
معركة عمرها 33 سنة.. رفاهية ترامب في مواجهة مياه الكوكب
وكأنها نكتة سياسية أو مشهد من مسرحية ساخرة، ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يوقع على قرار يسمح بإعادة تعريف "رأس الاستحمام"، وهو القطعة التي تركب أعلى "الدُّش"، متحدثا وهو يضحك عن أنه تضرر كثيرا على المستوى الشخصي من هذه القطع المتوفرة بالأسواق، والتي لا تسمح بتدفق أقوى للمياه، مما يضطره للوقوف مدة لا تقل عن 15 دقيقة حتى تصل المياه إلى شعره.
ورغم الأجواء الساخرة التي أسبغها ترامب على هذا المشهد، فإن خبراء تحدثوا للجزيرة نت، عن أن القضية أعمق من محاولة تمريرها عبر بوابة إعادة الرفاهية المفقودة للمواطن الأميركي، حيث تختبئ خلف هذا القرار معركة قديمة بين التوجهات البيئية والسياسات الشعبوية، وفلسفة الحكم التي تفضل "التوجهات المنفردة" على حساب القوانين الاتحادية.
معركة عمرها 33 عاما
وتعود جذور هذه المعركة إلى عام 1992 مع صدور قانون الطاقة الفدرالي، والذي كان يقضي في أحد بنوده، ألا تتجاوز كمية المياه التي تضخها تلك القطع أكثر من 2.5 غالون (9.5 لترات) في الدقيقة، في محاولة لترشيد استهلاك المياه والطاقة.
ولاحظت إدارة الرئيس باراك أوباما تحايل بعض المصنعين على القانون، بأن يحتوي رأس الاستحمام الواحد على عده فوهات، فكانت كل فوهة تعطي ما حدده القانون، لكن في المجمل كان يحدث هدر كبير للمياه بسبب تعدد الفوهات، فتم في عهد أوباما تشديد معايير تطبيق القانون، بحيث إذا احتوى رأس الاستحمام على عدة فوهات، فإن الحد الأقصى (2.5 غالون/دقيقة) يطبق على المجموع الكلي لكل الفوهات، وليس على كل فوهة على حدة.
وفي نهاية الفترة الرئاسية الأولى لترامب في عام 2020، انتقد هذه القيود التي وضعتها إدارة أوباما، والتي تمنعه من الحصول على ماء كافٍ لغسل شعره، وأمر بتعديل اللوائح للسماح لكل فوهة بضخ 2.5 غالون/دقيقة، ما يعني أن رأسا بـ3 فوهات مثلا يمكنه ضخ 7.5 غالونات في الدقيقة.
ومع تولي جو بايدن للرئاسة، تم إلغاء تعديل ترامب، والعودة إلى تعريف أوباما الأكثر صرامة، ووصفت إدارة بايدن حينها معايير ترامب بأنها إضعاف لحماية البيئة، وأكدت أن المواطنين لا يحتاجون لتلك الكمية الكبيرة من المياه.
وقبل أيام أحيا ترامب خلال فترة رئاسته الثانية القضية مجددا، وأعلن إلغاء تعريف إدارة أوباما لرؤوس الاستحمام والعودة للتعريف الأصلي في قانون 1992، والذي يسمح للمصنعين بتصنيع رؤوس تضم أكثر من فوهه، تحقق كل منها ما اشترطه القانون وهو "2.5 غالون في الدقيقة"، ووصف الإجراءات السابقة بأنها جزء من "أجندة خضراء متطرفة"، وأضاف ساخرا "أحتاج إلى 15 دقيقة فقط لأبلل شعري الجميل".
رسائل متخفية
ولا يعد اهتمام ترامب بهذه القطع البلاستيكية أمرا معزولا عن توجه سياسي أوسع يصور اللوائح البيئية على أنها تجاوزات بيروقراطية، ومن خلال انتقاده لما وصفه بالقيود "المتطرفة" على هذه الأشياء، تواصَل مع الناخبين الذين سئموا من الرقابة الفدرالية.
ويقول الدكتور بيتر جليك، خبير سياسات المياه والمؤسس المشارك لمعهد المحيط الهادي، وهو مركز أبحاث أميركي مستقل يُعنى بدراسة قضايا المياه والبيئة والتنمية المستدامة، للجزيرة نت "على المدى القصير، قد تنجح إدارة ترامب في جذب الاهتمام الجماهيري لهذا التوجه الشعبوي الذي يضعف الحماية البيئية، لكن على المدى الطويل، أشعر بالثقة في أن هذه الحماية ستستمر في الحصول على دعم من عامة الناس".
ويشارك خبراء البيئة بيتر جليك رأيه في أن التراجع في حماية البيئة قد يكون محدود النطاق بسبب القرار الأخير، لكنهم اتفقوا على أنه يُرسل رسالة خاطئة.
ويقول بيل ماكيبين، الناشط المناخي البارز والمؤسس المشارك لمنظمة "350 دوت أورج"، وهي حركة دولية معنية بمكافحة التغير المناخي تأسست عام 2008، للجزيرة نت: "يُعتبر الإجراء الأخير لترامب صغيرا نسبيا في قائمة الأشياء غير الضرورية التي يقوم بها الرئيس لرفع درجة حرارة الكوكب، لكن مهما كان صغيرا، فإنه يُسبب ضررا".
ويخشى ماكيبين من أن "توجيه الوعي نحو هذه القضايا الصغيرة، قد يسلب الاهتمام من القضايا الوجودية الخطيرة مثل الاحتباس الحراري، تماما كما لو أن شخصا مريضا بالسرطان، ولكن أكثر ما يشغله هو رائحة فمه".
ووفقا لكاثرين هايهو، كبيرة العلماء في منظمة الحفاظ على الطبيعة (منظمة بيئية عالمية غير ربحية) فإن تغير المناخ يُفاقم بالفعل ندرة المياه، وتقول للجزيرة نت إنه "مع ازدياد فترات الجفاف وشدتها، وزيادة التبخر، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على المياه أينما أمكننا".
وتشير الدراسات والتقارير الحديثة إلى أن تغير المناخ يفاقم بشكل كبير من مشكلة ندرة المياه في الولايات المتحدة، خاصة في المناطق الغربية، فقد حذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة من أن بحيرتي "ميد" و"باول"، وهما من أكبر خزانات المياه في البلاد، وصلتا إلى مستويات منخفضة خطيرة بسبب الجفاف المستمر وتغير المناخ، مما يهدد إمدادات المياه والكهرباء لملايين السكان في 6 ولايات غربية والمكسيك .
كما أظهرت دراسة نُشرت في دورية "نيتشر كلايمت تشينج" أن الجفاف الحالي في الجنوب الغربي الأميركي هو الأشد منذ 1200 عام، وأن تغير المناخ ساهم في زيادة شدته بنسبة 42% بين عامي 2000 و2021 ، وهذا الجفاف أدى إلى انخفاض مستويات المياه في نهر كولورادو، الذي يُعد مصدرا حيويا للمياه لأكثر من 40 مليون شخص، مما اضطر السلطات إلى فرض تخفيضات إلزامية على كميات المياه المخصصة لبعض الولايات.
ويُحذر الدكتور جليك من أن إلغاء معايير رؤوس الاستحمام قد يزيد من تكاليف الاستهلاك ويُفاقم نقص المياه في المناطق القاحلة من أميركا، كل ذلك مقابل مكاسب هامشية قصيرة الأجل.
ويضيف أن "معايير كفاءة الطاقة والمياه الحالية في الولايات المتحدة فعالة للغاية في خفض التكاليف على المستهلكين وتقليل الطلب على كل من الطاقة والمياه، والتراجع عن هذه المعايير سيكون خطأ فادحا".
هل تجاوز ترامب صلاحياته؟
ولا يعتقد خبراء قانونيون أن هذا القرار سيصمد طويلا، إذ يُرجح أن الرئيس ترامب قد تجاوز حدود صلاحياته.
ويوضح مايكل جيرارد، مدير مركز سابين لقانون تغير المناخ، في حديثه للجزيرة نت، أن "إعلان الرئيس ترامب بشأن رؤوس الاستحمام يتجاهل المبادئ الراسخة منذ زمن طويل في القانون الإداري بالولايات المتحدة، حيث يلزم قانون الإجراءات الإدارية لعام 1946 الوكالات الفدرالية باتباع إجراءات موسعة تشمل الإعلان عن التعديلات وإتاحة الفرصة للتعليق العام، قبل أن تتمكن من تبني أو إلغاء أو تعديل أي لوائح تنظيمية".
ويستطرد "لكن الرئيس ترامب يقول الآن إنه يستطيع القيام بكل هذا بمفرده، دون الحاجة إلى المرور بأي من هذه الإجراءات، وهذا الادعاء بامتلاك هذه السلطة، سواء في سياق رؤوس الاستحمام أو أي موضوع آخر، سيُواجَه بالتأكيد بالطعن أمام المحاكم".
ويضيف "لا أعتقد أنه سينجح، لكني لست متأكدا تماما، وإذا نجح، فإن ذلك سيمكن ترامب من إلغاء مجموعة واسعة من البرامج واللوائح التنظيمية، ونظرا لأن ترامب يُعد أكثر رئيس معاد للبيئة في تاريخ الولايات المتحدة، فإن هذا قد يكون ضارا للغاية".
أما فيما يخص قوانين الولايات وتأثير القرار عليها، فيقول "إن هذا الإعلان لا يؤثر كثيرا على القوانين المحلية أو قوانين الولايات، لكن ترامب أصدر أمرا تنفيذيا آخر هاجم فيه العديد من هذه القوانين، ومع ذلك، فهو لا يملك السلطة لإلغائها من طرف واحد، وإذا كان يملكها، فسيكون ذلك أشد خطورة حتى من إلغاء اللوائح الفدرالية بمفرده، ولا أعتقد أن المحاكم ستسمح له بذلك".
مياه أكثر.. فواتير أعلى
وحتى لو صمد الأمر التنفيذي أمام التدقيق القانوني الذي أشار إليه جيرارد، فمن غير المرجح أن يستمر طويلا، ويقول جليك "أشك في أن المُصنعين سيسارعون إلى تصنيع تجهيزات غير فعالة، وحتى لو فعلوا ذلك، سيستغرق تبني المستهلكين لها سنوات".
وقبل المستهلكين، فإن خبراء في تكنولوجيا الأجهزة المنزلية، يرون أن معظم المُصنعين لن يعودوا إلى التصاميم القديمة.
وقال أحد مصادر الصناعة، طلب من الجزيرة نت عدم نشر اسمه "دورات التصميم طويلة، والسوق يُقدر الكفاءة بشكل متزايد، وإذا زاد تدفق المياه، فستكون التكلفة حقيقية، ماليا وبيئيا".
ويحذر جليك قائلا "قد يشهد المستهلكون ارتفاعا في فواتير المياه والطاقة، خاصة في المناطق التي تعاني بالفعل من شح المياه".
إذن، فالأميركيون لن يشعروا فجأة بأن مياه الاستحمام تتدفق كالشلالات، كما يريد ترامب، وإن حدث ذلك مستقبلا، يثق الخبراء أنه "مع تفاقم الجفاف، وارتفاع الفواتير، وارتفاع درجة حرارة المناخ، قد يتساءل الأميركيون عما إذا كان سعي رجل واحد للحصول على شعر أفضل يستحق التكلفة البيئية".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
يضحون بالبشر.. من هم أنصار "تحسين النسل" في أميركا؟
"إن صورة أغنى رجل في العالم وهو يقتل أفقر أطفال العالم ليست جميلة"، قالها مؤسس مايكروسوفت، الملياردير الخيري بيل غيتس عن إيلون ماسك خلال مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز، في وقت سابق من هذا الشهر. وقد أشار غيتس بشكل غير مباشر إلى دور ماسك في تقويض الوكالة الفدرالية للمساعدات الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وهي الوكالة التي تم توجيه مليارات الدولارات عبرها لعقود نحو الحد من الفقر العالمي، والقضاء على الأمراض. لكن ذلك تغيّر، عندما قاد ماسك الحملة لإنشاء وزارة الكفاءة الحكومية غير الرسمية التابعة للرئيس دونالد ترامب (DOGE) لتفكيك الوكالة في فبراير/ شباط. وقال غيتس في مقابلة لاحقة في برنامج (The Late Show with Stephen Colbert)، موسعًا تعليقاته السابقة: إنّه "ما لم نعكس المسار بسرعة، فإننا سنشهد وفاة أكثر من مليون طفل إضافي حول العالم". لكن بغضّ النظر عمّا يراه بيل غيتس أو غيره، فإن استخفاف إيلون ماسك بحياة البشر لا يقتصر فقط على دوره في قيادة وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE). بل إن هذا النهج الفكري لا يخصّ ماسك وحده، بل يُعبّر عن توجّه أوسع داخل إدارة ترامب وعلاقاته مع عدد من المليارديرات. فقد أفسح ترامب المجال لنفوذ مجموعة من أنصار فكر "تحسين النسل"، سواء من التيارات القديمة أو بصيغها المعاصرة. ويؤمن بعض هؤلاء بفلسفة تُعرف بـ"المدى الطويل" (longtermism)، والتي تقوم على فكرة أن بقاء البشرية وامتدادها عبر المجرة بمليارات من البشر مستقبلًا يتطلب قيادة نُخبوية تتخذ قرارات صعبة، من بينها التضحية بأعداد كبيرة من البشر المعاصرين لحماية هذا المستقبل البعيد. وضمن هذا السياق، يشارك ماسك وآخرون في توجيه السياسات الأميركية، داخليًا وخارجيًا، على أسس تجمع بين أفكار "تحسين النسل" و"المدى الطويل"، ما يجعل ملايين البشر عرضة لأخطار فعلية أو محتملة. أبرز رموز تحسين النسل التقليدي في محيط ترامب ربما أبرز مثال على فكر تحسين النسل التقليدي في دائرة ترامب، هو روبرت ف. كينيدي الابن، الذي يشغل حاليًا منصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية (HHS). وهناك موقفان له يُظهران بوضوح تبنّيه فكرَ تحسين النسل في القرن العشرين. أولهما موقفه المعادي للقاحات على مرّ السنين، خصوصًا لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR). ففي التسعينيات، ادعى عدد محدود من العلماء أن هذا اللقاح مسؤول عن ازدياد تشخيص التوحد لدى الأطفال. ورغم أن العديد من الدراسات فنّدت تلك المزاعم، فقد استمر مناهضو اللقاحات أمثال كينيدي في تقويض الثقة العامة في برامج اللقاحات. وقال كينيدي في عام 2015 عن لقاح MMR: "يتلقون اللقاح، وفي تلك الليلة يصابون بحمى تصل إلى 103 درجات، ينامون، وبعد ثلاثة أشهر يتلف دماغهم. هذه محرقة، ما يفعله هذا الأمر ببلدنا". وقد اعتذر لاحقًا عن مقارنته المهينة بين التوحد والمحرقة. الموقف الثاني هو نزعة التمييز ضد ذوي الإعاقة لديه، المتداخلة مع نزعة عنصرية. ففي أبريل/ نيسان، انتقد كينيدي ازدياد حالات التوحد في أميركا باعتبارها أمرًا "يدمر العائلات"، مضيفًا أن الأطفال الذين "تراجعوا.. إلى التوحد.. لن يدفعوا ضرائب أبدًا، ولن يعملوا أبدًا، ولن يلعبوا البيسبول، ولن يكتبوا شعرًا، ولن يواعدوا، والكثير منهم لن يستخدموا المرحاض دون مساعدة". أصرّ كينيدي على تجاهل البيانات العلمية التي تؤكد أن التوحد ليس مرضًا في طور الانتشار، بل إن المجتمع بات يمتلك أدوات أدق وأكثر تطورًا تساعد على تشخيص من هم ضمن طيف التوحد، وهم أشخاص يشارك كثير منهم في الحياة الاجتماعية والعقلية بشكل نشط. وفي السياق نفسه، روّج كينيدي عام 2023 لشائعة مناهضة للقاحات تنطوي على مضمون عنصري وتمييزي ونزعة تآمرية. ففي يوليو/ تموز من ذلك العام، وخلال فعالية لجمع التبرعات لحملته الرئاسية التي أُلغيت لاحقًا، ظهر في مقطع مصوّر زاعمًا أن "كوفيد-19 يستهدف البيض والسود، بينما يتمتع اليهود الأشكناز والصينيون بأعلى درجات المناعة". غير أن هذا الادعاء يفتقر تمامًا إلى أي دليل علمي؛ فلا توجد مؤامرة تستهدف أعراقًا بعينها، كما لا توجد فئة سكانية محصّنة من الفيروس بطبيعتها. ومن الواضح أن تصريحات كينيدي العنصرية تنطوي أيضًا على معاداة للسامية. استخدام بيانات خاصة لأهداف تحسين النسل في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن كينيدي أنه خوّل برنامجَي "ميديكيد" و"ميديكير" بمشاركة البيانات الخاصة مع معاهد الصحة الوطنية (NIH) لإنشاء قاعدة بيانات وطنية للمصابين بالتوحد "لكشف الأسباب الجذرية للتوحد" – والذي يعتبره "مرضًا يمكن الوقاية منه"- بحلول سبتمبر/ أيلول. ويتجاوز هذا التصريح مجرّد الرأي ليذكّر بممارسات دعاة تحسين النسل في القرن الماضي. فقد استخدمت حكومات الولايات الأميركية، والحكومات الفاشية مثل النازية، مثل هذه القوائم لعزل المصابين بالتوحد وغيرهم من ذوي الإعاقات عن المجتمع. في الولايات المتحدة، كانت التعقيم القسري الوسيلة لحماية "نقاء الجينات"، بينما استخدم النازيون القتل الرحيم. من الواضح أن كينيدي يمثل نموذجًا تقليديًا لداعية تحسين نسل معادٍ للقاحات ولذوي الإعاقة وعنصري في آنٍ واحد. تحسين النسل الجديد: فلسفة المدى الطويل غير أن فكر "تحسين النسل" في القرن الحادي والعشرين لم يختفِ، بل أعاد إنتاج نفسه في صورة جديدة تُعرف بفلسفة "المدى الطويل" (Longtermism). هذه الفلسفة تُعد امتدادًا حديثًا لمبادئ "الداروينية الاجتماعية" و"البقاء للأصلح" والحركات الإقصائية التي نشأت عنها. وعلى الرغم من أنها لا تروّج صراحة لفكرة الحفاظ على "عرق أبيض متفوق"، فإنها تتقاطع بوضوح مع منطق تحسين النسل. يؤمن أنصار "المدى الطويل" بأن إنقاذ البشرية من الانقراض يكمن في تطوير الإنسان ذاته وخلق "بشرٍ أفضل" قادرين على حمل مشعل الحضارة نحو المستقبل البعيد. لكن هذا "التحسين" يرتكز على فرضيتين أساسيتين: الأولى أن الرجال البيض من أصحاب الثروة والنفوذ -مثل إيلون ماسك، وبيل غيتس، وجيف بيزوس- هم الأجدر باتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن البشرية جمعاء. والثانية أن عليهم أن يُحدّدوا مَن مِن البشر يُمكنه الاستمرار في استخدام موارد الكوكب، ومن يُفترض التضحية به، إذ يُنظر إلى مليارات من البشر الحاليين على أنهم عقبة محتملة في وجه "مستقبل أفضل" يستحق -في نظرهم- إنقاذه حتى لو تطلب الأمر إقصاءهم. ماسك ونظرية "الانتحار الحضاري عبر التعاطف" كشف ماسك عن قناعته العميقة بشأن من يستحق الحياة ومن لا يستحقها خلال مقابلة مطوّلة استمرت ثلاث ساعات في بودكاست جو روغن في فبراير/ شباط. قال ماسك حينها: "نحن نعيش حالة من التعاطف الانتحاري على مستوى الحضارة.. الضعف الجوهري في الحضارة الغربية يكمن في التعاطف. إنه استغلال للتعاطف. إنهم يستغلون ثغرة في الحضارة الغربية، وهي الاستجابة العاطفية". وبحسب رؤيته، فإن أولئك الذين لا يظهرون تعاطفًا مع "الحضارة ككل" -أي من منظور شامل وبارد- يساهمون، في رأيه، في انتحارها الجماعي. أما "هم" الذين يشير إليهم ماسك وروغن طوال المقابلة، فهم فئات متعددة تشمل: المهاجرين غير النظاميين، الليبراليين البيض، التقدميين، أعضاء الحزب الديمقراطي، وغيرهم من أفراد مجتمع الميم. الضمان الاجتماعي وسياسات شيخوخية قاسية في دائرة أنصار فلسفة "المدى الطويل" ضمن عالم ترامب، يبرز اسم الملياردير التقني بيتر ثييل، الذي يصف نظام الضمان الاجتماعي الأميركي بأنه "احتيال بين الأجيال". هذا التصريح يعكس دعمه الصريح لسياسات ماسك في إطار وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE)، التي تستهدف تقليص برامج الرعاية الاجتماعية، لا سيما تلك المخصصة لكبار السن. كما يُظهر ذلك توجه إدارة ترامب نحو تبنّي سياسات تتسم بالتمييز العمري والوظيفي، تحت غطاء "تقليص الإنفاق الحكومي"، بينما تُعد هذه السياسات في جوهرها امتدادًا لفكر تحسين النسل، حيث يجري التلميح -أو التمهيد- لإقصاء الفئات التي تُعتبر عبئًا اقتصاديًا أو غير منتجة، مثل المسنين وذوي الإعاقات. وهي مقاربة قد تفضي فعليًا إلى تعريض هذه الفئات للهلاك. إعادة تشكيل الحكومة الفدرالية على صورة دعاة تحسين النسل جنبًا إلى جنب مع ترامب، عمل كينيدي وماسك على إعادة تشكيل الحكومة الفدرالية على صورتهم الخاصة كدعاة تحسين نسل. وقد تعاون كينيدي مع DOGE التابعة لماسك لقطع التمويل عن وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ومعاهد الصحة الوطنية، وبرامج اللقاحات، والوقاية من الأوبئة، وأبحاث السرطان، منذ توليه منصبه في منتصف فبراير/ شباط. وهناك حاليًا أمر حظر فعلي يمنع مسؤولي مراكز مكافحة الأمراض من التحدث عن انتشار سلالات إنفلونزا الطيور بين الحيوانات والبشر العاملين في صناعة الدواجن. وعندما تم استجوابه في جلسة استماع بالكونغرس في 14 مايو/ أيار حول عمله كوزير للصحة في تفكيك الوزارة، اعترف كينيدي بأنه "ربما" سيلقّح أطفاله ضد الحصبة في عام 2025. لكنه، في الجلسة ذاتها، عاد وشكّك في لقاح MMR، مما يشير إلى موقفه المتحيز ضد الأشخاص المصابين بالتوحد، بينما تمر الولايات المتحدة، وتحديدًا ولاية تكساس، بأحد أسوأ تفشيات الحصبة خلال الخمسين عامًا الماضية، حيث سُجل أكثر من ألف حالة حتى الآن، معظمها بين الأطفال غير الملقحين، توفي منهم اثنان.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
أكسيوس: هيكلة مجلس الأمن القومي تفكيك للدولة العميقة
اعتبر موقع أكسيوس إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو تنفيذ عملية هيكلة جذرية لـ مجلس الأمن القومي الأميركي خطوة مفاجئة تعكس تحولا عميقا في هيكل صناعة القرار الأمني الأميركي. وأشار الموقع الأميركي إلى أن عملية الهيكلة تشمل تقليص عدد موظفيه إلى النصف تقريبا، ونقل كثير من صلاحياته إلى وزارتي الخارجية والدفاع. ونقل عن مسؤولين في البيت الأبيض قولهم إن هذه الخطوة ستحقق تقليصا للبيروقراطية "المعرقِلة"، وتصفية ما يعتبرونه "الدولة العميقة" التي تضم مسؤولين من أصحاب المناصب الدائمة، الذين لا يشاركون الرئيس رؤيته. وقال أحد هؤلاء المسؤولين لموقع أكسيوس: "مجلس الأمن القومي هو المعقل الرئيسي للدولة العميقة. إنها معركة ماركو ضد الدولة العميقة، ونحن نقوم بتفكيكها". ويأتي هذا التغيير في إطار رؤية إدارة ترامب التي ترى أن الهيكل التنظيمي التقليدي للمجلس –المكوَّن من لجان متعددة- بات معرقلا لاتخاذ القرار، ويجب استبداله بنهج أكثر مباشرة يستجيب بسرعة لتوجيهات الرئيس. روبيو: إعادة الأمور إلى أصلها وقال وزير الخارجية ماركو روبيو ، الذي يشغل أيضا منصب مستشار الأمن القومي بالوكالة، في بيان إن إعادة ضبط حجم مجلس الأمن القومي تتماشى مع هدفه الأصلي ورؤية الرئيس. و"سيكون المجلس في وضع أفضل للتعاون مع الوكالات المختلفة". إعلان وأشار مسؤولون إلى أن الموظفين الذين سيتم الاستغناء عنهم لن يُفصلوا، بل سيتم نقلهم إلى وظائف حكومية أخرى. وفي المقابل، سيتركز دور مجلس الأمن القومي على "التنسيق وتقديم المشورة، لا على تنفيذ السياسة"، بحسب مصادر مطلعة. توافق داخل الفريق الرئاسي ويرى مسؤولون في الإدارة أن تقليص الهيكل البيروقراطي للمجلس لن يكون له آثار سلبية، إذ يسيطر الانسجام والتفاهم على الفريق الحالي. وقال أحدهم: "لدينا فريق متجانس من أمثال روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث ، ووزير الخزانة سكوت بيسينت، والنائب العام بام بوندي، وكلهم يعرفون ما يريد الرئيس وينفذونه دون صراع صلاحيات". وضرب المسؤول مثالا على ذلك بقرار ترامب الأخير بإلغاء العقوبات على سوريا ، حيث تم تنفيذ القرار فورا بتوجيه مباشر من الرئيس إلى الوزراء المعنيين، دون المرور بسلسلة اللجان والهيئات التقليدية داخل المجلس. ووفقا لمصادر داخل الإدارة، فإن ترامب يرغب في بقاء روبيو في موقعه كمستشار للأمن القومي لأطول فترة ممكنة، وهو "الشخص الذي يتخذ القرارات فعليا"، بحسب أحد المطلعين. يُذكر أن روبيو، الذي أشرف في وقت سابق على تقليص وكالة التنمية الدولية ويسعى لتبسيط وزارة الخارجية، عبّر مرارا عن قلقه من تأثير الموظفين الدائمين في مؤسسات الدولة. وسبق أن قال لترامب خلال صياغة السياسة الأميركية تجاه كوبا عام 2017: "ما التزمت به بشأن كوبا لن يأتي من الكادر المهني. عليك أن تُملي ما يجب عليهم فعله". وختم الموقع تقريره قائلا إن هذه التغييرات تشير إلى نية واضحة لدى إدارة ترامب بإحكام قبضتها على عملية صنع القرار الأمني والسياسي، وتجاوز المؤسسات البيروقراطية التقليدية التي يُنظر إليها باعتبارها عائقا أمام تنفيذ أجندة الرئيس.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
إحباط أميركي من موقف أوروبا التجاري مع الصين
صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب توتراته التجارية مع الاتحاد الأوروبي، مهددًا بفرض تعرفة جمركية بنسبة 50% على الواردات الأوروبية ابتداء من 1 يونيو/حزيران المقبل، وفق ما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال. جاء هذا التصعيد وسط إحباط متزايد داخل الفريق الاقتصادي للرئيس الأميركي من نهج التكتل الأوروبي، المكون من 27 دولة، بشأن الضرائب والتنظيمات والسياسات تجاه الصين، تقول الصحيفة. وأعرب مستشارو ترامب ، في محادثات خاصة إلى مسؤولين أوروبيين، عن استيائهم مما وصفوه بـ"بطء التقدم" في المحادثات التجارية، وفق مصادر مطلعة على تفاصيل النقاشات. انتقادات حادة من واشنطن لبروكسل وتشير الصحيفة إلى أن مستشاري ترامب اتهموا الاتحاد الأوروبي بالتردد في تقديم عروض ملموسة تلبي المطالب الأميركية، ومنها الرسوم على خدمات البث، ضرائب القيمة المضافة، قوانين تنظيم صناعة السيارات، والغرامات المفروضة على الشركات الأميركية في قضايا مكافحة الاحتكار. وبينما لم ينجح البيت الأبيض، حتى الآن، في دفع الاتحاد الأوروبي نحو فرض تعريفات على الصناعات الصينية، فإن بريطانيا وافقت أخيرًا على التحرك في هذا الاتجاه في صناعة الصلب، وهي خطوة ساعدت في إنجاز اتفاق التجارة بين واشنطن ولندن، كما أفاد التقرير. وفي الوقت الذي أبدت فيه المفوضية الأوروبية استعدادًا لمعالجة مسألة "اقتصادات السوق" مثل الصين، لم تُترجم هذه النوايا إلى التزامات ملموسة، بحسب المطلعين على سير المفاوضات. تصريحات غاضبة وفي تصريح علني من المكتب البيضاوي، قال ترامب يوم الجمعة: "أنا لا أبحث عن صفقة" مع أوروبا، مؤكدًا عزمه السير في خطة فرض الرسوم الجمركية. وكان قد نشر تهديده صباح الجمعة عبر منصة "تروث سوشيال"، في وقت أبدى فيه مسؤولون أوروبيون تفاؤلًا نسبيًا بتحسن وتيرة المفاوضات أخيرًا. وقال المفوض التجاري الأوروبي ماروش شيفتشوفيتش، عقب مكالمة هاتفية مع الممثل التجاري الأميركي جيميسون غرير ووزير التجارة هوارد لوتنيك، إن الاتحاد الأوروبي منخرط بجدية في المحادثات، لكنه مستعد للدفاع عن مصالحه، مضيفًا أن العلاقة التجارية بين الطرفين "يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل، لا على التهديدات". أوروبا توازن بين الصين وأميركا أوضحت الصحيفة أن المسؤولين الأوروبيين يحاولون اعتماد نهج وسط بين الحزم الأميركي حيال الصين وبين الرغبة في الحفاظ على علاقات اقتصادية مستقرة مع بكين، لا سيما أن الصين تُعد من أكبر أسواق التصدير الأوروبية. وكانت بروكسل قد أرسلت مقترحات لتخفيض الرسوم الصناعية المتبادلة وزيادة واردات الطاقة وفول الصويا الأميركي، لكنها غادرت واشنطن في أبريل/نيسان دون نتيجة ملموسة. وقال ناطق باسم المفوضية آنذاك: "الاتحاد الأوروبي قام بدوره، وحان الآن الوقت لأن تحدد الولايات المتحدة موقفها". وفي حين تطالب واشنطن شركاءها التجاريين بفرض تعريفات على المنتجات الصينية للحد من سياسات الدعم الصناعي من بكين، فإن الرد الأوروبي كان بطيئًا، رغم أن الاتحاد وافق سابقًا على تعريفات بقيمة 21 مليار يورو (24 مليار دولار) على واردات أميركية، لكنه جمّد تنفيذها بعد إعلان واشنطن عن هدنة تفاوضية مدتها 90 يومًا. كما كشفت الصحيفة، أن الاتحاد الأوروبي وضع قائمة ثانية محتملة لفرض رسوم تصل قيمتها إلى 95 مليار يورو (نحو 102 مليار دولار)، في حال فشلت المحادثات مع الولايات المتحدة. تباين في أسلوب التفاوض أحد أبرز أسباب الخلاف، بحسب الصحيفة، هو التباين الكبير بين النهج الأميركي المباشر والنهج الأوروبي المتدرج. فبينما يسعى ترامب لإعلان اتفاقات سريعة، تتبع المفوضية الأوروبية عملية تفاوضية بطيئة تشمل مشاورات موسعة مع جميع الدول الأعضاء، ما يطيل أمد التوافق. وفي تعليقه على التهديد الجمركي الأميركي، قال دبلوماسي أوروبي: "من الصعب بناء سياسة على منشور على تروث سوشيال"، بينما صرح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسينت لشبكة فوكس نيوز، أن الهدف من التهديد هو "دفع الأوروبيين إلى التحرك".