أحدث الأخبار مع #كاخ


الشرق الأوسط
منذ 6 أيام
- سياسة
- الشرق الأوسط
غزة والإبادة جوعاً
لعل ما يجري لبشر يعيشون في قطاع غزة ما هو إلا إبادة جماعية وتطهير عنصري بقيادة رئيس وزراء دولة يخطب أمام الأمم المتحدة ومعترف به دولياً، هو بنيامين نتنياهو، الذي أعطى الضوء لتجويع وقتل آلاف من البشر يقطنون غزة؛ أكبر سجن بشري عرفه التاريخ، من دون أن يحظى حتى بنقد خجول لبشاعة أفعاله، بينما صَمَت مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي هو الآخر، الذي اكتفى بالشعور بالقلق من دون الإدانة، وإن كانت هي الأخرى لا تسمن من جوع ولا تغني عن عطش ولا تحمي من قتل. ولهذا تعتبر مطالبة العالم الخجول إسرائيل باتخاذ تدابير طارئة بشأن منع الإبادة الجماعية، ومنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية، ضرباً من الخيال. ومن المستحيل أن يستجيب لها نتنياهو وحكومة حربه التي تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة بشكل مستمر وتتخذ جميع التدابير لاستمرار هذه الإبادة، في ظل صمت عالمي غير مسبوق تجاوز الأخلاق الإنسانية. فمفهوم الإبادة الجماعية عند إسرائيل، التي قتل جيشها الآلاف من المدنيين من غير قتلى «حماس» في غزة وجرح ثلاثة أضعافهم، مختلف عن مفهوم الإبادة بالمفهوم الإنساني، بعد فاتورة دم باهظة سببها إباحة القتل والإبادة الجماعية بمفهوم ديني، وهي من الظواهر التي تفسر المناخ العنصري عند البعض في إسرائيل ممن يؤمنون بظاهرة «الغوييم» التي تحض على العنف ونبذ الآخر، بل وإباحة قتله. هذا المناخ الفكري المتطرف الذي أنتج حركات إرهابية سابقة، مثل «كاخ»، وأمثال «مائير كاهانا» وعصابات «جبل الهيكل» وجماعة «غوش إيمونيم» وجماعة «نماحيلييت»، وهي جماعات تعلّم الفكر المتطرف في مدارس، من أشهرها «اليشيفا»، وهذا الفكر تتبناه اليوم حكومة الحرب في إسرائيل، برئاسة نتنياهو الملاحَق بقضايا فساد حتى داخل إسرائيل. فالتاريخ والموروث الإسرائيلي لا يخلوان من مبررات الإبادة، في الأثر والتاريخ الصهيوني؛ فهي كثيرة، ولعل البروتوكول التاسع من بروتوكولات حكماء صهيون، الذي ينص على أنه «ومنا قد انطلقت تيارات الرعب الذي دارت دوائره بالناس»، يؤكد وجود المناخ العنصري الذي لا يتورع عن ارتكاب إبادة جماعية، وغزة تحترق، ويرتفع فيها عدد الشهداء كل يوم، جلهم من الأطفال والنساء، ويستمر الإرهاب الحقيقي في منع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى، ويقوم بقصف المستشفيات وقتل الأطباء وأطقم التمريض، والتحجج بوجود مقاتلين أو أنفاق تحت المستشفيات. ولهذا فإن أي إبعاد أو ترحيل قسري لسكان غزة (سواء بالبيع أو شراء الأرض أو تحت أي مسمى ولو إعمار غزة وجعلها «ريفيرا الشرق الأوسط») ما هو إلا تهجير قسري لسكان من أرضهم بعد أن حولتها قوة الاحتلال الإسرائيلي إلى ركام وخراب، وأفسدت الأرض والماء فيها. فالمنطق الصهيوني هو منطق التجويع والتعطيش والقتل المستند إلى بعض النصوص الدينية التي يرى بعضهم أنها تبرر القتل والتجويع. فمن لم تقتله القنابل والصواريخ يقتله الجوع والعطش. فالماء، سبيل الحياة، يُقطع عن غزة. وتلويث المياه في غزة يتم كعقاب جماعي. إضافة إلى ذلك، واضح أن المؤسسة العسكرية الصهيونية المتطرفة لا تكتفي بذلك بل تخطط لتنفيذ سياسة الطرد الجماعي ونزع الملكية من الأرض والديار عن السكان الأصليين. الفكر المتطرف يغذي الحرب والتصادم، ويمنع أي مبادرات للسلام أو التعايش، بل يعرقل ويُفشِل جميع مبادرات السلام. صحيح أن ليس جميع من في إسرائيل يؤمن بهذا المنطق، ولكن يكفي أن حكومة نتنياهو أغلب الوزراء فيها يؤمنون بهذا، بل ويجاهرون به، من دون أدنى عقاب أو اعتراض من الخمس الكبار في مجلس الأمن.


الميادين
١٧-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الميادين
"972+": كيف شقّت الكاهانية طريقها إلى التيار السياسي السائد في "إسرائيل"؟
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر تقريراً مطولاً يتناول صعود المتطرفين اليمينيين في إسرائيل واندماجهم المتزايد في التيار السياسي الإسرائيلي الرسمي. النص يسلّط الضوء على عملية تطبيع وتبني الفكر المتطرف اليميني الإسرائيلي داخل مؤسسات الدولة، خصوصاً من خلال تعيينات سياسية وتحالفات انتخابية، ما أدى إلى تحول جذري في الخطاب والممارسة السياسية في "إسرائيل" باتجاه المزيد من التطرف والعنف والعنصرية، خصوصاً تجاه الفلسطينيين. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية: في نهاية كانون الثاني/يناير، وصل سفير "إسرائيل" لدى الولايات المتحدة إلى واشنطن لتولي منصبه الجديد. وبطريقة ما، تُعدّ السيرة الذاتية ليحيئيل ليتر نموذجية بالنسبة لشخص تم تعيينه في أحد أرقى المناصب الدبلوماسية على الإطلاق. وُلد ليتر في الولايات المتحدة وهاجر إلى "إسرائيل"، وشغل عدداً من المناصب الحكومية العليا، بما في ذلك منصب رئيس مكتب وزير المالية آنذاك بنيامين نتنياهو، قبل أن يعمل باحثاً بارزاً في منتدى "كوهيليت" السياسي اليميني، ثم انتقل إلى القطاع الخاص بعد فشله في الترشح لمنصب مع حزب "الليكود" الحاكم في "إسرائيل". لكن هناك أجزاء أخرى من سيرة ليتر أكثر غرابة بالنسبة لدبلوماسي رفيع المستوى، وأهمها عضويته السابقة في منظمة صنّفها بلده الأم وبلده بالتبنّي على أنها جماعة إرهابية. وخلال وجوده في الولايات المتحدة، كان ليتر عضواً في عصبة الدفاع اليهودية اليمينية المتطرفة، وهي جماعة أهلية عنيفة أسسها الحاخام الأميركي المتطرف مائير كاهانا. في سبعينيات القرن العشرين، وبعد انتقاله إلى "إسرائيل"، انضم ليتر إلى حزب "كاخ"، وهو الحزب السياسي والحركة الفاشية التي أسسها كاهانا بعد هجرته. نشأت حركة "كاخ" في البداية كفرع دولي لعصبة الدفاع اليهودية، ثم تحولت في النهاية إلى منظمة إسرائيلية أصيلة، أنتجت عقيدتها السياسية الخاصة: الكاهانيّة. وفي وقت لاحق، رُشّح ليتر كزعيم للاستيطان اليهودي المتطرف في الخليل، قبل أن يصبح زعيماً في حركة الاستيطان الأوسع. في عام 1994، بعد أن ارتكب باروخ غولدشتاين، وهو عضو في حركة "كاخ" وأحد أتباع كاهانا ومهاجر أميركي آخر إلى "إسرائيل"، مذبحة راح ضحيتها 29 فلسطينياً أثناء الصلاة في الحرم الإبراهيمي بالخليل، صنّفت كلٌّ من الحكومتين الإسرائيلية والأميركية حركة "كاخ" منظمةً إرهابية. (ألغت وزارة الخارجية الأميركية هذا التصنيف في عام 2022). إنّ تعيين ليتر سفيراً لدى الولايات المتحدة على الرغم من عضويته السابقة في هذه المجموعة أمرٌ جدير بالملاحظة، ويقدم صورة محبطة عن التطرف في السياسة الإسرائيلية والأميركية على حد سواء. وقد تم تأكيد ذلك في أواخر نيسان/أبريل عندما وصل أحد أبرز أعضاء حركة "كاخ"، ووزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، إلى الولايات المتحدة في أول زيارة رسمية له إلى الخارج بعد مقاطعة إدارة بايدن له. والتقى بن غفير، الذي أدين بدعم منظمة إرهابية، بالكثير من أعضاء الكونغرس الجمهوريين وتحدث إلى الجماهير المرحبة به في منتجع "مار إيه لاغو" في مانهاتن وفي جامعة ييل، وذلك خلال زياراته لسجن ومتجر أسلحة ومدرسة يهودية في فلوريدا. ويُعد صعود ليتر نافذة على قصة أكبر، وهي الاستيعاب الدائم والمتزايد للجماعات المتطرفة في التيار السياسي السائد في "إسرائيل"، وعادة ما يتم ذلك من خلال تعيين المتخرجين فيها في مناصب عامة أو توظيفهم كمساعدين كبار لأعضاء أقوياء في الكنيست. لقد أصبح مشهد الكاهانيين وأعضاء "شباب التلال" المتطرفين وهم يمارسون حياتهم اليومية في البرلمان الإسرائيلي أمراً مكرّساً اليوم، وهو يُبرز بوضوح المسار السياسي الإسرائيلي نحو اليمين على مدى العقود القليلة الماضية ــ والذي تسارع إلى سباق نحو القاع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وبات شائعاً اليوم سماع تصريحات تلائم بسهولة بيان حزب "كاخ" من قبل سياسيين لا يعُتبرون متطرفين بأي حال من الأحوال في الساحة السياسية الإسرائيلية ذات التوجه اليميني. لننظر مثلاً إلى وزير الدفاع السابق يوآف غالانت وهو يعلن في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أننا "نقاتل حيوانات بشرية، ونحن نتصرف وفقاً لذلك"، بينما يعلن عن فرض حصار كامل على قطاع غزة؛ أو إلى نائب رئيس الكنيست وعضو الكنيست عن حزب "الليكود" نيسيم فاتوري وهو يدعو إلى "محو قطاع غزة من على وجه الأرض"؛ أو إلى عضو الكنيست عن حزب "الليكود" أميت هاليفي وهو يقول إنه "ينبغي ألّا تكون هناك أي أرض إسلامية في أرض إسرائيل.. [و] ينبغي ترك غزة كنصب تذكاري، مثل قرية سدوم"؛ أو إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وهو يذكر تلميحات الكتاب المقدس حول مصير غزة والتي فُهمت على نطاق واسع على أنها إشارة إلى المذبحة الجماعية. إنّ الخطاب المحرّض على ارتكاب إبادة جماعية ليس جديداً على السياسة الإسرائيلية، أو على الساحة العامة الإسرائيلية ويشارك فيه عدد كبير من الصحافيين. وقد اقترنت الهجمات الإسرائيلية السابقة على قطاع غزة بدعوات "لتدمير" القطاع أو "محوه"، وإن لم تكن موحّدة تماماً بين مختلف الأطياف السياسية. إلا أنّ ما تغيّر هو الفجوة بين الخطاب وما يحدث فعلياً على أرض الواقع. والدمار الشامل الذي يخلّفه الهجوم الحالي يبدو أقرب من أي وقت مضى إلى الأسلوب المروع الذي ينتهجه الكنيست، بحيث سمح الحزب السياسي الأكثر هيمنة في تاريخ البلاد للكاهانيين الحاليين والسابقين الذين يعتنقون الرؤى العنيفة لمؤسسهم بالانضمام إليه. لقد نتج عن انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022 التي جرّتنا إلى هذا المستنقع، عدد من الأحداث التي تحصل للمرة الأولى: المرة الأولى التي نجح فيها أحد أتباع كاهانا المعلنين في دخول الائتلاف الحاكم ثم مجلس الوزراء؛ والمرة الأولى التي دخل فيها عضو سابق في حركة "شباب التلال" الحكومة وأصبح آخر مساعداً برلمانياً؛ والمرة الأولى التي استحوذت فيها قائمة انتخابية ذات توجه كاهاني على أكثر من 10% من الأصوات الإسرائيلية. وقد أدّت هذه التطورات وغيرها إلى وصف الائتلاف الحاكم الأخير في "إسرائيل"، عندما أدى اليمين الدستورية، بسرعة وبدقة بأنه الأكثر يمينية في تاريخ البلاد. لقد تم تقديم الكثير من الشروحات لسبب وصف كل حكومة إسرائيلية منتخبة حديثاً على مدى العشرين عاماً بهذا الوصف، إلا أنّ هناك آلية أخرى طويلة الأمد تلعب دورها، والحكومة الحالية ليست سوى أحدث مثال على ذلك. ومع استيعاب المؤسسة السياسية تدريجياً لبعض العناصر الأكثر تطرفاً في "المجتمع" الإسرائيلي، بات أصحاب الأيديولوجيات اليمينية في الأمس، الذين كانوا يحتجون ضد الحكومة من الخارج في الماضي، أعضاء في الكنيست ومعاونين وموظفين في الوزارات اليوم. وقد استمر هذا الأمر بشكل أو بآخر منذ تأسيس الدولة. فالجماعات اليمينية المتطرفة التي فجرت الفنادق والأسواق خلال حقبة ما قبل الدولة، وحرّضت ضد سلطات الانتداب البريطاني والسكان العرب الأصليين في فلسطين ومنافسيها اليهود من التيار السائد، اندمجت بسرعة في مؤسسات الدولة الجديدة، من "الجيش" إلى البرلمان. وعلى الرغم من أن اليمين الإسرائيلي أظهر هدوءاً نسبياً خلال الخمسينات والستينات، فإن هذا الاتجاه برز من جديد بقوة عقب احتلال غزة والضفة الغربية عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، وهذا ما أطلق العنان لحركة الاستيطان وأدى إلى ظهور اليمين المتطرف اليهودي الجديد المشبع بالحماسة المسيحانية، وإن كان له روابط تنظيمية وأيديولوجية مع أسلافه. 15 أيار 14:12 14 أيار 14:55 ويُعدّ تسلل أتباع الكاهانية إلى الساحة السياسية الإسرائيلية السائدة أبرز جوانب هذا التوجه وأكثرها ثباتاً، نظراً لطول عمر الحركة وأيديولوجيتها الفاشية الواضحة. لكن حركة "كاخ" ليست الجماعة اليمينية المتطرفة الوحيدة في "المجتمع" الإسرائيلي التي وجدت لنفسها مكاناً في الكنيست. فقد وجد أعضاء "غوش إيمونيم"، والتنظيم اليهودي السري، وحركة "جبل الهيكل"، وكما أشرنا أعلاه، "شباب التلال"، طريقهم إلى أروقة السلطة في "إسرائيل"، سواء كمسؤولين منتخبين أو كمساعدين ومستشارين لهم. وعلى مدى العقود الخمسة الماضية، ظهرت جماعات اليمين المتطرف لتحدي سياسة الحكومة الإسرائيلية، وخاصة في ما يرتبط بالخيانات المزعومة لمشروع الاستيطان اليهودي والتطهير العرقي للفلسطينيين. فاعترضت هذه الجماعات، على سبيل المثال، على اتفاقيات كامب ديفيد في أواخر سبعينات القرن الماضي، واتفاقيات أوسلو في منتصف تسعيناته. والآن، كما كانت الحال آنذاك، تُصرّ على أن الحكومة و"الجيش" لا يبذلان جهوداً كافية لاستيطان الأرض، وحماية اليهود، والقضاء على الفلسطينيين. وبمرور الوقت، تم دمج أعضاء هذه الجماعات في المؤسسات الحاكمة في البلاد. وقد جرّدت هذه العملية قدرتهم على الضغط على الحكومة من الخارج؛ ولا يزال الاستقطاب إحدى أكثر الطرق فعالية للقضاء على الحركات الاحتجاجية. كما تكشف هذه العملية عن عبثية إصرار الحكومة الإسرائيلية، على إثر العنف القومي اليهودي، على اتخاذ إجراءات ضد "التفاح الفاسد"، فقط لكي ترحب بنظرائها الأيديولوجيين في السلطة في وقت لاحق. وفي حين أنّ استقطاب المتطرفين قد يحيد ضغوطهم الخارجية، فإنه يعمل أيضاً على ترسيخ أفكارهم السامة؛ وبالتالي، إدامة الزخم اليميني في البلاد. ففي كل مرة تظهر فيها مجموعة يمينية متطرفة جديدة، غالباً ما تكون أكثر تطرفاً من سابقتها، ومن ثم تُضمّ إلى النسيج الانتخابي الإسرائيلي، فيصبح جمهور الناخبين، إلى جانب قطاعات كبيرة من المعلقين، معتاداً بشكل مُطرد على خطابها العنيف. بعد انتخابه لعضوية الكنيست لأول مرة كرئيس لحزب "أوتزما يهوديت"، حظي صعود بن غفير السريع عام 2021 بتغطية إعلامية مكثفة لخطاب اليمين المتطرف العنصري والاضطهادي. وقد عززت هذه التغطية الإعلامية من دعمه الجماهيري، ما رسّخ مكانته في المشهد السياسي الإسرائيلي الرسمي. وأضحى بن غفير اليوم مقبولاً على نحو لم يكن عليه كاهانا قط. ولكن حتى عندما كان كاهانا على قيد الحياة، كان أتباعه السابقون يشقون طريقهم بالفعل إلى التيار السائد في السياسة الإسرائيلية. ومن هذا المنظور، فإنّ الدور الذي لعبه نتنياهو على مدى السنوات القليلة الماضية في محاولة التوسط في صفقات انتخابية لمصلحة حزب كاهانا من أجل ضمان دخوله إلى الكنيست ليس مفاجئاً. فتحالف الليكود – الكاهانية في حدّ ذاته له تاريخ أطول بكثير، وهو تاريخ يضم المجموعة الكبرى من المحرّضين اليمينيين المتطرفين إلى الحكومة والذي يعدّ جزءاً منه - وهو ما أدّى، مع انتخاب بن غفير في عام 2021، إلى عودة الكاهانيين رسمياً إلى كنف الدولة. بدأت القصة في أوائل سبعينات القرن العشرين، عندما وصل كاهانا إلى "إسرائيل" هرباً من مشاكل قانونية في الولايات المتحدة، وسرعان ما سعى رئيس الوزراء المستقبلي التابع لحزب "الليكود" للتودد إليه. وبصفته زعيم حزب "حيروت"، سلف "الليكود"، احتضن مناحيم بيغن كاهانا في البداية اعتقاداً منه بقدرته على تعزيز حظوظ الحزب السياسية. وقدّم بيغن كاهانا للسياسيين وعرض عليه "مقعداً آمناً" في حزبه، وهو ما رفضه كاهانا. كما كانت شولا كوهين، العضو السابق في منظمة "ليحي" - المجموعة اليهودية المتطرفة الرئيسة الأخرى التي تعمل في فلسطين الواقعة تحت الانتداب، إلى جانب منظمة "إرغون" التي كان يتزعمها بيغن - من المعجبين بكاهانا، ووجدت فيه مرشحاً محتملاً قوياً لحزب "حيروت"، الذي كانت على وشك الانضمام إليه أيضاً. مع الإشارة إلى أنّ بيغن وكوهين كانا من بين أول دفعة من الإسرائيليين الذين تخرجوا في منظمة يمينية متطرفة ودخلوا الكنيست. أمّا كاهانا، فقد سلك اتجاهه الخاص وأسس حزب "كاخ" الفاشي بعد فترة وجيزة. لكن الكثير من معاصريه وأتباعه المستقبليين انتقلوا من عضوية الحركة الكاهانيّة إلى "الليكود"، فخدموا في الكنيست، أو كموظفين في الوزارات، أو كموظفين رسميين في مجالات أخرى. ولعل أشهر من انتقل من حزب "كاخ" إلى حزب "الليكود" هو أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" الحالي، والذي انضم، وفقاً لمسؤولين في حزب "كاخ" كانوا حاضرين آنذاك، إلى الحزب بعد هجرته من الاتحاد السوفياتي في أواخر سبعينات القرن الماضي. (نفى حزب "إسرائيل بيتنا" هذه المعلومات وقت نشرها). وانضم إلى حزب "الليكود" في ثمانينات القرن العشرين وشق طريقه في أجهزة الحزب قبل أن يغادر لتشكيل حزبه الخاص، بينما كان يلمّع صورته باعتباره عنصرياً شرساً بخيالاته العنيفة التي تشبه خيالات كاهانا، كما جاء في تعليقه المُسيء في عام 2015 بأن المواطنين الفلسطينيين "غير الموالين" لـ"إسرائيل" يجب قطع رؤوسهم. وقد رفض المُدّعي العام آنذاك يهودا وينشتاين فتح تحقيق في تحريض ليبرمان. وانخرط مورتون (مردخاي) دولينسكي، الذي شارك في تأسيس عصبة الدفاع اليهودية مع كاهانا في نيويورك، سياسياً في حزب "حيروت" في سبعينات القرن الماضي بعد هجرته إلى "إسرائيل"، وشغل منصب مستشار أول في الوكالة اليهودية (Jewish Agency). وعيّنه بيغن رئيساً لمكتب الصحافة الحكومي في أوائل الثمانينات. شموئيل ساكيت، وهو مهاجر أميركي آخر إلى "إسرائيل" انضم إلى حزب "كاخ" بعد أن كان عضواً في عصبة الدفاع اليهودية، اتخذ طريقاً مختلفاً بعض الشيء نحو صفوف حزب "الليكود". فبعد أن شارك في تأسيس حركة "زو أرتسينو" (هذه بلادنا) المناهضة لاتفاقيات أوسلو مع موشيه فيغلين، أطلق هو وفيغلين في عام 1998 حركة "منهيجوت يهوديت" ("القيادة اليهودية") - وهي فصيل يميني متطرف في حزب "الليكود" نجح في ترسيخ موطئ قدم ثابت داخل جهاز الحزب. ولم يبذل ساكيت، الذي أعرب أيضاً عن اهتمامه بمكان في قائمة "الليكود" الانتخابية، أي جهد لإخفاء ولائه المستمر لكاهانا أثناء فترة عمله كمدير دولي لمنظمة "منهيجوت يهوديت". وقال: "بعيداً عن كونهم قوة سلبية يجب تجنبها بأي ثمن، فإنّ الكاهانيين غالباً ما يكونون أفضل أعضاء الفريق". وعلى الرغم من أنه لم يعد نشطاً في السياسة الإسرائيلية، إلا أن ساكيت لا يزال معلقاً غزير الإنتاج؛ فقبل بضعة أشهر من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اقترح في صحيفة "جويش برس" الأرثوذكسية اليمينية المتطرفة ومقرها نيويورك، حيث كان كاهانا ينشر عموداً أسبوعياً، أن يطلق على الهجوم العسكري الإسرائيلي المقبل اسم "الحرب للقضاء على العدو"، ثم بعد هجمات حماس، استشهد بكاهانا في الدعوة إلى "سحق العدو وطرده من أرضنا". والجدير ذكره أنّ مؤسسته "عام إسرائيل حاي"، تتمتع بإعفاء ضريبي في الولايات المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، ترشحت ماي غولان، عضو الكنيست الحالي عن حزب "الليكود" في الائتلاف الحاكم، للكنيست لأول مرة في عام 2013 كجزء من حزب "أوتزما ليسرائيل" (القوة لإسرائيل)، المعروف اليوم باسم "أوتزما يهوديت" (القوة اليهودية)، وهو حزب كاهاني مُعلن. وبعد ترشحها غير الناجح للكنيست مع "الليكود" في عام 2015، وصلت إلى الكنيست كجزء من الحزب الحاكم في نيسان/ أبريل 2019. واكتسبت غولان، التي شاركت في تظاهرات لدعم إعادة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في غزة وتم تعيينها العام الماضي وزيرة للمساواة الاجتماعية وتعزيز مكانة المرأة، شهرة كبيرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب احتجاجاتها وتعليقاتها العنصرية حول طالبي اللجوء الأفارقة. علاوة على ذلك، اختيرت غولان لفترة وجيزة قنصلاً عاماً لـ"إسرائيل" في نيويورك، وسط جهود نتنياهو لقمع تمرد اليمين المتطرف داخل حزبه. ولاقت هذه الخطوة انتقادات لاذعة من أعضاء إدارة بايدن والمؤسسات الأميركية - اليهودية الليبرالية، وسُحب ترشيحها على الفور، لكن الحادثة كانت تذكيراً إضافياً بأن حسن نية الكاهانيين لا يعيق تقدّمهم في صفوف "الليكود". وفي العام الفائت، أعلنت غولان أنها "فخورة بتدمير غزة". ينبغي ألّا تُفهم حقيقة أن الكثير من أتباع كاهانا قد انتهى بهم الأمر، سواء بالانتخاب أو التعيين، إلى أداء أدوار معيّنة في الحزب السياسي الأكثر هيمنة في تاريخ "إسرائيل"، أنه لا يوجد فرق بين المجموعتين. وعلى الرغم من توحيدهما من خلال الرغبة المشتركة في السيطرة على أكبر قدر ممكن من "إسرائيل الكبرى" مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين، وهي الرؤية التي تؤمن بها غالبية الأطياف السياسية في "إسرائيل"، حتى مع وجود اختلافات في المنهجية، تبرز اختلافات حقيقية في الشكل والنهج بين "الليكود" والمجموعات الكاهانية المختلفة. وفي حين يظل الجهاز السياسي والعسكري في "إسرائيل" في قبضة جنون الإقصاء، من المهمّ أن نتأمل في الأسباب التي دفعت المتخرجين في مدرسة كاهانا على مدى عقود من الزمن إلى الانجذاب نحو "الليكود"، بما يتجاوز أسباب الطموح السياسي المحض والتقاليد البالية المتمثلة في "اعتدال" المتطرفين من أجل حشد الدعم الانتخابي، وكيف أدى هذا التحالف إلى تحويل جميع الأطياف السياسية الإسرائيلية نحو اليمين. لقد أصبحت السياسة الإسرائيلية أكثر تطرفاً وعنفاً وإساءة من أي وقت مضى، حتى قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إذ وجدت باستمرار مساحة للإرهابيين والمحرضين وأولئك الذين لا يخفون أيديولوجية الإبادة الجماعية الخاصة بهم. وبعد هذا التاريخ، تسارعت وتيرة الخطاب التدميري نحو التيار السائد، ما يشكل مواكبة مناسبة للجحيم الذي أنزلته "إسرائيل" على غزة. فقبل عامين، نفذ مستوطنون إسرائيليون مذبحة في بلدة حوارة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، بعد شهرين من أداء الحكومة الإسرائيلية الحالية اليمين الدستورية. في ذلك الوقت، أثار الدعم العملياتي الذي تلقاه المستوطنون من قوات الأمن الإسرائيلية، والدعم المعنوي الذي تلقوه من قطاعات كبيرة من الائتلاف الحاكم، التساؤل حول إذا ما كان مثيرو الشغب اليوم سيصبحون أعضاء في الكنيست في الغد، ومتى سوف يحدث ذلك. وبعد 17 شهراً من تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفي الوقت الذي تتحول فيه غزة إلى أنقاض، ويخطط "الجيش" الإسرائيلي لشن هجوم بري جديد ضخم، وبينما ينخرط المستوطنون و"الجيش" في حملة مشتركة من الأرض المحروقة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، باتت الإجابة واضحة: لقد كانت تلك المذبحة نبذة عن المستقبل القريب. وعلى الرغم من أن مرتكبيها لم يترشحوا بعد، إلا أنّ منطقهم ونهجهم ينسجمان مع منطق المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية ونهجها. ويبدو أنّ هذا النظام أصبح من الماضي. نقلته إلى العربية: زينب منعم.


سواليف احمد الزعبي
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- سواليف احمد الزعبي
'المعبد الثالث' المزعوم والاقتحامات غير المسبوقة للمسجد الأقصى
#سواليف جاء موسم عيد الفِصح العبري هذا العام في ظلّ أحداث ملتهبة، وباقتحامات غير مسبوقة من حيث الكمّ والنوع. فمن حيث الكم، كانت أعداد #المقتحمين #المسجد_الأقصى المبارك هذا العام في هذا الموسم أعلى منها في العام الماضي 2024 بنسبة تصل إلى حوالي 30٪ تقريبًا، وهذه نسبة مرتفعة جدًا في عام واحد، بل ووصلت نسبة الارتفاع عن العام الذي سبقه 2023 إلى أكثر من 90٪. ولا غرابة في هذه التّصعيدات المحمومة، فالفِصح العبري يعتبر واحدًا من المحطات المركزية السنوية للاعتداء على المسجد الأقصى، وتغيير الوضع القائم فيه جذريًا. في ساعة واحدة فقط خلال أيام هذا الاقتحام هذا العام، وتحديدًا في اليوم الثالث لهذا الموسم، وصل مجموع #المستوطنين الموجودين داخل المسجد الأقصى في نفس اللحظة إلى أكثر من 600 مستوطن، وهذا عدد غير مسبوق فعليًا، وكان في تلك اللحظة يفوق مجموع أعداد المسلمين الموجودين داخل المسجد، خاصةً في ظل المنع المستمر لموظفي الأوقاف والحراس والمصلين المسلمين من دخول المسجد في أوقات دخول المستوطنين تطبيقًا لسياسة التقسيم الزماني. أما من حيث النوعية، فقد ترافقت هذه الاقتحامات مع أداء صلوات علنية ورقصات كبيرة استفزازية في المسجد الأقصى، ولا سيما في ساحته الشرقية التي باتت تشبه كنيسًا غير مرئي مقامًا على أرض المسجد الأقصى. وهذا ما حدا بعضو الكنيست المتطرف عن حزب الليكود #عميت_هاليفي للتصريح لموقع القناة السابعة الإسرائيلية، بأن هذا الحدث يمثل 'انتصارًا كاملًا' لإسرائيل، مستعيرًا هذا التعبير من رئيس حكومته نتنياهو الذي ينادي دائمًا بما يسميه 'النصر الكامل' في حربه على قطاع غزة. وللمفارقة، فهذا الشخص هو صاحب مقترح تقسيم الأقصى بنسبة 30٪ للمسلمين، و70٪ لليهود، الذي قدمه للكنيست منتصف عام 2023. في نفس اليوم تناقلت نشرات الأخبار صورَ #الاقتحامات الضخمة – التي قامت بها مجموعات المستوطنين، بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- المسجدَ الإبراهيمي في الخليل الذي أغلق بالكامل في وجه المسلمين لصالح المستوطنين، بزعم احتفالهم بالفصح العبري. علمًا أن هذا الإغلاق يأتي بعد انتهاء شهر رمضان المبارك الذي شهد بالمقابل رفض سلطات الاحتلال لأول مرة إغلاق المسجد الإبراهيمي في وجه المستوطنين لصالح المسلمين، في أيام الجمعة في شهر رمضان، كما كان معمولًا به ضمن سياسة التقسيم الزمني التي تعمل بها منذ خمسين عامًا في المسجد الإبراهيمي، فتم بذلك تجاوز هذه السياسة وبات المسجد الإبراهيمي كنيسًا بالكامل حسب التعامل الإسرائيلي. هذه الأحداث تفتح سؤالًا حول جدلية الاقتحامات نفسها، ولماذا تصرّ عليها جماعات المعبد المتطرّفة، وما هي ظروف القيام بها بهذا الشكل والكمّ، وماذا تعني زيادة أعداد المقتحمين المسجدَ الأقصى كل عام؟ خاصةً إذا علمنا أن الحاخامية الرسمية لدولة الاحتلال لا تزال لا تعترف بهذه الاقتحامات، ولا بالطقوس التي تتم خلالها. لدراسة هذا الأمر ينبغي أن نفهم أن الخلاف على موضوع دخول اليهود منطقة المسجد الأقصى بين التيارات الدينية في إسرائيل قديمٌ فعليًا، ونحن نتحدث هنا عن تيارين رئيسيين: الأول هو التيار الديني التقليدي الذي تمثله في هذه المعادلة مؤسسة الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال، والثاني هو التيار الديني الخَلاصي الذي يمثل آراءَه الدينية التقاءُ مدرستين متطرفتين كبيرتين هما: مدرسة الحاخام غرشون سلمون بتركيزه على ضرورة إقامة المعبد الثالث لقدوم المسيح، ومدرسة الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة 'كاخ' الإرهابية بتركيزه على ضرورة 'تطهير' منطقة المسجد الأقصى من الوجود الإسلامي، للتمهيد لقدوم المسيح، وما تفرع عنها من مؤسسات متطرفة ينضوي أغلبها اليوم ضمن ما يسمى تيار 'الصهيونية الدينية'. فمؤسسة الحاخامية الرسمية الكبرى في إسرائيل ما زالت تتمسك برأيها التقليدي في منع اليهود من دخول منطقة المسجد الأقصى بالكامل؛ بسبب ما يسمى 'نجاسة الموتى' التي لا يتم التطهر منها إلا برماد #بقرة_حمراء، الأمر الذي يعتبر معجزةً منتَظرةً لدى التيار الديني الحريدي التقليدي في العالم. ففي أعراف هذه الأوساط، لم تظهر في الأرض بقرة حمراء كاملة مطابقة للشروط الشرعية منذ ألفَي سنة إلى اليوم، وهنا أتت قصة #البقرات_الحمراء_الخمس التي ولدت في تكساس بالولايات المتحدة وأُتي بها إلى البلاد عام 2022 لتضفي المزيد من الانقسام على المجتمع المتدين في هذا الموضوع. حيث إن الأسطورة الدينية التي تؤمن بها الأوساط الدينية بشكل عام تقول إن طقس التطهير ذلك قد تم في التاريخ اليهودي تسع مرات، ويفترض أن المرة العاشرة القادمة ستكون على يد #المسيح_المنتظر. وهو الأمر الذي جعل المؤسسة الدينية التقليدية ترفض الاعتراف بالبقرات الحمراء أميركية المولد. وترى هذه المؤسسة التقليدية أنه عندما يحين الوقت المناسب فإن المعجزات المنتظرة ستظهر من تلقاء نفسها، سواء البقرة الحمراء، أو نزول المسيح المخلص المنتظر، أو نزول بيت الرب (المعبد الثالث) من السماء ليحل على الأرض. في مقابل هذه المدرسة، تأتي مدرسة التيار الديني الخَلاصي الذي يقود عملية الاقتحامات، وتغيير الوضع القائم في الأقصى، والذي ينطلق من فكرة أنه هو الذي يقع عليه واجب 'تنفيذ إرادة الرب' في إحداث المعجزات التي ينتظرونها. وهذه النظرية تنطلق منها فكرة الاقتحامات تحت عنوان أن المقتحمين يمثلون 'يد الله العظمى'. وتقوم هذه النظرية في الأساس على أن المعجزات الإلهية المذكورة في الكتب المقدسة لا بدّ لها من يد تنفذها وتجعلها حقيقةً واقعةً، وهو الأمر الذي كان ينادي به كل من الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة كاخ، والحاخام غرشون سلمون زعيم جماعة أمناء جبل المعبد. بخلاف واحد أساسي بين الطرفين؛ حيث كان كاهانا يرى أن الأولوية يجب أن تكون 'لتطهير' الأرض المقدسة من الفلسطينيين وتخصيصها لليهود فقط أولًا، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح ليبني المعبد الثالث. وبالمقابل كان سلمون يرى أولوية العمل على بناء بيت الرب (المعبد الثالث) في المسجد الأقصى، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح. ويزاوج اليوم تيار الصهيونية الدينية بين آراء الطرفين، حيث يعمل على صعيد إزالة الوجود الإسلامي من المسجد الأقصى، والفلسطيني بالكامل من الأراضي الفلسطينية، في نفس الوقت الذي يعمل فيه على إقامة #المعبد_الثالث داخل المسجد الأقصى. وبالرغم من التّباين الواضح بين كاهانا وسلمون، فإن تيار الصهيونيّة الدينية نجح في دمج الآراء تحت عنوان موحّد، هو تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وتحقيق السيادة اليهوديّة الكاملة عليه. هذا الأمر هو الذي تنطلق منه فكرة الاقتحامات المتعددة للمسجد الأقصى، فتيار الصهيونية الدينية الذي تتبع له جماعات المعبد المتطرفة، يرى أن تغيير الوضع القائم لا بدّ أن يمرّ من بوابة العدد، وتحقيق الأمر الواقع على الأرض. والخطوة الأولى في هذا السياق تتمثل بالطبع في جمع أكبر عدد من اليهود اليوم داخل المسجد الأقصى، بحيث تتحوّل القضية إلى قضيةِ رأي عامّ، ومسألة لا نقاش فيها على المستوى الإسرائيلي. فتكثيف الوجود اليهودي في الأقصى عبر كثرة الاقتحامات، وأداء الطقوس الدينية كاملةً داخل المسجد لا بد أن يعد – في نظر هذه الجماعات – معجزةً إلهيةً بحد ذاته. لأنه يعطي إشارةً للرب على جدية الشعب اليهودي في بناء بيت الرب (المعبد الثالث) واستئناف الحياة الدينية في المنطقة كما ترويها النصوص الدينية المقدسة لديهم، وهو ما سيُلجِئ الرب في النهاية – حسب تعبير هذه الجماعات – إلى الاستجابة لشعبه والإذن بنزول المسيح المخلص عليهم. وهكذا تكون هذه الجماعات قد 'أجبرت' الرب على تنفيذ وعوده المكتوبة في النصوص المقدسة. بناءً على ذلك، فإن أفراد هذه الجماعات يرون في كسر فتوى الحاخامية التقليدية، والتوجه بأعداد كبيرة إلى المسجد الأقصى، تثبيتًا لكونهم 'رسلًا' لله في بيته، يقيمون كافة الشعائر الدينية حتى يضطر الإله إلى الاستجابة لهم، بل إن هذه الجماعات ترى أنه كلما ازدادت الأعداد، فإنها تفسر ذلك على أنه إشارةٌ إلهيةٌ خفيةً بالموافقة على نهجهم، وإلا لكان الرب قد أرسل عليهم عقابًا وقوةً قاهرةً تمنعهم من دخول بيته المقدس. هذه النظرية الخطيرة تعني أن المؤمنين بها لا يرون خطورةً فيما يفعلونه من تصعيد داخل المسجد الأقصى، لأنهم يؤمنون بأنهم أداةٌ إلهية في مهمة إلهية لمساعدة الرب على تنفيذ وعوده، وهذه مسألة خطيرة أدت في السابق إلى كوارث لم يكن أقلّها إحراق الجامع القبلي في المسجد الأقصى في أغسطس/ آب عام 1969 على يد المسيحي الأسترالي المتطرف دينيس مايكل روهان، الذي ادعى أثناء محاكمته أنه أحرق المسجد الأقصى تنفيذًا لنبوءة في سِفر زكريا بالتوراة، وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ مشيئة الرب، وهذا يعني أن تيار الصهيونية المسيحية لا يقل خطورةً في آرائه الرعناء عن هذه الجماعات، فهو يدعمها بكل قوته ويرى فيها أملًا بعودة المسيح. إن الحقيقة التي يجب أن نفهمها هي أن الصمت العربي والإسلامي على هذه التطورات، تفسره هذه الجماعات المتطرفة على أنه إشارةٌ إلهيةٌ بالرضا عن تحركاتها، مما يغريها بالمزيد من التقدم في مشاريعها، وهذا عكس ما يظن الداعون إلى الصمت بدعوى 'عدم استفزاز' الاحتلال، والذين يدعون أن أي تحرك مضاد للاحتلال في المسجد الأقصى يعتبر 'استفزازًا'، وأن الصمتَ والصبرَ على ما يفعله سيجعلانه فاقدًا للمبررات. فالاحتلال – عبر تيار الصهيونية الدينية – لا ينتظر المبررات، وإنما يرى أن هذا الصمت المخيم على الحكومات والشعوب العربية والمسلمة فيما يتعلق بما يجري في المسجد الأقصى يعتبر إشارةً إلهيةً للمضي قدمًا أكثر وأكثر في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة التي كان يطالب بها مائير كاهانا، وبناء المعبد الثالث مكان المسجد الأقصى، كما كان ينادي غرشون سلمون. والعكس صحيح، فإن تصاعد الرفض والمقاومة الشعبية العارمة لهذه المشروعات، كما حدث في عدة هبّات جماهيرية سابقة في القدس يفسره أفراد هذه الجماعات على أنه إشارةٌ إلهية برفض تحركاتهم وعدم الرضا عنها، وبالتالي التوقف عن الاعتداء على المسجد الأقصى.


الجزيرة
١٧-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
"المعبد الثالث" المزعوم والاقتحامات غير المسبوقة للمسجد الأقصى
جاء موسم عيد الفِصح العبري هذا العام في ظلّ أحداث ملتهبة، وباقتحامات غير مسبوقة من حيث الكمّ والنوع. فمن حيث الكم، كانت أعداد المقتحمين المسجدَ الأقصى المبارك هذا العام في هذا الموسم أعلى منها في العام الماضي 2024 بنسبة تصل إلى حوالي 30٪ تقريبًا، وهذه نسبة مرتفعة جدًا في عام واحد، بل ووصلت نسبة الارتفاع عن العام الذي سبقه 2023 إلى أكثر من 90٪. ولا غرابة في هذه التّصعيدات المحمومة، فالفِصح العبري يعتبر واحدًا من المحطات المركزية السنوية للاعتداء على المسجد الأقصى، وتغيير الوضع القائم فيه جذريًا. في ساعة واحدة فقط خلال أيام هذا الاقتحام هذا العام، وتحديدًا في اليوم الثالث لهذا الموسم، وصل مجموع المستوطنين الموجودين داخل المسجد الأقصى في نفس اللحظة إلى أكثر من 600 مستوطن، وهذا عدد غير مسبوق فعليًا، وكان في تلك اللحظة يفوق مجموع أعداد المسلمين الموجودين داخل المسجد، خاصةً في ظل المنع المستمر لموظفي الأوقاف والحراس والمصلين المسلمين من دخول المسجد في أوقات دخول المستوطنين تطبيقًا لسياسة التقسيم الزماني. أما من حيث النوعية، فقد ترافقت هذه الاقتحامات مع أداء صلوات علنية ورقصات كبيرة استفزازية في المسجد الأقصى، ولا سيما في ساحته الشرقية التي باتت تشبه كنيسًا غير مرئي مقامًا على أرض المسجد الأقصى. وهذا ما حدا بعضو الكنيست المتطرف عن حزب الليكود عميت هاليفي للتصريح لموقع القناة السابعة الإسرائيلية، بأن هذا الحدث يمثل "انتصارًا كاملًا" لإسرائيل، مستعيرًا هذا التعبير من رئيس حكومته نتنياهو الذي ينادي دائمًا بما يسميه "النصر الكامل" في حربه على قطاع غزة. وللمفارقة، فهذا الشخص هو صاحب مقترح تقسيم الأقصى بنسبة 30٪ للمسلمين، و70٪ لليهود، الذي قدمه للكنيست منتصف عام 2023. في نفس اليوم تناقلت نشرات الأخبار صورَ الاقتحامات الضخمة – التي قامت بها مجموعات المستوطنين، بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- المسجدَ الإبراهيمي في الخليل الذي أغلق بالكامل في وجه المسلمين لصالح المستوطنين، بزعم احتفالهم بالفصح العبري. علمًا أن هذا الإغلاق يأتي بعد انتهاء شهر رمضان المبارك الذي شهد بالمقابل رفض سلطات الاحتلال لأول مرة إغلاق المسجد الإبراهيمي في وجه المستوطنين لصالح المسلمين، في أيام الجمعة في شهر رمضان، كما كان معمولًا به ضمن سياسة التقسيم الزمني التي تعمل بها منذ خمسين عامًا في المسجد الإبراهيمي، فتم بذلك تجاوز هذه السياسة وبات المسجد الإبراهيمي كنيسًا بالكامل حسب التعامل الإسرائيلي. هذه الأحداث تفتح سؤالًا حول جدلية الاقتحامات نفسها، ولماذا تصرّ عليها جماعات المعبد المتطرّفة، وما هي ظروف القيام بها بهذا الشكل والكمّ، وماذا تعني زيادة أعداد المقتحمين المسجدَ الأقصى كل عام؟ خاصةً إذا علمنا أن الحاخامية الرسمية لدولة الاحتلال لا تزال لا تعترف بهذه الاقتحامات، ولا بالطقوس التي تتم خلالها. لدراسة هذا الأمر ينبغي أن نفهم أن الخلاف على موضوع دخول اليهود منطقة المسجد الأقصى بين التيارات الدينية في إسرائيل قديمٌ فعليًا، ونحن نتحدث هنا عن تيارين رئيسيين: الأول هو التيار الديني التقليدي الذي تمثله في هذه المعادلة مؤسسة الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال، والثاني هو التيار الديني الخَلاصي الذي يمثل آراءَه الدينية التقاءُ مدرستين متطرفتين كبيرتين هما: مدرسة الحاخام غرشون سلمون بتركيزه على ضرورة إقامة المعبد الثالث لقدوم المسيح، ومدرسة الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة "كاخ" الإرهابية بتركيزه على ضرورة "تطهير" منطقة المسجد الأقصى من الوجود الإسلامي، للتمهيد لقدوم المسيح، وما تفرع عنها من مؤسسات متطرفة ينضوي أغلبها اليوم ضمن ما يسمى تيار "الصهيونية الدينية". فمؤسسة الحاخامية الرسمية الكبرى في إسرائيل ما زالت تتمسك برأيها التقليدي في منع اليهود من دخول منطقة المسجد الأقصى بالكامل؛ بسبب ما يسمى "نجاسة الموتى" التي لا يتم التطهر منها إلا برماد بقرة حمراء، الأمر الذي يعتبر معجزةً منتَظرةً لدى التيار الديني الحريدي التقليدي في العالم. ففي أعراف هذه الأوساط، لم تظهر في الأرض بقرة حمراء كاملة مطابقة للشروط الشرعية منذ ألفَي سنة إلى اليوم، وهنا أتت قصة البقرات الحمراء الخمس التي ولدت في تكساس بالولايات المتحدة وأُتي بها إلى البلاد عام 2022 لتضفي المزيد من الانقسام على المجتمع المتدين في هذا الموضوع. حيث إن الأسطورة الدينية التي تؤمن بها الأوساط الدينية بشكل عام تقول إن طقس التطهير ذلك قد تم في التاريخ اليهودي تسع مرات، ويفترض أن المرة العاشرة القادمة ستكون على يد المسيح المنتظر. وهو الأمر الذي جعل المؤسسة الدينية التقليدية ترفض الاعتراف بالبقرات الحمراء أميركية المولد. وترى هذه المؤسسة التقليدية أنه عندما يحين الوقت المناسب فإن المعجزات المنتظرة ستظهر من تلقاء نفسها، سواء البقرة الحمراء، أو نزول المسيح المخلص المنتظر، أو نزول بيت الرب (المعبد الثالث) من السماء ليحل على الأرض. في مقابل هذه المدرسة، تأتي مدرسة التيار الديني الخَلاصي الذي يقود عملية الاقتحامات، وتغيير الوضع القائم في الأقصى، والذي ينطلق من فكرة أنه هو الذي يقع عليه واجب "تنفيذ إرادة الرب" في إحداث المعجزات التي ينتظرونها. وهذه النظرية تنطلق منها فكرة الاقتحامات تحت عنوان أن المقتحمين يمثلون "يد الله العظمى". وتقوم هذه النظرية في الأساس على أن المعجزات الإلهية المذكورة في الكتب المقدسة لا بدّ لها من يد تنفذها وتجعلها حقيقةً واقعةً، وهو الأمر الذي كان ينادي به كل من الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة كاخ، والحاخام غرشون سلمون زعيم جماعة أمناء جبل المعبد. بخلاف واحد أساسي بين الطرفين؛ حيث كان كاهانا يرى أن الأولوية يجب أن تكون "لتطهير" الأرض المقدسة من الفلسطينيين وتخصيصها لليهود فقط أولًا، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح ليبني المعبد الثالث. وبالمقابل كان سلمون يرى أولوية العمل على بناء بيت الرب (المعبد الثالث) في المسجد الأقصى، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح. ويزاوج اليوم تيار الصهيونية الدينية بين آراء الطرفين، حيث يعمل على صعيد إزالة الوجود الإسلامي من المسجد الأقصى، والفلسطيني بالكامل من الأراضي الفلسطينية، في نفس الوقت الذي يعمل فيه على إقامة المعبد الثالث داخل المسجد الأقصى. وبالرغم من التّباين الواضح بين كاهانا وسلمون، فإن تيار الصهيونيّة الدينية نجح في دمج الآراء تحت عنوان موحّد، هو تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وتحقيق السيادة اليهوديّة الكاملة عليه. هذا الأمر هو الذي تنطلق منه فكرة الاقتحامات المتعددة للمسجد الأقصى، فتيار الصهيونية الدينية الذي تتبع له جماعات المعبد المتطرفة، يرى أن تغيير الوضع القائم لا بدّ أن يمرّ من بوابة العدد، وتحقيق الأمر الواقع على الأرض. والخطوة الأولى في هذا السياق تتمثل بالطبع في جمع أكبر عدد من اليهود اليوم داخل المسجد الأقصى، بحيث تتحوّل القضية إلى قضيةِ رأي عامّ، ومسألة لا نقاش فيها على المستوى الإسرائيلي. فتكثيف الوجود اليهودي في الأقصى عبر كثرة الاقتحامات، وأداء الطقوس الدينية كاملةً داخل المسجد لا بد أن يعد – في نظر هذه الجماعات – معجزةً إلهيةً بحد ذاته. لأنه يعطي إشارةً للرب على جدية الشعب اليهودي في بناء بيت الرب (المعبد الثالث) واستئناف الحياة الدينية في المنطقة كما ترويها النصوص الدينية المقدسة لديهم، وهو ما سيُلجِئ الرب في النهاية – حسب تعبير هذه الجماعات – إلى الاستجابة لشعبه والإذن بنزول المسيح المخلص عليهم. وهكذا تكون هذه الجماعات قد "أجبرت" الرب على تنفيذ وعوده المكتوبة في النصوص المقدسة. بناءً على ذلك، فإن أفراد هذه الجماعات يرون في كسر فتوى الحاخامية التقليدية، والتوجه بأعداد كبيرة إلى المسجد الأقصى، تثبيتًا لكونهم "رسلًا" لله في بيته، يقيمون كافة الشعائر الدينية حتى يضطر الإله إلى الاستجابة لهم، بل إن هذه الجماعات ترى أنه كلما ازدادت الأعداد، فإنها تفسر ذلك على أنه إشارةٌ إلهيةٌ خفيةً بالموافقة على نهجهم، وإلا لكان الرب قد أرسل عليهم عقابًا وقوةً قاهرةً تمنعهم من دخول بيته المقدس. هذه النظرية الخطيرة تعني أن المؤمنين بها لا يرون خطورةً فيما يفعلونه من تصعيد داخل المسجد الأقصى، لأنهم يؤمنون بأنهم أداةٌ إلهية في مهمة إلهية لمساعدة الرب على تنفيذ وعوده، وهذه مسألة خطيرة أدت في السابق إلى كوارث لم يكن أقلّها إحراق الجامع القبلي في المسجد الأقصى في أغسطس/ آب عام 1969 على يد المسيحي الأسترالي المتطرف دينيس مايكل روهان، الذي ادعى أثناء محاكمته أنه أحرق المسجد الأقصى تنفيذًا لنبوءة في سِفر زكريا بالتوراة، وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ مشيئة الرب، وهذا يعني أن تيار الصهيونية المسيحية لا يقل خطورةً في آرائه الرعناء عن هذه الجماعات، فهو يدعمها بكل قوته ويرى فيها أملًا بعودة المسيح. إن الحقيقة التي يجب أن نفهمها هي أن الصمت العربي والإسلامي على هذه التطورات، تفسره هذه الجماعات المتطرفة على أنه إشارةٌ إلهيةٌ بالرضا عن تحركاتها، مما يغريها بالمزيد من التقدم في مشاريعها، وهذا عكس ما يظن الداعون إلى الصمت بدعوى "عدم استفزاز" الاحتلال، والذين يدعون أن أي تحرك مضاد للاحتلال في المسجد الأقصى يعتبر "استفزازًا"، وأن الصمتَ والصبرَ على ما يفعله سيجعلانه فاقدًا للمبررات. فالاحتلال – عبر تيار الصهيونية الدينية – لا ينتظر المبررات، وإنما يرى أن هذا الصمت المخيم على الحكومات والشعوب العربية والمسلمة فيما يتعلق بما يجري في المسجد الأقصى يعتبر إشارةً إلهيةً للمضي قدمًا أكثر وأكثر في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة التي كان يطالب بها مائير كاهانا، وبناء المعبد الثالث مكان المسجد الأقصى، كما كان ينادي غرشون سلمون. والعكس صحيح، فإن تصاعد الرفض والمقاومة الشعبية العارمة لهذه المشروعات، كما حدث في عدة هبّات جماهيرية سابقة في القدس يفسره أفراد هذه الجماعات على أنه إشارةٌ إلهية برفض تحركاتهم وعدم الرضا عنها، وبالتالي التوقف عن الاعتداء على المسجد الأقصى.


الجزيرة
١٧-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
لماذا يقتحم المتطرفون المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي؟
جاء موسم عيد الفِصح العبري هذا العام في ظلّ أحداث ملتهبة، وباقتحامات غير مسبوقة من حيث الكمّ والنوع. فمن حيث الكم، كانت أعداد المقتحمين المسجدَ الأقصى المبارك هذا العام في هذا الموسم أعلى منها في العام الماضي 2024 بنسبة تصل إلى حوالي 30٪ تقريبًا، وهذه نسبة مرتفعة جدًا في عام واحد، بل ووصلت نسبة الارتفاع عن العام الذي سبقه 2023 إلى أكثر من 90٪. ولا غرابة في هذه التّصعيدات المحمومة، فالفِصح العبري يعتبر واحدًا من المحطات المركزية السنوية للاعتداء على المسجد الأقصى، وتغيير الوضع القائم فيه جذريًا. في ساعة واحدة فقط خلال أيام هذا الاقتحام هذا العام، وتحديدًا في اليوم الثالث لهذا الموسم، وصل مجموع المستوطنين الموجودين داخل المسجد الأقصى في نفس اللحظة إلى أكثر من 600 مستوطن، وهذا عدد غير مسبوق فعليًا، وكان في تلك اللحظة يفوق مجموع أعداد المسلمين الموجودين داخل المسجد، خاصةً في ظل المنع المستمر لموظفي الأوقاف والحراس والمصلين المسلمين من دخول المسجد في أوقات دخول المستوطنين تطبيقًا لسياسة التقسيم الزماني. أما من حيث النوعية، فقد ترافقت هذه الاقتحامات مع أداء صلوات علنية ورقصات كبيرة استفزازية في المسجد الأقصى، ولا سيما في ساحته الشرقية التي باتت تشبه كنيسًا غير مرئي مقامًا على أرض المسجد الأقصى. وهذا ما حدا بعضو الكنيست المتطرف عن حزب الليكود عميت هاليفي للتصريح لموقع القناة السابعة الإسرائيلية، بأن هذا الحدث يمثل "انتصارًا كاملًا" لإسرائيل، مستعيرًا هذا التعبير من رئيس حكومته نتنياهو الذي ينادي دائمًا بما يسميه "النصر الكامل" في حربه على قطاع غزة. وللمفارقة، فهذا الشخص هو صاحب مقترح تقسيم الأقصى بنسبة 30٪ للمسلمين، و70٪ لليهود، الذي قدمه للكنيست منتصف عام 2023. في نفس اليوم تناقلت نشرات الأخبار صورَ الاقتحامات الضخمة – التي قامت بها مجموعات المستوطنين، بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- المسجدَ الإبراهيمي في الخليل الذي أغلق بالكامل في وجه المسلمين لصالح المستوطنين، بزعم احتفالهم بالفصح العبري. علمًا أن هذا الإغلاق يأتي بعد انتهاء شهر رمضان المبارك الذي شهد بالمقابل رفض سلطات الاحتلال لأول مرة إغلاق المسجد الإبراهيمي في وجه المستوطنين لصالح المسلمين، في أيام الجمعة في شهر رمضان، كما كان معمولًا به ضمن سياسة التقسيم الزمني التي تعمل بها منذ خمسين عامًا في المسجد الإبراهيمي، فتم بذلك تجاوز هذه السياسة وبات المسجد الإبراهيمي كنيسًا بالكامل حسب التعامل الإسرائيلي. هذه الأحداث تفتح سؤالًا حول جدلية الاقتحامات نفسها، ولماذا تصرّ عليها جماعات المعبد المتطرّفة، وما هي ظروف القيام بها بهذا الشكل والكمّ، وماذا تعني زيادة أعداد المقتحمين المسجدَ الأقصى كل عام؟ خاصةً إذا علمنا أن الحاخامية الرسمية لدولة الاحتلال لا تزال لا تعترف بهذه الاقتحامات، ولا بالطقوس التي تتم خلالها. لدراسة هذا الأمر ينبغي أن نفهم أن الخلاف على موضوع دخول اليهود منطقة المسجد الأقصى بين التيارات الدينية في إسرائيل قديمٌ فعليًا، ونحن نتحدث هنا عن تيارين رئيسيين: الأول هو التيار الديني التقليدي الذي تمثله في هذه المعادلة مؤسسة الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال، والثاني هو التيار الديني الخَلاصي الذي يمثل آراءَه الدينية التقاءُ مدرستين متطرفتين كبيرتين هما: مدرسة الحاخام غرشون سلمون بتركيزه على ضرورة إقامة المعبد الثالث لقدوم المسيح، ومدرسة الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة "كاخ" الإرهابية بتركيزه على ضرورة "تطهير" منطقة المسجد الأقصى من الوجود الإسلامي، للتمهيد لقدوم المسيح، وما تفرع عنها من مؤسسات متطرفة ينضوي أغلبها اليوم ضمن ما يسمى تيار "الصهيونية الدينية". فمؤسسة الحاخامية الرسمية الكبرى في إسرائيل ما زالت تتمسك برأيها التقليدي في منع اليهود من دخول منطقة المسجد الأقصى بالكامل؛ بسبب ما يسمى "نجاسة الموتى" التي لا يتم التطهر منها إلا برماد بقرة حمراء، الأمر الذي يعتبر معجزةً منتَظرةً لدى التيار الديني الحريدي التقليدي في العالم. ففي أعراف هذه الأوساط، لم تظهر في الأرض بقرة حمراء كاملة مطابقة للشروط الشرعية منذ ألفَي سنة إلى اليوم، وهنا أتت قصة البقرات الحمراء الخمس التي ولدت في تكساس بالولايات المتحدة وأُتي بها إلى البلاد عام 2022 لتضفي المزيد من الانقسام على المجتمع المتدين في هذا الموضوع. حيث إن الأسطورة الدينية التي تؤمن بها الأوساط الدينية بشكل عام تقول إن طقس التطهير ذلك قد تم في التاريخ اليهودي تسع مرات، ويفترض أن المرة العاشرة القادمة ستكون على يد المسيح المنتظر. وهو الأمر الذي جعل المؤسسة الدينية التقليدية ترفض الاعتراف بالبقرات الحمراء أميركية المولد. وترى هذه المؤسسة التقليدية أنه عندما يحين الوقت المناسب فإن المعجزات المنتظرة ستظهر من تلقاء نفسها، سواء البقرة الحمراء، أو نزول المسيح المخلص المنتظر، أو نزول بيت الرب (المعبد الثالث) من السماء ليحل على الأرض. في مقابل هذه المدرسة، تأتي مدرسة التيار الديني الخَلاصي الذي يقود عملية الاقتحامات، وتغيير الوضع القائم في الأقصى، والذي ينطلق من فكرة أنه هو الذي يقع عليه واجب "تنفيذ إرادة الرب" في إحداث المعجزات التي ينتظرونها. وهذه النظرية تنطلق منها فكرة الاقتحامات تحت عنوان أن المقتحمين يمثلون "يد الله العظمى". وتقوم هذه النظرية في الأساس على أن المعجزات الإلهية المذكورة في الكتب المقدسة لا بدّ لها من يد تنفذها وتجعلها حقيقةً واقعةً، وهو الأمر الذي كان ينادي به كل من الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة كاخ، والحاخام غرشون سلمون زعيم جماعة أمناء جبل المعبد. بخلاف واحد أساسي بين الطرفين؛ حيث كان كاهانا يرى أن الأولوية يجب أن تكون "لتطهير" الأرض المقدسة من الفلسطينيين وتخصيصها لليهود فقط أولًا، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح ليبني المعبد الثالث. وبالمقابل كان سلمون يرى أولوية العمل على بناء بيت الرب (المعبد الثالث) في المسجد الأقصى، وهو ما سيكون مقدمة نزول المسيح. ويزاوج اليوم تيار الصهيونية الدينية بين آراء الطرفين، حيث يعمل على صعيد إزالة الوجود الإسلامي من المسجد الأقصى، والفلسطيني بالكامل من الأراضي الفلسطينية، في نفس الوقت الذي يعمل فيه على إقامة المعبد الثالث داخل المسجد الأقصى. وبالرغم من التّباين الواضح بين كاهانا وسلمون، فإن تيار الصهيونيّة الدينية نجح في دمج الآراء تحت عنوان موحّد، هو تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وتحقيق السيادة اليهوديّة الكاملة عليه. هذا الأمر هو الذي تنطلق منه فكرة الاقتحامات المتعددة للمسجد الأقصى، فتيار الصهيونية الدينية الذي تتبع له جماعات المعبد المتطرفة، يرى أن تغيير الوضع القائم لا بدّ أن يمرّ من بوابة العدد، وتحقيق الأمر الواقع على الأرض. والخطوة الأولى في هذا السياق تتمثل بالطبع في جمع أكبر عدد من اليهود اليوم داخل المسجد الأقصى، بحيث تتحوّل القضية إلى قضيةِ رأي عامّ، ومسألة لا نقاش فيها على المستوى الإسرائيلي. فتكثيف الوجود اليهودي في الأقصى عبر كثرة الاقتحامات، وأداء الطقوس الدينية كاملةً داخل المسجد لا بد أن يعد – في نظر هذه الجماعات – معجزةً إلهيةً بحد ذاته. لأنه يعطي إشارةً للرب على جدية الشعب اليهودي في بناء بيت الرب (المعبد الثالث) واستئناف الحياة الدينية في المنطقة كما ترويها النصوص الدينية المقدسة لديهم، وهو ما سيُلجِئ الرب في النهاية – حسب تعبير هذه الجماعات – إلى الاستجابة لشعبه والإذن بنزول المسيح المخلص عليهم. وهكذا تكون هذه الجماعات قد "أجبرت" الرب على تنفيذ وعوده المكتوبة في النصوص المقدسة. بناءً على ذلك، فإن أفراد هذه الجماعات يرون في كسر فتوى الحاخامية التقليدية، والتوجه بأعداد كبيرة إلى المسجد الأقصى، تثبيتًا لكونهم "رسلًا" لله في بيته، يقيمون كافة الشعائر الدينية حتى يضطر الإله إلى الاستجابة لهم، بل إن هذه الجماعات ترى أنه كلما ازدادت الأعداد، فإنها تفسر ذلك على أنه إشارةٌ إلهيةٌ خفيةً بالموافقة على نهجهم، وإلا لكان الرب قد أرسل عليهم عقابًا وقوةً قاهرةً تمنعهم من دخول بيته المقدس. هذه النظرية الخطيرة تعني أن المؤمنين بها لا يرون خطورةً فيما يفعلونه من تصعيد داخل المسجد الأقصى، لأنهم يؤمنون بأنهم أداةٌ إلهية في مهمة إلهية لمساعدة الرب على تنفيذ وعوده، وهذه مسألة خطيرة أدت في السابق إلى كوارث لم يكن أقلّها إحراق الجامع القبلي في المسجد الأقصى في أغسطس/ آب عام 1969 على يد المسيحي الأسترالي المتطرف دينيس مايكل روهان، الذي ادعى أثناء محاكمته أنه أحرق المسجد الأقصى تنفيذًا لنبوءة في سِفر زكريا بالتوراة، وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ مشيئة الرب، وهذا يعني أن تيار الصهيونية المسيحية لا يقل خطورةً في آرائه الرعناء عن هذه الجماعات، فهو يدعمها بكل قوته ويرى فيها أملًا بعودة المسيح. إن الحقيقة التي يجب أن نفهمها هي أن الصمت العربي والإسلامي على هذه التطورات، تفسره هذه الجماعات المتطرفة على أنه إشارةٌ إلهيةٌ بالرضا عن تحركاتها، مما يغريها بالمزيد من التقدم في مشاريعها، وهذا عكس ما يظن الداعون إلى الصمت بدعوى "عدم استفزاز" الاحتلال، والذين يدعون أن أي تحرك مضاد للاحتلال في المسجد الأقصى يعتبر "استفزازًا"، وأن الصمتَ والصبرَ على ما يفعله سيجعلانه فاقدًا للمبررات. فالاحتلال – عبر تيار الصهيونية الدينية – لا ينتظر المبررات، وإنما يرى أن هذا الصمت المخيم على الحكومات والشعوب العربية والمسلمة فيما يتعلق بما يجري في المسجد الأقصى يعتبر إشارةً إلهيةً للمضي قدمًا أكثر وأكثر في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة التي كان يطالب بها مائير كاهانا، وبناء المعبد الثالث مكان المسجد الأقصى، كما كان ينادي غرشون سلمون. والعكس صحيح، فإن تصاعد الرفض والمقاومة الشعبية العارمة لهذه المشروعات، كما حدث في عدة هبّات جماهيرية سابقة في القدس يفسره أفراد هذه الجماعات على أنه إشارةٌ إلهية برفض تحركاتهم وعدم الرضا عنها، وبالتالي التوقف عن الاعتداء على المسجد الأقصى.