logo
«حادث بسيط» في كان: جعفر بناهي يصوّر تعقيد الإنسان ببساطة مذهلة

«حادث بسيط» في كان: جعفر بناهي يصوّر تعقيد الإنسان ببساطة مذهلة

القدس العربي منذ 2 أيام

لا يبدأ الحديث عن فيلم الإيراني جعفر بناهي، من دون التصريح بأن العملَ وُلِد كلاسيكياً. من لحظة انتهاء عرضه الأول، بات الفيلم عظيماً.
الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، ونال السعفة الذهبية ، والذي أنجزه بناهي بعد خروجه من السجون الإيرانية في 2023، وقد اعتُقل فيها لعام، الفيلم درس إنساني في السينما، ودرس سينمائي في الإنسانية. هو نصٌّ نظري، بصري، في مدى تركيب الموقف الإنساني البسيط وتعقيده، في حالة كالإيرانية، حيث دولة طاغية تحمل مشاعر الضغينة لشعبها وبالتالي الانتقام، من دون أن يعطب ذلك، بالضرورة، الالتفات الإنساني، الغريزي، لدى الناس، لدى شخصيات هذا الفيلم مثلاً.
للفيلم مشهدان، افتتاحي وختامي مذهلان. الختامي تحديداً، حيث انفتاحه على ما بعده، ما سينال الشخصيات من بعد إسدال الستار، وكان بدقيقتين أو ثلاث دقائق، جعله من تلك المشاهد التي تعلق لسنوات في الأذهان، والتي ستصير مرجعيةً فتعلق لسنوات أكثر وأكثر، في الأذهان والنصوص.
يبدأ الفيلم بحادث بسيط لرجل مع زوجته وطفلته، في سيارته ليلاً، يصدم كلباً، يتركه ويكمل، تقول ابنته إنه قتل الكلب.. لا يكترث الرجل لشيء. لكن الحادث يتسبب بعطل في السيارة فيضطر للجوء إلى مكانٍ لإصلاحها، في الساعات الأولى من الصباح. هناك يعمل رجل سيتعرف على السائق، والأخير رجل أمن إيراني بساق اصطناعية قام بتعذيب إيرانيين بتهمة معارضة النظام، ولا يتأثر، تماماً كما يدهس كلباً ويكمل مسيرَه. تعرّف الرجل إذن إلى صوت الخطوات بساق اصطناعية، فلحق صاحبها وخطفه. حاول دفنه حياً انتقاماً، لكنه تشكك في هويته. ذهب إلى صديق ليتأكد فدلّه على امرأة، مرّا على أكثر من ضحية لهذا الرجل ذي الساق الصدئة، للتأكد. خلالها، ستتصل الطفلة بأبيها فيردّ الخاطف، تبكي بأن أمها ستموت وتستغيث، على أساسها يتصرف الضحايا السابقين، في موقف هو محكٌّ إنساني.
الفيلم المتكامل، أقوى نقاطه السيناريو، تلك الحوارات الطويلة المستدركة واحدها للآخر، المتسارعة المتلاحقة، البسيطة العفوية، التي تبني، طبقةً طبقة، قصةً أخلاقية نموذجية، بحساسية كتابيّة نعرفها عن بناهي. هي أحاديث غير عادية للظرف غير العادي. هي أحاديث يرتفع فيها منسوب التوتر، مشهداً مشهداً. الفيلم بذلك نموذجي في كيف تتقدّم القصة وكيف تتطوّر الشخصيات، لا يحتمل أن تُقطَعَ دقيقةَ منه ولا يحتمل أن تُضافَ أخرى. خلال المشاهدة يخطر لأحدنا أن الفيلم عمل إيراني آخر سيوازي في السنوات المقبلة فيلمَ «طعم الكرز» لعباس كياروستامي في مكانته في تاريخ السينما، وفي مكانة المرجعية التي سينالها فيلم بناهي. سيكون انتقالةً في الهوية السينمائية الإيرانية، في قصصها وشخوصها وتصويرها، في واقعية ذلك وبساطته المركّبة. الفيلم، بعمليات تصويره، تكريس للصورة الإيرانية، تلك الواقعية الأخلاقية، مع نقل لها إلى مستوى آخر. العظمة في القصة الإنسانية لا تكون في الابتكار، بل في تكرار مبتكَر. الفيلم الذي يحكي عن سؤال انتقام الضحية، عن الكارما التي لا تترك ظالماً بحاله، عن إدراك الطفولة البديهي بأنه «قتلَ الكلب»، وتَقابلُ ذلك مع التردد المرتبك للضحايا في التصرّف تشبّهاً بمعذّبهم، الذي، للمناسبة، عُرفت هويته من خلال ساقه التي، للمناسبة أيضا، كانت لفقدانه ساقه في الحرب «من أجل المرشد» كما قال. في سوريا، هذه كارما أخرى لضحايا آخرين.
وليست الإشارة المباشرة لمسرحية الأيرلندي صمويل بيكيت «في انتظار غودو» عبثيةً هنا، وإن كان المغزى منها عبثياً في جدوى انتظار العقاب، عقاب الضحية لمعذبها. عقابٌ النقاشُ المرتبك حولها، لإنسانيته، قد يحوّله إلى غودو (المهدي؟) المنتظَر وغير الآتي، غير الموجود، فيمحو العبثُ الرغبةَ بوجوده. تمحو الحواراتُ، في الفيلم والمسرحية من قبله، المعنى والجدوى. الفرد هنا، لا الخرافة، هو معنى الإنسانية وجدواها، وهو هنا ضحية في محك إنسانيتها، في إغواء انتقامها.
الحادث في «حادث بسيط» (Un simple accident) ليس بسيطاً كما نرى، هو تتابع لحوادث سابقة وأخرى لاحقة محتملة. للحادث البسيط أثر الفراشة. لحظة واحدة، إدراك صوت الساق الصدئة، حملَ حادثاً بسيطاً كان دهساً لكلب يمرّ عنه الرجل، كما مرّ عن حوادث كانت له بسيطة. تعذيب وقتل، في إيران وسوريا.. هي حوادث بسيطة ستتعثر ببعضها لشدتها وكثرتها، وبصدفة كارميّة أو عبثية أو إلهية فلكل منّا تفسيره، الأكيد أنها بحنكة درامية قبل أن تكون صدفة، في البناء على تاريخ يسبق المشهد الأول، وأحداث «بسيطة» لا تنتهي تلحقه، بذلك كله كان الفيلم، وهو علامة فارقة في مسيرة جعفر بناهي السينمائية وفي التاريخ السينمائي لبلاده، كان الفيلم حقاً درساً في الإنسانية، شديد البساطة في تركيبه، وشديد التركيب في بساطته.
كاتب فلسطيني سوري

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

محبو المخرج جعفر بناهي الفائز بسعفة 'مهرجان كان' يستقبلونه في طهران 'دون أية مشاكل'- (فيديو)
محبو المخرج جعفر بناهي الفائز بسعفة 'مهرجان كان' يستقبلونه في طهران 'دون أية مشاكل'- (فيديو)

القدس العربي

timeمنذ 10 ساعات

  • القدس العربي

محبو المخرج جعفر بناهي الفائز بسعفة 'مهرجان كان' يستقبلونه في طهران 'دون أية مشاكل'- (فيديو)

باريس: استقبل محبّو المخرج الإيراني جعفر بناهي، الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي، يوم الإثنين، في مطار طهران من دون أن يتعرّض لأي مضايقات، وفقًا لما أظهرته مقاطع فيديو نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. وبعد سنوات من منعه من مغادرة الأراضي الإيرانية، وإنجازه أفلامًا سرًّا، وقضائه فترات في السجن، حصل المخرج على واحدة من أرقى الجوائز في عالم السينما عن فيلمه 'مجرد حادث'. ورغم مخاوف بعض محبّيه من تعرّضه لمضايقات عند عودته إلى إيران، فقد وصل بناهي فجر الإثنين إلى مطار طهران الدولي من دون أية مشاكل. وأظهرت مقاطع فيديو نشرتها مؤسسة 'دادبان' لمراقبة حقوق الإنسان عبر منصات التواصل، بناهي وهو يُستقبل بهتافات ترحيبية أثناء نزوله من السلم المتحرك إلى منطقة استلام الأمتعة في المطار. Jafar Panahi returns to Iran after being awarded the Palme d'Or at the Cannes Film Festival جعفر پناهی پس از دریافت جایزه نخل طلایی در جشنواره فیلم کن، به ایران بازگشت#JafarPanahi #WomanLifeFreedom #جعفر_پناهی — Farhad (@Farhadgol60) May 26, 2025 وفي أحد المقاطع، سُمع شعار 'امرأة، حياة، حرية'، وهو الهتاف الذي ارتبط بحركة الاحتجاج التي اندلعت عام 2022 عقب وفاة الشابة مهسا أميني في السجن بعد توقيفها لانتهاك قواعد اللباس الصارمة المفروضة على النساء في إيران. وكان في استقباله عند مغادرته المطار نحو 12 شخصًا من محبّيه، بحسب مقاطع فيديو نشرها المخرج الإيراني مهدي نادري على 'إنستغرام'، وعرضتها قناة 'إيران إنترناشونال تشانل'، وهي وسيلة إعلامية إيرانية مقرها خارج البلاد. وقد استُقبل المخرج بالتصفيق والعناق، وقدّمت له باقات من الزهور. وقال مهدي نادري: 'دماء جديدة في عروق السينما المستقلة الإيرانية'. ويأتي هذا الاستقبال على عكس التجاهل البارد من وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية والقيادات تجاه أول سعفة ذهبية تفوز بها إيران منذ فوز فيلم 'طعم الكرز' للمخرج الراحل عباس كياروستمي عام 1997. وكان وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، قد كتب في منشور على منصة 'إكس': 'في عمل من أعمال المقاومة ضد قمع النظام الإيراني، فاز جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية، ما يبعث الأمل في نفوس المناضلين من أجل الحرية في كل مكان'. وردًا على هذا التصريح، استدعت طهران القائم بأعمال السفارة الفرنسية لديها، احتجاجًا على ما وصفته بـ'تصريحات مهينة واتهامات لا أساس لها'، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية 'إرنا'. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، يوم الإثنين: 'أنا لست خبيرًا في الفن، لكننا نرى أن الفعاليات الفنية والفن عمومًا لا ينبغي أن تُستغل لأغراض سياسية'. من جهتها، أشارت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان، إلى أنّ 'استدعاء القائم بالأعمال جاء نتيجة لتصريحات دون المستوى من جهات فرنسية استغلت مناسبة دولية لإطلاق مزاعم كاذبة واستفزازية ضد إيران'. يتناول فيلم 'مجرد حادث' قصة خمسة إيرانيين يواجهون رجلًا يتهمونه بتعذيبهم في السجن، وهي قصة مستوحاة من تجربة بناهي الشخصية خلال فترة سجنه. En 2010 Juliette Binoche rompía a llorar en la rueda de prensa de #CopieConforme en Cannes, al enterarse por una periodista que Jafar Panahi había comenzado una huelga de hambre en prisión. Hoy, 15 años después le ha entregado una Palma de Oro histórica por #UnSimpleAccident — For Your Consideration (@FYC_Oscar) May 24, 2025 (أ ف ب)

"حادث بسيط"... سعفة ذهبية لبناهي الذي يُسائل نفسه
"حادث بسيط"... سعفة ذهبية لبناهي الذي يُسائل نفسه

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

"حادث بسيط"... سعفة ذهبية لبناهي الذي يُسائل نفسه

انطلاقاً من الذاتيّ، يُقدّم الإيراني جعفر بناهي "حادث بسيط" الفائز بالسعفة الذهبية للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) ل مهرجان "كانّ" ، ليؤكّد عبره أنّه ليس ضرورياً أن يسرد المخرج سيرته الذاتية بحذافيرها للتحدّث عن نفسه، إذ يمكن الاكتفاء بمحطات فارقة، ليصنع منها عالمه الصادق والمؤثّر والمشوّق. لذا، يُعتبر جديده فيلماً ذاتياً جداً، يتوجّه به، وبما يطرحه فيه من أسئلة ملحّة وإشكالية، إلى نفسه أولاً، مستلهماً تجربته في الاعتقال والسجن، من دون أن يحيد عن توجيه إدانة صارخة إلى أي سلطة قمعية مسيئة، في بلده وفي غيره. كما فضح الآثار الغائرة التي تعرّض لها من تجاسروا يوماً على التمرّد والاحتجاج ورفض القمع. ربما تبدو الخيوط العامة للحبكة مُتناوَلة بأساليب ومعالجات مختلفة. البشر متشابهون، كذلك تجاربهم وخبراتهم المؤلمة. لذا، ليس للحكاية أهمية بالغة بقدر التأمّل في جرأة بناهي في الطرح السياسي والمواجهة المباشرة والتمعن في خطابه الذاتي، والأسئلة التي يطرحها على نفسه. ومنها، كيفية التصرّف لو كان مكان شخصيات فيلمه، المستلهمة ممّا تعرّض له. إذ يكشف "حادث بسيط"، صراحة وبشكلٍ مُفجع، ما عانته شخصياته المرسومة بإتقان، ويتساءل إن كان ممكناً تبرير استخدامها الأساليب الإجرامية نفسها التي استخدمها مضطهدوهم للتنكيل بهم. السؤال محوري، كدوافع الشخصيات وتصرّفاتها وردود أفعالها، وما ينطوي عليه من أخلاقيات، يطرحه بناهي على نفسه أولا، قبل المشاهدين. فنياً، وبعيداً عما يحمله من قضايا وتأويلات وأسئلة سياسية وأخلاقية شائكة، وعن المباشرة والتناول البسيط للموضوع، يجب ألا يغيب عن البال تناول "حادث بسيط" في سياق سينما مخرجه. هكذا تظهر فيه فروقات كثيرة عن المعتاد، إلى مألوف أيضاً. من بين أفلامه (لم ينجز روائياً خالصاً منذ فترة طويلة)، يُعتبر جديده هذا الأكثر توظيفاً للممثلين غير المحترفين، الذين يقودهم باقتدار، بعد سنوات من عجزه عن القيام بهذا، بحرية. يُلاحظ أيضاً ظهور أكثر من ممثلة من دون غطاء رأس، وهذا تحدّ، بل جرأة تحدّ لقوانين الرقابة في بلده. كذلك، استخدام لقطات طويلة، مُصوّرة في الخارج وليس خلسة كالعادة، أو في شقة أو سيارة أجرة، باستخدام هاتف أو كاميرا مخفيّين. هذا انعكس كثيراً على حرية الاشتغال السينمائي. لتوظيف الصوت أهمية كبيرة، إذ يُلاحظ أنّ أغلب الشخصيات عالية الصوت، ينتابها صراخ دائم أو صياح بعضها ضد بعض. إضافة إلى وقع الأقدام العرجاء ذات الدلالة البالغة التي فجرت القصة، وقادت الأحداث إلى التعقيد فبلوغ الذروة. للأمر وجاهته طبعاً، إذ من يتعرّض للتعذيب معصوب العينين، يكون الصياح والصراخ والصوت المرتفع وسيلته للتعبير، إلى جانب حاسة السمع المرهفة للتواصل مع المحيط. وبالأخص، التعرّف على الوقع المميّز للأقدام، لا سيما الاصطناعية منها. سينما ودراما التحديثات الحية مهرجان كان السينمائي: جائزة لفيلم عن غزة ودعوة لمحاسبة إسرائيل يبتعد النسيج العام للرؤية البصرية، قليلاً، عن المعهود في الأفلام السابقة لبناهي. أما الجديد اللافت للانتباه، فقدرته على صُنع مواقف طريفة، وإثارة ضحكات عبثية غير مفتعلة. مع هذا، لم يحد كثيراً عن سينما التقشّف الخاصة به، وولعه بالتصوير في أماكن مغلقة، وحشر الشخصيات في إطار/مكان ضيق أو محدود. إذ إن مشاهد كثيرة تحصل في عربة "فان" مغلقة، تعكس مساحتها الضيقة والخانقة والمظلمة الكثير من دواخل الشخصيات وردود أفعالها. في "حادث بسيط" (أو "كان مجرّد حادث")، هناك إقبال (إبراهيم عزيزي)، المسؤول الأمني الذي، أثناء عودته إلى منزله ليلاً مع زوجته (أفسانة نجم آبادي) وابنته (دلماز نجفي)، يصدمه كلب، فتتعطّل السيارة. يتمكّن من بلوغ مستودع قريب طلباً للمساعدة. عندها، ينتقل الفيلم فجأة إلى وحيد (وحيد مبصری)، عامل بسيط يعاني آلام الكلى بسبب التعذيب، فيتعرّف إلى إقبال، بل يسمع وقع قدمه الاصطناعية. لأسبابٍ تنكشف تدريجياً، يتبعه إلى منزله. ثم يضربه ويخطفه، ويتجه به إلى الصحراء، ويحفر حفرة لدفنه فيها حياً. لكنّ الأمور تتعقّد في اللحظات الأخيرة، بعد أن يساوره الشكّ في أنّه إزاء الشخص الخطأ، وليس من أشرف على تعذيبه. منذ تلك اللحظة، يكتسب الوقت أهمية جوهرية، إذ يصارع وحيد الزمن في توجّهه إلى أكثر من شخص تعرّض للتعذيب مثله، كي يتأكّد من الأمر. سريعاً، تمتلئ الشاحنة ببعض الضحايا، لكلّ منها قصة مؤثّرة. الجميع تحدوهم، في لحظات مختلفة، الرغبة نفسها في الانتقام ممن اعتدى عليهم شهوراً متواصلة. يتزايد التشويق أكثر، نظراً إلى عجزهم عن التيقّن من الأمر، فهم يجهلون وجهه، ودليلهم الوحيد ساقه الاصطناعية. حتى بعد التيقّن، يتساءلون: هل ينكّلون به، وينتقمون منه، أو يقتلونه؟ أي: هل يتحلّون بأخلاقياته وسلوكياته نفسها؟ يتعيّن الوقوف طويلاً أمام الطرح القوي لبناهي في "حادث بسيط"، لكونه الأكثر مباشرة وجرأة وتحدياً، كما أنّه لم يخلُ من تغيير فني في اشتغاله السينمائي، مقارنة بسابقه "لا دببة" (2022). مع ذلك، هل يعتبر الفيلم أهم ما أنجزه بناهي فنياً في مسيرته؟ تساؤل يثير أسئلة جمّة، يصعب حسمها لاختلاف الأذواق. لكنّه بالتأكيد ليس الأسوأ بين أفلامه. يُذكر أنّ جعفر بناهي، بحصوله على السعفة الذهبية هذه، ينضمّ إلى مخرجين قلائل جمعوا الجوائز الثلاث الكبرى للمهرجانات المُصنّفة فئة أولى، كالإيطالي ميكلأنجلو أنتونيوني، والأميركي روبرت ألتمان، والفرنسي هنري ـ جورج كلوزو. فبناهي، قبل السعفة، فاز بالأسد الذهبي في فينيسيا عن "الدائرة" (2000)، وبالدب الذهبي في برلين عن "تاكسي" (2015).

«حادث بسيط» في كان: جعفر بناهي يصوّر تعقيد الإنسان ببساطة مذهلة
«حادث بسيط» في كان: جعفر بناهي يصوّر تعقيد الإنسان ببساطة مذهلة

القدس العربي

timeمنذ 2 أيام

  • القدس العربي

«حادث بسيط» في كان: جعفر بناهي يصوّر تعقيد الإنسان ببساطة مذهلة

لا يبدأ الحديث عن فيلم الإيراني جعفر بناهي، من دون التصريح بأن العملَ وُلِد كلاسيكياً. من لحظة انتهاء عرضه الأول، بات الفيلم عظيماً. الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، ونال السعفة الذهبية ، والذي أنجزه بناهي بعد خروجه من السجون الإيرانية في 2023، وقد اعتُقل فيها لعام، الفيلم درس إنساني في السينما، ودرس سينمائي في الإنسانية. هو نصٌّ نظري، بصري، في مدى تركيب الموقف الإنساني البسيط وتعقيده، في حالة كالإيرانية، حيث دولة طاغية تحمل مشاعر الضغينة لشعبها وبالتالي الانتقام، من دون أن يعطب ذلك، بالضرورة، الالتفات الإنساني، الغريزي، لدى الناس، لدى شخصيات هذا الفيلم مثلاً. للفيلم مشهدان، افتتاحي وختامي مذهلان. الختامي تحديداً، حيث انفتاحه على ما بعده، ما سينال الشخصيات من بعد إسدال الستار، وكان بدقيقتين أو ثلاث دقائق، جعله من تلك المشاهد التي تعلق لسنوات في الأذهان، والتي ستصير مرجعيةً فتعلق لسنوات أكثر وأكثر، في الأذهان والنصوص. يبدأ الفيلم بحادث بسيط لرجل مع زوجته وطفلته، في سيارته ليلاً، يصدم كلباً، يتركه ويكمل، تقول ابنته إنه قتل الكلب.. لا يكترث الرجل لشيء. لكن الحادث يتسبب بعطل في السيارة فيضطر للجوء إلى مكانٍ لإصلاحها، في الساعات الأولى من الصباح. هناك يعمل رجل سيتعرف على السائق، والأخير رجل أمن إيراني بساق اصطناعية قام بتعذيب إيرانيين بتهمة معارضة النظام، ولا يتأثر، تماماً كما يدهس كلباً ويكمل مسيرَه. تعرّف الرجل إذن إلى صوت الخطوات بساق اصطناعية، فلحق صاحبها وخطفه. حاول دفنه حياً انتقاماً، لكنه تشكك في هويته. ذهب إلى صديق ليتأكد فدلّه على امرأة، مرّا على أكثر من ضحية لهذا الرجل ذي الساق الصدئة، للتأكد. خلالها، ستتصل الطفلة بأبيها فيردّ الخاطف، تبكي بأن أمها ستموت وتستغيث، على أساسها يتصرف الضحايا السابقين، في موقف هو محكٌّ إنساني. الفيلم المتكامل، أقوى نقاطه السيناريو، تلك الحوارات الطويلة المستدركة واحدها للآخر، المتسارعة المتلاحقة، البسيطة العفوية، التي تبني، طبقةً طبقة، قصةً أخلاقية نموذجية، بحساسية كتابيّة نعرفها عن بناهي. هي أحاديث غير عادية للظرف غير العادي. هي أحاديث يرتفع فيها منسوب التوتر، مشهداً مشهداً. الفيلم بذلك نموذجي في كيف تتقدّم القصة وكيف تتطوّر الشخصيات، لا يحتمل أن تُقطَعَ دقيقةَ منه ولا يحتمل أن تُضافَ أخرى. خلال المشاهدة يخطر لأحدنا أن الفيلم عمل إيراني آخر سيوازي في السنوات المقبلة فيلمَ «طعم الكرز» لعباس كياروستامي في مكانته في تاريخ السينما، وفي مكانة المرجعية التي سينالها فيلم بناهي. سيكون انتقالةً في الهوية السينمائية الإيرانية، في قصصها وشخوصها وتصويرها، في واقعية ذلك وبساطته المركّبة. الفيلم، بعمليات تصويره، تكريس للصورة الإيرانية، تلك الواقعية الأخلاقية، مع نقل لها إلى مستوى آخر. العظمة في القصة الإنسانية لا تكون في الابتكار، بل في تكرار مبتكَر. الفيلم الذي يحكي عن سؤال انتقام الضحية، عن الكارما التي لا تترك ظالماً بحاله، عن إدراك الطفولة البديهي بأنه «قتلَ الكلب»، وتَقابلُ ذلك مع التردد المرتبك للضحايا في التصرّف تشبّهاً بمعذّبهم، الذي، للمناسبة، عُرفت هويته من خلال ساقه التي، للمناسبة أيضا، كانت لفقدانه ساقه في الحرب «من أجل المرشد» كما قال. في سوريا، هذه كارما أخرى لضحايا آخرين. وليست الإشارة المباشرة لمسرحية الأيرلندي صمويل بيكيت «في انتظار غودو» عبثيةً هنا، وإن كان المغزى منها عبثياً في جدوى انتظار العقاب، عقاب الضحية لمعذبها. عقابٌ النقاشُ المرتبك حولها، لإنسانيته، قد يحوّله إلى غودو (المهدي؟) المنتظَر وغير الآتي، غير الموجود، فيمحو العبثُ الرغبةَ بوجوده. تمحو الحواراتُ، في الفيلم والمسرحية من قبله، المعنى والجدوى. الفرد هنا، لا الخرافة، هو معنى الإنسانية وجدواها، وهو هنا ضحية في محك إنسانيتها، في إغواء انتقامها. الحادث في «حادث بسيط» (Un simple accident) ليس بسيطاً كما نرى، هو تتابع لحوادث سابقة وأخرى لاحقة محتملة. للحادث البسيط أثر الفراشة. لحظة واحدة، إدراك صوت الساق الصدئة، حملَ حادثاً بسيطاً كان دهساً لكلب يمرّ عنه الرجل، كما مرّ عن حوادث كانت له بسيطة. تعذيب وقتل، في إيران وسوريا.. هي حوادث بسيطة ستتعثر ببعضها لشدتها وكثرتها، وبصدفة كارميّة أو عبثية أو إلهية فلكل منّا تفسيره، الأكيد أنها بحنكة درامية قبل أن تكون صدفة، في البناء على تاريخ يسبق المشهد الأول، وأحداث «بسيطة» لا تنتهي تلحقه، بذلك كله كان الفيلم، وهو علامة فارقة في مسيرة جعفر بناهي السينمائية وفي التاريخ السينمائي لبلاده، كان الفيلم حقاً درساً في الإنسانية، شديد البساطة في تركيبه، وشديد التركيب في بساطته. كاتب فلسطيني سوري

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store