
عريب الرنتاوي يكتب : قنبلة سجين تتطاير شظاياها فوق عواصم الإقليم
أخبارنا :
كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
من معزله القصيّ، فوق جزيرة إمرالي الصغيرة في أطراف بحر مرمرة، فجّر السجين الأشهر عبدالله أوجلان، قنبلةً من العيار الثقيل، سيكون لها تداعيات وارتدادات تتخطى الجغرافيا التركية لتطاول الإقليم.
وستُحدث شظاياها تبدلات في توازنات القوى الكردية في دول الانتشار، وتعيد ترتيب أولوياتها ومقارباتها، ومعها ستتغير مقاربات ورهانات قوى إقليمية ودولية، بالذات في الحواضن الأربعة لما بات يعرف بـ"المسألة الكردية".
من بين الزعامات الثلاثة التي توزعت عليها الحركة الكردية في المنطقة: طالباني، البارزاني، وأوجلان، يتميز الأخير، بزعامة كاريزمية، عابرة للحدود.
تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني قبل خمسة عقود، تضرب جذورًا عميقة في أوساط كردية سورية، وعراقية وإيرانية، فضلًا عن نفوذه الوازن في مغتربات الأكراد وشتاتهم.
ومن هنا يمكن التكهن، بأن الرسالة التي وجهها الرجل إلى حزبه، ستتردد أصداؤها في جنبات المكونات والكيانات الكردية في مختلف الأرجاء، وهذا ما يبعث على ارتياح البعض ويثير قلق البعض.
والرسالة بما تضمنته من أفكار، هي حصيلة مراجعات ممتدة وعميقة، أجراها الرجل في محبسه (1999 – حتى اليوم)، وقد تضمنت كتبٌ عدة أنجزها في سجنه، بعضًا من فصول هذه المراجعات، قرّبته من مفهوم "الأمة الديمقراطية"، وخففته من الخطاب القومي الحاد، بما يستبطن، أو يُشتق منه، مشاريع انفصالية، تحت مسميات عدة: الفدرالية، تقرير المصير، الإدارة الذاتية، وأحيانًا "اللامركزية الموسّعة".
عبدالله أوجلان، اليساري، الماركسي – اللينيني سابقًا، يدعو في رسالته، لا إلى وقف إطلاق النار، أو هدنة مؤقتة، كما سبق له أن فعل، بل إلى إسقاط السلاح ونبذ العنف، وإنهاء نهج "الكفاح المسلح" وأدواته، بل ويطالب بحل الحزب "PKK" (تأسس عام 1978)، ومواصلة العمل السياسي تحت مسميات متخففة من إرث ذلك الحزب. ذلكم تطور نوعي وعامل تغيير إستراتيجي "Game Changer"، سيكون له ما بعده.
القصة باختصار
مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، بدا أن صفحة جديدة في العلاقات التركية – الكردية الداخلية قد فُتحت. لم تعد "المسألة الكردية" مسيّجة بالتابوهات. أصبحت عنوانًا على بساط، تتفق بشأنه الآراء وتفترق. بخلاف ما كان عليه الحال من قبل.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر أنه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1998، كنت في زيارة أولى لأنقرة، بدعوة من "خارجيتها"، وصادف أن التوقيع على اتفاق أضنة قد تم بعد وصولي بأيام قلائل.
وأثناء اجتماع مع وزير الخارجية التركية آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من الخارجية ممازحًا: ما الموضوعات المحظور طرحها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، بالذات "الجنرالات" منهم؟ قالت أنصح بألا تسأل عن دور الجيش في السياسة، ولا عن المسألة الكردية، وهي النصيحة التي لم ألتزم بها على أية حال، بل حرصت على إثارة المسألتين، في كل لقاء أجريته خلال الأسبوعين اللذين استغرقتهما الزيارة.
بدا أن حزب العدالة والتنمية "AKP"، لديه فائض مشتركات مع أكراد بلاده، بما لا يقارن مع أسلافه، من علمانيين وقوميين وجنرالات، تعاقبوا على حكم البلاد لسنوات وعقود مديدة. وبدأنا نشهد سنوات انفراج رافقت سنوات صعود الحزب وامتلاء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة له.
إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو/ حزيران عام 2015، التي لم يتمكن بنتيجتها الحزب من الفوز بعددٍ كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة ذاتها، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، ليبدأ بعدها فصل من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول وديار بكر وجوارها، ولتعود العلاقات التركية – الكردية إلى سابق عهود الأزمة والتأزم.
لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد، من خوض غمار الانتخابات العامة، وتشكيل أحزاب سياسية، وتحقيق مكتسبات انتخابية، جعلت منهم في مراحل معينة "بيضة قبّان" وازنة. ولم تَحُل الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم، دون استمرار حضورهم في الحياة السياسية، وإن كان على "حبل مشدود".
نقطة تحوّل
في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، كان دولت بهتشلي أصدر نداءً اقترح فيه دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي، والإعلان عن وقف "الإرهاب" وحل حزبه.
يومها قُوبلت مبادرة زعيم الحركة القومية، بفيض من التساؤلات، لا سيما أنها تصدر عن واحدٍ من أكثر خصوم الحركة الكردية تشددًا، ما الذي يدور في الخفاء، وما هي أهداف المبادرة، ولماذا الآن، وهل هي منسّقة مع الشقيق الأكبر، حزب العدالة والتنمية والزعيم التركي رجب طيب أردوغان؟
لم تمضِ سوى 48 ساعة، حتى كان الإرهاب يضرب في أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، يومها ترددت الاتهامات بالسعي لإجهاض مبادرة بهتشلي، وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، لتتجدد بعد ذلك العمليات الحربية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا.
لكن ما نفهمه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في السادس والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أو بالأحرى، ما نستنتجه من هذه الرسالة /القنبلة، أن قنوات التواصل بين الجانبين، لم تنقطع، برغم صخب المعارك وأصوات التفجيرات والغارات. وأحسب أن رسالة أوجلان، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد هذه الاتصالات و"التفاهمات"، أما جزؤُها الغاطس، فسيتكشّف في قادمات الأيام.
لم ينتظر المراقبون المتلهفون للتعرف على "استجابة" قيادة الحزب وقيادة قنديل لدعوة أوجلان طويلًا. الرد جاء سريعًا ومفصلًا، في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية للحزب، عبّر من خلاله عن تأييده التام للمبادرة، مطالبًا سلطات أنقرة، بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة "الأب الروحي" شخصيًا في أعماله، بعد إصدار ما يلزم من قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، وهذا يشمل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يقبع زعيمه صلاح الدين ديمرطاش في السجن منذ عدة سنوات.
نحن إذن، أمام كرة بدأت بالتدحرج. ومن دون تهوين أو تهويل لحجم وصلابة العقبات والمعوّقات التي تحول دون إنجاز ملف "السلم الأهلي"، إلا أن جملة من البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها، تدفع على الاعتقاد بأننا إزاء أكثر المحاولات جديّة لإغلاق ملف "المسألة الكردية" في تركيا، بكل ما قد يترتب من تداعيات على قضايا الكرد وأحوالهم في دول الجوار.
داخليًا؛ قال زعيم الحزب كلمته، واستجابت قيادته للنداء: إلقاء السلاح، إنهاء ظاهرة "الكفاح المسلح"، و"حل الحزب"، جملة التزامات من النوع غير القابلة للتراجع عنها إن حصلت "Irreversible"، والحزب استبدل غايات كفاحه التي تحمل معاني "الانفصال" و"الفدرالية" بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي. تلكم تطورات كفيلة بتبديد الخوف والقلق على سلامة الوحدة الترابية للبلاد، وسيادتها وسلامة نسيجها الاجتماعي.
في المقابل، تبدو الدولة التركية بحاجة لترتيب بيتها الداخلي، لمواجهة استحقاقات إقليمية تطل برأسها، وتحديدًا على حدودها الجنوبية، مع وجود "جيب كردي انفصالي"، لم يعد قادته يترددون في البوح باستعدادهم للتحالف مع "الشيطان/إسرائيل" إن هو مدّ لهم يد العون، وما قاله تلميحًا مظلوم عبدي (القائد العام لقوات قسد الكردية في سوريا)، سبق لإلهام أحمد (المسؤولة الحزبية الكردية في سوريا) أن قالته لـ"جيروزاليم بوست" تصريحًا.
أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد خرج من آخر انتخابات في مارس/ آذار الماضي، بفوز غير مؤزّر، فيما زعيمه و"الأب الروحي" له، يواجه استحقاق الخروج من المسرح السياسي في ختام آخر ولاياته الرئاسية، المصادر في أنقرة، تتحدث عن مصلحة للحزب في تجديد حضوره الشعبي وقواعده الانتخابية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور، لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية.
أزيد من أربعين عامًا من العنف المسلح، أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وعشرات المليارات من الدولارات، خسائر مادية. لا الحزب الكردي نجح في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر مزيدًا من الأرض والقواعد والشعبية مؤخرًا، لا سيما بعد رحيل نظام الأسد إلى ذمّة التاريخ، ولا الدولة التركية تخلصت من شبح "الإرهاب" الذي قضّ مضاجعها.
تركيا تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة، عنوانها السلم الأهلي، وترتيب البيت الداخلي، وسد ثغرات الداخل؛ استعدادًا لتحديات الخارج.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ليس ثمة متضررون من هذا المسار الجديد الذي بدأ يشق طريقه، وستبدي لنا قادمات الأيام فصولًا منه، لا نعرفها حتى اليوم.
هؤلاء لن يرفعوا الرايات البيضاء أمام قطار المصالحة، لكن يبدو أن قوة الزخم التي يتوفر عليها هذا المسار السياسي، ستكون كفيلة بإزالة هذه العقبات وتدوير الزوايا الحادة في مواقف وتوجهات المعارضين.
شظايا تتطاير
أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة، هم فريق "قسد" من أكراد سوريا، وهو فريق مركزي على أية حال، ويعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا. هم لم يفقدوا حليفًا مشاركًا وموثوقًا في الميدان فحسب، بل هم الأقرب لنهج حزب العمال الكردستاني وتوجهات زعامته التاريخية.
سيتعين على "قسد" بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح، والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد. سيتعين عليها التخلي عن أحلامها في "الفدرالية" و"الإدارة الذاتية الموسعة" والتي تشفّ عن طموحات انفصالية لا يحد منها سوى المصاعب التي تعترض ترجمتها.
سيتعين عليها التخلي عن نهج الاستقواء بالأجنبي، أميركيًا كان أم إسرائيليًا، تلكم رهانات خائبة، تبدو سوريا الجديدة، وتركيا ما بعد المصالحة، في وضع أفضل لإحباط مراميها وأهدافها.
بيان أوجلان الذي قالت "قسد" إنها ليست معنية به، رسم سقوفًا لطموحات كرد سوريا وتطلعاتهم، ووضع قيودًا على أدوات كفاحهم ومستقبل خياراتهم المسلحة. وشق طريقًا سيساعد "قسد" على الاندماج بالدولة السورية، والعمل على "السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي".
بخلاف ذلك، ستكون الحركة الكردية عرضة لمسلسل من الانشقاقات لا يتوقف، وستقوى شوكة الكرد من أنصار المدرسة البارزانية، القريبة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، إذ من المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك، في غير صالح السليمانية والطالبانية، وهي كانت بدأت الاختلال في ضوء انكماش الدور الإيراني إثر "الطوفان"، وتنامي دور تركيا بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول.
وأحسب أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للمسألة الكردية في تركيا. لا لأنها تضع مشكلات كبرى في طريق ترجمة "حلف الأقليات" ودعوات نتنياهو – ساعر لحماية الأكراد فحسب، بل لأنها تجرد إسرائيل من ورقة يمكن أن تحركها ضد أنقرة، ما دام أن العلاقة بين البلدين، قد وضعت على سكة تصادم بعد أن كانت على سكة تعاون، كما يتّضح في التطورات المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، سياسية ومسلحة، أقل حضورًا من نظيراتها في دول الانتشار الكردي، وإن كانت تتسبب بصداع مزمن لطهران.
ومن جهة ثانية، فإن تقارير ما بعد انهيار نظام الأسد، كانت تتحدث عن رهان إيران على "قسد" لمقارعة النظام السوري الجديد، وهي تقارير لا يوجد ما يكفي من الأدلة على صدقيتها، سوى معلومات شحيحة، عن لقاءات في السليمانية جرت للبحث في هذا الموضوع.
واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، استقبلت بيان أوجلان بترحيب رسمي، ذلك أن فكفكة العقد بين أنقرة وحزب العمال، مع ما قد تفضي من تراجع منسوب التوتر بين "قسد" و"أنقرة"، يمكن أن يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأميركية من تلك البقعة، وهي المهمة التي أخفق دونالد ترامب في إنجازها في ولايته الأولى، وربما يكون راغبًا في إنجازها في ولايته الثانية، وهو – أي ترامب – سبق أن أبدى ارتياحه لتنامي الدور التركي في سوريا، باعتبار أن ثمة "حليفًا موثوقًا" يمكن أن يتولى أمر سوريا، بخلاف إسرائيل، التي تخشى هذا الدور، لدرجة أنها بدأت تضغط للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، لعدم ترك الأخيرة نهبًا لنفوذ تركي متفرّد.
رسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة، بصورة جذرية تلتقي مع جذريتها، فسترسم سقوفًا للحركات الكردية في الإقليم، لا يُنتظر معها، العودة للاستفتاء على مستقبل الإقليم في العراق، ولا بقاء "قسد" و"الإدارة الذاتية" خارج الدولة السورية، أو بموازاتها، ولن يكون ممكنًا بعدها، التفكير بأية ولادات من خارج رحم الدولة، لحركات انفصالية بدأت تطل برأسها الكريه من تحت مظلة "حلف الأقليات" بالزعامة والحماية الإسرائيليتين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وطنا نيوز
منذ 4 أيام
- وطنا نيوز
عن اختلاف نظرة العرب والغرب لـ'حماس' و'الهيئة'
كتب: عريب الرنتاوي تَطرح الحفاوة العربية والدولية التي قوبل بها قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا، سؤالاً جوهرياً، حول الأسباب التي دفعت عواصم عربية ودولية عدة، إلى الانفتاح على 'هيئة تحرير الشام' التي تتولى إدارة المشهد الانتقالي في سوريا، برئاسة أحمد الشرع، في الوقت الذي ما زالت توصِد فيه أبوابها، في وجه 'حركة المقاومة الإسلامية-حماس'، وتحتفي بتصفية قادتها، وتصنفها حركة إرهابية، بل وتبدي بزعامة واشنطن، تأييداً معلناً حيناً، ومضمراً في أغلب الأحيان، لصيحات اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، الداعية إلى تصفية الحركة وتفكيكها؟ مع أن عودة سريعة إلى تجربة الحركتين في العقود الفائتة، تظهر أرجحية حماس وأفضليتها على الهيئة في ميزان التطرف والاعتدال، فالحركة، وإن كانت مرجعيتها الفكرية والعقائدية، إخوانية بامتياز، إلا أنها في سلوكها وبرنامجها تنتمي إلى حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وليس 'الجهاد العالمي' من ضمن أجندتها، بخلاف الهيئة، التي نشأت من رحم 'سلفية جهادية'، ومرّ قادتها، ومنهم أحمد الشرع، بمختلف 'طبعاتها' 'الزرقاوية' والداعشية والقاعدية، قبل أن تخضع لمسار طويل من التحولات وإعادة التكيف والتكيّف، لتصل إلى ما انتهت إليه في سوريا. بهذا المعنى، ثمة دماء أميركية وغربية كثيرة، على أيدي التنظيمات الجهادية، وإن كانت بالطبع، أقل من دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين، لكننا لم نعرف عن إسرائيلي واحد، تم 'تحييده' على أيدي هؤلاء، بخلاف حركة حماس التي 'حيّدت' كثيراً من الإسرائيليين في عملياتها المختلفة، وبالذات في عامي 'الطوفان'، ولم يُسجل عليها 'جهاد' في 'دار الحرب'، وكل غربي أو أميركي سقط بفعل عملياتها، إمّا أنه كان 'مزدوج الجنسية' أو سقط كـ'عرض جانبي' في عمليات استهدفت الإسرائيليين، وفي 'إسرائيل' حصراً. يعيدنا ذلك إلى ما سبق أن قلناه مراراً وتكراراً في السنوات الماضية: الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، يمكن أن يغفر لمن أزهق أرواح مواطنيه، بيد أنه لا يغفر لمن يزهق روحاً إسرائيلية واحدة، ما لم تمنحه تل أبيب 'الصفح' و'صك الغفران'، كما حصل مع فصائل الحركة الوطنية التي انتقلت مع 'أوسلو'، من خنادق 'الكفاح المسلح' إلى موائد التفاوض، خلعت 'الفوتيك' و'السفاري' لترتدي أفخر الملابس الغربية. لكن ذلك، على أهميته، لا يفسر ظاهرة الانفتاح المتسارع على 'الهيئة' والشيطنة المستمرة لـ 'الحركة'…بالتأكيد ثمة عوامل أخرى، أكثر أهمية، تدخل في حسابات هذه الأطراف، بعضها يعود إلى تحولات الهيئة ذاتها، وبعضها الآخر مستمد من موقع سوريا ومكانتها، من دون أن ننسى أثر التدخلات من عواصم الإقليم، التي لطالما استمرأت التعاون مع السلفية الجهادية، وناصبت الإخوان عداءً ظاهراً أو مستتراً، قبل عشرية الربيع العربي، وبالأخص بعدها. أثر 'العامل الإسرائيلي' التحولات في مواقف 'الهيئة' جاءت متسارعة على نحو أذهل أصدقاءها وخصومها على حد سواء، لعل أهمها على الإطلاق، إبداء قدر هائل من التهافت لـ'طمأنة' 'إسرائيل' والغرب، بأن 'سوريا الجديدة' ترغب في سلام مع 'تل أبيب'، وأن التطبيع معها، مُدرج في جدول أعمالها، وأن لحظة صعودها في العربة الخامسة للقطار الإبراهيمي تنتظر التوقيت المناسب… ذهب 'جهاديو الأمس' أبعد من ذلك، ولم تكن لديهم مشكلة بعد أقل من نصف عام على توليهم السلطة، في الانخراط في مفاوضات مباشرة مع 'إسرائيل'، في باكو، وثمة من يقول في 'إسرائيل' ذاتها، بوساطة تركية 'مجربة'، وأحياناً بتدخل خليجي 'إبراهيمي' فعّال. أدرك الشرع وصحبه، أن الطريق إلى 'قلب الغرب' يمر بـ'المعدة الإسرائيلية'، رغم أنها مستعدّة دوماً لابتلاع وهضم المزيد من التنازلات، ورغم أنها لا تعرف الشبع أبداً، إذ كلما ظننا أنها امتلأت، تقول: هل من مزيد… بسط السيادة الإسرائيلية على الجولان، لم يعد كافياً، إخراجها في دائرة التفاوض، هو شرط إسرائيلي يرتقي إلى مستوى 'الخط الأحمر'… تدمير البنى العسكرية السورية وعدم تمكين دمشق من إعادة بناء قدارتها، هو 'أحط أحمر ثانٍ'، لا تراجع عنه، حتى مع الجيش الجديد، الذي فرضت قيوداً صارمة على حركته وانتشاره وتسلحه جنوب دمشق، وفي المحافظات الجنوبية الثلاث… احتلال مساحات 'نوعية' مهمة من الأرض السورية، كأعالي قمم الجبال ومساقط المياه، من جبل الشيخ إلى حوض اليرموك، كل ذلك سيصبح حقاً مكتسباً تحت ذريعة 'عدم تكرار سيناريو السابع من أكتوبر'، 'حلف الأقليات' وتقديم 'إسرائيل' نفسها 'حامية حمى' لها، بات في عداد 'الأمر الواقع'، الذي أسهم في إنعاش هويات ثانوية، وشجع على مطالب الانفصال والإدارة الذاتية شمالاً وجنوباً، وربما ساحلاً في مرحلة لاحقة. والمفارقة اللافتة، أنه كلما استعجلت دمشق إنجاز 'تفاهمات مرّة' مع 'تل أبيب'، استأخرتها الأخيرة، فهي معنية أولاً بالتوصل إلى تفاهمات مع أنقرة للوصول إلى 'آلية لتفادي الاحتكاك'، أما التفاهمات مع دمشق، فتأتي تالياً، بل وتتعمد 'تل أبيب' أن تقابل المحاولات السورية تبريد الجنوب، بتصريحات تكرر انعدام الثقة' بالشرع وقيادته، وتسخر من محاولات وزير خارجيته المتكررة التواصل مع الإسرائيليين، كما تقول صحافة عبرية، وتنقل عن مسؤولين إسرائيليين، ضيقهم بالمكالمات السورية المزعجة التي لا يردون عليها. هذا عامل بالغ الأهمية والخطورة، ولا مكان هنا للمقارنة بين مواقف وسلوك حركة المقاومة الإسلامية – حماس من 'إسرائيل' ومواقف 'الهيئة' منها، لا قبل الثامن من ديسمبر، ولا بعده، وبالأخص مذ أن تولى السيد الشرع، مقاليد حكم شبه مطلق في دمشق، ولنا أن نتخيل أي ديناميات كانت حماس ستطلقها في علاقاتها مع العرب والغرب، وحتى مع 'إسرائيل'، لو أنها تبنّت الخطاب والسردية اللذين تبنتهما الإدارة السورية الجديدة. هل هي انحناءة تكتيكية تُمليها 'التركة الثقيلة' التي خلفها النظام الراحل وسنوات الحرب المديدة والمريرة في سوريا وعليها، أم أننا أمام 'استراتيجية' جديدة لسوريا، وقد استكملت مشوار انتقالاتها وتحولاتها؟ … بعض أصدقاء النظام الجديد، خصوصاً من أنصار المدارس 'الإسلامية'، يروجون فرضية 'الانحناءة' ولا يجدون سوى 'النوايا الطيبة الخبيئة' للنظام الجديد لإضفاء 'الجدية' على رهاناتهم، مع أنهم هم أنفسهم، الأكثر ترديداً لعبارة 'الطريق إلى جهنم معبّد بالنيات الطيبة'… بعض المراقبين، ومنهم من يتمنى الخير لتجربة الانتقال في سوريا، يرى أن طريقاً كهذا، عادة ما يكون 'ذا اتجاه واحد'، لا عودة فيه أو عنه، إلا في حالة واحدة: انقلاب المشهد من جديد في سوريا. أثر 'العامل الإيراني' وثمة عامل آخر، لا يقل أهمية عن 'العامل الإسرائيلي' الذي ميّز 'حماس' عن 'الهيئة'، ويتعلق باختلاف المواقف والمواقع من إيران ومحورها، فحماس انخرطت في علاقة مع طهران وحزب الله وبقية القوى الحليفة والرديفة، وهذه حقيقة، لا يمكن إنكارها بعد أن 'ثمّنها' قادة حماس الميدانيين والسياسيين أنفسهم، كما أنه لا يجوز المبالغة في تضخيمها إلى الحد الذي يدفع بدوائر إسرائيلية، وأخرى عربية ودولية، للزعم بأن 'الحركة' تحوّلت إلى 'ذراع' إيرانية… لا الإنكار ولا المبالغة نجحا في نزع هوية حماس كحركة تحرر وطني فلسطينية، وإن بمرجعية إسلامية (إخوانية)، ولا يقللان من قدرتها على اتخاذ قرارها المستقل، بمعزل عن المحور أو من دون علمه كما في السابع من أكتوبر، أو حتى بالضد من رغباته ومصالحه، كما في خروج الحركة من سوريا في بواكير أزمتها، وانتهاج خط مغاير حيالها، خارج عن إجماع المحور ومكوناته. الغرب، وتحديداً واشنطن ، 'إسرائيل' وكثرة من العرب، وضعوا نصب أعينهم جميعاً، هدف إخراج إيران من سوريا، وتدمير 'أذرع' طهران في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وسبق لهذه الأطراف، حتى قبل عشرية الربيع العربي، أن عملت بنشاط، من أجل 'إعادة توجيه السلفية الجهادية' من استهداف 'الخطر الشيوعي' كما في أفغانستان، إلى التصدي لـ'الخطر الشيعي' في محوره، وثمة وقائع وأحداث في هذه الدول، تدلل على ذلك، وحين يقول آخر سفير أميركي في سوريا جيمس جيفري، بأن علاقات بلاده مع الشرع والهيئة سابقة للتغيير في سوريا، وأن الاتصالات كانت قائمة بين الطرفين، وأن واشنطن وفرت الحماية لهما في مراحل معينة، ومنعت داعش حيناً ونظام الأسد أحياناً، من الانقضاض عليه في 'إدلب'، فمعنى ذلك أن ثمة 'علاقة عمل' يمكن أن تنشأ بين هذه المدرسة 'الجهادية' وذاك 'التحا…


جفرا نيوز
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- جفرا نيوز
دائرة المعارف ووزارتها!
جفرا نيوز - زيارة ترمب مهمة. موافقة حماس عمليا على توليه ملف اليوم التالي في غزة مهمة. حل حزب العمال الكردستاني وتخليه عن «كفاحه المسلح» مهم ومهم جدا تركيا وسوريا وعراقيا وإيرانيا. والقائمة تطول فتشمل موافقة زيلنسكي رضوخا لترمب على لقاء بوتين في اسطنبول بضيافة إردوغان، وكذلك هدنة التسعين يوما الجمركية بين واشنطن وبكين، ونزع فتيل حرب نووية في شبه الجزيرة الهندية. كلها أخبار هامة تتعدى العواجل، لكن تبقى أحوال الدار والديرة دائما هي الأهم. أيام زمان، عرف عدد من الدول العربية «وزارة المعارف»، وكأن التربية فالتعليم أيامها، كانت تحصيلا حاصلا. وذلك عين الصواب، فلا يتحقق أي منهما ما لم يكن على يد الأم، والأب الذي أحسن اختيارها، ومن ثم رعايتها وما رزقهما الله من عيال. تلك نظرة قد يراها البعض تقليدية أو «رجعية». لكن «العيلة» أي الأسرة النووية والعشيرة لا تعني عالة بل أمانة ومكانة وعزوة.. تأبى النفوس الحرة أن تكون عالة ولا حتى على نفسها. إنْ هو إلا التوكل لا التواكل، والجد والعمل والمثابرة، أيهما يسبق الآخر؟ تلك مسألة فقهية ليس هذا مقامها ولا منبرها. كما اتسعت دوائر اهتمامنا بالأخبار من حولنا بعد الفضائيات والمنصات، كذلك اتسعت دوائر معارفنا. قد ولّى زمن «دائرة المعارف البريطانية» الموسوعية! لمسة بل همسة عبر اللوح أو الهاتف الذكي كفيلة بتوظيف «إنساكلوبيديا بريتانكا» أو من بعدها «إنساكلوبيديا أمريكانا»، في خدمة طالب العلم. لا بل زاد الذكاء الاصطناعي في تحصيله المعرفي فضعف عند «الإيه آي» الطالب والمطلوب! صارت الهمسة -التكليف همسا- كفيلة بكتابة راوية وإخراج فيلم لا مجرد تغريدة «روبوتية» عنكبوتية عرمرمية خنفشارية، تكيد العِدا! من يعتب على الذي يتابع أخبارا خارج دوائر معارفنا وديرتنا قد يكون من الأولى له معاتبة معارفه أو حتى نفسه عتاب محب. ليسأل ويتساءل، أولسنا من حددنا بأيدينا دوائر معارفنا فحصرنا أخبرنا -حصريا- في دائرة مغلقة أشبه ما تكون بتلك المسماة الدائرة الشريرة «فشس سيركل» أو الحلقة المفرغة، أو لعلها الدوامة اللوامة، فكلٌ يشير بأصابع الاتهام جزافا، يمينا وشمالا، وكأن العدو قد تخبّطه أو قعد له وربطه بـ «عَمَل أو رَصَد» كتلك الأخبار المزيفة الصفراء التي يتبادلها بعض الجهلة وتودي أحيانا بأرواح اللاهثين وراء كنز مزعوم، مرصود في المُغُر والوديان من أيام قدامى العثمانيين! في برنامج «من يربح المليون» المعرّب من نسخته البريطانية الأصيلة ثمة خيارات أمام المسؤول المتسابق، لأن الثقافة في مجتمعها الأصلي -المملكة المتحدة- تقوم على فكرة وحرفة الاختيار بين بدائل. وتقوم أيضا على تربية تنمية القدرات الذاتية على المواءمة ما بين المجازفة المحسوبة لا التهور، وما بين ما قد يتعرض إليه الطامح أو الطامع بالمليون جنيه استرليني -لا ليرة تركية ولا (التومان، الريال والدينار) الإيراني- من إغراءات المضيف وتلاعبه بآراء جمهور الاستوديو، وحتى ذلك الخيار المتعلق بالاتصال بصديق والاستعانة به عليه يعرف أو يتوقع الجواب الصحيح! هل لدينا في حياتنا اليومية، المهنية، الوطنية، الروحية أصدقاء نشاورهم ضمن دائرة منوعة ومتخصصة من المعارف، أم ندع أمرنا ومستقبلنا بيد مذيع يتلاعب بنا، أم نعمل بجد على توسعة دائرة أو دوائر معارفنا دون انتظار وزارة تتسمى بها؟ إن امتلكنا المعرفة، لا حاجة لشطب إجابتين معدتين سلفا، ولعرفنا المنتج الذي يأتي بمذيع أمام الأضواء تارة ويلقي به تارة أخرى خارج دائرة الضوء، ومن يشطب البرنامج من أساسه، استعدادا لدورة برامجية «مش حتغمّض عينك معاها»! من الآخر، هذا هو القادم.. والخيار الأفضل لمن أحسن التواصل مع دائرة المعارف الحقيقية في حياته-المفعمة بالحياة والنعمة والبركة والخبرة والمعرفة الحقّة- هو الاستمتاع بالجلوس بأمان وسكينة وطمأنينة، في مقعد مريح أو على بساط أحمديّ، حيث «المَرْكا» العمّاني وقهوة «أرابيكا» وهيل النشامى، حيث لا خوف ولا قلق ولا حاجة لربط الأحزمة ولا شدها، ولا دعايات تعطل العرض الممتع المثمر، بعون الله. من قال إن سياسة النأي بالنفس لا تجدي وسط هذا الزحام والصخب؟ الفُرجة من بعيد فسحة واستراحة، إن لم نكن معنيين من الألف إلى الياء بالحكاية، تلك التي سموها «سردية» من سرديات العقد الثالث من الألفية الثالثة!


أخبارنا
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- أخبارنا
بشار جرار : دائرة المعارف ووزارتها!
أخبارنا : زيارة ترمب مهمة. موافقة حماس عمليا على توليه ملف اليوم التالي في غزة مهمة. حل حزب العمال الكردستاني وتخليه عن «كفاحه المسلح» مهم ومهم جدا تركيا وسوريا وعراقيا وإيرانيا. والقائمة تطول فتشمل موافقة زيلنسكي رضوخا لترمب على لقاء بوتين في اسطنبول بضيافة إردوغان، وكذلك هدنة التسعين يوما الجمركية بين واشنطن وبكين، ونزع فتيل حرب نووية في شبه الجزيرة الهندية. كلها أخبار هامة تتعدى العواجل، لكن تبقى أحوال الدار والديرة دائما هي الأهم. أيام زمان، عرف عدد من الدول العربية «وزارة المعارف»، وكأن التربية فالتعليم أيامها، كانت تحصيلا حاصلا. وذلك عين الصواب، فلا يتحقق أي منهما ما لم يكن على يد الأم، والأب الذي أحسن اختيارها، ومن ثم رعايتها وما رزقهما الله من عيال. تلك نظرة قد يراها البعض تقليدية أو «رجعية». لكن «العيلة» أي الأسرة النووية والعشيرة لا تعني عالة بل أمانة ومكانة وعزوة.. تأبى النفوس الحرة أن تكون عالة ولا حتى على نفسها. إنْ هو إلا التوكل لا التواكل، والجد والعمل والمثابرة، أيهما يسبق الآخر؟ تلك مسألة فقهية ليس هذا مقامها ولا منبرها. كما اتسعت دوائر اهتمامنا بالأخبار من حولنا بعد الفضائيات والمنصات، كذلك اتسعت دوائر معارفنا. قد ولّى زمن «دائرة المعارف البريطانية» الموسوعية! لمسة بل همسة عبر اللوح أو الهاتف الذكي كفيلة بتوظيف «إنساكلوبيديا بريتانكا» أو من بعدها «إنساكلوبيديا أمريكانا»، في خدمة طالب العلم. لا بل زاد الذكاء الاصطناعي في تحصيله المعرفي فضعف عند «الإيه آي» الطالب والمطلوب! صارت الهمسة -التكليف همسا- كفيلة بكتابة راوية وإخراج فيلم لا مجرد تغريدة «روبوتية» عنكبوتية عرمرمية خنفشارية، تكيد العِدا! من يعتب على الذي يتابع أخبارا خارج دوائر معارفنا وديرتنا قد يكون من الأولى له معاتبة معارفه أو حتى نفسه عتاب محب. ليسأل ويتساءل، أولسنا من حددنا بأيدينا دوائر معارفنا فحصرنا أخبرنا -حصريا- في دائرة مغلقة أشبه ما تكون بتلك المسماة الدائرة الشريرة «فشس سيركل» أو الحلقة المفرغة، أو لعلها الدوامة اللوامة، فكلٌ يشير بأصابع الاتهام جزافا، يمينا وشمالا، وكأن العدو قد تخبّطه أو قعد له وربطه بـ «عَمَل أو رَصَد» كتلك الأخبار المزيفة الصفراء التي يتبادلها بعض الجهلة وتودي أحيانا بأرواح اللاهثين وراء كنز مزعوم، مرصود في المُغُر والوديان من أيام قدامى العثمانيين! في برنامج «من يربح المليون» المعرّب من نسخته البريطانية الأصيلة ثمة خيارات أمام المسؤول المتسابق، لأن الثقافة في مجتمعها الأصلي -المملكة المتحدة- تقوم على فكرة وحرفة الاختيار بين بدائل. وتقوم أيضا على تربية تنمية القدرات الذاتية على المواءمة ما بين المجازفة المحسوبة لا التهور، وما بين ما قد يتعرض إليه الطامح أو الطامع بالمليون جنيه استرليني -لا ليرة تركية ولا (التومان، الريال والدينار) الإيراني- من إغراءات المضيف وتلاعبه بآراء جمهور الاستوديو، وحتى ذلك الخيار المتعلق بالاتصال بصديق والاستعانة به عليه يعرف أو يتوقع الجواب الصحيح! هل لدينا في حياتنا اليومية، المهنية، الوطنية، الروحية أصدقاء نشاورهم ضمن دائرة منوعة ومتخصصة من المعارف، أم ندع أمرنا ومستقبلنا بيد مذيع يتلاعب بنا، أم نعمل بجد على توسعة دائرة أو دوائر معارفنا دون انتظار وزارة تتسمى بها؟ إن امتلكنا المعرفة، لا حاجة لشطب إجابتين معدتين سلفا، ولعرفنا المنتج الذي يأتي بمذيع أمام الأضواء تارة ويلقي به تارة أخرى خارج دائرة الضوء، ومن يشطب البرنامج من أساسه، استعدادا لدورة برامجية «مش حتغمّض عينك معاها»! من الآخر، هذا هو القادم.. والخيار الأفضل لمن أحسن التواصل مع دائرة المعارف الحقيقية في حياته-المفعمة بالحياة والنعمة والبركة والخبرة والمعرفة الحقّة- هو الاستمتاع بالجلوس بأمان وسكينة وطمأنينة، في مقعد مريح أو على بساط أحمديّ، حيث «المَرْكا» العمّاني وقهوة «أرابيكا» وهيل النشامى، حيث لا خوف ولا قلق ولا حاجة لربط الأحزمة ولا شدها، ولا دعايات تعطل العرض الممتع المثمر، بعون الله. من قال إن سياسة النأي بالنفس لا تجدي وسط هذا الزحام والصخب؟ الفُرجة من بعيد فسحة واستراحة، إن لم نكن معنيين من الألف إلى الياء بالحكاية، تلك التي سموها «سردية» من سرديات العقد الثالث من الألفية الثالثة!