logo
الاقتصاد الأردني: كفاءة وعدالة مختلة

الاقتصاد الأردني: كفاءة وعدالة مختلة

السوسنةمنذ 6 أيام
في خضم المشهد الإقليمي المتغير والضغوطات المالية المتصاعدة التي تواجه الدول محدودة الموارد، يبدو الاقتصاد الأردني عالقًا في معضلة مزدوجة، تتمثل في غياب الكفاءة التشغيلية وانعدام العدالة الاجتماعية. ليست هذه المعضلة وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات لسنوات من السياسات المتعثرة والإدارة غير الفعالة، التي أفرغت الاقتصاد من مضمونه وأضعفت أثره على المجتمع، وأبقته في حالة من الدوران في الحلقة المفرغة بين الوعود الرسمية والواقع المتردي. فالاقتصاد لا يُقاس فقط بالأرقام والنسب، بل بقدرته على أن يكون منصفًا وعادلاً، وفعّالًا في آنٍ واحد. فحين تغيب العدالة، وتغيب معها الكفاءة، يصبح النمو مجرد رقم تجميلي يخفي تحته فشلًا أعمق وأخطر.الكفاءة التشغيلية هي حجر الأساس لأي اقتصاد ناجح، فهي لا تعني فقط استغلال الموارد المتاحة إلى أقصى درجة، بل استخدامها في الاتجاه الصحيح، وبتكلفة معقولة، ومن خلال أيدٍ نظيفة وكفؤة. غير أن الواقع في الأردن يعكس صورة معاكسة تمامًا. فنحن أمام مشهد يتسم بتضخم في عدد المؤسسات المستقلة، واستنزاف للموارد العامة، وغياب شبه تام لمؤشرات الأداء والمساءلة. يتم تعيين الأشخاص في المناصب الحساسة على أساس الانتماء لا الخبرة، وتدار الموارد وكأنها ملك شخصي لا مال عام، وتُمنح الامتيازات بلا إنتاج، في حين يُحرم أصحاب الكفاءة من فرص التأثير والمشاركة. في هذا المناخ لا يمكن لأي اقتصاد أن يحقق نموًا حقيقيًا، لأن العصب الحي للإنتاج والتقدم – أي الإنسان الكفؤ – مستبعد ومُقصى.أما العدالة الاجتماعية، فهي الغائب الأكبر عن المشهد الاقتصادي والسياسي. فهي لا تعني توزيع الأموال بالتساوي، بل توفير الفرص على أساس الجدارة، وإعطاء كل مواطن حقه في أن يحلم وأن يسعى، وأن ينجح إذا اجتهد، بغض النظر عن أصله أو صلته أو مكان ولادته. لكن في الأردن، باتت الوظيفة حكراً على فئة معينة، يُورث فيها المنصب كما تُورث الأرض، وتُحرم منها الكفاءات الشابة لمجرد أنها لا تملك ظهرًا سياسيًا أو عائليًا. شباب من الطبقات المسحوقة ينتظرون سنوات طويلة دون أن يحصلوا على فرصة، بينما أبناء المتنفذين يتنقلون بين المناصب بسهولة وكأن الدولة مزرعة خاصة لهم. هؤلاء المهمشون يُستدعون فقط عند الحاجة للتصفيق والتزيين والتطبيل والتزمير، ويُستغلون إعلاميًا وشعبويًا، بينما هم في الحقيقة لا يملكون قوت يومهم، ويشيخ بعضهم دون أن يظفر بوظيفة تحفظ له كرامته.ومن أكثر صور الظلم الاقتصادي فجاجةً، تلك الفوارق المرعبة في الرواتب والدخول. ففي الوقت الذي يتقاضى فيه بعض المدراء العامين في مؤسسات مستقلة رواتب تتجاوز 375 ألف دولار سنويًا، أي ما يعادل أكثر من ربع مليون دينار ((وهذا قد يفوق راتب أعظم دوله على وجه الأرض)) ، نجد أن الغالبية العظمى من المواطنين يعيشون على رواتب قد تقل عن 300 دينار شهريًا. لا يمكن بأي معيار اقتصادي أو أخلاقي تبرير هذا التفاوت، لأنه لا يعكس فروقات في الإنتاج أو الأداء، بل يعكس خللاً في منظومة التوزيع، وغيابًا للعدالة، وتواطؤًا صامتًا من الدولة مع قوى النفوذ.ولا تقتصر هذه الفجوة على الطبقات، بل تمتد لتأخذ طابعًا جغرافيًا شديد الخطورة. إذ تُركّز معظم المشاريع الحكومية والبنى التحتية والخدمات المتقدمة في العاصمة عمان(اكلتنا حتى العظم)، بينما تُهمل المحافظات الأخرى إهمالًا يُخيّل للبعض ممنهجًا ومقصودًا. مدن مثل الكرك وأربد ….والطفيلة ومعان.. وعجلون والمفرق والبتراء وغيرها، تعاني من ضعف الاستثمار، وقلة الخدمات، وغياب فرص التشغيل، وكأنها لا تنتمي إلى الخريطة الاقتصادية للدولة. في المقابل، تُضخ المليارات في عمان، وتُعاد هيكلة موازنات الوزارات على مقاس العاصمة، وتُبنى المشاريع الكبرى حيث تسكن النخب، لا حيث تتطلب الحاجة. هذه ليست فقط سياسة غير عادلة، بل هي وصفة لانفجار اجتماعي صامت يتنامى يومًا بعد يوم، ويؤسس لتفكك اجتماعي داخلي خطير.والأدهى من كل ما سبق أن هناك مؤسسات أُنشئت تحت شعارات وطنية نبيلة، لكنها تحولت إلى مراكز امتيازات مغلقة، تستنزف ميزانية الدولة دون مردود حقيقي. أصبحت هذه المؤسسات أشبه بصناديق مغلقة محمية بالقانون، تُصرف فيها الرواتب والمكافآت والتعويضات بأسقف خيالية، وتُدار بلا مساءلة حقيقية، ولا تخضع لتقييم أداء فعلي، في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة إلى كل دينار لتعزيز الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها. هذا النوع من المؤسسات لا يمثل مجرد عبء مالي، بل هو تعبير صارخ عن نموذج اقتصادي مغشوش، يفصل بين الوطنية كخطاب، وبين الوطنية كممارسة ومسؤولية.إذا أردنا تجاوز هذا المأزق التاريخي، فلا بد من إعادة بناء الاقتصاد الأردني على قاعدة مزدوجة من الكفاءة والعدالة. الكفاءة تقتضي إنهاء سياسة الترضيات، واعتماد مبدأ الجدارة والشفافية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس الفاعلية لا النفوذ. والعدالة تقتضي إعادة النظر في توزيع الثروات والموازنات والفرص، وضمان وصول الخدمات والتنمية إلى جميع مناطق المملكة على قدم المساواة. ولا يمكن الحديث عن أي إصلاح حقيقي إذا استمرت السياسات التي ترسخ الامتيازات بدلاً من المساواة، وتكافئ الولاء على حساب الكفاءة، وتُهمل الأطراف لصالح المركز. ((إن الاقتصاد ليس مجرد سوق أو ميزانية أو أرقام، بل هو عقد اجتماعي بين الدولة والمواطن.)) فإذا تمزق هذا العقد، ضاعت الثقة، وساد الشعور بالظلم، وتآكل الانتماء.وطالما أكد جلالة الملك عبد الله الثاني أن العدالة الاجتماعية ركن أساسي في بناء الدولة، ودعا مرارًا إلى تمكين الشباب وتكافؤ الفرص ومحاربة الواسطة والمحسوبية. هذه التوجيهات الملكية تعكس حرص القيادة على إصلاح حقيقي يُترجم إلى سياسات تُنصف المواطن وتعزز الثقة بالدولةالمرحلة المقبلة تتطلب جرأة سياسية وإرادة حقيقية، تتجاوز الحسابات الضيقة، وتتبنى مشروع إصلاح اقتصادي وطني شامل، يقوم على إنصاف الإنسان، واحترام عقله وجهده، ورد الاعتبار للعدالة والكفاءة معًا. فبدون ذلك، سيبقى الاقتصاد الأردني يدور في حلقة الفقر والتفاوت والتهميش، وسيظل المواطن يصرخ في صمت، بينما يزداد الأغنياء غنى، ويزداد الفقراء بؤسًا، إلى أن يُقال: كان هنا وطن.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المومني: 13 مستثمرا حصلوا على الجنسية خلال الربع الثاني...
المومني: 13 مستثمرا حصلوا على الجنسية خلال الربع الثاني...

الوكيل

timeمنذ 19 دقائق

  • الوكيل

المومني: 13 مستثمرا حصلوا على الجنسية خلال الربع الثاني...

01:18 م ⏹ ⏵ تم الوكيل الإخباري- قال وزير الاتصال الحكومي، الناطق الرسمي باسم الحكومة محمد المومني، إن 13 مستثمرا حصلوا على الجنسية خلال الربع الثاني من العام الحالي. اضافة اعلان فيما بلغ عدد المستثمرين الحاصلين على الجنسية خلال الربع الأول، 17 مستثمرًا، بحجم الاستثمار بلغ نحو 32 مليون دينار، وفرت نحو 600 فرصة عمل أردني. قال وزير الاستثمار مثنى غرايبة، إن 561 مستثمرا حصلوا على الجنسية الأردنية منذ 2018، مشيرا إلى أن المستثمرين السوريين والعراقيين الأكثر حصولا على الجنسية الأردنية. وأوضح أن التعديلات الجديدة على أسس منح الجنسية للمستثمرين لزيادة فرص العمل وزيادة القيمة في الاقتصاد الأردني. وبين غرايبة، قرار تشجيع الاستثمار سيحفز أسواق البورصة، ولن يتسبب بتضخم بورصة عمان، مضيفا أن القرار سيرفع من الحركة في سوق عمّان المالي.

الضمان: التقاعد المبكر يهدد الاستدامة المالية و63% من المتقاعدين اختاروه
الضمان: التقاعد المبكر يهدد الاستدامة المالية و63% من المتقاعدين اختاروه

جو 24

timeمنذ 19 دقائق

  • جو 24

الضمان: التقاعد المبكر يهدد الاستدامة المالية و63% من المتقاعدين اختاروه

جو 24 : حذر الناطق الرسمي باسم المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، محمود المعايطة، من التزايد الملحوظ في توجه العاملين نحو التقاعد المبكر، على حساب تقاعد الشيخوخة، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة باتت تؤثر بشكل مباشر على الاستدامة المالية للمؤسسة. وأكد المعايطة في حديث لـ"المملكة" صباح الثلاثاء، أن "عدد المؤمن عليهم تحت مظلة الضمان الاجتماعي بلغ مليونًا و600 ألف شخص، فيما بلغ عدد المتقاعدين 261 ألفًا، من بينهم 160 ألف متقاعد اختاروا التقاعد المبكر، أي ما نسبته 63% من إجمالي المتقاعدين". وأشار إلى أن فاتورة الرواتب التقاعدية الشهرية للمؤسسة تجاوزت 161 مليون دينار خلال شهر حزيران الماضي، ما يشكل ضغطاً مالياً كبيراً، خصوصاً مع ازدياد أعداد المتقاعدين مبكرًا. وبيّن المعايطة أن بعض مؤسسات القطاع الخاص تلجأ إلى التقاعد المبكر كحل للتخفيف من كُلف الرواتب المرتفعة، حيث يتم إنهاء خدمات بعض الموظفين ودفعهم للتقاعد قبل بلوغهم السن القانونية، كما أن بعض العاملين أو العاملات أنفسهم يتجهون للتقاعد المبكر وهم في قمة عطائهم الوظيفي بين سن 45 و50 عامًا. وشدد على ضرورة إجراء تعديلات على تعليمات التقاعد المبكر، مشيرًا إلى أنها ستكون ضمن مخرجات الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة، والمقرر إطلاقها في شهر تشرين الثاني المقبل، مؤكدا أنها ستُعرض بشفافية كاملة أمام الرأي العام. وأعلن المعايطة أن من بين التعديلات الحالية، السماح للمتقاعد مبكرًا بالعودة إلى سوق العمل بعد مرور 24 شهرًا على تقاعده، شريطة ألا تتجاوز 1000 دينار شهريا. ودعا المعايطة جميع العاملين والعاملات إلى التروي قبل اتخاذ قرار التقاعد المبكر، لما له من أثر سلبي على قيمة الراتب التقاعدي مستقبلاً لهم، مشددًا على أهمية الوعي بآثار هذا القرار على المدى البعيد. تابعو الأردن 24 على

نقابة المحامين تقرر تسيير قافلة مساعدات إلى غزة بقيمة...
نقابة المحامين تقرر تسيير قافلة مساعدات إلى غزة بقيمة...

الوكيل

timeمنذ ساعة واحدة

  • الوكيل

نقابة المحامين تقرر تسيير قافلة مساعدات إلى غزة بقيمة...

الوكيل الإخباري- قرر مجلس نقابة المحامين تسيير قافلة مساعدات غذائية إلى قطاع غزة بقيمة 100 ألف دينار من حساب دعم الصمود. اضافة اعلان كما قرر المجلس، إرسال مواد ومستلزمات طبية إلى المستشفى الميداني للقوات المسلحة الأردنية في غزة بقيمة 50 ألف دينار، وذلك دعما لمجهودهم الطبي في القطاع المنكوب. وقرر المجلس فتح باب التبرع للمحامين لإغاثة الأهل في غزة وتعزيز صمودهم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store