرهاب" الذي قضّ مضاجعها. تركيا تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة، عنوانها السلم الأهلي، وترتيب البيت الداخلي، وسد ثغرات الداخل؛ استعدادًا لتحديات الخارج. لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ليس ثمة متضررون من هذا المسار الجديد الذي بدأ يشق طريقه، وستبدي لنا قادمات الأيام فصولًا منه، لا نعرفها حتى اليوم. هؤلاء لن يرفعوا الرايات البيضاء أمام قطار المصالحة، لكن يبدو أن قوة الزخم التي يتوفر عليها هذا المسار السياسي، ستكون كفيلة بإزالة هذه العقبات وتدوير الزوايا الحادة في مواقف وتوجهات المعارضين. شظايا تتطاير أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة، هم فريق "قسد" من أكراد سوريا، وهو فريق مركزي على أية حال، ويعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا. هم لم يفقدوا حليفًا مشاركًا وموثوقًا في الميدان فحسب، بل هم الأقرب لنهج حزب العمال الكردستاني وتوجهات زعامته التاريخية. سيتعين على "قسد" بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح، والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد. سيتعين عليها التخلي عن أحلامها في "الفدرالية" و"الإدارة الذاتية الموسعة" والتي تشفّ عن طموحات انفصالية لا يحد منها سوى المصاعب التي تعترض ترجمتها. سيتعين عليها التخلي عن نهج الاستقواء بالأجنبي، أميركيًا كان أم إسرائيليًا، تلكم رهانات خائبة، تبدو سوريا الجديدة، وتركيا ما بعد المصالحة، في وضع أفضل لإحباط مراميها وأهدافها. بيان أوجلان الذي قالت "قسد" إنها ليست معنية به، رسم سقوفًا لطموحات كرد سوريا وتطلعاتهم، ووضع قيودًا على أدوات كفاحهم ومستقبل خياراتهم المسلحة. وشق طريقًا سيساعد "قسد" على الاندماج بالدولة السورية، والعمل على "السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي". بخلاف ذلك، ستكون الحركة الكردية عرضة لمسلسل من الانشقاقات لا يتوقف، وستقوى شوكة الكرد من أنصار المدرسة البارزانية، القريبة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، إذ من المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك، في غير صالح السليمانية والطالبانية، وهي كانت بدأت الاختلال في ضوء انكماش الدور الإيراني إثر "الطوفان"، وتنامي دور تركيا بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. وأحسب أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للمسألة الكردية في تركيا. لا لأنها تضع مشكلات كبرى في طريق ترجمة "حلف الأقليات" ودعوات نتنياهو – ساعر لحماية الأكراد فحسب، بل لأنها تجرد إسرائيل من ورقة يمكن أن تحركها ضد أنقرة، ما دام أن العلاقة بين البلدين، قد وضعت على سكة تصادم بعد أن كانت على سكة تعاون، كما يتّضح في التطورات المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، سياسية ومسلحة، أقل حضورًا من نظيراتها في دول الانتشار الكردي، وإن كانت تتسبب بصداع مزمن لطهران. ومن جهة ثانية، فإن تقارير ما بعد انهيار نظام الأسد، كانت تتحدث عن رهان إيران على "قسد" لمقارعة النظام السوري الجديد، وهي تقارير لا يوجد ما يكفي من الأدلة على صدقيتها، سوى معلومات شحيحة، عن لقاءات في السليمانية جرت للبحث في هذا الموضوع. واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، استقبلت بيان أوجلان بترحيب رسمي، ذلك أن فكفكة العقد بين أنقرة وحزب العمال، مع ما قد تفضي من تراجع منسوب التوتر بين "قسد" و"أنقرة"، يمكن أن يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأميركية من تلك البقعة، وهي المهمة التي أخفق دونالد ترامب في إنجازها في ولايته الأولى، وربما يكون راغبًا في إنجازها في ولايته الثانية، وهو – أي ترامب – سبق أن أبدى ارتياحه لتنامي الدور التركي في سوريا، باعتبار أن ثمة "حليفًا موثوقًا" يمكن أن يتولى أمر سوريا، بخلاف إسرائيل، التي تخشى هذا الدور، لدرجة أنها بدأت تضغط للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، لعدم ترك الأخيرة نهبًا لنفوذ تركي متفرّد. رسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة، بصورة جذرية تلتقي مع جذريتها، فسترسم سقوفًا للحركات الكردية في الإقليم، لا يُنتظر معها، العودة للاستفتاء على مستقبل الإقليم في العراق، ولا بقاء "قسد" و"الإدارة الذاتية" خارج الدولة السورية، أو بموازاتها، ولن يكون ممكنًا بعدها، التفكير بأية ولادات من خارج رحم الدولة، لحركات انفصالية بدأت تطل برأسها الكريه من تحت مظلة "حلف الأقليات" بالزعامة والحماية الإسرائيليتين.