logo
النكات والسخرية "تنفيسة مصرية" في وقت الأزمات

النكات والسخرية "تنفيسة مصرية" في وقت الأزمات

Independent عربيةمنذ 4 أيام
على رغم انقطاع الاتصالات وشبكة الإنترنت في غالبية مناطق مصر تزامناً مع الحريق الضخم الذي التهم سنترال رمسيس، وهو مبنى تشغيل الإنترنت والاتصالات في معظم المدن المصرية، فإن كل من كان يلتقط إشارة ولو ضعيفة يتمكن بها من الولوج إلى حساباته على السوشيال ميديا، كان أول ما يكتبه هو تدوينة ساخرة أو ينشر صورة ميم معبر عن وجهة نظره بصورة مختصرة ومضحكة، أو يذكِّر المتابعين بمشهد من هنا أو هناك يلائم هذا الوضع المفاجئ، إذ وجد كثر أنفسهم يضربون أخماساً في أسداس، بعدما توقفت هواتفهم عن الإرسال والاستقبال، وأصيبت المعاملات البنكية الإلكترونية بالقاضية دون سابق إنذار.
وفي حين كان بعض يتساءل عن دور الإعلام المحلي في تغطية هذه الكارثة من كل جوانبها والبحث عن مواطن الإهمال التي أدت إليها، وتسببت في وفاة أربعة موظفين اختناقاً جراء عدم تمكنهم من النجاة بأنفسهم عقب اشتعال النيران، إضافة إلى إصابة أبرز المؤسسات بالشلل، وبعض آخر كان يعلق على دور البرلمان في المساءلة والمحاسبة الفورية لكل عناصر الأزمة، فإن الطرف الذي لم يتأخر في أداء مهمته الدائمة هم عموم المصريين الذين كانوا يترحمون على إخوتهم، الذين قضوا نحبهم وهم يؤدون وظائفهم داخل المبنى المنكوب ويشيدون برجال الحماية المدنية الذين قدموا ملحمة في ظل الظرف الصعب، وكانوا بالكاد يلتقطون أنفاسهم بعدما بقوا أكثر من 12 ساعة معلقين في الهواء يطفئون النيران المشتعلة في عز قيظ يوليو (تموز) الجاري، وإلى جانب كل هذا كانوا يعلقون بسخرية سوداء أيضاً على ما يحدث، محاولين تخفيف وطأة الواقعة بممارسة هوايتهم التي يبدعون بها خلال مثل هذه الأوقات، وهي الفكاهة المرة، وابتكار كوميكس مستقاة عادة من الثقافة الشعبية للتعبير عن حالهم. إنها الوسيلة الأكثر أمناً التي يبرعون فيها والأقل احتمالية في تعرضهم للمساءلة سواء من جهة عملهم أو القانون.
صورة الحدث
القفز فوق المآسي بالتنكيت عادة مصرية راسخة، إذ تنشط بقوة في المواقف الكارثية والأحداث الكبرى، فحتى الحرب الإيرانية-الإسرائيلية شهدت موجة من النكات التي ألقاها مصريون نابعة من هذا الحس، الذي يتحول مع الأيام إلى طريقة للتعايش ووسيلة للتأقلم، وإن كانت الأحداث خلال الأعوام الأخيرة إقليمياً ومحلياً صبغت عليه لوناً قاتماً، مثلما هي الحال في واقعة سنترال رمسيس الواقع وسط القاهرة، الذي يوصف بعصب الاتصالات داخل البلاد.
ونظراً إلى أن الأضرار لم تُحصى بصورة دقيقة، فإن المعلومات حول مدى جودة خدمات الإنترنت كانت تُتداول شعبياً بالوسائل المتاحة، ونظراً أيضاً إلى التباين في مستويات الخدمة بعد عودتها جزئياً، فإن هناك من ظل أكثر من يوم دون اتصالات هاتفية وإنترنت، بينما كان يعيش بعض حياته بصورة طبيعية، مثل وزير الشؤون النيابية محمد فوزي الذي ظهر في البرلمان وهو يدلل على حل المشكلة تماماً، شاهراً شاشة هاتفه المحمول بعدما نجح في تحويل إلكتروني بمبلغ مالي لنجله، وهي الصورة التي انقلبت عليه حيث استخدمت بصورة معاكسة تماماً، من الفئة التي تقع في مناطق جغرافية ظلت الخدمة فيها منقطعة ثلاثة أيام على التوالي.
وعدَّت صورة المسؤول المصري هذه من درة أعمال الكوميكس المتعلقة بالحدث، إذ جرى إعادة تحرير الصورة ليظهر الوزير وكأنه يمسك بدلاً من الهاتف قطعة من ضمن قطع لعبة الدومينو الشهيرة على المقاهي المصرية، والتعليق كان "قفلت الدومينو وفاكر نفسي هعد ورق كتير". والمقصود أن الطرف الثاني في اللعبة يفاجئ زميله بقطعة تجعله يعيد حساباته مجدداً بعدما يتصور أنه كسب الجولة، فيما كثر عبروا عن استغرابهم بتداول صورة الوزير بنظراته الواثقة المتحدية، بينما هم يشرحون كيف يعانون من أجل فتح موقع إلكتروني تعليمي لأبنائهم الذين يذاكرون استعداداً لاختبارات الثانوية العامة، متحدثين عن الفجوة الكبيرة بين تصريحات الوزير وواقعهم.
هل السخرية تعني اللامبالاة؟
فيما تداول آخرون صوراً من لقطات معبرة لنجوم الفن في أفلامهم ومسلسلاتهم، وعليها تعليقات من نوعية "أتعشم أن مخالفات المرور تكون راحت في أحداث السنترال"، في دلالة على رغبتهم في التخلص من الوثائق التي تفند مخالفاتهم التي تستدعي دفعهم غرامات، وآخرون رفعوا أيديهم بالدعاء بألا تعود أبداً خطوط هواتف موظفي شركات العقارات للعمل، نظراً إلى أنهم يمطرون المواطنين بسيل من الاتصالات يومياً، عارضين عليهم شراء وحدات بعشرات الملايين من الجنيهات.
بينما علق الفنان أحمد العوضي على فكرة أن انشغال الناس بهواتفهم طوال الوقت جعلهم يقصرون في التواصل الحقيقي مع ذويهم، بالتالي ففرصة انقطاع الإنترنت ربما تكون إيجابية وتسهم في توطيد العلاقات الأسرية وكتب مازحاً "مفيش (لا يوجد) أي اتصالات، نقوم نقعد نتكلم مع أهالينا بقى شوية، نشوف هما عاملين إيه، وعملوا إيه في الـ15 سنة اللي فاتت"، كما نشر كثر كوميكس مضحكة حول الشبكة الوحيدة التي كانت تعامل بكفاءة، واعتبروها الأهم والأقوى، مستعينين بمشاهد أيقونية من الأعمال الفنية الشهيرة.
لكن هل يمكن أن تصنف السخرية هنا كنوع من الاستهتار أو اللامبالاة، تنفي الدكتورة جيهان النمرسي أستاذ علم النفس بجامعة الأزهر هذا الاتهام تماماً، وتؤكد أنه على العكس تماماً فالنكتة الاجتماعية أو السياسية هي ظاهرة إيجابية وصحية للغاية وتنمي الإبداع والتفكير، لافتة إلى أن الشخص غير المبالي يعزف عن التعليق على الأحداث بالمرة، بينما من يشارك بالتنكيت والسخرية هو يعبر عن رأيه بوسيلة ذكية، وسليمة تساعده على التكيف، وبخاصة إذا كان النقد اللاذع غير مقبول سياسياً أو اجتماعياً، مشددة على أن هذه طبيعة المصريين منذ قديم الأزل، وأن السخرية في أحلك الظروف انتقلت منهم للشعوب الأخرى.
على رغم الاتفاق على أن النكتة لا تعني التشفي أو المرح إنما قد تعني المرارة، فإن كثراً شعروا بالارتباك بعدما علموا بوجود ضحايا جراء الحريق، وعبروا عن ندمهم واعتذارهم لكل من شعر بالاستخفاف من طريقتهم في التندر، فبعدما كتب الفنان عمرو وهبة تعليقاً ساخراً قال فيه "أنا الصراحة النهاردة (اليوم) لما شوفت حفلة شبيه عمرو دياب وناس واقفة بتسقف وبتغني معاه قولت يارب يقطعوا النت عن مصر بس مكنتش أعرف (لم أعرف) إن أبواب السما مفتوحة"، عاد واعتذر عن مزاحه مؤكداً أنه لم يكن يعلم وقتها أن هناك وفيات جراء الواقعة.
فعلى رغم أن الفكرة اللامعة والذكية والابتسامة مفردة حاضرة دوماً حينما يجري استدعاؤها في مثل هذه الظروف التي تجمع كل فئات المجتمع، فإن بعضاً يتساءل أيضاً عن الحد الفاصل هنا بين فكرة احترام الظرف الحزين، والتنفيس عن الضغوط والتعبير عن الرأي فيما يجري، لا سيما أن الأضرار المتعلقة بالأمور التقنية نفسها قد تؤدي إلى كوارث وتهدد الحياة، فعلى سبيل المثال فإن توقف خدمة الاتصالات لبعض الوقت تعذر معه الاتصال بالطوارئ وسيارات الإسعاف، والخدمات الطبية والدوائية وغيرها.
هنا يقول الدكتور محمد كمال أستاذ القيم والأخلاق بجامعة القاهرة إن النكتة في بعض الأوقات قد تظهر عدم مراعاة مشاعر المتضررين، وقد تعد استخفافاً بمعاناة الضحايا وأسرهم، مما يزيد من ألمهم ويسبب لهم الإساءة، وبخاصة إذا ترتب عليها وفيات مثلما حدث في حريق سنترال رمسيس، إذ استشهد أربعة من المهندسين وأصيب عدد من رجال الإطفاء في الحريق، كما قد تستخدم النكتة في تشويه الحقائق بنشر معلومات غير صحيحة مما يعرقل جهود الإغاثة ويوجه الرأي العام توجيهاً خاطئاً، وهو ما يزيد مع تنوع الخلفيات الثقافية والنفسية ليس للمتضررين فحسب، بل للمواطنين بصورة عامة، وبخاصة إذا كانت الكارثة تؤثر في حياتهم اليومية مثلما وقع في هذه الحادثة، مؤكداً أن سلاح النكتة هنا لا يخلو من المزايا والعيوب.
قاموس الكوميكس
يوصف المصريون بأنهم شعب ابن نكتة، لكنهم أيضاً اتهموا خلال فترة من الفترات بأن روح الفكاهة غابت عن عالمهم بفعل الضغوط والتوترات، لكنها تطل بكل قوة وتتفجر كالسحر بوسائل كثيرة حينما يتطلب الأمر ذلك، إذ كانت في مراحل سابقة تداول على المقاهي، لا سيما السياسية منها، وشهدت الأعمال الفنية الكوميدية إبداع كثير منها، وبعضها أصبح عبارات محفوظة تتداول حتى اليوم وكأنها قاموس شعبي محفوظ، وظهرت أيضاً على صورة مونولوغ يقدم نقداً اجتماعياً لاذعاً، ثم حدثت انطلاقتها الكبرى عقب ثورة يناير، فبالتوازي مع أحداثها تفجرت كل النكت السرية التي كانت تتداول على استحياء في عصر مبارك، وظهرت كتب ووثائقيات متعددة تتحدث عن أبرز العبارات الساخرة التي أطلقها المتظاهرون للتعبير عن آرائهم بصورة مختزلة ومؤثرة وجريئة، ثم تدريجاً أصبحت تتوارى وتنبعث وفقاً للوضع.
وهي في كل الأحوال وسيلة مفضلة حتى وإن كانت تبعاتها ضحك كالبكاء بأن تضع اليد على مكمن المشكلة، وتذكر مطلقيها ومستمعيها ومتداوليها بتقصير ما، فيما يعد الكوميكس هو الشكل الأكثر انتشاراً حالياً للسخرية السوداء، بسبب طبيعته الأكثر ملاءمة للسوشيال ميديا، ويعد من ضمن وسائل حفظ الأرشيف الفني في الذاكرة الشعبية، فقد انتشر أخيراً أحد الميمز الذي تظهر فيه صورة الفنان عبدالله غيث من مسلسل "ذئاب الجبل" 1993، وعليها عبارة ساخرة من تبعات حادثة سنترال رمسيس، تقول "ما هو احنا كان لازم (لا بد) ندبح قبل ما نشغل الـ5G"،، والمقصود أن البلاد تعرضت للحادثة بعدما أصبحت الهواتف تعمل بتكنولوجيا الجيل الخامس ولهذا كان ينبغي عمل أضحية لدرء السوء.
فيما تندر آخرون على تأثر المؤسسات في لحظات بالحريق، متسائلين عن عدم وجود خطة بديلة تُفعل فوراً بوضع عبارة على تمثال رمسيس الشهير مفادها "حتى الفراعنة كان عندهم خطة بديلة وعملوا رمسيس الثاني"، كذلك اعتبر كثر هذه فرصة لعودة نظام المقايضة بعد توقف خدمات الدفع الإلكتروني، وغيرهم نشروا صور أوراقهم النقدية وعرضوها للبيع بأعلى سعر، في ظل فشل أعداد كبيرة من أصدقائهم في سحب الأموال من ماكينات الصراف الآلي، بالتالي تعطل مصالحهم المختلفة.
أما الصورة الأشهر التي تقفز مع كل حدث يخص مجال التقنية في مصر، فهي صورة إحدى الموظفات المخضرمات وخلفها أطنان من الملفات العتيقة وعليها عبارة "BIG DATA"، أي إن العودة للأصول الورقية والتعامل بالوثائق التقليدية هو الأكثر ضماناً ولا يعرض صاحبه للمواقف غير المتوقعة.
ظاهرة صحية تقفز على القيود
تلخص المستشارة النفسية وأستاذ علم النفس بجامعة الأزهر الدكتورة جيهان النمرسي الفكرة بتأكيد أن حس السخرية الذكي جزء أصيل من الشخصية المصرية، وهو يظهر بقوة في الأزمات السياسية والاقتصادية بهدف التنفيس عن المشاعر السلبية والغضب، كذلك انتشارها وتداولها يمنح الأفراد شعوراً بعدم الوحدة أي إن المصيبة لا تخصهم وحدهم، بل أزمة عامة يشترك فيها مع الآخرين.
وتضيف النمرسي "هذا الشعور الجماعي يساعد على التماسك والوحدة في مواجهة الظرف مما يعزز التضامن الاجتماعي، ويعكس الرغبة في الحياة وتجاوز الإحساس بالألم ورفض الموقف السيئ، فالنكتة تصنف في علم الفنس كوسيلة مواجهة، بديلة للصراخ وبخاصة في المجموعات التي تعاني قيوداً في التعبير بصورة أو بأخرى، ولهذا يحقق النقد الفكاهي لها أكثر من فائدة وبينها عدم الاستسلام للسلبيات".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالحيل النفسية للتعامل مع "وقف الحال" الذي أصاب نسبة كبيرة من المصريين، ظهرت على هيئة كوميديا، وهي تعد من أهم ميزات الحس الساخر لديهم، إذ يشدد الدكتور محمد كمال أستاذ القيم بجامعة القاهرة على أن السخرية تساعد في تخفيف وقع وحجم الأزمة، وهي تستخدم كآلية دفاع تساعد الأشخاص على التعامل مع الصدمة النفسية والتوتر الشديد الناتج من الكارثة، وتعد تنفيساً عن الغضب والإحباط والانتقاد بصورة لا تعرض الشخص للمساءلة القانونية أو الاتهام بالمعارضة السياسية.
ويضيف "هي أيضاً تكسر الحواجز وتفتح قنوات للتواصل بصورة أقل حدة حول موضوعات مؤلمة وشديدة الأهمية. وعلى الجانب الآخر، فإن استخدام النكتة في حالات الكوارث لا يخلو من خطورة كبيرة إذ يستخدمها أعداء الدولة ويساعدون على انتشارها بصورة كبيرة، وبخاصة في ظل السوشيال ميديا ليس للأسباب الإيجابية أو حتى انتقاد المخطئين بل لنشر روح اليأس والإحباط وانتقاد الدولة، وليس المسؤولين المتسببين في ما حدث".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

النكات والسخرية "تنفيسة مصرية" في وقت الأزمات
النكات والسخرية "تنفيسة مصرية" في وقت الأزمات

Independent عربية

timeمنذ 4 أيام

  • Independent عربية

النكات والسخرية "تنفيسة مصرية" في وقت الأزمات

على رغم انقطاع الاتصالات وشبكة الإنترنت في غالبية مناطق مصر تزامناً مع الحريق الضخم الذي التهم سنترال رمسيس، وهو مبنى تشغيل الإنترنت والاتصالات في معظم المدن المصرية، فإن كل من كان يلتقط إشارة ولو ضعيفة يتمكن بها من الولوج إلى حساباته على السوشيال ميديا، كان أول ما يكتبه هو تدوينة ساخرة أو ينشر صورة ميم معبر عن وجهة نظره بصورة مختصرة ومضحكة، أو يذكِّر المتابعين بمشهد من هنا أو هناك يلائم هذا الوضع المفاجئ، إذ وجد كثر أنفسهم يضربون أخماساً في أسداس، بعدما توقفت هواتفهم عن الإرسال والاستقبال، وأصيبت المعاملات البنكية الإلكترونية بالقاضية دون سابق إنذار. وفي حين كان بعض يتساءل عن دور الإعلام المحلي في تغطية هذه الكارثة من كل جوانبها والبحث عن مواطن الإهمال التي أدت إليها، وتسببت في وفاة أربعة موظفين اختناقاً جراء عدم تمكنهم من النجاة بأنفسهم عقب اشتعال النيران، إضافة إلى إصابة أبرز المؤسسات بالشلل، وبعض آخر كان يعلق على دور البرلمان في المساءلة والمحاسبة الفورية لكل عناصر الأزمة، فإن الطرف الذي لم يتأخر في أداء مهمته الدائمة هم عموم المصريين الذين كانوا يترحمون على إخوتهم، الذين قضوا نحبهم وهم يؤدون وظائفهم داخل المبنى المنكوب ويشيدون برجال الحماية المدنية الذين قدموا ملحمة في ظل الظرف الصعب، وكانوا بالكاد يلتقطون أنفاسهم بعدما بقوا أكثر من 12 ساعة معلقين في الهواء يطفئون النيران المشتعلة في عز قيظ يوليو (تموز) الجاري، وإلى جانب كل هذا كانوا يعلقون بسخرية سوداء أيضاً على ما يحدث، محاولين تخفيف وطأة الواقعة بممارسة هوايتهم التي يبدعون بها خلال مثل هذه الأوقات، وهي الفكاهة المرة، وابتكار كوميكس مستقاة عادة من الثقافة الشعبية للتعبير عن حالهم. إنها الوسيلة الأكثر أمناً التي يبرعون فيها والأقل احتمالية في تعرضهم للمساءلة سواء من جهة عملهم أو القانون. صورة الحدث القفز فوق المآسي بالتنكيت عادة مصرية راسخة، إذ تنشط بقوة في المواقف الكارثية والأحداث الكبرى، فحتى الحرب الإيرانية-الإسرائيلية شهدت موجة من النكات التي ألقاها مصريون نابعة من هذا الحس، الذي يتحول مع الأيام إلى طريقة للتعايش ووسيلة للتأقلم، وإن كانت الأحداث خلال الأعوام الأخيرة إقليمياً ومحلياً صبغت عليه لوناً قاتماً، مثلما هي الحال في واقعة سنترال رمسيس الواقع وسط القاهرة، الذي يوصف بعصب الاتصالات داخل البلاد. ونظراً إلى أن الأضرار لم تُحصى بصورة دقيقة، فإن المعلومات حول مدى جودة خدمات الإنترنت كانت تُتداول شعبياً بالوسائل المتاحة، ونظراً أيضاً إلى التباين في مستويات الخدمة بعد عودتها جزئياً، فإن هناك من ظل أكثر من يوم دون اتصالات هاتفية وإنترنت، بينما كان يعيش بعض حياته بصورة طبيعية، مثل وزير الشؤون النيابية محمد فوزي الذي ظهر في البرلمان وهو يدلل على حل المشكلة تماماً، شاهراً شاشة هاتفه المحمول بعدما نجح في تحويل إلكتروني بمبلغ مالي لنجله، وهي الصورة التي انقلبت عليه حيث استخدمت بصورة معاكسة تماماً، من الفئة التي تقع في مناطق جغرافية ظلت الخدمة فيها منقطعة ثلاثة أيام على التوالي. وعدَّت صورة المسؤول المصري هذه من درة أعمال الكوميكس المتعلقة بالحدث، إذ جرى إعادة تحرير الصورة ليظهر الوزير وكأنه يمسك بدلاً من الهاتف قطعة من ضمن قطع لعبة الدومينو الشهيرة على المقاهي المصرية، والتعليق كان "قفلت الدومينو وفاكر نفسي هعد ورق كتير". والمقصود أن الطرف الثاني في اللعبة يفاجئ زميله بقطعة تجعله يعيد حساباته مجدداً بعدما يتصور أنه كسب الجولة، فيما كثر عبروا عن استغرابهم بتداول صورة الوزير بنظراته الواثقة المتحدية، بينما هم يشرحون كيف يعانون من أجل فتح موقع إلكتروني تعليمي لأبنائهم الذين يذاكرون استعداداً لاختبارات الثانوية العامة، متحدثين عن الفجوة الكبيرة بين تصريحات الوزير وواقعهم. هل السخرية تعني اللامبالاة؟ فيما تداول آخرون صوراً من لقطات معبرة لنجوم الفن في أفلامهم ومسلسلاتهم، وعليها تعليقات من نوعية "أتعشم أن مخالفات المرور تكون راحت في أحداث السنترال"، في دلالة على رغبتهم في التخلص من الوثائق التي تفند مخالفاتهم التي تستدعي دفعهم غرامات، وآخرون رفعوا أيديهم بالدعاء بألا تعود أبداً خطوط هواتف موظفي شركات العقارات للعمل، نظراً إلى أنهم يمطرون المواطنين بسيل من الاتصالات يومياً، عارضين عليهم شراء وحدات بعشرات الملايين من الجنيهات. بينما علق الفنان أحمد العوضي على فكرة أن انشغال الناس بهواتفهم طوال الوقت جعلهم يقصرون في التواصل الحقيقي مع ذويهم، بالتالي ففرصة انقطاع الإنترنت ربما تكون إيجابية وتسهم في توطيد العلاقات الأسرية وكتب مازحاً "مفيش (لا يوجد) أي اتصالات، نقوم نقعد نتكلم مع أهالينا بقى شوية، نشوف هما عاملين إيه، وعملوا إيه في الـ15 سنة اللي فاتت"، كما نشر كثر كوميكس مضحكة حول الشبكة الوحيدة التي كانت تعامل بكفاءة، واعتبروها الأهم والأقوى، مستعينين بمشاهد أيقونية من الأعمال الفنية الشهيرة. لكن هل يمكن أن تصنف السخرية هنا كنوع من الاستهتار أو اللامبالاة، تنفي الدكتورة جيهان النمرسي أستاذ علم النفس بجامعة الأزهر هذا الاتهام تماماً، وتؤكد أنه على العكس تماماً فالنكتة الاجتماعية أو السياسية هي ظاهرة إيجابية وصحية للغاية وتنمي الإبداع والتفكير، لافتة إلى أن الشخص غير المبالي يعزف عن التعليق على الأحداث بالمرة، بينما من يشارك بالتنكيت والسخرية هو يعبر عن رأيه بوسيلة ذكية، وسليمة تساعده على التكيف، وبخاصة إذا كان النقد اللاذع غير مقبول سياسياً أو اجتماعياً، مشددة على أن هذه طبيعة المصريين منذ قديم الأزل، وأن السخرية في أحلك الظروف انتقلت منهم للشعوب الأخرى. على رغم الاتفاق على أن النكتة لا تعني التشفي أو المرح إنما قد تعني المرارة، فإن كثراً شعروا بالارتباك بعدما علموا بوجود ضحايا جراء الحريق، وعبروا عن ندمهم واعتذارهم لكل من شعر بالاستخفاف من طريقتهم في التندر، فبعدما كتب الفنان عمرو وهبة تعليقاً ساخراً قال فيه "أنا الصراحة النهاردة (اليوم) لما شوفت حفلة شبيه عمرو دياب وناس واقفة بتسقف وبتغني معاه قولت يارب يقطعوا النت عن مصر بس مكنتش أعرف (لم أعرف) إن أبواب السما مفتوحة"، عاد واعتذر عن مزاحه مؤكداً أنه لم يكن يعلم وقتها أن هناك وفيات جراء الواقعة. فعلى رغم أن الفكرة اللامعة والذكية والابتسامة مفردة حاضرة دوماً حينما يجري استدعاؤها في مثل هذه الظروف التي تجمع كل فئات المجتمع، فإن بعضاً يتساءل أيضاً عن الحد الفاصل هنا بين فكرة احترام الظرف الحزين، والتنفيس عن الضغوط والتعبير عن الرأي فيما يجري، لا سيما أن الأضرار المتعلقة بالأمور التقنية نفسها قد تؤدي إلى كوارث وتهدد الحياة، فعلى سبيل المثال فإن توقف خدمة الاتصالات لبعض الوقت تعذر معه الاتصال بالطوارئ وسيارات الإسعاف، والخدمات الطبية والدوائية وغيرها. هنا يقول الدكتور محمد كمال أستاذ القيم والأخلاق بجامعة القاهرة إن النكتة في بعض الأوقات قد تظهر عدم مراعاة مشاعر المتضررين، وقد تعد استخفافاً بمعاناة الضحايا وأسرهم، مما يزيد من ألمهم ويسبب لهم الإساءة، وبخاصة إذا ترتب عليها وفيات مثلما حدث في حريق سنترال رمسيس، إذ استشهد أربعة من المهندسين وأصيب عدد من رجال الإطفاء في الحريق، كما قد تستخدم النكتة في تشويه الحقائق بنشر معلومات غير صحيحة مما يعرقل جهود الإغاثة ويوجه الرأي العام توجيهاً خاطئاً، وهو ما يزيد مع تنوع الخلفيات الثقافية والنفسية ليس للمتضررين فحسب، بل للمواطنين بصورة عامة، وبخاصة إذا كانت الكارثة تؤثر في حياتهم اليومية مثلما وقع في هذه الحادثة، مؤكداً أن سلاح النكتة هنا لا يخلو من المزايا والعيوب. قاموس الكوميكس يوصف المصريون بأنهم شعب ابن نكتة، لكنهم أيضاً اتهموا خلال فترة من الفترات بأن روح الفكاهة غابت عن عالمهم بفعل الضغوط والتوترات، لكنها تطل بكل قوة وتتفجر كالسحر بوسائل كثيرة حينما يتطلب الأمر ذلك، إذ كانت في مراحل سابقة تداول على المقاهي، لا سيما السياسية منها، وشهدت الأعمال الفنية الكوميدية إبداع كثير منها، وبعضها أصبح عبارات محفوظة تتداول حتى اليوم وكأنها قاموس شعبي محفوظ، وظهرت أيضاً على صورة مونولوغ يقدم نقداً اجتماعياً لاذعاً، ثم حدثت انطلاقتها الكبرى عقب ثورة يناير، فبالتوازي مع أحداثها تفجرت كل النكت السرية التي كانت تتداول على استحياء في عصر مبارك، وظهرت كتب ووثائقيات متعددة تتحدث عن أبرز العبارات الساخرة التي أطلقها المتظاهرون للتعبير عن آرائهم بصورة مختزلة ومؤثرة وجريئة، ثم تدريجاً أصبحت تتوارى وتنبعث وفقاً للوضع. وهي في كل الأحوال وسيلة مفضلة حتى وإن كانت تبعاتها ضحك كالبكاء بأن تضع اليد على مكمن المشكلة، وتذكر مطلقيها ومستمعيها ومتداوليها بتقصير ما، فيما يعد الكوميكس هو الشكل الأكثر انتشاراً حالياً للسخرية السوداء، بسبب طبيعته الأكثر ملاءمة للسوشيال ميديا، ويعد من ضمن وسائل حفظ الأرشيف الفني في الذاكرة الشعبية، فقد انتشر أخيراً أحد الميمز الذي تظهر فيه صورة الفنان عبدالله غيث من مسلسل "ذئاب الجبل" 1993، وعليها عبارة ساخرة من تبعات حادثة سنترال رمسيس، تقول "ما هو احنا كان لازم (لا بد) ندبح قبل ما نشغل الـ5G"،، والمقصود أن البلاد تعرضت للحادثة بعدما أصبحت الهواتف تعمل بتكنولوجيا الجيل الخامس ولهذا كان ينبغي عمل أضحية لدرء السوء. فيما تندر آخرون على تأثر المؤسسات في لحظات بالحريق، متسائلين عن عدم وجود خطة بديلة تُفعل فوراً بوضع عبارة على تمثال رمسيس الشهير مفادها "حتى الفراعنة كان عندهم خطة بديلة وعملوا رمسيس الثاني"، كذلك اعتبر كثر هذه فرصة لعودة نظام المقايضة بعد توقف خدمات الدفع الإلكتروني، وغيرهم نشروا صور أوراقهم النقدية وعرضوها للبيع بأعلى سعر، في ظل فشل أعداد كبيرة من أصدقائهم في سحب الأموال من ماكينات الصراف الآلي، بالتالي تعطل مصالحهم المختلفة. أما الصورة الأشهر التي تقفز مع كل حدث يخص مجال التقنية في مصر، فهي صورة إحدى الموظفات المخضرمات وخلفها أطنان من الملفات العتيقة وعليها عبارة "BIG DATA"، أي إن العودة للأصول الورقية والتعامل بالوثائق التقليدية هو الأكثر ضماناً ولا يعرض صاحبه للمواقف غير المتوقعة. ظاهرة صحية تقفز على القيود تلخص المستشارة النفسية وأستاذ علم النفس بجامعة الأزهر الدكتورة جيهان النمرسي الفكرة بتأكيد أن حس السخرية الذكي جزء أصيل من الشخصية المصرية، وهو يظهر بقوة في الأزمات السياسية والاقتصادية بهدف التنفيس عن المشاعر السلبية والغضب، كذلك انتشارها وتداولها يمنح الأفراد شعوراً بعدم الوحدة أي إن المصيبة لا تخصهم وحدهم، بل أزمة عامة يشترك فيها مع الآخرين. وتضيف النمرسي "هذا الشعور الجماعي يساعد على التماسك والوحدة في مواجهة الظرف مما يعزز التضامن الاجتماعي، ويعكس الرغبة في الحياة وتجاوز الإحساس بالألم ورفض الموقف السيئ، فالنكتة تصنف في علم الفنس كوسيلة مواجهة، بديلة للصراخ وبخاصة في المجموعات التي تعاني قيوداً في التعبير بصورة أو بأخرى، ولهذا يحقق النقد الفكاهي لها أكثر من فائدة وبينها عدم الاستسلام للسلبيات". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) فالحيل النفسية للتعامل مع "وقف الحال" الذي أصاب نسبة كبيرة من المصريين، ظهرت على هيئة كوميديا، وهي تعد من أهم ميزات الحس الساخر لديهم، إذ يشدد الدكتور محمد كمال أستاذ القيم بجامعة القاهرة على أن السخرية تساعد في تخفيف وقع وحجم الأزمة، وهي تستخدم كآلية دفاع تساعد الأشخاص على التعامل مع الصدمة النفسية والتوتر الشديد الناتج من الكارثة، وتعد تنفيساً عن الغضب والإحباط والانتقاد بصورة لا تعرض الشخص للمساءلة القانونية أو الاتهام بالمعارضة السياسية. ويضيف "هي أيضاً تكسر الحواجز وتفتح قنوات للتواصل بصورة أقل حدة حول موضوعات مؤلمة وشديدة الأهمية. وعلى الجانب الآخر، فإن استخدام النكتة في حالات الكوارث لا يخلو من خطورة كبيرة إذ يستخدمها أعداء الدولة ويساعدون على انتشارها بصورة كبيرة، وبخاصة في ظل السوشيال ميديا ليس للأسباب الإيجابية أو حتى انتقاد المخطئين بل لنشر روح اليأس والإحباط وانتقاد الدولة، وليس المسؤولين المتسببين في ما حدث".

نيران سنترال رمسيس تشعل "سوشيال ميديا" المصريين
نيران سنترال رمسيس تشعل "سوشيال ميديا" المصريين

Independent عربية

timeمنذ 5 أيام

  • Independent عربية

نيران سنترال رمسيس تشعل "سوشيال ميديا" المصريين

أغلب الظن أن الشرارة الأولى لاجتهادات الـ"سوشيا ميديا" بدأت مع شرارة حريق سنترال رمسيس الأولى. ولولا أن الاتصال بالإنترنت تأثر سلباً بسبب الحريق، لفاق سعير نظريات الحريق واستراتيجيات الإطفاء وتوليفات المؤامرة وشروح "كيف تشعل حريقاً في خمس خطوات؟"، وسرديات "كيف تسيطر على امتداده بينما أنت جالس في المقهى؟"، و"لماذا اشتعل الحريق في هذا الوقت بالذات بحسب مبادئ الفلك وعلوم الطقس وقواعد السلامة المهنية ومبادئ الحروب الجيوسياسية؟" لهيب نيران "سنترال رمسيس". الحدث الذي أضاف لهيب التحليل واشتعال التفنيد إلى ألسنة اللهب وأعمدة الدخان الصادرة عن الحريق المريع كشف عن كيان معتبر ودور مستقل وقوة عظمى تؤكد أنها وجدت لتبقى اسمها "قوة التدوين الشعبي على منصات الـ'سوشيال ميديا'". أعمدة الدخان تقود الدقائق الأولى التي بدأت أعمدة دخان تلوح في الأفق قادت الرأي العام العنكبوتي صوب تكهنات مصحوبة بشهادات، بعضها معاد تدويره نقلاً عن "حسام صاحبي" و"وسام بنت خالتي" و"واحد معرفة في الحكومة"، وبعضها الآخر نقلاً عما قاله "بواب" (حارس) العقار الذي تصادف وجوده في "صيدلية الإسعاف" (القريبة من السنترال) لصرف دواء ابنه المريض، وبابا وهو محشور في الباص العام عائداً من العمل. حريق في أكوام قمامة وماس في عمود إنارة واحتراق سيارة واشتعال النيران في "وكالة البلح" (سوق متخصصة في بيع الأقمشة والملابس المستعملة) وغيرها كثير من تفسيرات النيران والدخان ضلت طريقها وظلت مهيمنة، ولا سيما بعد ما انقطعت خدمة الإنترنت والاتصالات الهاتفية عن الملايين وتعذر تحديث الاجتهادات. ومع زيادة كثافة الأدخنة ورائحة الحريق التي اقتحمت كثيراً من المباني في محيط آخذ في الاتساع، حظي من بقيت هواتفهم وأجهزتهم متصلة بالإنترنت، ولو كان بطيئاً، بالانفراد بملعب التنظير. جهود التنظير الأولى لم تربط بين الأدخنة التي جرى تحديد موقعها بصورة أكثر دقة، حيث شارعا رمسيس والجلاء في وسط القاهرة، وبين توقف فجائي لماكينات الصراف الآلي والدفع بالبطاقات في كل مكان. "السيستم واقع" "الأغلب عملية تحديث" وتوالت الاجتهادات إلى أن ظهر السنترال مشتعلاً بألسنة اللهب تتطاير من النوافذ، والدخان يحجب الرؤية بصورة شبه كاملة في هذا المربع المتخم بالسكان والمارة والمحال التجارية والمستشفيات، ناهيك عن حرارة جو قائظة ورطوبة خانقة. ومع انتشار خبر اشتعال حريق في "سنترال رمسيس" شفوياً، تعذرت عملية الهبد العنكبوتي حتى ساعات الليل الأولى التي شهدت عودة متدرجة لخدمة الاتصالات والإنترنت. وظلت الدقائق الأولى من العودة الجزئية للخدمات مقتصرة في غالبيتها على صور وفيديوهات التقطها بعضهم، وشهادات لسكان وعاملين في المنطقة، ثم تطاير اللهب الشعبي بصورة غير مسبوقة. ولأن حريق السنترال الواقع في حي الأزبكية، والعلامة المميزة التي يعرفها كل المصريين على مدى عقود، تحديداً منذ افتتاحه عام 1927 باسم "دار التلفونات الجديدة"، أتى بعد أيام قليلة من حادثتي سير بشعتين أودتا بحياة 28 شخصاً على طريق واحد، عكست التدوينات والتغريدات وكذلك المحتوى المرئي توليفة من الغضب والحزن والإحباط. الخط الأبرز في ما كتبه وتداوله المصريون على الـ"سوشيال ميديا" دار حول الإهمال، وعلى رغم أن توجيه أصابع الاتهام جرى قبل أن ينقشع الدخان ويتضح حجم الحريق وآثاره، فإن هذه الهرولة صوب "الإهمال" جاءت طبيعية ومنطقية ومفهومة. الإهمال المتهم الأول حتى لو ثبت أن "الإهمال" ليس المتهم المباشر الأول، يبقى العامل الأكثر هيمنة على فكر المصريين وتداولاً على المنصات. "حريق سنترال رمسيس يعكس إهمالاً ضخماً. لماذا تركوا هذا المبنى القديم والعريق بكل أهميته وحساسيته في هذا المكان المزدحم في وسط البلد؟"، "كارثة سنترال رمسيس مجرد تغيير في المكان وأسماء وعدد القتلى، وتضاف إلى قوائم ضحايا الإهمال المؤسسي". "كارثة تكشف عن هشاشة البنية التحتية والأهم، إهمال عام". واللافت في الكارثة هذه المرة أن قطاعاً عريضاً من المصريين عادوا بعد طول غياب لتداول وإعادة نشر ما قال "نواب الشعب" تحت قبة البرلمان، فالأعوام الأخيرة شهدت تراجعاً شعبياً واضحاً وانسحاباً اجتماعياً مؤكداً، بعيداً من الاهتمام بما يجري تحت القبة لأسباب عدة تراوح ما بين فقدان الشغف وفقدان الأمل وفقدان الرغبة، إضافة إلى شعور لدى بعضهم بأن ما يجري تحت القبة صدى صوت الحكومة. هذه المرة، ومع تفجر توجيه الاتهامات الحادة من النواب إلى المسؤولين، غمرت كلمات النواب الغاضبة أثير الـ"سوشيال ميديا" تناقلاً وتداولاً وتعليقاً. آلاف المستخدمين ممن لا يعرفون النواب أو يسمعون من قبل عن أسمائهم تداولوا مداخلاتهم وكأنها أقوال مأثورة. ما قاله ضياء الدين داوود من أن "هذه الحكومة تدير النيران، وبياناتها كاذبة ومضللة، وتغيب عن المشهد لأكثر من 14 ساعة، بينما المواطنون لا يعلمون ماذا يحدث في شبكة الدولة الرقمية. ما جرى فضح هشاشة البنية التحتية للاتصالات، على رغم ما جرى الإعلان عنه من مليارات وتريليونات جرى ضخها في مشاريع التحول الرقمي. أين ذهبت هذه الأموال؟ وأين هي الحكومة التي كانت تتحدث عن مصر رقمية جديدة، بينما توقفت الدولة بسبب حريق؟" جرى تناقله آلاف المرات. كذلك الحال مع كلمات النائب عمرو درويش الذي قال إن "ما جرى يتجاوز الأزمة ويقترب من الكارثة. مصر تعطلت علشان (بسبب) سنترال رمسيس حصل فيه حريق. البلد عطلت كلها، لا مستشفيات ولا بنوك ولا جوابات (أوراق) العلاج على نفقة الدولة الناس مش عارفة تعملها"، إذ تداول المصريون كلماته على رغم عدم معرفة الغالبية بالمقصود بـ"تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين" التي ينتمي إليها. حتى النائب الإعلامي مصطفى بكري الذي يعتبره قطاع عريض من المصريين لسان حال الحكومة غير الرسمي، وجدت كلماته الغاضبة طريقها إلى صفحات المصريين على "فيسبوك" و"إكس" وغيرهما بعد طول غياب. ولم لا، وقد دق بكري على ثالوث الإهمال والعشوائية وغياب المحاسبة التي اعتبرها "سبب احتقان المصريين". صفحات الـ"سوشيال ميديا" تنضح بـ"احتقان المصريين"، وإذا كانت المداخلات النارية والانتقادات الحادة التي وجهها النواب نزلت برداً وسلاماً على الأثير، فقد أتت كذلك بمفعول تلطيفي معروف في مثل هذه الأحوال. فبدلاً من التضييق على الانتقاد وتحجيم الغضب المعلن وإسكات الأصوات المعبرة عن نبض الجماهير، كان لإطلاق العنان لها مفعول مهدئ أشفى غليل بعضهم، ولو عنكبوتياً. وما تنضح به الـ"سوشيال ميديا" حالياً ليس شفاء غليل، أو امتصاص غضب فقط، فمحتوى الاجتهاد أيضاً فائق. هناك محاسبون يشرحون العوامل الهندسية التي أدت إلى الحريق، وحرفيون يؤكدون أن السبب الحقيقي ماس كهربائي بسبب غلاية شاي، وربات بيوت يرجحن أن "الكراكيب" المكدسة أعلى كثير من المباني الحكومية حريق ينتظر الاشتعال يومياً، وخبراء تنمية بشرية يكتبون أن العامل الرئيس هو سخونة أجهزة التبريد مع ارتفاع حرارة الجو، وأطباء يكتبون أن الأجهزة قديمة والصيانة شحيحة وسلاسل إمداد التفسيرات لا تنقطع. كم مذهل من الفيديوهات لصناع محتوى يجري تحميلها وتداولها بعناوين مثل "إيه إللي حصل في سنترال رمسيس؟ وليه الدنيا وقعت بهذا الشكل؟" و"انهيار البلوغر س ف وهي تشرح تفاصيل حريق سنترال رمسيس" و"انقر واعرف سر الحريق" وغيرها كثير. وكما هي العادة، خرجت شخصيات محسوبة على تيارات معارضة مقيمة خارج مصر، وغالبيتها تنتمي أو محسوبة أو تعمل لمصلحة جماعة "الإخوان المسلمين"، بمحتواها الخاص بمثل هذه المناسبات، بين "إنسَ شماعة (حجة) الماس الكهربائي واعرف سر الطابق السابع في حريق السنترال" و"اعرف حقيقة حريق سنترال رمسيس وبيع وسط البلد" و"علاقة تدمير العاصمة القديمة بحريق السنترال" وغيرها من المحتوى الذي يصفه بعضهم بـ"الصيد في المياه العكرة"، ويراه آخرون متعاطفون مع هذه التيارات "عين العقل". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) غضب وإحباط وقلق وفي حين يبدو الحديث عن العقل وعينه على الـ"سوشيال ميديا"، والحدود الفاصلة بين الأخبار وأشباه الأخبار، والصور والفيديوهات الحقيقية وتلك المصنوعة بتدخلات الذكاء الاصطناعي، أمراً صعباً وبعيداً من هبد الهابدين في ما لا يعرفون بالضرورة، وإفتاء المفتيين في ما لا يفقهون حتماً، وهما من الآثار الجانبية العكسية لمنصات التواصل الاجتماعي، فإن جانباً كبيراً مما يكتبه ويتداوله المصريون في ضوء حريق "سنترال" رمسيس يكشف عن كثير من الوعي والرغبة العارمة في الإصلاح. كما يكشف أيضاً عن حجم غضب وإحباط وقلق كبير. غضب من حوادث متكررة يبدو فيها خيط الإهمال والتراخي والسكوت انتظاراً لوقوع كارثة واضحاً، وإحباط من تكرار حوادث موجعة يعلم الجميع أنه كان في الإمكان منعها، أو في الأقل تقليصها، إضافة إلى غياب واضح لدور الإعلام التقليدي كجهة رقابية، ومنصة للاطلاع والمعرفة على الجديد، وفتح أبواب النقاش بين مختلف الفئات والآراء والتوجهات، ومحاسبة المسؤولين بحجة المعلومات وبرهان قواعد المسؤولية. اللافت والغريب أن غالبية النقاط الرئيسة التي طرحها مصريون على الـ"سوشيال ميديا" ضمن تعبيرهم عن ثالوث الغضب والإحباط والقلق لم تخرج عنها النقاط التي خرجت بها لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي عقدت بصورة عاجلة في مجلس النواب في اليوم التالي للحريق، وهي المطالبة بالشفافية في معرفة أسباب الحريق، وإذا كان هناك تقصير في تطبيق قواعد السلامة، وأن ما حدث هو خطأ جسيم بغض النظر عمن المخطئ واسمه ومنصبه، والكشف عما إذا كانت هناك خطط طوارئ في مثل هذه الحالات، ومصارحة المصريين بسيناريوهات التعامل مع حوادث شبيهة مستقبلية. في سياق آخر، لكن من وحي الحريق، بدا أن هناك اتجاهاً لدى بعضهم لعمل خطط وبدائل شخصية من دون انتظار الخطط الوطنية والبدائل القومية. وانقطاع الإنترنت والاتصالات وتوقف ماكينات الصراف والدفع الآلي وغيرها يدفع بعضهم إلى إعادة النظر في اعتماده على الرقمنة، وفي إحالة البنكنوت إلى التقاعد والاعتماد على "البلاستيك" (البطاقات البنكية). وكتب أحدهم "في جيبك الآن ألف جنيه، هذا قدرك. في جيبك الآن 10 جنيهات، هذا مصيرك". وغرد آخر ساخراً "أطالب بعودة البقال والشراء على النوتة (أي الدفع الآجل) مما يتناسب تماماً ومقترحات عودة 'التكية' و'الكتاتيب' (مقترح ومبادرة حكوميتين)". ما جمع بين الكل، باستثناءات بسيطة، من الموجودين على أثير الـ"سوشيال ميديا" بفعل حريق "سنترال رمسيس" هو تعاطف جارف مع موظفي السنترال الذين لقوا حتفهم اختناقاً، وإعجاب طاغٍ برجال الإطفاء الذين قاموا بعمل أقل ما يمكن أو يوصف به هو "البطولي".

تامر حسني يوضح علاقة فيلم ريستارت بحريق سنترال رمسيس
تامر حسني يوضح علاقة فيلم ريستارت بحريق سنترال رمسيس

صدى الالكترونية

timeمنذ 6 أيام

  • صدى الالكترونية

تامر حسني يوضح علاقة فيلم ريستارت بحريق سنترال رمسيس

كشف الفنان المصري تامر حسني أن حادث حريق سنترال رمسيس يوضح صحة دعواه السابقة في فيلمه الأخير «ريستارت» بضرورة الاستعداد لانقطاع الإنترنت بشكل تام في كل أنحاء العالم. وأوضح تامر حسني، في تغريدة عبر حسابه الرسمي على منصة «إكس»، إن فكرة فيلمه الأخير «ريستارت» تحققت في الواقع، بعدما انقطع الإنترنت ووسائل الاتصالات بسبب حادث حريق «سنترال رمسيس». وقال تامر حسني: «مفيش نت مفيش مكالمات، مفيش بنوك، يعني كان عندي حق لما طالبت في الفيلم إن لازم إحنا كبلاد وكشعوب نعرف نتصرف لو النت قطع». وأضاف تامر حسني: «لازم نبقى مأمنين نفسنا وأولادنا وأهالينا والناس التعبانين في المستشفيات، لأن الموضوع خطير فعلاً، لأن بجد حرفياً بقت حياتنا ومصالحنا متعلقة بشكل كلي على الإنترنت». وكان حريق ضخم قد اندلع في مبنى «سنترال رمسيس»، أحد أبرز المباني التجارية في قلب العاصمة المصرية القاهرة، ما تسبب في حالة من الذعر بين المارة والعاملين في المنطقة الحيوية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store