أحدث الأخبار مع #إيمانويلتود،


الشرق الأوسط
١٤-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الشرق الأوسط
إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»
كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول. هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات». حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟ الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك. وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج. وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً. ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم. أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها. ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها. «أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب». عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم». أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية. فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة. يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً. يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا. أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى. ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟ حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك». أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».


أخبار مصر
١٢-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- أخبار مصر
إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»
كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات». To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه،…..لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر 'إقرأ على الموقع الرسمي' أدناه


الجزيرة
١٢-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
الإيمان والدين.. السبيل إلى دستور توافقي جديد في سوريا
يُنقل عن الفيلسوف الفرنسي فولتير دعوته قبل ما يزيد عن قرنين ونيف من الزمان إلى أخذ التسامح الإسلامي منهجًا ومنارة في أوروبا، ويذكر الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل تود، وهو يعدد أسباب هزيمة الغرب في العصر الحديث، قوله: "وصول المصفوفة الدينية الغربية (البروتستانتية) إلى درجة الصفر والإفلاس والهوس المزمن بالحروب الأبدية". ضمن هذا الإطار، يثور التساؤل حول أثر ومكانة الإيمان والدين في حياة الشعوب وارتباطه بالمنظومة التشريعية. لا شك أن الإيمان قيمة روحية عظيمة يتمسك بها المؤمنون للأخذ بالتعاليم الدينية والعمل بهديها في حياتهم، لما يمثله من قيمة عليا في تحقيق السكينة وخشوع النفوس وانضباط السلوك، وهذا يبين مدى تأثير الإيمان والدين على حياة الشعوب وأثره البالغ، ليس فقط في استقرار المجتمعات على اختلاف أديانها وطوائفها، بل أيضًا في تقدمها ورقيها. تتنوع الاتجاهات في دساتير دول العالم بين دساتير لا تشير إلى موضوع الإيمان والدين وتتركه دون ذكر، وأخرى تنصّ صراحة على النهج العلماني، الذي يمثل في هذه الحالة عقيدة الدولة ومنهجها الذي تسير تشريعاتها بهديه. كما توجد دساتير تبين أن الدولة تتبع ديانة معينة أو تتبنى دينًا رسميًا أو تعلي من شأن ديانة باعتبارها دين الأغلبية، بينما تشير دساتير أخرى إلى مكنونات الإيمان بالله، تعالى، سواء بشكل صريح أم عبر إشارة تفيد هذا الإيمان. قد يتبادر إلى الذهن أن دولنا العربية هي الوحيدة التي تتمسك بذكر الدين الإسلامي في دساتيرها، وتجعله مرجعية قانونية للتشريع، بل وتوجب اعتناقه على من يتولى المناصب الرئاسية. غير أن دراسة موسعة أعددت جزءًا منها أثناء مشاركتي في حوارات "اللجنة الدستورية السورية" عن المستقلين في وفد "قوى الثورة والمعارضة السورية" في الأمم المتحدة تكشف أن الإيمان بالله، تعالى، وتبني الدين رسميًا ليسا حكرًا على الدول العربية والإسلامية، بل هما ظاهرتان موجودتان في دساتير العديد من الدول الأخرى بما فيها المصنفة ضمن الطراز الأول عالميًا من حيث المكانة الديمقراطية والرخاء الاقتصادي. إذ تنص تلك الدساتير صراحة على الدين الرسمي للدولة، بل وتفرض أحيانًا أن يكون الحاكم منتميًا إلى دين معين أو مذهب بعينه، رغم أنها ليست دولًا دينية بالمعنى التقليدي. وفي دساتيرها يُنظر إلى الدين كعامل رئيسي في تشكيل الهوية الوطنية ومصدر للطمأنينة والأمان المجتمعي، بل ومصدر فخر لهذه الدول وشعوبها، سواء أكانت هذه الأديان من الأديان السماوية التوحيدية، أم من شرائع أخرى. وفيما يلي أمثلة لنصوص من دساتير دول غير عربية، ما زالت سارية المفعول ومحل التطبيق. تُبرز دساتير عدة دول آسيوية مكانة الدين في أنظمتها. فإندونيسيا تؤكد في ديباجتها على قيام الدولة على الإيمان بالله الواحد الأحد، بينما تنص ماليزيا على أن "الإسلام دين الاتحاد"، مع ضمان حرية الأديان الأخرى. وتحدد باكستان الإسلام دينًا للدولة، فيما تطلب الفلبين عون الله في ديباجتها. في كمبوديا ، يُقر الدستور بأن "البوذية هي الديانة الرسمية"، ويشمل شعارها الوطني "الأمة، الدين، الملك". أما تايلند ، فيلزم ملكها بأن يكون بوذيًا، مع دعم الدولة للبوذية وتعليمها. كذلك، تعطي سريلانكا البوذية المكانة الأولى، مع التزامها بحمايتها. ثانيًا: دساتير من دول غرب آسيا وشرق أوروبا كما تُظهر دساتير دول غرب آسيا وشرق أوروبا مكانة الدين ودوره في الهوية الوطنية والقانونية. ففي أرمينيا ، رغم الفصل بين الكنيسة والدولة، يعترف الدستور بالكنيسة الأرمنية الرسولية المقدسة ككنيسة وطنية، تؤدي دورًا محوريًا في الحياة الروحية والثقافة الوطنية. أما جورجيا ، فبينما تضمن الحرية الدينية، يعترف دستورها بالدور الخاص للكنيسة الأرثوذكسية الجورجية في تاريخ البلاد، وتنظم علاقتها بالدولة عبر اتفاقية دستورية. وفي بلغاريا ، رغم التأكيد على فصل المؤسسات الدينية عن الدولة، تُعدّ المسيحية الأرثوذكسية الشرقية "الديانة التقليدية" للبلاد. أما بولندا ، فيبرز دينها بوضوح في ديباجة الدستور التي تستلهم القيم المسيحية، مع الاعتراف بحقوق المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. وتنص مواد الدستور على احترام استقلال الكنيسة الكاثوليكية والمنظمات الدينية الأخرى، مع إمكانية تدريس الدين في المدارس وفقًا للقانون. وكذلك تعكس دساتير مختلفة في أوروبا الغربية وجود الدين كمكون بارز في الهوية الوطنية والقانونية. ففي المملكة المتحدة ، رغم عدم وجود دستور مكتوب، تحتفظ الدولة بعلاقة تاريخية مع الكنيسة الأنجليكانية، ويظل الملك "الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا". أما النرويج ، فتنص مواد دستورها على أن القيم الوطنية تستند إلى التراث المسيحي، ويُشترط أن يكون الملك منتميًا إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، التي تبقى الكنيسة الوطنية الرسمية. وفي ليختنشتاين ، تُعتبر الكنيسة الكاثوليكية كنيسة الدولة وتحظى بحماية كاملة، كما تؤدي الدولة دورًا في دعم التعليم الديني. أما لاتفيا ، فتؤكد ديباجتها على القيم المسيحية كجزء من هويتها الثقافية، بينما تُعلي أيرلندا من مكانة المسيحية في دستورها، وتعترف بأن الدين العام هو "إجلال لله الأعظم". آيسلندا تُحدد الكنيسة اللوثرية ككنيسة الدولة، وتحظى بالدعم الرسمي، بينما يقر دستور إيطاليا بسيادة واستقلال الكنيسة الكاثوليكية، ويكفل حرية ممارسة الأديان الأخرى. إعلان وفي ألمانيا ، يُستشهد في الدستور بمسؤولية الدولة أمام الله، ويؤدي الرئيس اليمين مع خيار إدراج عبارة دينية. أما الدنمارك، فتُعتبر الكنيسة اللوثرية الدين الرسمي، ويلتزم الملك بأن يكون عضوًا فيها. رغم علمانيتها، تُشير فرنسا إلى "الموجود الأعلى" في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، بينما تُعلن موناكو و مالطا أن الكاثوليكية واليونان الأرثوذكسية ديانات رسمية للدولة. وأخيرًا، يبدأ دستور سويسرا بعبارة "بسم الله القدير"، ويترك تنظيم العلاقة بين الدين والدولة للمقاطعات، لكنه يحظر بناء المآذن، مما يعكس تفاعل الدين مع التشريعات الوطنية. رابعًا: دساتير في القارة الأميركية وفي القارة الأميركية ينعكس حضور الدين بوضوح في الهوية الوطنية والتشريعية. ففي الأرجنتين ، تدعم الحكومة الكاثوليكية كعقيدة رسمية، بينما يؤكد دستور كندا أن الدولة قائمة على "سمو الله وحكم القانون". وفي كوستاريكا ، تعلن ديباجة الدستور ارتباط الدولة بالله، وتُحدد الكاثوليكية كدين رسمي، مع ضمان حرية المعتقدات الأخرى. أما بنما ، فتشير إلى "حماية الله" في ديباجتها، وتعترف بالكاثوليكية كدين الأغلبية، مع إلزام تدريسها في المدارس العامة، لكن مع خيار عدم الحضور بناءً على طلب أولياء الأمور. أما هندوراس ، فتبدأ ديباجتها بالإشارة إلى "الحماية الإلهية"، في حين تعترف السلفادور بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية، مع إمكانية الاعتراف بالكنائس الأخرى وفقًا للقانون. وفي باراغواي ، تستعين الديباجة بالله، بينما تؤكد القوانين حرية الدين والعبادة، مع تنظيم العلاقة بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية على أساس التعاون والاستقلالية. وأخيرًا، في بيرو ، يبدأ الدستور بتوسل إلى الله، ويعترف بالدور التاريخي والثقافي للكنيسة الكاثوليكية، ويؤكد تعاون الدولة معها، مما يعكس التأثير العميق للدين في تشكيل هياكل الحكم في العديد من دول القارة. في القارة الأفريقية أيضًا يظهر حضور الدين في الهوية الوطنية. ففي جنوب أفريقيا ، تفتتح ديباجة الدستور بالدعاء "حمى الله شعبنا"، بينما يعلن دستور زامبيا أن الدولة "أمة مسيحية"، مع التأكيد على حرية المعتقد والوجدان، مما يبرز التداخل بين الدين والتشريع في هذه الدول. مما تقدم نستطيع التأكيد أن كثيرًا من الدساتير في أنحاء العالم وفي مختلف القارات لم تغفل عن ذكر الله، عز وجل، وقدسيته، وتستعين به، وتطلب حمايته، وتُقسم باسمه، كما ورد في أمثلة النصوص المذكورة للدساتير أعلاه من أنحاء دول العالم المختلفة، ويوجد غيرها. وهي قطعًا ليست دولًا دينية، بل إن بعض الدول الكبرى اعتبرت ذلك شعارًا لها وإن لم ينص عليه الدستور، كما في الولايات المتحدة الأميركية، حيث ترد العبارة "بالله نثق"، هذا الشعار الموجود والمطبوع على العملة الوطنية "الدولار"، وتجده في قاعات المحاكم، بما يؤكد حاجة الإنسان للإيمان بالله تعالى الخالق القدير والتعبير عن هذا الإيمان الذي لا يفارق الوجدان الحر. دول في هذا العالم تتبنى نهج العلمانية المفرطة، لكنها لم تستطع أن تغفل عن ذكر الله، عز وجل، وتعبر عن الإيمان الوجداني الداخلي بهذا الذكر، رغم كل مظاهر العلمانية. ذكر الإيمان والدين في الدستور ليس حصرًا على البلاد العربية أو الإسلامية، بل تتشارك به دول كثيرة. كثير من دول العالم، وبعضها من الدول التي تُصنف في المقام الأول من حيث التقدم والتطور والرخاء والرفاهية والديمقراطية، تبنت الديانة والمذهب في دساتيرها ونصّت عليه صراحة، لأنه جزء من عقيدتها التي تؤمن بها، والتي تعبر عن هويتها وثقافتها، وتعتبره فخرًا ومصدرًا لوجودها واستمرارها ومنظومة قيمها التي تعتز بها. لا عيب ولا ضير في ذلك، بل هو إبراز لمكانتها بين الأمم، وهذا حق محل احترام. وبهذه المناسبة، واستشعارًا بما للأديان من أهمية في حياة البشر، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت القرار رقم 65/224 بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2010، بعنوان "مناهضة تشويه صورة الأديان"، وتلاحظ فيه مع قلق بالغ اشتداد الحملة التي تُشن على نطاق واسع للحط من شأن الأديان والتحريض على الكراهية الدينية عمومًا، وتسلم بأن الحط من شأن الأديان والتحريض على الكراهية الدينية عمومًا عاملان يؤديان إلى تفاقم حرمان المجموعات المستهدفة من حقوقهم وحرياتهم الأساسية واستبعادهم اقتصاديًا واجتماعيًا. وتعرب عن بالغ قلقها إزاء الربط المتكرر والخاطئ بين الإسلام وانتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب، وتؤكد على وجوب احترام جميع الأديان، وتدين جميع مظاهر وأعمال العنصرية، وتحث جميع الدول في إطار نظمها القانونية والدستورية على توفير الحماية من جميع أعمال الكراهية والتمييز والتخويف والإكراه الناجمة عن الحط من شأن الأديان، وتحث أيضًا على تعزيز التسامح واحترام جميع الأديان، ووضع إستراتيجيات فكرية وأخلاقية لمكافحة الكراهية والتعصب. لا يمكن لأي جهة تشريعية أن تغفل عن مطالب الشعب، وما يرغبه في تحقيق طموحه، والتعبير عن هويته، وما يخالج وجدانه وما يعتقد به، مع احترام خصوصية كافة المكونات التي لا تتعارض مع السياق العام الوطني الذي يؤمن به أغلب الشعب. جميع دول العالم تضم أقليات ومكونات عرقية ودينية وإثنية، وتعمل هذه المكونات مع الأغلبية في حماية الوطن وتعزيز قيم المواطنة، بما يحفظ الحقوق، رغم وجود نصوص دستورية تعكس صفة الأغلبية ومنهجها، لأن الولاء للوطن وليس لمفاهيم دخيلة أخرى، بل الولاء الوطني وما تمثله قيمه من سماحة واعتدال، والتي تعبر عنها الأكثرية، هو محل الاعتبار، ولا يمكن للمكونات أن تنتقص من حقوق الأغلبية ورغبتها وتطلعها، بل تعمل معها، كون مختلف المكونات جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي الوطني العام. الحقيقة التاريخية التي لا مراء فيها والتي ما زالت قائمة أن مجتمعنا ومنذ مئات السنين هو الذي حافظ على المكونات معه بكل مظاهرها التي تعيش بأمان واطمئنان مواطنين أصليين في موطنهم وموطن آبائهم وأجدادهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فتواجدها وبقاؤها دليل لا يقبل النقض على التسامح والاحترام، ومطلوب منها أن تبادل هذه الحقائق بمثلها. وبذلك، فإن التمترس خلف مظهر من مظاهر المكونات أو الأقليات وإثارة الموضوع والوقوف خلفه للحصول على امتيازات أو تمايز عن باقي الشعب أو فرض إرادتها على بقية الشعب بهذه الحجة، أو أن يجعل البعض هذا المظهر جسرًا للغير لاستخدامه من أجل التدخل في الشأن الداخلي أو طلب استدعاء لهذا الغير بحجة الوجود أو حماية مكون ما، هذا السلوك لا يدل على الخير ويناهض مبدأ الوطنية الجامعة التي يتوجب العيش في ظلها وفي كنفها في بلاد موحدة. الحرص على إعلاء شأن الوطن والمواطنة وتقدير المعتقدات وتعزيز القيم والأخلاق والتعاون وتبادل الاحترام لأنها ضمان الاستقرار، ذلك أنه لا تستقيم الحياة دون إيمان وقيم وأخلاق والتي تعبر عنها الثقافة العامة المجتمعية وما تعكسه في تشريعاتها واحترام كافة الخصوصيات وحرية ممارسة الشعائر بما يضمن السلم الأهلي والنظام العام والوحدة الوطنية. سوريا بلد حيوي في هذه المنطقة من العالم، ولها تاريخ عريق وتراث غني وإرث كبير وتنوع جميل، ويجب أن يكون لها مكانة تليق بها، نؤثر ونتأثر بهذا العالم، نأخذ منه ونقدم له لما فيه الخير والتقدم والازدهار، في مجتمع يفيد ويستفيد، يتفاعل مع خبرات الآخرين، ويأخذ بأسباب التقدم والتطور والرقي العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، والتعاون في تحقيق الأمن والسلم الدوليين بما يحفظ حقوق بلادنا ويصون وحدتها وسلامة أراضيها وسيادتها واستقلالها. بدأت الثورة السورية ضد نظام الأسد عفوية دون تخطيط بتدبير إلهي حينما كان مستبعدًا حدوثها، ومر عليها ثلاثة عشر عامًا حتى كاد يخبو بريقها، وظن الجميع أنها انتهت، فإذا هي تبعث من جديد خلال أيام معدودات لتنتصر بتدبير الله، عز وجل، وتوفيقه كما بدأت، تعتز سوريا بما حققه شعبها الأبي في أطول ثورة على الطغيان والاستبداد والفساد عرفها العصر الحديث، وانتصار إرادة شعبها على نظام الطاغية وتحطيم الأصنام. عقود من الزمان مرت على سوريا في تاريخها القريب، أمعن فيها النظام البائد بالتخريب والإفساد، فحولها إلى دولة اللادولة، توصيف من الصعب قبوله، ولكن ما يتكشف حاليًا يجعلنا أمام حقيقة مرة تتطلب إعادة بناء الدولة أولًا، وهذا يتطلب جهدًا، ولتعيد المصالحة مع الشعب الذي عانى كثيرًا وقدم التضحيات، ومن حقه رفع شأن هويته وإقامة دولته على العدل والنهوض بالمسيرة التنموية بما يحقق الازدهار والتقدم والحياة الكريمة لجميع الناس. وعليه، نعتقد أنه من المهم أن يأتي ذكر الإيمان بالله، تعالى، شعارًا للدولة وكمبدأ أساسي تقوم عليه الدولة المدنية التي ننشدها وتحترمه، وأن تكون مبادئ الإسلام السمحة مرجعية قانونية وأخلاقية وتشريعية في دستورنا العتيد القادم. ذلك لأن هذه المبادئ، التي تتضمن الجانب العقائدي الإيماني وشعائره والجانب العملي في الحقوق والمعاملات، تمثل نظامًا قانونيًا قائمًا بذاته ومعترفًا به دوليًا، ويتلاءم في الوقت ذاته مع متطلبات الحياة الحديثة وحماية حقوق الإنسان. كما أن الإيمان بالله يعكس حقيقة التدين وتبلوره في قلوب وعقول الناس في بلادنا، إذ إنه قيمة إيمانية عظمى ترتبط بوجدان المجتمع رجالًا ونساءً، وتعبر عن التسامح في البعد المجتمعي والتطلع نحو إقامة دولة القانون والمؤسسات، حيث تُحترم قيم الكرامة والحرية والعدل للجميع، وهي القيم التي صانها الإسلام. إضافة إلى ذلك، فإن هذه المبادئ الفقهية تُعدّ كنزًا فكريًا حاضرًا على الدوام في حياة الناس، مؤثرًا في توجيههم، وله مكانة مرموقة تلازم تدينهم عبر العصور المختلفة. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن تتبنى الدولة مبدأ الشورى سبيلًا، والديمقراطية سلوكًا، والعدل منهجًا، بحيث يكون الشعب هو الموكَّل بممارسة السلطات، وهو أساسها ومصدرها، مع اعتماد الفصل المرن والمتوازن بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة، لضمان عدم الجور أو الظلم، في ظل سيادة القانون والمواطنة التي تكفل الحقوق العامة والحريات الشخصية لجميع المواطنين، رجالًا ونساءً، وكافة المكونات المجتمعية، وبما يحقق متطلبات السلم الأهلي. ينبغي العمل بتكاتف من أجل الإعمار، وتنمية المهارات، وإطلاق القدرات، وتشجيع العلوم، ومحاربة الفقر، وإصلاح المؤسسات، ورفع مستوى التنمية المستدامة في جميع أنحاء البلاد، مع زيادة معدلات النمو، وتحقيق مصالح الناس عبر نهوض اقتصادي مستدام في بيئة آمنة، مما ينعكس إيجابًا على مستوى دخل الفرد وحياته. كل ذلك ينبغي أن يكون في إطار نظام جمهوري تشاركي تداولي عادل، يستند إلى مبادئ الشرع الحنيف في الأسس المشار إليها، إلى جانب مبادئ الأخلاق العامة والقيم الإنسانية المشتركة واحترام حقوق الإنسان، التي كفلها الإسلام وأعلى من شأنها، والتي ينبغي النظر إليها باعتبارها ضرورة لا غنى عنها. وهذا كله يأتي بما يليق بكرامة الإنسان، الذي كرّمه الله، تعالى، دون تمييز، فالعبرة في النهاية بالصفة الإنسانية، لا بغيرها، إذ فضّله الله على كثير من خلقه. بل إن هذه الحقوق، المستمدة من التعاليم الإسلامية، ربما تكون أشمل وأعمق من تلك التي تعترف بها المواثيق الدولية.

الدستور
٠٨-٠٢-٢٠٢٥
- سياسة
- الدستور
إيمانويل تود ونبوءة الانهيار بين التحليل العلمي والسنن القرآنية
في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، حيث تتحول القوى وتُعاد صياغة موازين الهيمنة، يبرز صوت المفكرين القادرين على قراءة المستقبل من خلال معطيات الحاضر. ومن بين هؤلاء، يأتي الفيلسوف الفرنسي إيمانويل تود، الذي فاجأ العالم سابقًا بتنبؤه بانهيار الاتحاد السوفياتي في وقتٍ لم يكن أحد يتخيل ذلك، وها هو اليوم يطلق تحذيرًا جديدًا: الغرب يقترب من الهزيمة والانهيار. طرح تود هذا لم يأتِ من فراغ، بل من قراءة معمقة للمؤشرات الاقتصادية، والاجتماعية، والديموغرافية التي تشير إلى أن الحضارة الغربية لم تعد كما كانت. فالولايات المتحدة وأوروبا، اللتان كانتا تمثلان رموز القوة الصناعية والعلمية، تواجهان اليوم تراجعًا في التعليم، وانخفاضًا في الإنتاج، وغيابًا للرؤية طويلة المدى. في المقابل، تظهر قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، وهي تعزز مكانتها على المسرح العالمي، ما يهدد بتغيير معادلة الهيمنة التي سادت لقرون. لكن المسألة ليست فقط مسألة اقتصاد أو صناعة، بل تمتد إلى القيم والهوية. يشير تود إلى أن الغرب فقد روحه، حيث تآكلت القيم التي أسست لنهضته، وتحولت مجتمعاته إلى كيانات يسيطر عليها الاستهلاك والعدمية والفردية المفرطة. لم يعد هناك ذلك التماسك الاجتماعي الذي كان يُميز الحضارة الغربية في مراحلها الأولى، بل أصبح هناك تفكك أسري، وانهيار للمعايير الأخلاقية، وغياب للبعد الروحي. هذا التحليل ينسجم تمامًا مع السنن القرآنية التي تُظهر كيف أن انهيار القيم هو بداية سقوط الحضارات. في القرآن، تتكرر الإشارة إلى أن الأمم التي تتجبر وتبتعد عن العدل والمبادئ الأخلاقية يكون مصيرها الزوال، كما في قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا» (الكهف: 59). الغرب، الذي كان يقود العالم على أسس قيمية قوية، فقد اليوم هذه الأسس، وأصبح أسيرًا لموجات متتالية من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية التي لا يبدو أن هناك حلولًا واضحة لها. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فتود يرى أن التراجع الغربي لم يعد نظريًا، بل بدأ يظهر عمليًا في مؤشرات حيوية. روسيا، التي كانت تعاني من تفكك داخلي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، استعادت عافيتها، حيث تحسنت معدلات الولادة، وانخفضت نسب الجريمة، وتحسن المستوى التعليمي والصحي، بل إنها باتت قادرة على إنتاج أسلحة أكثر من الغرب مجتمِعًا رغم أن اقتصادها لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من إجمالي الاقتصاد الغربي. هذه الحقيقة وحدها تجعل من الضروري إعادة التفكير في مفهوم القوة، فبينما كانت الدول الغربية تعتمد على القوة الاقتصادية كعامل رئيسي، فإن ما يحدث الآن يثبت أن الصمود الحقيقي ليس فقط في حجم الناتج المحلي الإجمالي، بل في القدرة على تحقيق الاستقلالية الذاتية، وتعزيز الصناعات الحيوية، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا. من الناحية القيمية، فإن الغرب يعاني من ما يسميه تود «الوصول إلى الصفر الديني»، حيث لم تعد هناك مرجعية أخلاقية أو روحية يمكن أن توفر التوازن للمجتمع. المجتمع الذي يفقد بوصلة القيم يصبح عرضة للفوضى، وتاريخيًا، فإن كل حضارة وصلت إلى هذه المرحلة كانت نهايتها الانهيار، وهو ما نشهده اليوم في مظاهر التفكك الأسري، وانتشار الأزمات النفسية، وغياب المعنى عن حياة الكثيرين في المجتمعات الغربية. هذا السياق يتوافق مع التحذير القرآني في قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـهَا تَدْمِيرًا» (الإسراء: 16). في الوقت نفسه، بينما تتآكل القيم الغربية، يشهد الإسلام في الغرب انتشارًا غير مسبوق. هناك تزايد في أعداد المسلمين الجدد، والسبب في ذلك أن الفطرة الإنسانية لا يمكنها العيش في فراغ روحي. عندما تفقد المجتمعات الغربية أساسها الروحي، يبدأ الناس في البحث عن معنى آخر للحياة، وهنا يبرز الإسلام كخيار يزداد جاذبية. المفارقة أن الإسلام، الذي كان يُنظر إليه في الغرب على أنه تهديد، أصبح اليوم البديل القيمي الذي يبحث عنه الكثيرون داخل هذه المجتمعات نفسها. ما يقوله تود ليس مجرد نظرية أكاديمية، بل تحذير من أن العالم يقف على أعتاب تحول جذري. الغرب لم يعد في موقع القيادة المطلقة، وهناك مراكز قوى جديدة تتشكل، وقيم جديدة تبدأ في استعادة موقعها في الحياة العالمية. القرآن الكريم يؤكد أن تداول الأمم سُنّة كونية، كما في قوله تعالى: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» (آل عمران: 140). إذا كان الغرب قد وصل إلى ذروة مجده، فإن كل الإشارات تدل على أنه بدأ يفقد هذا المجد لصالح قوى جديدة، ربما يكون الإسلام أحدها. يبقى السؤال الكبير: هل نحن نشهد تحولًا حضاريًا غير مسبوق؟ هل سيتدارك الغرب أزمته، أم أن التاريخ يعيد نفسه ليشهد العالم نهاية هيمنة الغرب؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف الإجابة، لكن المؤكد أن العالم كما نعرفه يتغير بسرعة قد تفاجئ الجميع.