logo
إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

الشرق الأوسط١٤-٠٣-٢٠٢٥

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.
هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات».
حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟
الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.
وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.
وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.
ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.
أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.
ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.
«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».
عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم».
أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية.
فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة.
يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً.
يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل
في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا.
أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى.
ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟
حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك».
أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عقوبات أمريكية على حكومة السودان بدعوى استخدام "أسلحة كيميائية"
عقوبات أمريكية على حكومة السودان بدعوى استخدام "أسلحة كيميائية"

الموقع بوست

timeمنذ 12 ساعات

  • الموقع بوست

عقوبات أمريكية على حكومة السودان بدعوى استخدام "أسلحة كيميائية"

أعلنت الولايات المتحدة، الخميس، أن تحقيقاتها توصلت إلى أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية خلال الصراع المستمر في البلاد. وأفادت وزارة الخارجية أن هذا الاستخدام جرى في عام 2024، مشيرة إلى فرض عقوبات ردًا على هذا الانتهاك. وجاء في بيان للخارجية الأمريكية "تدعو الولايات المتحدة حكومة السودان إلى التوقف عن استخدام كل الأسلحة الكيميائية والوفاء بالتزاماتها" بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وهي معاهدة دولية وقعتها تقريبا كل الدول التي تحظر استخدامها. وقالت المتحدثة باسم الخارجية تامي بروس في بيان إن "الولايات المتحدة ملتزمة تماما محاسبة المسؤولين عن المساهمة في انتشار الأسلحة الكيميائية". ولم تكشف الخارجية على الفور أي تفاصيل على صلة بالمكان أو الزمان الذي استخدمت فيه هذه الأسلحة. وأوردت صحيفة نيويورك تايمز في كانون الثاني/يناير الماضي أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية مرتين على الأقل في مناطق نائية خلال حربه مع قوات الدعم السريع. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين لم تسمّهم قولهم إن السلاح يبدو أنه غاز الكلور الذي يمكن أن يسبب ألما شديدا في الجهاز التنفسي والموت. وقالت وزارة الخارجية إنها أبلغت الكونغرس الخميس بقرارها المتّصل باستخدام الأسلحة الكيميائية، لتفعيل عقوبات بعد 15 يوما. وتشمل العقوبات قيودا على الصادرات الأمريكية والتمويل لحكومة السودان. عمليا، سيكون الأثر محدودا إذ يخضع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وخصمه، قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، بالفعل لعقوبات أمريكية. ويشهد السودان منذ نيسان/أبريل 2023 حربا دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأسفر النزاع في السودان عن مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص ونزوح 13 مليونا، وتسبب بما تصفه الأمم المتحدة بأسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث. وأعلن الجيش الثلاثاء الماضي بدء عملية عسكرية "واسعة النطاق" تهدف الى طرد قوات الدعم السريع من آخر معاقلها في جنوب وغرب أم درمان و"تطهير" كامل منطقة العاصمة.

إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"
إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"

Independent عربية

timeمنذ 20 ساعات

  • Independent عربية

إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"

في فبراير (شباط) عام 2022 ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شاشات العالم أجمع ليعلن دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، معللاً ذلك بقوله إن "التمدد المستمر في البنى التحتية لحلف شمالي الأطلسي والتهيئة العسكرية لأرض أوكرانيا مرفوضان بالنسبة إلينا، لا نريد أن تفاجأ روسيا كما في صيف عام 1941، فجاء تحركنا دفاعاً عن النفس". ولم تُدَر هذه الحرب كما كان متوقعاً لها، إذ تكشفت عن مفاجآت كثيرة بالنسبة إلى روسيا أو الغرب لأنها حرب حقيقية بين دولتين في أوروبا التي حسبت نفسها هاجعة إلى سلام دائم، وهي كذلك شكلت مجابهة بين الولايات المتحدة وروسيا عبر الأوكرانيين. وكأن من المفاجئ صمود أوكرانيا العسكري التي وجدت في الحرب مبرراً لوجودها المهدد، لكن المفاجأة الكبرى كانت صمود الاقتصاد الروسي، فإن الغرب راهن على انهيار روسيا وتركيعها بعقوبات اقتصادية كبيرة واستبعاد مصارفها من منظومة "سويفت"، لكن الروس عرفوا كيف يتكيفون مع هذه العقوبات بمرونة تقنية واقتصادية واجتماعية. ومن المفاجئ أيضاً دخول المملكة المتحدة في الحرب على روسيا وتزويدها أوكرانيا بدبابات ثقيلة وصواريخ بعيدة المدى، بينما أعلنت الولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم عن عجزها عن توفير أية أسلحة لأوكرانيا. أما المفاجأة الأكبر والأكثر إرباكاً للغرب، فتمثلت في عزلته الأيديولوجية واستمرار مساندة الصين للروس، فضلاً عن حسبان العالم الإسلامي بأسره روسيا شريكاً أكثر من أنها خصم، وهذه الوقائع التي انجلت عنها الحرب تؤكد هزيمة الغرب برأي إيمانويل تود في كتابه "هزيمة الغرب"، ترجمة محمود مروة عن دار الساقي 2025، فهذه الهزيمة كما يقول المؤلف "يقينية لأن الغرب يتدمر ذاتياً، أكثر من كون روسيا تهاجمه، فليست روسيا هي ما يعرض توازن الكوكب للخطر" بل إنها "أزمة غربية وبصورة خاصة أميركية". وهذا ما توقعه أيضاً أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر الذي رأى أن روسيا ستكسب الحرب لأن أوكرانيا مسألة وجودية لها، في حين أنها ليست كذلك للولايات المتحدة. ويتفق تود مع ميرشايمر في أن تصرف حلف شمالي الأطلسي ليس سوى انعدام عقلانية ومسؤولية، في وقت تتزعم الغرب إمبراطورية تخلو من مركز ومشروع، توجهها مجموعة تفتقر إلى ثقافة مركزية بالمعنى الأنثروبولوجي، في وقت تبقى قائمة فيها آلة دولتية عسكرية عملاقة، مما يطرح في نظر المؤلف سؤالاً مركزياً، لماذا استخف الغربيون بخصمهم الروسي إلى هذا الحد في وقت لم يكُن هناك شيء مخفي من أوراقه الرابحة؟ وفي ظل مجتمع استخباراتي يضم 100 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها، كيف أمكن التصور أن قطع نظام "سويفت" وفرض عقوبات سيرديان ببلد يمتد على 17 مليون كيلومتر مربع ويتوافر على الموارد الطبيعية الممكنة كافة ويستعد جهاراً منذ عام 2014 لمواجهة عقوبات كهذه؟ وإذا كانت صلابة روسيا شكلت واحدة من مفاجآت الحرب، فإن الأرقام والإحصاءات تؤكد قوة روسيا وارتقاءها خلال عهد بوتين على الضد مما يدعيه الإعلام الغربي، فبين عامي 2000 و2017 انخفض بصورة كبيرة معدل الوفيات الناجمة عن تناول الكحول، وتراجعت معدلات الانتحار وجرائم القتل ووفيات الرضع، كما تدنت معدلات البطالة، وتحقق الاكتفاء الذاتي غذائياً، وصارت روسيا واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية في العالم، بحيث تضاعفت صادرات الأغذية الروسية ثلاث مرات. ومن المدهش حفاظ روسيا على مكانتها كثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم، وأكبر مصدر لمحطات الطاقة النووية، وقد يكون مثال إنتاج القمح أشد إعجاباً، إذ إن روسيا أنتجت عام 2012، 37 مليون طن من القمح، ثم 80 مليون طن عام 2022. وعلى صعيد التعليم العالي بلغت نسبة الملتحقين بدراسة الهندسة 23.4 في المئة عام 2020 في روسيا، مقابل 18.5 في اليابان و24.2 في ألمانيا و14.1 في فرنسا، وعلى رغم تفاوت عدد السكان، تصل روسيا إلى تكوين مهندسين أكثر بكثير من الولايات المتحدة. ويعوّل المؤلف على الطبقات الوسطى في التغيير، فهي الجاذبة لاهتمام علماء الاجتماع والسياسيين، ومن دونها يتعذر قيام مجتمع مستقر وديمقراطي وليبرالي، فالعامل الذي أطلق سقوط المنظومة الشيوعية لم يكُن الشلل الاقتصادي، بل ظهور طبقة وسطى حظيت بتعليم عالٍ، العامل الوحيد في نجاح الديمقراطية الليبرالية أو إخفاقها؟ فهل يمكننا أن نتصور بمعقولية أن الطبقات الوسطى الروسية ستطيح يوماً ما بنظام بوتين السلطوي؟ يحلم الغربيون بطبقات وسطى ذات تأثير مزدوج، فيكون من شأنها إسقاط بوتين بعدما أسقطت الشيوعية، وهذا الأمل ليس عبثياً تماماً، فأكثر المعارضين بحدة لبوتين في المدن الكبرى هم من الطبقات التي تتمتع بتعليم عالٍ حقاً، وهي الطبقات التي دعمت بوريس يلتسين مسقط الاتحاد السوفياتي، بيد أن ثمة ما يميز الطبقات الوسطى الروسية عن نظيرتها الغربية، وهو أحد العوامل التي تفسر صلابة روسيا في مواجهة الغرب. وما مكّنها من الحفاظ على سيادتها، قدرتها التلقائية على منع نمو فردانية مطلقة وتمسكها بالانتماء "الجماعي"، مما يكفي لكي يحيا المثل الأعلى لأمة متراصة على رغم تمركز الثروة والمداخيل، إذ نال الواحد في المئة الأعلى في روسيا 24 في المئة من المداخيل عام 2021 مقابل 19 في المئة في الولايات المتحدة و19 في المئة في فرنسا، وهكذا تبقى منظومة بوتين ثابتة لأنها نتاج التاريخ الروسي، وحلم الغرب بانتفاضة ضده لا يعدو كونه حلماً. إلا أن روسيا كذلك تعاني ضعفاً رئيساً هو الخصوبة المنخفضة، ودخلت في طور انكماش للسكان الذكور الذين يمكن تعبئتهم بنسبة 40 في المئة، ولذلك ليست أولوية الروس في الاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي، بل في خسارة العدد الأدنى من الرجال. ويعرف الروس أنهم لم يعودوا بوزن حلف الأطلسي الذي بلغ عدد سكانه 887 مليون عام 2023، فيما لن يتجاوز عدد سكان روسيا 143 مليوناً عام 2030، من هنا كان تحديد الجيش الروسي عقيدة عسكرية جديدة تأخذ في الحسبان الفاقة في الرجال وتجيز توجيه ضربات نووية تكتيكية إذا ما كانت الأمة والدولة الروسيتان مهددتين، وأدرك الأميركيون مشكلة روسيا الديموغرافية وأفرطوا في الاعتماد على التحليل الديموغرافي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) توقع الروس استسلام أوكرانيا أو انهيارها السريع لاعتبارهم إياها دولة فاشلة انخفض عدد سكانها بين عامي 1991 و2021 من 52 مليون نسمة إلى 41 مليوناً، وهي ذات تركيبة عرقية لغوية معقدة، ومع أنها عدت في الاتحاد السوفياتي واحدة من مناطق التنمية الأكثر حداثة، لم تنجح في تطوير دولة خاصة بها أي دولة أمة، إلا أن الروس كما الغرب فوجئوا بصمود أوكرانيا. ووجدت أوروبا نفسها منتظمة في حرب تتعارض مع مصالحها ومدمرة ذاتياً، بينما يتحدث الأوروبيون منذ 30 عاماً عن اتحاد أوروبي في طريقه ليكون قوة مستقلة، وفي حين أن روسيا لا تشكل أي تهديد لأوروبا، بل تسعى إلى إقامة شراكة اقتصادية معها. وخصص المؤلف حيزاً واسعاً من كتابه للولايات المتحدة التي هي القوة العسكرية الأولى في العالم، ولكنها لا تملك القدرة على السيطرة المباشرة على كل شيء، وتواجه الآن أخطاراً كثيرة، فاعتمادها الاقتصادي على بقية العالم صار هائلاً ومجتمعها يتفكك، والإشكال الحقيقي الذي يواجهه العالم اليوم ليس في إرادة القوة الروسية المحدودة جداً، بل في انحطاط مركز القوة الأميركي وهو بلا حدود. وإزاء تفتت المجتمع الأوكراني واستقرار المجتمع الروسي ونهاية الحلم الأوروبي بالاستقلال وانحراف مسار الدول الاسكندنافية، نقترب من موطن الأزمة العالمية، أي الثقب الأسود الأميركي، فمنذ انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة دخل العالم الأنغلو- أميركي في حال انعدام جاذبية. ومنذ ذلك الحين، بتنا نشاهد ونضطر إلى تفسير قرارات استراتيجية خالية من المنطق، فعام 2023 رفضت الولايات المتحدة التصويت لمصلحة قرار "هدنة إنسانية" في غزة اقترحه الأردن، وصوتت عليه 120 دولة فيما رفضته 14 دولة، وجاء التصويت الأميركي ضد الهدنة عدمياً، رافضاً للأخلاق المشتركة للإنسانية، مما يعني في الوقت نفسه أن الولايات قررت معاداة العالم المسلم بصورة فورية ودائمة، أما حلف شمالي الأطلسي فهو بصدد خسارة الحرب الصناعية بعدما تبين أنه عاجز عن إنتاج الذخائر والصواريخ بكميات كافية. في خلاصة استنتاجاته، يرى المؤلف أنه إذا أردنا توقع الخيارات الاستراتيجية لأميركا، فعلينا التخلي على وجه السرعة عن بديهية العقلانية، ذلك أن الحال السوسيولوجية لأميركا تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها، لكن العدمية تجعل كل شيء على الإطلاق، ممكناً. ونرى ختاماً أن الكتاب يخلخل كثيراً من التصورات، ويعيد النظر في كثير من المسلمات، كما يضيء على الخلفيات التاريخية والاقتصادية والديموغرافية للاستراتيجيات السياسية الراهنة، كاشفاً في العمق عن جذور الصراع الذي بات يهدد المصير الإنساني، ولذلك فإنه يشكل إضافة جدية إلى الفكر السياسي في العالم العربي.

"وعود بلا وصول".. المساعدات تصل إلى المعابر ولا يحصل عليها الجياع في غزة
"وعود بلا وصول".. المساعدات تصل إلى المعابر ولا يحصل عليها الجياع في غزة

صحيفة سبق

timeمنذ 2 أيام

  • صحيفة سبق

"وعود بلا وصول".. المساعدات تصل إلى المعابر ولا يحصل عليها الجياع في غزة

في مشهد يتكرر بمرارة في قطاع غزة، يقف السكان الجياع على أعتاب كارثة إنسانية، ينتظرون بصيص أمل يصلهم عبر قوافل المساعدات، التي أعلنت إسرائيل عن تخفيف حصارها عليها، فبعد ثلاثة أيام من هذا الإعلان، لم يصل سوى القليل، إن وجد، من الغذاء والوقود والدواء الذي يحتاج إليه الفلسطينيون بشدة، وتكمن المشكلة في أن هذه المساعدات، على الرغم من وصول عشرات الشاحنات منها إلى معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، لا تزال حبيسة المستودعات على الجانب الغزي، وذلك بسبب مخاوف الأمم المتحدة من عمليات النهب، مما يعمّق معاناة أهالي القطاع الذين يعيشون تحت وطأة حظر إسرائيلي دام شهرين على الإمدادات الأساسية، ما يطرح تساؤلات جدية حول فعاليّة هذا التخفيف في ظل التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم بري واسع النطاق قد يزيد الوضع تعقيدًا. ويصف رياض الحوسري، شاب في الخامسة والعشرين من عمره يسكن مدينة غزة، الواقع المؤلم بقوله : "اليوم سنأكل في الغالب العدس أو المعكرونة. نأكل وجبة واحدة في وقت متأخر من بعد الظهر. إنها وجبة واحدة ولا توجد غيرها"، وهذه الشهادة ليست سوى جزء صغير من لوحة المعاناة الكبيرة التي يعيشها سكان القطاع، حيث بات الحصول على أبسط مقومات الحياة تحديًا يوميًا، وفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية. وحذرت لجنة من الخبراء المدعومين من الأمم المتحدة من أن سكان غزة يواجهون خطرًا حرجًا من المجاعة بسبب الحصار الإسرائيلي، وتوقعت اللجنة أن يعاني عشرات الآلاف من الأطفال سوء التغذية الحاد إذا استمرت القيود، وعلى الجانب الآخر، ردت إسرائيل بأن هذا التقرير يستند إلى بيانات وافتراضات خاطئة، نافيةً دقة التقديرات. وفي مطلع مارس، أعلنت إسرائيل منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وبرر المسؤولون الإسرائيليون هذه القيود بأنها تهدف إلى الضغط على حركة حماس للموافقة على شروط إنهاء الحرب وتحرير الرهائن المتبقين في القطاع، وهذا التبرير يضع حياة المدنيين على المحك، ويجعل المساعدات الإنسانية ورقة مساومة في صراع سياسي معقد. وعلى الرغم من إعلان إسرائيل عن مرور عشرات الشاحنات المحملة بالإمدادات عبر معبر كرم أبو سالم، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى صعوبة بالغة في إيصال هذه المساعدات إلى مستحقيها، ويبرر مسؤول أممي، فضل عدم الكشف عن هويته، عدم قدرة الأمم المتحدة على نقل الشاحنات من المعبر إلى المستودعات داخل غزة جزئيًا بمخاوف من عمليات النهب، وهذا التأخير يعكس تحديات لوجستية وأمنية كبيرة تعترض طريق توزيع المساعدات، ويضع علامات استفهام حول الآليات المتبعة لضمان وصول الإغاثة إلى الأيدي التي تحتاج إليها، خصوصًا في ظل التهديدات المستمرة بشن هجوم بري واسع النطاق قد يزيد من تفاقم الأوضاع الإنسانية، فهل ستجد هذه المساعدات طريقها إلى الجوعى حقًا، أم ستبقى حبيسة التحديات؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store