
«دريدا» وتفكيك المعنى
لا تحظى التفكيكية بفكرة مألوفة إزاء المعنى كغيرها من المقاربات، فعندما ننطلق من المقاربة التداولية -على سبيل المثال- فستكون مسؤولية المعنى أمرًا مُشتركًا بين المتكلم والمتلقي، وإن عُدنا إلى البنيوية قبلها فسيتّخذ المعنى اتجاهًا أُحاديًّا من الدالِّ إلى المدلول دون أدنى اعتبار للمكونات غير اللغوية، حيث سيكون من مسؤولية اللغة ذاتها..
لكنّ الأمر يبدو مختلفًا مع تفكيكية (جاك دريدا) المحسوبة على تيّارات ما بعد البنيوية، فالمعنى هنا يُوهَبُ للقارئ -أيِّ قارئٍ- بناءً على تجربته الثقافيّة، ويُسلب من مُنتجِه ومؤلِّفه، فالأمرُ يُضاهي أفكارًا متحوّرةً لا تموت وإن تماهت في بُعدٍ هامشي لا مُتناهٍ، إذ لا قيمة للمعنى المركزي، بل للسّيطرة الثقافية الفردانيّة الآنيّة أو المستقبلية بصفته نصًّا يظلُّ مفتوحًا وعابرًا للقارات وغير خاضعٍ للقارئ الواحد أو التفسير الواحد أو الطَّور الواحد، وبناء عليه فلا قيمة أيضًا لتأثيل الأصول اللغوية على اعتبار مراعاة أطوارها الدلالية؛ حيث تُعدم العلامة اللغوية. فالمعنى حاضر بين يدي مفسِّره يأخذه حيثما أراد عبر دلالات هامشيّة وإن بدت هشّةَ التساوق الذي تكمن قيمته لاحقًا في ما يلي التفكيك والهدم؛ ممّا يؤدّي إلى إنتاج قراءاتٍ مُتباينة ومُتناقضة الدلالة من متلقٍ لآخر.
لقد رفض دريدا النَّزعات اللغوية الإثنيّة والمركزيّة التي تُقصي المختلف، فثنائيّة النخبويّة في مقابل الشعبويّة تُمثّل تراتبيّة هرميّة ينبغي تفكيكها؛ حيث إنّها تعكس تعالقاتٍ سُلطويّة على حساب ما هو جوهري. الأمر الذي دعا دريدا إلى تفكيك ثنائياتٍ أخرى مثل الخير والشر، والحضور والغياب، والعدل والظلم، وكلّ ما من شأنه أن يُعلي من قيمة شيئٍ على حساب آخر، فلربما كان العدل -على سبيل المثال- مُرتكِزًا على إعادة صورةٍ نمطيّة عنصريّة دون وعي.
لم يكن دريدا لينظر إلى المكوّنات الهامشية بصفتها نسقًا من خارج الثقافة وإنّما مكونٌ جوهريٌّ من بنيتها؛ إذ لا ثابت ولا مُتجانس في الهويّة، فكلُّ ما يُستبعد في الخطاب الثقافي السائد يصبح ذا أولويّة. على أنّ ما هو هامشيٌّ لديه لا يشي بنقطة ضعف بل باستراتيجيّة نقديّة تكشف عن مكامن الهيمنة الثقافية.
ومؤدّى ذلك أنّ الثقافة ليست نظامًا مُغلَّفًا بمعانٍ ثابتة، وإنّما متوالية من الدوالِّ التي تُميَّز معانيها عبر الاختلاف. فكلّ دالٍّ لا يقود إلى معنى مطلق، بل يتشكّل عبر تمايزه عن دوالَّ أخرى، مع إرجاءٍ دائمٍ للمعنى. فثمّة اختلاف قائمٌ في تباين العلامة اللغويّة، وثمّة إرجاءٌ حالٌّ في سياقاتٍ غير مستقرة. وهذا ما جعل دريدا يشتغل بتفكيك الثنائيّات والافتراضات المسبقة والميتافيزيقيّة الكامنة في الخطاب.
وبالنظر إلى السياق سواءً أكان سياقًا لغويًّا أم سياقًا خاصًّا أم سياقًا مُوسَّعًا، فإنه يبقى سياقًا مُتغيّرًا غير مستقر، وعليهِ فإنّ المعنى هو الآخر يبقى غير مستقر. فالعبارات لا تُحيل إلى العلامات اللغوية فيها ولا إلى مرجعيّة ثقافيّة مُحدّدة وثابتة، وليس بالضرورة أن نفهم محتواها القضوي كما يبدو لنا من سياقها ومعناها المركزي، بل لربما مستقبلاً يصبح معناها مُنصبًّا على ما هو هامشي، ولا ضير لديه، فلن يتطلّب الأمر سوى التشبّث به، وتقويض فكرته المركزيّة. وكأنّ الرّمز لا يعكس قيم المجتمع وتحدّياته، بل يُولي اهتمامًا للنّزعات الفردانيّة، فيُترك الرمز حقلاً مفتوحًا للتأويل وفق صراعات كلّ عصرٍ وأسئلته الوجوديّة الفردانيّة.
والخلاصة فإنّ التفكيكيّة تقوم على إقصاء المرجعية الخارجيّة، وسلب قيمة القصد، وترك المعنى فضفاضًا لكلِّ مُتلقٍ، وإعدام العلامة اللغوية، والتشكيك في النّص بحثًا عن متناقضات، ثم الهدم للتشبث بالمعنى الهامشي على حساب المعنى المركزي، ومن ثم إعادة البناء من جديد وفق تصوّرات ثقافيّة جديدة، غير أنّها لا تتوقّف عند هذا الحدّ فحسب، فثمّة إرجاء آخر للمعنى في رحم الأيام وفقا لمعطيات الواقع الثقافي المستقبلي الجديد، مع تفكيك السياق وإعادة خلقه هو الآخر من جديد. فهي وبكلّ بساطة -ومن وجهة نظري الشخصيّة- نظريةُ اللا معنى واللا حقيقة.
لقد قادت تفكيكيّة دريدا إلى تحوّلات جذريّة في الفلسفة اللغويّة والنّقد الثقافي ودراسات الأجناس، لتُصبح إحدى مقاربات مرحلة ما بعد الحداثة ذات التأثير في الحالة الثقافية واللغويّة بل والفلسفيّة، فساعدت منهجيًّا في إبداع آليّة غير مألوفة في تعدّديّة تأويلٍ غير متناهية، وكلّ ذلك بزعم مقاومة الهيمنة الثقافية عليه.
ومع ذلك، فلربما أنّ التفكيكية لا تهرب من المعنى، لكنّها تهربُ إلى تعقيده وفوضويّته عبر تمثّلاتٍ غير منطقيّة وغير متَّسقة، فهي تتخلّق بما هو غير مركزي على افتراض أنّها تشتغل بالجوهر. وتُظهر أنّ اللغة ليست نافذة شفّافة على الواقع، بل نظامًا من العلامات المتشابكة التي تُنتج المعنى عبر تفاعلاتها واختلافاتها. وبذلك تُعيد التفكيكية تعريف المَهمَّة اللغويّة والفلسفية باعتبارها كشّافًا دائمًا لعدم الاستقرار الذي يكمن في هامش كلِّ مُفردةٍ أو جملةٍ أو نصٍّ أو خطاب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أرقام
منذ ساعة واحدة
- أرقام
مجلس إدارة تالكو يدعو المساهمين لحضور اجتماع الجمعية العامة العادية (الاجتماع الأول)
جارٍ تحميل البيانات... يرجى ملاحظة أن هذا الملخص الإخباري تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي، لذا ينصح بمراجعة المصادر الأصلية للحصول على التفاصيل الكاملة والتأكد من دقة المعلومات.


الشرق الأوسط
منذ 15 ساعات
- الشرق الأوسط
المقاتلون الأجانب... اختبار سوريا والمجتمع الدولي
«يهبنا الله اللوز، لكن لا يُقشّره لنا»، هذه الحكمة تختزل لحظة سوريا الجديدة: فرصة تاريخية، لكنها مشروطة، معقّدة لكنها ليست مستحيلة وتحتاج إلى تجاوز لغة التعميم والتبرير ومحاولة ترحيل المعضلة إلى مقاربات لا تنتمي إلى منطق الدولة ومفهومها بل إلى مفاهيم وثقافة المناخات الثورية أو «الجهادية» مثل الأنصار والوفاء لرفاق الأمس، والهدنة إلى أن يحين التمكين... إلخ. سوريا على موعد استحقاق كبير وفرصة كبيرة بعد أكثر من عقد على الحرب، وسقوط النظام السابق في ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ يجد السوريون أنفسهم أمام أكبر مفترق سياسي منذ بداية الثورة. فالمجتمع الدولي، وبدعم فاعل من دول الاعتدال العربي وفي مقدمتها السعودية، ينحاز اليوم بوضوح إلى فرصة بناء دولة سورية موحّدة، ومستقرة، تُعيد تشكيل نفسها ضمن محيطها العربي، بعد سنوات من العزلة والتدويل. الرهان كبير، والثقة ممنوحة لقيادة جديدة، انطلاقاً من أن الثمن، سياسياً وأمنياً واجتماعياً، باهظ في حالة الفشل، لذلك منحُ الفرصة كان الخيار السياسي الواقعي. ومع أن شروط رفع العقوبات وإعادة الإعمار والاستثمارات معروفة، إلا أن أكثرها تعقيداً وخطورةً هو ملف المقاتلين الأجانب. المقاتلون بشكل أساسي باتوا عبئاً متعدد المستويات: أمنياً، وقانونياً، واجتماعياً، وثقافياً. إذ لم تشهد ساحة صراع في العصر الحديث تجمّعاً دولياً للمقاتلين الأجانب كما حدث في سوريا منذ 2012، حين تحوّلت البلاد إلى نقطة جذب لعشرات الآلاف من المقاتلين من أكثر من مائة دولة -سنة وشيعة- انخرطوا في الصراع على جانبي الجبهة، وحملوا معهم أجندات تتجاوز حدود الوطن السوري. اليوم، وبعد نهاية المعركة العسكرية، تُطرح أسئلة وجودية لمستقبل سوريا: ما مصير هؤلاء المقاتلين؟ كيف يمكن معالجة تداعيات وجودهم؟ وهل يمكن أن تستعيد سوريا وحدتها وهويتها في ظل وجود جيوش عقائدية لا تدين بالولاء للدولة؟ ترك الملف بلا حل ليس خياراً. فبعد حرب أفغانستان، عاد «الأفغان العرب» ليؤسّسوا تنظيم «القاعدة». وفي البوسنة، خلّف العشرات من المقاتلين الأجانب جيوباً ثقافية متطرفة، أثّرت في هوية الإسلام البوسني المعتدل. وفي العراق أسهم عائدو «الجهاد» في ولادة «دولة (داعش)» لاحقاً، في حين العراق واليمن ولبنان عالقة في ميليشيات شيعية تتلبس شكل الدولة وتؤثر في استقرارها. في سوريا المشكلة مضاعفة؛ هناك مقاتلون ما زالوا ينتشرون في الشمال أقرب إلى فكر «داعش»، ومقاتلون ضمن فصائل يدينون بطريقة شكلانية إلى جسد الفصيل الأكبر «هيئة تحرير الشام»، لكن ولاءهم مشروط بالآيديولوجيا، إضافة إلى بداية الانشقاقات الفكرية من الهجوم الشرس لإعلام «داعش» في آخر عدد وبشكل مباشر تجاه الرئيس ثم لشخصيات من رموز «السلفية الجهادية»، منهم أبو محمد المقدسي، عدا الكثير من المتن «الجهادوي» على وسائل التواصل الذي يشعر بالقلق تجاه ما يجري، والمؤثرون منهم طوائف شتى، كل منهم يحمل تصوراً خاصاً عن «الشرعية»، ويتصرف بوصفه صاحب فضل في النصر أو التضحية. هذا الواقع يفرض على الإدارة السورية ثلاثة خيارات. أولاً: الترحيل الكامل، ويعني إخراج كل المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، بدعم أممي، بوصفه شرطاً أساسياً لإعادة الشرعية الدولية؛ لكنه خيار محفوف بالعقبات، فالكثير من الدول ترفض استعادة مواطنيها، والبعض فقد جنسيته أصلاً. كما أن عمليات الترحيل قد تكون شرارة جديدة للفوضى، ما لم تقترن بخطة أمنية دقيقة. ثانياً: الدمج المشروط، ويقوم على التمييز بين من ارتكب جرائم جسيمة ومن يمكن استيعابه، خصوصاً من تزوج داخل سوريا أو عاش فيها سنوات. لكن هذا السيناريو يواجه تحفظات داخلية، ويتطلّب قدرة أمنية وقانونية عالية، وبرامج تأهيل شاملة؛ لكن بالطبع هذا الحل صعب جداً في ظل وجود مناصب قيادية للمقاتلين الأجانب وهيكلية مبنية على التراتبية التنظيمية والولاء الجزئي للفصيل. ثالثاً: المماطلة ومعالجة الفوضى وهو السيناريو الأخطر، فإذا فشلت الدولة في معالجة الملف، يتحول المقاتلون إلى قوة موازية تهدّد السلم الأهلي، وتستدرج تدخلات إقليمية، خصوصاً على حدود العراق ولبنان وتركيا. وقد تتحول سوريا إلى مسرح دائم لإعادة تدوير التنظيمات المسلحة العابرة للحدود. الآن الأمر واضح، ليس فقط لأن المجتمع الدولي يترقّب، بل لأن الداخل السوري بحاجة إلى دولة تعيد الاعتبار إلى المواطنة، وتنهي منطق «الولاء العابر للحدود» والشعارات الشمولية المبنية على ثنائيات طائفية أو جهوية أو حتى تاريخية تستدعي أمجاداً متخيلة، فضلاً عن ثقافة التطرف التي يمكن بعيداً عن حالة العسكرة أن تؤدي إلى تجريف الإسلام المعتدل لصالح مجتمع راديكالي محتقن وقابل للانفجار في أي لحظة. إن علاج ملف المقاتلين الأجانب يجب ألا يكون رد فعل أمنياً فقط، بل جزءاً من رؤية متكاملة لإعادة بناء الدولة والمجتمع، قائمة على العدالة، والمحاسبة، والمواطنة، والاستفادة من تجارب الدول التي خاضت معركة طويلة وشرسة ضد الإرهاب، وفي مقدمتها السعودية، التي أدركت مبكراً أن المعركة مع الفكر لا تقل أهمية عن المعركة مع السلاح. سوريا اليوم، بغض النظر عن الإدارة السياسية، أمام لحظة تأسيس ثانية، والنصر الحقيقي الذي بدأ بإسقاط النظام يتطلّب استدامة وجهداً سورياً مضنياً تشارك فيه كل المكونات والخبرات السورية لإقامة دولة مواطنة لا تحمل في باطنها بذور تفككها... البدء من ملف المقاتلين الأجانب هو الامتحان الأهم لإثبات أن سوريا قادرة على الانحياز إلى نفسها، قبل أن ينحاز إليها المجتمع الدولي الذي هو على استعداد لتقديم تنازلات كبيرة وفرص أكبر.


أرقام
منذ 20 ساعات
- أرقام
تغيرات ملكية المستثمرين الأجانب بالسوق السعودي يوم الخميس 15 مايو.. ارتفاع الملكية في 91 شركة وانخفاضها في 152 شركة
جارٍ تحميل البيانات... يرجى ملاحظة أن هذا الملخص الإخباري تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي، لذا ينصح بمراجعة المصادر الأصلية للحصول على التفاصيل الكاملة والتأكد من دقة المعلومات.