أحدث الأخبار مع #عبدالحميدبنباديس


الشروق
منذ 13 ساعات
- منوعات
- الشروق
تكريم تلميذة جزائرية تعلمت اللغة الصينية عن طريق الهاتف
كرّمت مديرية التربية لولاية تمنراست، تلميذة بإحدى المتوسطات، تمكنت من تعلم اللغة الصينية، التي تعتبر من أصعب اللغات في العالم، عن طريق الهاتف المحمول. ونشرت صفحة المديرية، مساء الأحد، على فيسبوك مجموعة صور للمناسبة، مرفقة ببيان جاء فيه: 'قام هذا اليوم السيد مدير التربية بتكريم التلميذة المميزة بومعزة دوران التي تدرس على مستوى متوسطة عبد الحميد بن باديس والتي تتقن اللغة الصينية حيث تعلمتها عن طريق الهاتف (اليوتوب)'. وكان نشطاء من الجنوب الجزائري قد تداولو صور دوران مع الثناء على عزيمتها وذكائها وحسن استخدامها للهاتف، كما فرحوا لتكريمها تشجيعا لها على مواصلة التعلم، وتحفيزا للآخرين على الاقتداء بها. تم تكريم هذه الصغيرة لأنها تعلمت اللغة الصينية من الجوال . الله يبارك ….الذكي دائما يبحث ويتعلم كل ماهو مفيد .يعمل على إثراء عقله وليس فقط المتعة والتسلية واللعب بالجوال . — . ᥫ᭡ Djihan al-hamidi (@tooba500) May 19, 2025


النهار
منذ 5 أيام
- أعمال
- النهار
شراكة بين 'ناسدا' و'أنام' لدعم المقاولاتية لدى الشباب الجامعي بمستغانم
أبرمت الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية (ناسدا) والوكالة الوطنية للتشغيل (أنام) بمستغانم اتفاقية تعاون تهدف إلى تعزيز روح المقاولاتية لدى الشباب الجامعي والخريجين، من خلال تنظيم أيام تحسيسية وتكوينية. يشمل البرنامج إقامة أيام إعلامية على مستوى وكالات التشغيل المحلية، لشرح آليات إنشاء المؤسسات المصغرة وأهمية المبادرة الفردية. بالتعاون مع مركز تطوير المقاولاتية بجامعة عبد الحميد بن باديس. كما سيتم تنظيم دورات تكوينية لفائدة المسجلين في 'أنام'، تتناول التسجيل في منصة CDE، الإجراءات الإدارية لإنشاء مؤسسة، الجوانب القانونية، والتحفيزات المتاحة. وتهدف المبادرة إلى تمكين الشباب من المهارات الضرورية لتأسيس مشاريعهم الخاصة والمساهمة في التنمية الاقتصادية المحلية.


الشروق
١٨-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
عبد الحميد بن باديس: ثائرُ عصره
تحتفل الجزائر منذ عام 1976 بيوم العلم، وقد ارتبط إحياء هذا اليوم بوفاة رائد النهضة الجزائرية الإمام والمصلح والسياسي والصحافي والأستاذ عبد الحميد بن باديس رحمه الله. في أعقاب قيام الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله بالانقلاب على الرئيس بن بلة رحمه الله في ما عرف بالتصحيح الثوري في التاسع عشر من يونيو جوان 1965 قام العقيد بومدين وزير الدفاع ونائب الرئيس حينها بتعيين الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي المختص أصلا في الطب العام وزيرا للتربية الوطنية . ويعد الدكتور طالب من بين المفكرين الجزائريين الذين تولوا عديد المناصب خلال عهدي الرئيسين الراحلين هواري بومدين والشاذلي بن جديد قبل أن يترشح ضد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. والدكتور طالب هو نجل الشيخ البشير الإبراهيمي أحد علماء الجزائر الكبار وخطبائها المفوهين، ثم إنه واحد من أبرز ما يعرف بعلماء الإصلاح إذ أنه بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في السادس عشر أفريل 1940 كان الشيخ البشير الإبراهيمي هو من خلف بن باديس. بعد فترة من تعيين الدكتور طالب على رأس وزارة التربية دعاه الرئيس بومدين إلى مكتبه، ودار بين الرئيس الراحل وبين وزيره للتربية الوطنية نجل الشيخ البشير الإبراهيمي الصديقُ الحميم للعلاَّمة عبد الحميد بن باديس حوار. سأل الرئيس بومدين خلاله الوزير قائلا: كيف نحتفي بيومٍ يُعيد لنا أبعاد الهوية الوطنية في مكوناتها الثلاثية الأبعاد؟ ويوضح الدكتور أحمد طالب في الجزء الثاني من كتابه:'مذكرات جزائري.. هاجس البناء' أنه في ظل ذلك الجو فتح الرئيس بومدين ذات يوم نقاشا داخل الحكومة حول الموضوع وراح يقول في إحدى الجلسات: 'إن الإنسان المتعلم لا يمكن استعباده، كما أنه من المستحيل إخضاعُ شعبٍ يَغْرفُ من مناهل المعرفة، لذلك فإنه لأَمرٌ رشيد أن نُقيم يومًا للعلم نحتفل به كل عام في المؤسسات المدرسية، وفي الأوساط الإعلامية من أجل أن نُذكِّر الجزائريين بمحاسنِ العِلْم'. ويوضح الدكتور طلب في نفس الكتاب ص 45 و46، أن الرئيس بومدين طلب منه أن يقترح يوما لذلك، فاقترح عليه الدكتور طالب يوم الـ16 أفريل 1940 الذي يصادف يوم وفاة ابن باديس، ذلك أن الدكتور طالب كما أوضح لي شخصيا كان تلك الفترة لا يعرف تاريخ ميلاد الشيخ عبد الحميد بن باديس. وخلال اتصالٍ هاتفي مع الدكتور يوم 8 أفريل 2020 أوضح لي الدكتور الإبراهيمي أن الرئيس بومدين رحمه الله قد وقَّع فعلا لاحقا عام 1976 على نص ذلك المرسوم الرئاسي الذي يقر الـ16 أفريل يوما وطنيا للعلم وهذا بعد مضي عشرة أعوام من ذلك النقاش، مع العلم أن ابن باديس ولد يوم الأربعاء 4 ديسمبر 1889 وتُوفي يوم الثلاثاء 16 أفريل 1940. بن باديس شخصية استثنائية ما من شكّ أن المتتبِّع لمسيرة رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ مرحلة طفولته يشهدُ له بالاستقامة والأخلاق الحميدة وبسمو النفس وبالنبوغ والتميز. لقد برزت أفكار هذه الشخصية الاستثنائية لاستنهاض همم الجزائريين في وقت كادت فيه القوة المحتلة تشجع على الخرافات وأعمال الشعوذة وسط الجزائريين بفعل سياسة التجهيل التي اتبعها الاحتلال لتخدير عقول الجزائريين وتنويمهم لتُبقيَ فرنسا هذه الأرض تحت سيطرتها إلى الأبد، ولتبقى الجزائر جنَّتها الموعودة . وهكذا راح بن باديس ورفاقه يرفعون شعار: من أجلهما أَعيش: الجزائر والإسلام. ما من شك أن المتتبع لمسيرة رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ مرحلة طفولته يشهدُ له بالاستقامة والأخلاق الحميدة وبسمو النفس والنبوغ، ناهيك عن الشجاعة ووضوح الفكر التي مَّيزته عن الكثير من أترابه وزملائه في الدراسة . اهتم به والده سي مصطفى رحمه الله منذ صغره فأدخله ليحفظ القرآن الكريم عند الشيخ محمد المدَّاسي، وهو واحدٌ من أشهر مقرئي مدينة قسنطينة في تلك الفترة، ثم أصبح عبد الحميد تلميذا لدى العالم الكبير الشيخ حمدان لونيسي . وقد كان الشيخ لونيسي رحمه الله من أشهر علماء الجزائر في تلك الفترة، قبل أن يُضطر إلى الهجرة خارج الوطن بسبب المضايقات التي طالته من الاستعمار وأذنابه، خصوصا بعد أن دخل في خلافات مع مفتي قسنطينة المعيَّن من طرف سلطات الاحتلال في تلك الفترة. وقد استقر الشيخ حمدان لونيسي، وهو من نفس العائلة التي تنتمي لها الوزيرة السابقة والكاتبة زهور ونيسي منذ 1908 إلى غاية وفاته في 1920 بالمدينة المنورة مُدرِّسًا وخطيبا بالمسجد النبوي. لقد اكتشف الشيخ حمدان لونيسي نبوغ الشاب عبد الحميد بن باديس، ولذلك فإنه راح يقرَّبهُ إليه، ويُشجِّعه على تحصيل العلم، إذ كان يتركه قبل أن يكمل سن الُثالثة عشر يَؤمُّ المصلين في شهر رمضان الكريم خصوصا . وفي الرواية التي تضمنت سيرة الراحل عبد الحميد بن باديس تحت عنوان :'من أجلهما عشت' وهي عمل تاريخي وإبداعي ضخم من 576 صفحة للصديق الروائي الدكتور أحمد منوّر الذي يعيش حاليا بكندا، يشير الكاتب إلى أن روايته تتضمن كثيرا من الحقائق لم يجرِ التطرقُ لها سابقا من قِبل العديد من الكُتَّاب الذين تناولوا حياة وفكر عبد الحميد بن باديس، ومن بينهم الدكتور عمار طالبي، والدكتور تركي رابح، والدكتور ناصر الدين سعيدوني، والسيدة زهور ونيسي، والدكتور عبد العزيز فيلالي وغيرهم ممن تناولوا حياة وفكر ابن باديس، وتتعلق هذه الحقائق الموثقة حسب الدكتور مَنُّور ببعض الجوانب الخفية من حياة هذه الشخصية العظيمة . زواجٌ لم يدم طويلا لقد تحدث كثير ممنْ سردوا سيرة ابن باديس عن أن زواجه من ابنة عمه 'يامنة' والذي وقع قبل توجهه إلى تونس للدراسة، لم يكن موفقا خصوصا بعد الفاجعة التي ألمّت بابن باديس في وفاة ابنه إسماعيل الذي كان والده يُطلق عليه اسم محمد عبدو نظرا لتأثر ابن باديس بالشيخ محمد عبده الذي زار قسنطينة في عام 1903 . إذ خلال تلك الزيارة قام الشيخ حمدان لونيسي بتقديم عبد الحميد للشيخ عبده بعد أن طلب من عبد الحميد آنذاك عقب درس ألقاه الشيخ محمد عبده بأحد مساجد قسنطينة أن يُجوّد القرآن أمامه، وهو ما جعل الإمام محمد عبده يُعجب بطريقة تجويد الطفل بن باديس ويتمنى له النجاح والتوفيق . وعقب تلك الفاجعة التي تمثلت في موت نجل ابن باديس إسماعيل، الذي لم يكن قد تجاوز سن الـ12 بعد حتى راحت زوجة الشيخ عبد الحميد بن باديس تُحمِّلُ زوجها مسؤولية موت ابنهما بتلك الطريقة المأساوية التي انتهى إليها الطفل، ذلك أن الطفل إسماعيل توجَّه ذات يوم إلى المزرعة العائلية كما كان يفعل عادة مع جده أو أبيه، وأمسك ببندقية جده وراح يعبث بها الأمر الذي أدى إلى خروج رصاصات طائشة خطأً لتخترق جسد الطفل وتُرديه قتيلا، مما أحدث فاجعة وحزنًا كبيرا لدى العائلة وخاصة لوالديْ الطفل. وقد أدّت هذه الفاجعة إلى أن تسوء العلاقة بين الزوجين المفجوعين في ابنهما، مما اضطر الشيخ عبد الحميد إلى تطليق زوجته مبكرا. ويذكر الدكتور منوَّر أنه أثناء دراسة ابن باديس للقرآن في مرحلة شبابه المبكر لدى الشيخ محمد المداسي وقبل زواجه من ابنة عمه، كانت إحدى بنات شيخه المداسي تقوم بتدريس البنات في نفس المسجد الذي كان يدرِّس فيه الشيخ المداسي . طالب في تونس.. كانت رغبة الطالب عبد الحميد بن باديس أن يستكمل دراسته في جامع الزيتونة الذي كان يُطلَقُ عليه في تلك الفترة 'الجامع الأعظم'، وهكذا، وبتشجيعٍ من شيخه حمدان لونيسي وبدعمٍ من والده سي مصطفى قصد عبد الحميد تونس عام 1910 . كانت الدراسة تتطلب منه سبعة أعوام كاملة لنيل شهادة التطويع، وهي أعلى شهادة كان يمنحها جامع الزيتونة للطلبة المنتسبين له، ولكن الجدية التي تميز بها والاجتهاد الذي أبداه الطالب عبد الحميد وحِدَّةُ الذكاء والنبوغ الذي كان يتميز به أهَّلته ليختصر الدراسة في ثلاثة أعوام فقط، إذ أن من بين الـ60 طالبا الذين كانوا في دفعته لم ينجح منهم سوى 13 وكان عبد الحميد بن باديس المتفوق الأول في تلك الدفعة الزيتونية. كان من بين أبرز الأساتذة الذين درس عندهم في الزيتونة الشيوخ : ــ محمد النخلي الأستاذ البارز في علم التفسير. ــ الطاهر بن عاشور الأستاذ البارز في الأدب العربي . ــ البشير صفر الأستاذ المتبحّر في التاريخ والذي فتح عيني الطالب عبد الحميد على كثير من الحقائق الوطنية وجعله يعشق مادة التاريخ ويتعرف على ماضي وأمجاد وطنه. وقد مكَّنَ هذا التفوقُ الدراسي للطالب المتخرج عبد الحميد من أن تمنحه إدارة جامع الزيتونة كرسيَّ التدريس بجامع الزيتونة، إذ مكث مدة عام مدرِّسا بجامع الزيتونة قبل العودة إلى الجزائر. لم يكن عبد الحميد خلال وجوده بتونس يكتفي بالدراسة فقط، بل كان يتابع النشاطات المختلفة الثقافية والسياسية، كما ربطته علاقاتٌ وطيدة مع العديد من الشخصيات في عالم الفكر والمعارف والسياسة، ومن بينهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الجزائري الأصل والمؤسس الأول للحزب الدستوري التونسي، ومحمد لخضر بن الحسين وهو من أصل جزائري ولد بتونس. وقد كان الشيخ محمد بن لخضر يُدَرِّسُ كمتطوع في جامع الزيتونة إلى جانب إصداره لأول مجلة بتونس في تلك الفترة، وهي مجلة 'السعادة العظمى'، وهذا قبل توجهه لاحقا إلى عدة عواصم عربية وإسلامية قبل أن يستقر به المقام في القاهرة التي برز فيها كواحد من أهم العلماء في الأزهر، إذ تولى مشيخة جامع الأزهر في الفترة الممتدة ما بين 1952ــ 1954 تاريخ استقالته من هذا المنصب. ابن باديس متعدد المواهب من الصعب على مَنْ يَدرس شخصية بن باديس أن يحصر موهبته في جانب دون آخر . هل يمكن أن نحصره في دور المربّي والأستاذ؟ أم نحصره في دور الصحافي؟ أم نحسبه على الوطني السياسي والعالم وصاحب الفكر المستنير؟ أم نحسبه من المفكرين والمصلحين والدعاة؟ أم نحسبه إماما رائدا من رواد نهضة هذه الأمة وداعيا إلى يقظتها في وقتٍ كانت فيه الشعوذة والدَّجل تركب هذه الأمة بعد أن قام الاستعمار بمختلف الأساليب للقضاء على الشخصية الجزائرية وبث الجهل والتفرقة في النفوس وتشجيع المشعوذين وأصحاب الطرقية . عاد الشاب العالم عبد الحميد بن باديس ذو الـ23 ربيعا لأرض الوطن عام 1912 متوَّجا بشهادة التطويع، وكانت عودته حدثا كبيرا في الشارع القسنطيني، فقد أقيمت الأفراح في بيت آل باديس، وزغردت النساء وأطلِق البارود فرحا بالعالِم العائد. وقد صادفت عودته إلى قسنطينة حلول شهر رمضان، فانكبّ العالم الشاب في البداية على المكوث كامل اليوم تقريبا في المسجد لقراءة القرآن والتعمق في التفسير، مع أداء صلاة التراويح بالمصلين . وفي النصف الثاني من شهر رمضان كلّفه مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب بتقديم درسٍ يومي في الوعظ والإرشاد قبل صلاة المغرب من كل يوم . كانت طريقته الجديدة محفِّزة وملفتة لانتباه الشباب خصوصا، إذ لم تكن مثل دروس سابقيه من الشيوخ التي كانت تتميز بالرتابة والإطناب المملّ وكانت بعيدة عن قضايا المجتمع ولا تتفق مع روح العصر. اختار الشيخ الشاب -إن صح التعبير- المواضيع ذات العلاقة بالحياة اليومية للمواطن، مما جعل الإقبال على تلك الدروس وعلى المسجد عموما يتزايد كل يوم، الأمر الذي أكسبه سمعة كبيرة في مدينة قسنطينة والجهات المجاورة لها، إذ سرت سمعته على ألسنة الناس بسرعة كبيرة، كما أن العديد من المصلين قد هجروا بعض المساجد وانضموا للمسجد الذي كان يلقي فيه بن باديس دروسه المشوقة التي نأى فيها بنفسه في بداية الأمر عن السياسة عن قصد حتى لا يوقفه المفتي عن الدروس مثلما فعل من قبلُ مع شيخه الجليل حمدان لونيسي. لكن تلك العلاقة لم تطل بينه وبين المفتي الذي كان يتصيد أي 'انحراف' في دروس وخطب ابن باديس من شأنها أن تسيء إلى المستعمِر. وفي إحدى الأمسيات كان الشيخ الشاب يشرح قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم).. وعندما سُئل عن المقصود من أولي الأمر منكم؟ أجاب على سؤال أحد الحضور بأن تلك الطاعة تعني فقط الحكام المسلمين دون غيرهم، مما جعل أصوات المصلين ترتفع بالتكبير والتهليل، وهو ما أدى بمفتي قسنطينة، بعد نقاش مع ابن باديس، إلى إيقاف الأخير عن تقديم الدروس. لكن عبد الحميد قدِم في اليوم الموالي إلى ىالمسجد لإلقاء درسه المعتاد ،وبمجرد أن صعد إلى المنبر لإلقاء الدرس حتى أُطفِئت الأضواء بأمرٍ من المفتي، وكانت تلك هي القطيعة النهائية مع ذلك المفتي. لقاؤه مع أستاذه لونيسي أصبح بن باديس بعد تلك الواقعة مع مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب عاطلا عن العمل، ولمواجهة هذا الوضع قرَّر أن يتوجه إلى البقاع المقدسة للحج ثم القيام بجولةٍ في بعض بلدان المشرق العربي لطلب المزيد من العلم ونيل إجازات علمية . وهكذا سافر عام 2013 بحرًا، وكله شوق لزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة والمسجد الأقصى وجامع الأزهر. في مدينة رسول الله صلى الله عليهسلم أقام عبد الحميد في فندق يُطلق عليه 'الأمير'.. ولما التقى صاحبَ الفندق أخبره أنه من أصل جزائري ويُدعى محمد الجزائري وأن أباه كان واحدا من المجاهدين الذين خاضوا المقاومة مع الأمير عبد القادر، وأنه قد استقرّ به المقام بالمدينة المنورة التي بنى بها ذلك الفندق تيمُّنًا باسم الأمير عبد القادر . كان بن باديس يتشوق لرؤية شيخه حمدان لونيسي الذي كان قد استقر بالمدينة المنورة قبل خمسة أعوام، ويلقي دروسه اليومية في الحرم النبوي غير بعيد عن ذلك الفندق، وهكذا توجّه عبد الحميد إلى المسجد وجلس في الصف الأمامي قبالة شيخه الذي ما إن أنهى دروسه حتى هرع إليه تلميذه معانقا إياه . كان ذلك اليوم من أجمل الأيام في حياة الأستاذ وتلميذه . لقاء الإبراهيمي في اليوم الموالي لوجود عبد الحميد بن باديس بالمدينة المنورة راح أستاذه حمدان لونيسي يقدِّم له شابا جزائريا كان في نفس سنه تماما وهو محمد البشير الإبراهيمي الذي كان يقيم مع والده بالمدينة المنورة. ووجد عبد الحميد بن باديس نفسه منذ أول له لقاء له مع البشير الإبراهيمي الأنيس والصديق الجديد، وأصبح يلازمه في جولاته وزياراته لمختلف المعالم الدينية بالمدينة، كما انضمّ إليهما لاحقا الطيب العقبي الذي كان هو الآخر خلال تلك الفترة مقيما بالمدينة المنورة . كانت النصيحة التي قدّمها الأستاذ حمدان لونيسي لتلميذه عبد الحميد أن يبقى في المدينة المنورة مدرِّسا في الحرم الإبراهيمي، وألاَّ يعود إلى الجزائر حتى لا يتعرَّض لمكائد المستعمِرين وأذنابهم مثلما وقع لهما معًا مع مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب، لكن أحد العلماء الكبار من أصدقاء الشيخ حمدان لونيسي، وهو الشيخ أحمد حسين الهندي الذي كان يتابع ذلك الحوار بين الأستاذ لونيسي وتلميذه عبد الحميد اعترض على ذلك، وطلب من عبد الحميد أن يعود للجزائر التي تحتاج لأمثاله في مقاومة الاستعمار الثقافي الذي هو أخطر أنواع الاستعمار. اكتشف عبد الحميد في الطيب العقبي فصاحة اللسان وقوة البيان والشخصية، كما اكتشف في البشير الإبراهيمي أنه شاعر فحل وراوية للأدب والشعر، كما أنه يتميز بفصاحة في اللسان، وبأنه خطيب لا يُشقُّ له غبار إلى جانب كونه حادّ الذكاء وصاحب نكتة، وهو ما عمَّق تلك الصداقة بين هؤلاء الشبان الجزائريين الثلاثة . قبيل مواصلة رحلته طلب منه أستاذه حمدان لونيسي أن يلقي درسا في المسجد النبوي، وهو الدرس الذي نال إعجاب الحاضرين لِمَا أظهره ابن باديس من فصاحة لسان ومن غزارة في المعلومات ومن حجة وتنظيم في الأفكار، وقدّم له قبيل سفره شهادةَ إجازة علمية. في القدس الشريف كان من عادة الحجاج الجزائريين أن يُعرجوا قبل حجّهم أو بعده على القدس الشريف، وكانت من بين العبارات المتداولة عن الحاج الجزائري أنه حجَّ وقدَّس، أي قام بمناسك الحج ثم زار مسجد القدس الشريف. وقبل أن يغادر بن باديس المدينة المنورة تعاهد مع صديقه البشير الإبراهيمي على ضرورة العودة للجزائر لنشر التعليم العربي في الجزائر، وخوض معركة إصلاحية فكرية ضد الخرافات والبدع التي عمل الاستعمار على نشرها في مختلف ربوع الجزائر . في طريقه إلى القاهرة، عرَّج الشيخ بن باديس على سوريا ولبنان، كما زار القدس الشريف وصلى في المسجد الأقصى، وزار عدة معالم إسلامية ومسيحية بفلسطين من بينها كنيسة القيامة وكنيسة الجلجلة ومدينة الخليل والمسجد الإبراهيمي وبيت لحم . وبمجرد وصوله إلى القاهرة توجه رأسا إلى الأزهر الشريف، وقد التقى بالصدفة طالبا جزائريا تعرّف كلاهما على الآخر من خلال لباسه . كان لقاءُ عبد الحميد بن باديس بالطالب الجزائري محمد أرزقي الشرفاوي مؤثرا، كان لقاء الاثنين مفعما بالمودة، وظهرا وكأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ فترة . وراح الشرفاوي يرافق بن باديس ويدله على العديد من المعالم والشخصيات المصرية. والمعروف أن الشرفاوي هذا الطالب الجزائري الذي ينحدر من مدينة عزازقة بتيزي وزو قد نال لاحقا شهادة العالمية من جامع الأزهر، وأصبح واحدا من الأساتذة البارزين في جامع الأزهر قبل أن يعود إلى الجزائر ويشرع في التدريس بمعهد اليلولي المشهور في الجزائر لمدة عشرة أعوام، وتجاوز عدد طلبته 300 طالب من مختلف جهات الوطن، ومن بينهم الأستاذ محمد الصالح الصديق والعربي سعدوني رحمه الله الذي كان أحد وزراء الشؤون الدينية. ومن المعروف أن الشيخ بن باديس قد زار الشيخ الشرفاوي بمجرد عودته للجزائر وأصبح من بين المنافحين في الدفاع عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما كتب العديد من المقالات في صحف الجمعية . وبالعودة إلى زيارة ابن باديس إلى مصر، فقد توجه إلى مدينة الإسكندرية، وهناك التقى أحد علمائها الكبار في تلك الفترة، وهو العالم الكبير محمد أبو الفضل الجيزاوي الذي عقد مجلسا علميا للاستماع إلى ابن باديس. وعقب تلك الجلسة، أجاز الشيخ الجيزاوي عبد الحميد بن باديس بشهادة علمية، ثم راح يثنى على غزارة علمه معربا له عن تقديره الخاص له . مشروع جمعية العلماء وشرع الشاب الشيخ بن باديس بمجرد عودته إلى أرض الوطن عام 2014 في التدريس بجامع سيدي الأخضر ومسجد سيدي قموش بقسنطينة، كما أصبح يكتب مقالات في جريدة 'النجاح' التي صدرت تلك الفترة، وقد وجد ابن باديس في تلك الجريدة أن خطَّها الافتتاحي يتلاءم مع الفكر الإصلاحي الذي بدأ ابن باديس يبشِّر به . كانت الأجواء أثناء تلك الفترة أجواء الحرب العالمية الأولى بكل ما حملته من رياح للتغيير، ثم إن بن باديس لم يبق وحيدا في معركته، بل انضمّ إليه صديقه البشير الإبراهيمي الذي عاد إلى الوطن هو الآخر قبل أن ينظم إليهما الطيب العقبي لاحقا، وهكذا بدأ الرفاق الثلاثة في التفكير لإطلاق مشروعهم الكبير بإنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد مهّد لذلك المشروع بإنشاء صحيفة أطلق عليها عنوان 'المنتقد ' . وفي الثالث من جويلية 1925 أقدم ابن باديس على إصدار أول عدد من تلك الجريدة التي حملت شعار: 'الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شئ' . وقبل انطلاقة هذه الجريدة، هيأ لها كل الوسائل للنجاح من مطبعة ومقر وهيئة تحرير . كان من بين محرري هذه الجريدة عددٌ من الجزائريين الذين تخرجوا من جامع الزيتونة في تونس من أمثال مبارك الميلي ومحمد السعيد الزاهري . ومع الإقبال الذي حظيت به صحيفته، أدرك ابن باديس أهمية الصحافة في إنجاح مشروعه النهضوي الإصلاحي في الجزائر وفي محاربة الاستعمار وأذنابه من الطرقيين الذين كانوا يخدِّرون الشعب بسلسلة من الخرافات وأعمال الشعوذة والدّجل . لكن الاستعمار وأعوانه من الطرقيين خصوصا لم يقفوا مكتوفي الأيدي فقد عطّل الجريدة بعد صدور 18 عددا منها . وكان الشيخ عبد الحميد قد أصدر قبل ذلك مجلة أسبوعية تحت عنوان 'الشهاب' حوّلها لاحقا إلى مجلة شهرية، وكان المبدأ العامّ الذي سارت عليه تلك المجلة طيلة أربعة أعوام وإلى غاية توقيفها بعد أن صدر منها 178 عدد، هو العملُ على بلورة إصلاح ديني ودنيوي وسط الشعب الجزائري . لم يكتف ابن باديس بالتعليم وتأسيسِ مدارس حرة للتربية والتعليم، ولا بالصحافة كمنبر لنشر الأفكار، ولكنه راح قبل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يمهّد لنشر أفكاره الإصلاحية بزيارات ميدانية شملت مختلف جهات الوطن شرقا وغربا شمالا وجنوبا، ويلتقي العلماءَ والمشايخ وبالأعيان، شارحا لهم فلسفته الإصلاحية، داعيا إلى ضرورة نشر التربية والتعليم في أوساط الشعب وخاصة الناشئة ومحاربة البدع والدجل والشعوذة بأسلوب سلس يقوم على الحوار والإقناع وينفذ إلى العقول والقلوب. وفي يوم الثلاثاء 5 من ماي 1931 التأم بنادي الترقّي بالعاصمة 72 من علماء الجزائر الذين جاؤوا من مختلف جهات الوطن . دارت رئاسة ذلك المؤتمر برئاسة الشيخ أبو يعلا الزواوي السعيد بن محمد الشريف، وهو واحد من علماء الفقه وعلماء اللغة العربية في الجزائر، وينحدر من إحدى قرى تيزي وزو، وأما الأستاذ الشهيد محمد الأمين العمودي فقد عُيِّنَ مقررا للمؤتمر الذي تواصلت جلساته ثلاثة أيام انتخب خلاله المؤتمرون بالأغلبية الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا للجمعية بالرغم من عدم حضوره عدة جلسات . وقد دفعت هيمنة الإصلاحيين على قيادة الجمعية مختلف القوى الحاقدة على ابن باديس وجماعته من الإصلاحيين خصوصا الإدارة الاستعمارية وجماعة الطرقيين إلى شنّ حرب على الجمعية في محاولة لشل نشاطها مبكّرا. لكن رجال الجمعية الذين انتشروا في مختلف أنحاء الوطن، لتأسيس المدارس أو لبث أفكار الإصلاح ومحاربة كل خضوع للاستعمار، سواء عن طريق الخطب أو الصحافة التي بدأت الجمعية في إصدارها بدءا من 1932، قاوموا مختلف أشكال المكائد وأعمال العرقلة التي طالتهم خاصة عبر توقيف صحف الجمعية . لقد أراد ابن باديس ورفاقه من أمثال الإبراهيمي والعقبي والزاهري والميلي وخير الدين مباشرة عقب تأسيس جمعيتهم أن يجعلوا من الصحافة الناطقة باسم الجمعية منبرا لبث الأفكار الإصلاحية. وهكذا تم إصدار أول جريدة للجمعية حملت عنوان 'السنة المحمدية' عام 1932، وسرعان ما أقدمت الإدارة الاستعمارية على توقيفها، ولكن هذا العمل التعسفي لم يُثن رفاق ابن باديس على إصدار جريدة أخرى في الـ17 من جويلية 1933 تحت عنوان 'الشريعة النبوية المحمدية'، وقد طالها هي الأخرى بعد فترة وجيزة من صدورها قرار الغلق. وفي عام 1935 عاود ابن باديس ورجال الجمعية إصدار جريدة 'البصائر' التي استمر صدورها إلى غاية 1939 . ثائرٌ بمفهوم عصره لم يكن عبد الحميد مجرد إمام يكتفي بدروس الوعظ والإرشاد، أو مجرد خطيب يكتفي بخطبتي الجمعة، لكن من درس سيرته وخبر أفعاله يدرك أن عبد الحميد كان ثائر زمانه، فهو لم يكتف بالنضال عبر التدريس وإنشاء المدارس والصحافة وبث الحماس عبر الخطب والدروس التي كان يلقيها في مختلف أنحاء القطر الجزائري، بل إن نشاطه امتد للعمل السياسي . ساهم ابن باديس في إخماد نار الفتنة التي تسبَّب فيها يهودي يوم 3 أوت 1934 عندما تَبوَّل على ميضأة مسجد الجامع الأخضر بقسنطينة وقام بسبّ المصلين، مما أدى إلى نشوب أعمال عنف وشغب أدت إلى وقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف الجزائريين واليهود والأوروبيين، وخسائر مادية معتبرة بالمدينة . كانت القوى الوطنية الجزائرية خلال الثلاثينيات مشتتة، بين حركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، الداعي إلى المساواة في الحقوق بين الجزائريين والأوروبيين مع محافظة الجزائريين على مميزات الشخصية الجزائرية، والتيار الوطني الاستقلالي الذي تزعمه مصالي الحاج الساعي إلى ضرورة بعث الدولة الجزائرية من جديد بعد تشكل نجم إفريقيا ثم حزب الشعب وحركة الانتصار لاحقا، والتيار الإصلاحي لرفاق عبد الحميد بن باديس الذي كان يركِّز على بعث الأمة الجزائرية والسعي لإحياء الهوية الجزائرية من خلال التركيز على التعليم وبث الوعي في النفوس . كانت وفاة الأمير خالد في الـ9 يناير 1936 السبب الذي جعل ابن باديس يعجِّل بالدعوة لعقد مؤتمر يجمع مختلف القوى الوطنية المؤمنة بمستقبل الشخصية الجزائرية انطلاقا من خلال شعاره :'الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا' . وجرى عقد المؤتمر الإسلامي الجزائري في السابع من جوان 1936 بقاعة 'الماجيستيك' الأطلس حاليا الواقعة في باب الواد بمدينة الجزائر بحضور نحو خمسة آلاف مندوب، ولم يتمكن 2000 شخص من الدخول بسبب اكتظاظ القاعة، لكنهم تابعوا أشغال المؤتمر من الخارج . وكان من نتائج المؤتمر إرسال وفدٍ كان من بين أعضائه عبد الحميد بن باديس لتقديم عريضة مطالب تتعلق بعدد من حقوق الجزائريين إلى رئيس الحكومة الشعبية الفرنسية في تلك الفترة ليون بلوم . لكن تلك المطالب بقيت حبرا على ورق نظرا لتلاعب الجانب الفرنسي. وأودُّ هنا في ختام هذا المقال أن أوضح نقطة طالما تعلقت بموقف الشيخ عبد الحميد من الثورة ضد الاحتلال، إذ يشكك بعضهم في مواقف الرجل بالزعم أن بن باديس لو عاش إلى نوفمبر 1954 تاريخ إعلان ثورة أول نوفمبر لما كان من مؤيديها. والحقيقة أنه بصرف النظر على أن العديد من رفاق وتلاميذ عبد الحميد بن باديس كانوا من أوائل من لبىَّ نداء ثورة أول نوفمبر والتحق بها مبكرا مجاهدا بالسلاح وبالقلم وكان بعضهم من شهداء الثورة كما هو الحال مع الشيخ العربي التبسي وأحمد شطة وهما الشهيدان اللذان لا يعرف لهما قبر، فإن بعض ما نُقِل عن بن باديس يؤكد الروح الثورية التي كانت تسكنه . في مقال كتبه بن باديس بجريدة 'الشهاب' جوان 1930 يقول فيه : ما عَهِدنا الحرية تُعِطَى، إِنما عَهدِنا أنَّ الحرية تُؤخَذ، وما عهدنا الاستقلالَ يُمْنح ويُوهب، إنما علِمنا الاستقلالَ يُنال بالجهاد والاستماتةِ والتضحية ' . ولعل أبلغ ما نُقل عن الفكر الثوري للشيخ عبد الحميد ابن باديس، هو ما رواه على لسانه تلميذه الشيخ المجاهد أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى سابقا رحمه الله ،فقد جاء في كتاب : ' عبد الحميد بن باديس العالم الربَّاني والزعيم السياسي'.. لصلاح حامد مطبقاني ص 94: 'خلال حديث دار بين الشيخ بن باديس وبعض الحضور ومن بينهم تلميذه حماني بشأن موقف بعض الأحزاب السياسية من الحرب العالمية الثانية وقيام السلطات الاستعمارية آنذاك بالتجنيد الإجباري للشبان الجزائريين في الخدمة العسكرية لصالح فرنسا، أن الشيخ بن باديس راح يقول للحاضرين' :لو أنهم استشاروني واستمعوا إليّ لأشرتُ عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال الأوراس وإعلان الثورة'. ولاشك أن هذه العبارة وحدها تكفي لتبيّن الروح الثورية التي كانت تسكن العالم والسياسي والثائر بن باديس رحمه الله، وأنه كان يهيئ الرجال للتغيير وللثورة من خلال التركيز على جعل الشعب الجزائري يعرف تاريخه ويعتز بهويته وبمقومات شخصيته العربية الأمازيغية الإسلامية الجزائرية، كل ذلك تمهيدا لأمنية الثورة التي حققها له الكثير من تلاميذه والمتشبِّعين بفكره الإصلاحي الذي كان بحد ذاته ثورة بمفهوم عصره على المحتلين ومن يتأثر بأفكارهم. وباختصار، فإن بن باديس كان ثائرا بمفهوم عصره وزمانه. ولم تكن مواقف بن باديس وكتاباته تتوقف عند قضية الشعب الجزائري وحده، بل كان مدافعا شرسا عن مختلف قضايا الأمة العربية والإسلامية وفي مقدمتها قضية فلسطين التي كتب بشأنها يقول: (كلُّ مسلم مسؤولٌ، أعظمَ المسؤولية –عند الله تعالى– على كل ما يجري هنالك: من أرواح تُزهق، وصغارٍ تُيتَّم ونساء تُرمَّل، وأموال تُهلك، وديار تُخرَّبُ، وحُرماتٍ تُنتهكُ، كما لو كان ذلك كلُّه واقعًا بمكة أو المدينة، إن لم يعمل لرفع ذلك الظلم الفظيع بما استطاع). المصادر : ــ أحمد منور: من أجلهما عشت . ــ شهادات شفاهية مع الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ومع السيدة زهور ونيسي. ــ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: مذكرات جزائري، الجزء الثاني: هاجس البناء. ــ الدكتور ناصر الدين سعيدوني: الجزائر منطلقات وآفاق مقاربات للواقع الجزائري من خلال قضايا ومفاهيم تاريخية . ــ صلاح حامد مطبقاني: عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي. ــ وثائق ومحاضرات لعدد من الدكاترة من بينهم الدكتور عمار طالبي عن بن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.


الشروق
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
الوطن والوطنية في فكر ابن باديس
من العبارات الشهيرة التي وضعها الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله شعارا لمجلته 'المنتقد': (الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء)، ولم يكن هذا الإمام الفذ الحكيم يضع شعاراته وينشئها إلا وهو يقصد من ورائها غاية للتعليم والتوعية والبيان. ولعل سائل يسأل: هل كان الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله ضيِّقَ الأفق لا تضبطه دلائل الشرع حتى يؤمن بالحدود بين البلدان الإسلامية ويتعصب للفكرة 'الوطنية'؟ وما هذه الحدود التي فرّقت الأمة إلى أجزاء إلا صناعة الاستعمار الغربي الذي جاس خلال ديار المسلمين، ثم هي خلاصة تفاهمات شيطانية لسياسيين استعماريين هما: البريطاني سايكس، والفرنسي بيكو، حين جلسا على طاولة التفاوض لتقسيم تركة الخلافة الإسلامية ' الرجل المريض 'مع بعض قوى الاستعمار الأخرى سنة 1916م-1917م!؟. والحق أن الإمام ابن باديس رحمه الله كان يملك من الفقه الشرعي والواقعي والسياسي ما بوّأه ليكون صاحب بصر حديد، واجتهاد سديد، لا تحرّكه العواطف العواصف، بل تصدر آراؤه ومواقفه من عقل يحتكم إلى دلالات النصوص الشرعية، ويدرك حقائق الواقع والإحاطة بها، ولهذا كان حين يكتب في كثير من القضايا الشائكة يعرض رأيه بحنكة وسهولة، فيصل بقارئه إلى الغاية بكل هدوء وذكاء. لقد كان الإمام ابن باديس رحمه الله مرتبطا وجدانيا وعقليا بالوطن، ولم يكن هذا الارتباط يمنعه من الشعور بأن باقي الأوطان الإسلامية هي امتدادٌ لهذا 'الوطن الخاص' لأن خدمة الوطن الصغير تصب في دائرة خدمة الوطن الكبير الذي يجمعه الإسلام فتصبح هذه الحدود التي صنعتها السياسة مجرد خطوط وهمية لا تقدر على منع المسلم من الارتباط بأخيه المسلم حتى وإن تباعدت المسافات وحالت بينهم السدود، ولهذا يقول الإمام ابن باديس رحمه الله: 'نعم، إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطاناً أخرى عزيزة علينا هي دائماً منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير، عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص'. إنّ ارتباط الإنسان بالمكان هو ارتباط فطري وجداني سرعان ما يتسع هذا الارتباط الذي يبدأ من الوطن الصغير 'البيت والأسرة' إلى 'الوطن الخاص' الذي تتسع دائرته شيئا فشيئا إلى أن تصبح 'الإنسانية' وطنه الكبير، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن باديس رحمه الله: 'أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليّ تلك الروابط لأجله، كجزء منه، فروضاً خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة…'. الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: 'نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته'. على أن الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: 'نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته'. إن ارتباط المسلم بوطنه الذي وُلد فيه وترعرع عاطفيا لا يخالف أبدا واجب ارتباطه بوطنه الأكبر الموحد تحت راية 'لا إله إلا الله محمد رسول الله'، وتعدد الأوطان الخاصة لا يلغي وحدة الأمة الكبيرة، فالحدود المفروضة بحكم الاتفاقيات الدولية التي أصبحت واقعا سياسيا لا يمكنها أن تمنع المسلمين -على الأقل على مستوى الشعوب- من التواد والتعاطف والتعاون والتناصح والتناصر إلى أن تعود وحدتهم السياسية كما كانت قبل سقوط الخلافة. وهذا الارتباط العاطفي الفطري بالوطن الخاص هو الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب مكة، مربَّع ولادته، ومرتع صباه، وموقع سكنى الأهل والأحباب، قائلا: (ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) [رواه الترمذي رقم 3926]. إن فكرة الوطن والوطنية فكرة صحيحة كما يرى إمامنا ابن باديس رحمه الله حين ترتبط بالدين وتتخلص من أي شكل من أشكال العصبية والعنصرية المقيتة، وتتحول إلى دعامة اجتماعية للوحدة والتلاحم بين أبناء المكان الواحد، ولكن يبقى المسلم دائما يؤمن بواجب أن يجتمع المسلمون في كيان واحد -لا تهم التسميات والمصطلحات- تذوب فيه الحدود المصطنعة فلا يحتاج الواحد منهم إلى 'تأشيرة' لينتقل إلى أي أرض يُرفع فيها الأذان خمس مرات في اليوم، ويُكتب في بطاقة تعريفه أو جواز سفره 'مسلم' للتعبير عن جنسيته، وكفى بالإسلام هوية وانتسابا.


الشروق
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
الإمام ابن باديس أقلقهم حيا وميتا
الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – واحد من كبار علماء الأمة المحمدية في العصر الحديث، هيأه الله عز وجل وصنعه على عينه ليخدم الجزائر بفكره الإصلاحي التجديدي، وجهاده العظيم الشامل المتواصل، وجزاء ما قدمه من أعمال عظيمة لوطنه، واعترافا بأفضاله الكثيرة، رزقه الله القبول وحب عموم الجزائريين، ويُستثنى من ذلك من أُشرب قلبه كره كل ما له صلة بالإسلام ومبادئه ورجالاته، وبغض مواريث الأمة المعاكسة للتقاليد الغربية المادية، والمخالفة لأعراف عبدة الأهواء والشهوات… كتب أحدهم في وقت سابق بإحدى الجرائد مقالا يتهم فيه الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – والإمام محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله – والعلماء المصلحين –رحم الله من مات منهم وحفظ من هم على قيد الحياة- باتهامات غريبة من نسج خياله 'المسرحي' ونسي هذا المخلوق الغريب أن أي محاولة لتشويه صور علماء الجزائر ومصلحيها لن تنجح لأن أباطيله المنشورة لا يصدقها إلا من كان في قلبه مرض على مذهبه الذي أكل عليه الدهر وشرب، ولن تصمد أمام براهين الحقائق التاريخية التي ترد عليه بوضوح فتُذهب باطله فإذا هو زاهق… ومن غرائبه التي ادعاها في مقاله أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مات وهو منبوذ من أهله، ولو أمعن النظر قليلا لعلم أن الشيخ توفي في بيت والده معززا مكرما يتولى والده وشقيقه المولود تمريضه في النهار، وفي الليل يتولى المهمة شقيقه عبد الحق، وقد كان يراسل من بيته العائلي، حيث كان يُمرّض ويُعتنى به، رسائله التوجيهيه إلى إخوانه العلماء، وآخر ما كتبه قبل وفاته بأيام رسالته الشهيرة في 14 أفريل سنة 1940 إلى الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي نفي من تلمسان إلى أفلو، يهنئه على موقفه المشرف والشجاع حين امتنع عن تأييد فرنسا في الحرب العالمية الثانية إذ جاء فيها ما يلي: ' أخي الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي السلام عليكم، لقد بلغني موقفكم المشرف العادل، لقد صنت الدين والعلم فصانك الله وحفظك، عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة'. أما اعتماد هذا الكاتب غريب الأطوار على الرسالة التي أرسلها الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – إلى الإمام الطيب العقبي – رحمه الله – في 13 أوت سنة 1926 يخبره فيها اعتراضات والده على بعض نشاطاته، فهذا أمر يحدث بين كل أب وابن، فقد كان والده يرى من منطلق خوف أبوي فطري أن ابنه مقبل على معارضة دولة بأكملها جبارة لا ترحم من يناصبها العداء جهارا نهارا، ولهذه المعارضة مغارم كثيرة ستصيبه وتصيب عائلته الكبيرة، والنفوس مجبولة على حب السلامة، وقد كان والده في كل الأحوال سنده القوي بجاهه وماله، ولهذا أشاد الإمام ابن باديس – رحمه الله – بدور والده في حياته الذي حماه صغيرا وكبيرا على حد تعبيره إذ قال في خطابه في ختام حفل التكريم الذي خصه به إخوانه العلماء وتلامذته بمناسبة ختمه تفسير القرآن الكريم سنة 1938: 'إن الفضل يرجع أولا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني، وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر'.[ الشهاب4/14 شهر ربيع الثاني/جمادى الأولى سنة 1357هـ]…وللتذكير فإن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مدفون في مقبرة آل باديس مع آبائه وأجداده…فهل يُقال عن الإمام ابن باديس بعد هذا أن عائلته نبذته؟؟. لقد أراد هذا المخلوق، الذي نطق بلسان غيره من المخاصمين للحركة الإصلاحية ومن بعدها للحركة الإسلامية المعاصرة، أن يشوّه صورة الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – في أعين الجزائريين الذين يقدرونه تقديرا كبيرا بمحاولة تجريح أسرته العريقة النسيبة التي لم تخلُ منذ القدم من عالم أو أمير أو سلطان، مُطْلِقا بعض الأحكام الساذجة بناء على أحداث ووقائع أخرجها من سياقها التاريخي مستعملا المقص والتركيب على هواه لينتج لنا مشهدا دراميا لا يوافق الحقائق باسم كسر الطابوهات والأوثان… لقد ضحكتُ، ولكنه ضحك كالبكاء على رأي شاعرنا المتنبي، حين قرأت تحليل صاحبنا المغرم بالدراما التراجيدية حين زعم أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله –'توفي عن عمر 51 سنة متأثرا بهذه الضغوط النفسية من عائلته وبعض المقربين منه، حتى سارع رفاقه الذين وجدوا في موته طريقا لتقوية نفوذ الجمعية التي ازدادت امتثالا وخضوعا للقوانين الفرنسية الكولونيالية والاستفادة من توسيع مدارسها الخاصة، خاصة على مستوى ما كانت تدر على أصحابها من المال والجاه'..! إنها – تالله – أحكام تُوزّع لاستغباء القراء، فهل تحوّل صاحبنا من كاتب مسرحي إلى طبيب اكتشف بعبقريته الطبية أن الإمام ابن باديس – رحمه الله – قد تسببت الضغوطات النفسية من أسرته والمقربين منه في وفاته، وددتُ لو أرفق صاحبنا هذا الكشف الجديد الذي ذهل عنه غيره بوثائق طبية تقوي زعمه المضحك الفكاهي..! والحق أن أكثر المؤرخين ذهبوا، وبشهادة شقيقه الأستاذ عبد الحق الذي كان ملازما له في مرضه، إلى أن سبب وفاته كان شدة الإجهاد الناتج عن عمله المستمر في سبيل خدمة الدين والوطن، وحركته الدائمة في ربوع القطر الجزائري لنشر دعوة جمعية العلماء وتحقيق أهدافها الإصلاحية والثورية، ويُشاع مع هذا أن الإمام عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- مات مسموما، ولكن هذه الإشاعة كذَّبها الأستاذ عبد الحق شقيق الإمام عبد الحميد، وسمعت هذا منه شخصيا، ومهما يكن من أمر فإن وفاة الشيخ لم يستفد منها سوى الاستعمار الفرنسي الذي كان يتابع نشاطه بحذر، ويترصد تحركاته في كل القُطر، ويتربص به الدوائر، أما إخوانه من العلماء الذين كانوا يعانون التضييق والنفي والحبس فقد أكملوا المسيرة بقيادة الإمام محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – الذي انتخب رئيسا لجمعية العلماء خلفا لأخيه الإمام عبد الحميد – رحمه الله – وهو في منفاه بأفلو بسبب موقفه المعارض لتأييد فرنسا، ولو أراد لأكل من فوقه ومن تحته وما مسه نصب، ولنال أكبر المناصب بكلمة واحدة يقولها مداهنا ومنافقا كما فعل بعض الأذناب من الخائنين، ولكنه آثر الجهاد باللسان والقلم، وقيادة الحركة الإصلاحية والصبر على مغارمها في أصعب مرحلة بعد فقد توأمه الروحي الإمام عبد الحميد بن باديس، وحين أُعلنت الثورة كان من أسبق الزعماء الجزائريين تأييدا لها في بيان أمضاه مع الشيخ الفضيل الورتلاني – رحمه الله – في 02/11/1954 ونشرته الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية في 03/11/1954، ولم تتوقف بعد ذلك البيانات والبرقيات والمساعي الحثيثة لمساندة حركة الثورة التحريرية في داخل الجزائر الملتهبة، لا ينكرها إلا جاحد حاقد يرى الحقائق ويميل إلى إتباع الأباطيل.! قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ لقد عاد الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رحمه الله – إلى الجزائر المستقلة بعد جهاد طويل، ولم ينل 'تقديسا رسميا' كما زعم صاحبنا، بل بسبب موقفه الحازم من السلطة في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة- رحمه الله -، ونشره بيانه التاريخي المشهور الذي أغضب الحاكمين على رأس السلطة، أصابه الأذى المعنوي والمادي وتوفي في إقامته الجبرية…فأين تقديس السلطة له ؟؟ لقد بذل أبناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالأمس، واليوم بعد استرجاع الجمعية حقها في النشاط، كل ما في وسعهم في خدمة البلاد والعباد، وهي كأي حركة إصلاحية بشرية غير معصومة، وما ادعى أبناؤها العصمة أبدا، إذ أصابت في حراكها وأخطأت، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وأبناؤها يفرقون بين التقدير والتوقير والاعتراف بالجميل من جهة، والتقديس الفارغ وصناعة الأوثان من جهة أخرى، فابن باديس والإبراهيمي وغيرهما من العلماء هم بشر قدموا ما عندهم، وبذلوا ما في وسعهم، في سبيل الله والوطن، وإن أخطاءهم البشرية، مغمورة في بحار حسناتهم، ولا ينقص ذلك من قدرهم شيئا، وستبقى الأجيال ذاكرة لمآثرهم وسيرتهم، وحامدة لأعمالهم ومسيرتهم…وإن محاولة صاحبنا إيهام الناس أن أبناء جمعية العلماء استعملوا 'سلطتهم' لتحويل ابن باديس إلى وثن وإخفاء 'تعاون أسرته مع الإدارة الاستعمارية، والتغطية على بعض مواقفه المتخاذلة على الصعيد الوطني تجاه فرنسا' على حسب تعبيره، لن يصدقها إلا المتوهمون أمثاله الذين يتعاملون مع سيرة ابن باديس على مذهب الذي يقرأ 'ويل للمصلين' ويسكت، لأن الإمام ابن باديس- رحمه الله- عاش حياته كلها معارضا لفرنسا…واقعيا في تعامله مع الأحداث والمستجدات…ينظر إلى مواضع خطوه قبل السير لأنه كان مسؤولا عن حاضر أمة ومستقبلها…يناور في مساحات المتغيرات المتعلقة بالوسائل والآليات ليربح مواقع جديدة تخدم دينه ووطنه، ولا يُهادن في مساحات الثوابت والمبادئ ولا يقبل المساومة فيها…ولا يحتاج هذا الكلام إلى شواهد لأن تراث الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – وتاريخه ينطق بالحق ويسمع صوته كل منصف لا يجرمنّه شنآن قوم على أن لا يعدل سوى من جعل أصابعه في أذنيه..! أما بخصوص أسرته، فهل يوجد فرد واحد منهم وقف مع فرنسا في ظلمها وطغيانها أو أعلن الولاء لها بعد انفجار الثورة التحريرية، ووقف ضدها..؟ اللهم لا..! لقد كان تعامل كثير من الجزائريين – ومنهم أسرة الإمام ابن باديس وعلى رأسهم والده محمد المصطفى بن المكي الذي كان عضوًا في المجلس الأعلى للجزائر، ورئيسا لبلدية قسنطينة، ومندوبًا ماليًا – مع الإدارة الفرنسية من باب الاضطرار لتسيير أعمالهم ومصالحهم ومصالح غيرهم، وقد مات والد الشيخ عبد الحميد سنة 1951، ولم يُعرف عنه أنه ظاهر فرنسا ضد أي حق من حقوق أبناء الوطن، بل المعلوم والمشهود له أنه كان من المدافعين في مواقعه الإدارية عن حقوق الجزائريين، خلافا لبعض الأسماء التي استغلت مناصبها ووجاهتها ومكانتها عند فرنسا فساموا أبناء الجزائر سوء العذاب، فقطعوا الآذان، وهتكوا الأعراض، واغتصبوا الحقوق…إن صاحبنا الإعلامي المسكين فكّر ثم قدّر، ثم كتب يتهم أسرة الإمام عبد الحميد بن باديس ليشوّه صورة الشيخ ابن باديس، ويضرب جمعية العلماء بتزويره الحقائق، وتحريره للأباطيل..! إن صاحبنا حاطب ليل، وباخس كيل، جمع بعض الافتراءات ليصنع بها سهاما مسمومة ليوجهها نحو خصومه، ولو صح منه أنه طالب حق ومعرفة، لاختلف طرحه، وتهذب أسلوبه، واعتمد منهج البحث العلمي القويم بدل منهج الاتهام والتشويه والتجريح طلبا للإثارة الإعلامية ليس إلا…هداه الله وعافاه من الأوهام النفسية..