
كان مفترضاً أن تكون ألف مدينة
كنّا نقرأ في العام 2000 على مقاعد الدراسة في كتاب "عالم جديد" لجيروم بانديه وفيديركو مايور عن برنامج الامم المتحدة الٳنمائي، وعن أن العالم يحتاج إلى ألف مدينة، إلى ألف حكاية، تبدأ من نافذة، لا من مدن ذاهبة من دمارٍ ٳلى آخر، فتقتل الحرب في الشرق الأوسط كل ما تقع عليه تحت وطأة القنابل الٳسرائيلية والأميركية، وفي شروط سلام صارت أصعب بعد المواجهة الٳسرائيلية – الٳيرانية أخيراً، مع حفاظ ٳسرائيل على حالة من عدم الاستقرار، بل الفوضى على حدودها المجاورة والبعيدة، التي لم تكن موضع معاهدات سلام، اعتماداً على القوة فترة طويلة، ما قد يغني عن أي تسويةٍ سلمية.
فكرة أن تجرّ ٳسرائيل العالم ٳلى حربٍ أبدية خاصة بها، لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلّة. هذا ما صنعه بنيامين نتنياهو في غزّة، وما يفعله في الضفة الغربية، بينما يواصل جيشه، علاوة على ذلك قصف لبنان وسورية واليمن وٳيران كما يشاء. وهذا ما حلمت به الأحزاب القومية المتطرّفة والعنصرية، والتي تشكل جزءاً من الائتلاف الحاكم الأكثر يمينية في تاريخ الدولة اليهودية. وها هو البحر الأبيض المتوسط مسرحاً لتراكم مجموعة كبيرة من الحروب والنزاعات والصراعات الحضارية الراهنة، والمناقشات حول مستقبل السلاح النووي في مآلاته الكارثية.
الناس خائفون، ٳنهم في مرمى النيران، وكل العالم اليوم يخاف من العالم، والشرعية الدولية، والسلطات تتفكّك، وتتحوّل إلى عالم هشّ. كان من المفترض أن تكون المدن أوطاناً للكرامة، مراكز للإبداع، لا مسارح للرعب في ظل سلام عالمي يتدهور، وشرعيّة خانقة واقتصاد منهك في عولمة اقتصادية (مفترض أن تكون عولمة العدالة والقانون والديمقراطية)، ونخبٍ عالمية تعاني فقدان السيطرة على المشهدين، السياسي والاجتماعي.
لا توجد حالياً تدخّلات مدروسة بعناية من الحكومات والخبراء لرسم استراتيجية عالمية لٳنهاء الحروب، سواء في أوكرانيا أو غزّة، أو غيرهما، ووقف ما خلفته من تهجير ونزوح، ورؤية الحدود الحقيقية للقوة العسكرية الأميركية الصلبة في العقود الأخيرة، وما تنوي الدولة اليهودية أن تفعله بقوتها، مدعومة من أميركا ومن الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستخبارات التي أثبتت تفوّقها في لبنان وٳيران.
تكلفة الإفراط في استخدامات القوة باهظة جدّاً، في حين أن حل مشكلتي الجوع والفقر ومواجهة تحدّيات المناخ في العالم، لا تحتاج ٳلى حرب عالمية ثالثة، بل ٳلى ٳرادة سياسية، وكذلك التفكير في ٳعادة ٳحياء المدينة بالحقوق الممنوحة للمجتمعات المدنية وحقوق الٳنسان، وبوجود مساحة عالمية للديمقراطية ومدّها بالاستدامة والاستقرار والتنمية... هذه هي الأولوية، فيما تعكسه سياسات وقف الحرب في المنطقة (مشكورة قيادة دولة قطر) من ٳعادة الٳحساس بالتوازن السياسي في الشرق الأوسط وفي العالم. لكن لا ضمانات مع مجرى الأحداث في لغتها وتقلباتها وتحوّلاتها التي تجعل الناس تبدأ بالمطالبة بمنقذ من أمور متتابعة ومتشابهة على شكل تراجيديا دموية وسط عوالم أفرغت من كل مساءلة. ولم يأت الاقتناع بأن الدولة العبرية في حساباتها السياسية بشأن فلسطين وٳيران ودول الجوار في وضعٍ يسمح لها بٳعادة تشكيل الشرق الأوسط بشكل أعمق ولأفضل حال.
تبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
ظنّ العالم أنه تخلّص من القرن العشرين وجنونه، وأن العالم الجديد سيولد من المدن والنواحي السويولوجيّة والديمغرافيّة والأنثروبولوديّة والعمرانية والتنموية والبيئية بوصفها مراكز للسلام والحرية والعدالة والتضامن ومن تاريخ جديد ديمقراطي، لا من حروب الأنظمة الدينية والقومية المغلقة المرتبطة بها، والتي خلفت تداعيات عرضت ذاكرة المدينة وهويتها لمخاطر حقيقية ضاعفت من حدّتها وجسامتها النزاعات الداخلية التي احتدمت أكثر في البلدان العربية. وبلغت التحولات ذروتها في ما خلفته من دمار وتهجير وأسر ضحية البؤس والفقر والٳحباط والعزلة والٳقصاء وتصاعد الراديكالية والعنف... هي فوضى كبيرة، والموضوعات التي ترتبط فيها لا تعدّ ولا تحصى، وسببها الأساسي الظاهرة الٳسرائيلية المعزولة، وتنفيذها سياسات واسعة النطاق في الاحتلال والتوسع والعنصرية.
افتُتح القرن الواحد والعشرون على مشهد البرجين في نيويورك يسقطان، ومن تحتهما، سقطت ألف مدينة أخرى لم تُبْنَ بعد. من نيويورك إلى بغداد، من الموصل إلى صنعاء والخرطوم وطرابلس الغرب، من غزّة إلى بيروت، ومن دمشق وحمص وحلب إلى طهران وشيراز وأصفهان.. المدن لم تعد مدناً، بل باتت جبهات، مواقع قصف مباشر، أهدافاً دقيقة في بيانات الحرب. وتهدّد الحرب بصورة خطيرة الهياكل الاجتماعية وٳدارتها، وكل ما يرتبط بالتنوع الأحيائي الجوهري بالقيم الٳنسانية وأنماطها، وتحرّم كرامة كل من يقيمون فيها في مدن الشرق الأوسط، (ويبدو هذا في المستقبل مع مدن أخرى قابلة للتجزئة لجهة المخاطر التي تتهدّدها).
صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية والتوترات والنزاعات المرتبطة بفقدان الأمن الغذائي. كم مات في كييف وفي غزّة؟ كم بقي من جروح؟ من يحمل مفاتيح العودة؟ ومن يملك رخصة الهدم وٳعادة الٳعمار؟ ومن يملك بعدها توسيع فرص السلام في عقول الناس بمكاسب حاسمة أكثر بكثير من الحرب على المستقبل؟
المدينة التي كان يُفترض أن تكون حضناً للجميع لم ينجح العالم في حمايتها، ويكشف الوضع السائد عن فشل القوة، وكذلك النظام الاقتصادي الذي يقدم القروض والسلاح معاً. ويبدو العالم في القرن الحادي والعشرين في أقصى التفتت، وأقصى العنف. وتبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية
بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، بدأ ٳرهاب المدن الكبرى. بدأ كل ما يجري كأنه يردُّ على العالم الجديد، لا ليفنّده فقط، بل ليفجّره. والحرب أسوأ الخيارات، وكثيراً ما تكون أسهلها، مع السهولة المسؤولة عن قتل المدنيين، والسهولة المسؤولة للقادة الأيديولوجيين (وحتى الليبراليين) محبّي الحرب بحسابات أنانية قصيرة الأجل. صار يُنظر إلى المدن "أهدافاً" استراتيجية، لتُقصف بوصفها مراكز عسكرية. وكأن المدن، بدل أن تكون منارات الألفية، صارت ساحاتٍ لتصفية الحسابات بين القرنين، العشرين والواحد والعشرين. أراد العالم ألف مدينة، فأعطي ألف جبهة، وها نحن نعيش زمناً لم يعد يفرّق بين المدينة مكاناً للعيش والمدينة مكاناً للموت المتلفز.لا بوصفه صراعاً بين جيوش، بل قصة مدن تُستهدف، تُحاصر، تُهدم، تُخنق.
لم تعد الحرب مجرّد مواجهة عسكرية في ساحات تقليدية، بل أصبحت حرباً على الحياة اليومية، تُشنّ على الكهرباء والماء والمستشفيات (وما أكثرها في غزّة)، على الأطفال والنساء وٳرهاب المدنيين، وعلى البيوت التي كانت مأوى فأصبحت قبوراً، على الطرق التي كانت توصل الناس بعضهم ببعض، فصارت تفصلهم بالموت، فالمدينة لم تعد محايدة، بل تحوّلت إلى جبهة، وربما إلى الضحية الأوضح.
هو كلام هاملت... وليس كلام أي رجلٍ آخرعلى "تروث سوشال". هنا القوة! تغريدةٌ واحدة تُسقط بورصة، أخرى تُحيي صفقة، ثالثة تُعلن حرباً ثم تُلغيها في مشهد سياسي عالمي جديد مركّب، يعيد تشكيل العالم وجغرافيا المنطقة. صورة الخوف الكبير القائم في الشرق الأوسط مع تحدّيات السلام العبري الذي يجري تأسيسه.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 12 ساعات
- العربي الجديد
توقيع اتفاقية لإنشاء محكمة خاصة بأوكرانيا وروسيا ترفضها
أعلنت روسيا، اليوم الخميس، أنها ستتجاهل أحكام المحكمة الخاصة التي تهدف إلى محاكمة كبار المسؤولين الروس ، بعدما وقعت أوكرانيا ومجلس أوروبا المعني بحقوق الإنسان، أمس الأربعاء، اتفاقاً يشكل حجر الأساس لإنشاء المحكمة. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا للصحافيين إن "عمل هذه الهيئة وقراراتها لن تكون ذات قيمة بالنسبة لنا. سنعتبر انضمام أي دولة إليها عملاً عدائياً". ووقع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأمين العام لمجلس أوروبا آلان بيرسيه الاتفاق بمقر المجلس في مدينة ستراسبورغ الفرنسية. وقال زيلينسكي خلال مراسم التوقيع "هذه خطوة بالغة الأهمية حقاً. يجب أن يعرف كل مجرم حرب أن العدالة ستتحقق، وهذا يشمل روسيا. نحن الآن نعزز العمل القانوني بطريقة جادة". وأضاف "ما زال الطريق طويلاً أمامنا. واتفاق اليوم ليس إلا البداية. علينا اتخاذ خطوات حقيقية حتى ينجح. وسيتطلب الأمر تعاوناً سياسياً وقانونياً وثيقاً للتأكد من أن كل مجرم حرب روسي سيواجه العدالة، بما في ذلك (الرئيس فلاديمير) بوتين". وطالبت أوكرانيا بإنشاء مثل هذه المحكمة منذ بدء الحرب الروسية عليها في فبراير/ شباط 2022، متهمة القوات الروسية بارتكاب آلاف من جرائم الحرب، كما تعتزم محاكمة الروس على تنظيم الغزو. ووافق مجلس أوروبا المكون من 46 عضواً، والذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية لدعم حقوق الإنسان وسيادة القانون، على المحكمة في مايو/أيار، قائلاً إن الهدف منها هو أن تكون مكملة للمحكمة الجنائية الدولية وتسد الثغرات القانونية في الملاحقات القضائية. وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق بوتين، تتهمه بترحيل مئات الأطفال من أوكرانيا بشكل غير قانوني. ونظرياً يمكن لهذه المحكمة مقاضاة كبار المسؤولين الروس عن الغزو الروسي لأوكرانيا وصولاً إلى الرئيس بوتين. ويأمل مجلس أوروبا أن تبدأ المحكمة عملها العام المقبل. تبادل مجموعة جديدة من الأسرى من ناحية أخرى، تبادلت أوكرانيا وروسيا مجموعة جديدة من الجنود الأسرى اليوم بموجب اتفاق أبرم خلال محادثات في إسطنبول في وقت سابق من هذا الشهر. وقال زيلينسكي على وسائل التواصل الاجتماعي: "اليوم، يعود محاربون من القوات المسلحة والحرس الوطني وحرس الحدود إلى ديارهم"، ونشر صوراً للعسكريين المحررين وهم يبتسمون. وقالت وزارة الدفاع الروسية في بيان: "عادت مجموعة أخرى من العسكريين الروس من الأراضي التي يسيطر عليها نظام كييف". في الأثناء، نقلت وكالة "إنترفاكس" للأنباء عن الكرملين اليوم أنه لم يجر إحراز أي تقدم حتى الآن فيما يتعلق بتحديد موعد للجولة المقبلة من محادثات السلام مع أوكرانيا. ونقلت وكالة "تاس" عن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قوله إن روسيا تؤيد استمرار جهود الوساطة الأميركية. أخبار التحديثات الحية أردوغان: ترامب سيأتي إلى تركيا إذا حضر بوتين وبعد انقطاع دام أكثر من ثلاث سنوات، استأنفت روسيا وأوكرانيا محادثات مباشرة في إسطنبول في 16 مايو/أيار وفي الثاني من يونيو/ حزيران، في ما أدى إلى سلسلة من عمليات تبادل الأسرى وإعادة جثث الجنود القتلى. إلا أن هذه المحادثات لم تحقق أي تقدم يذكر نحو التوصل إلى وقف إطلاق النار الذي تسعى أوكرانيا، بدعم من الغرب، من أجل الوصول إليه. (فرانس برس، رويترز، العربي الجديد)


العربي الجديد
منذ 17 ساعات
- العربي الجديد
كان مفترضاً أن تكون ألف مدينة
كنّا نقرأ في العام 2000 على مقاعد الدراسة في كتاب "عالم جديد" لجيروم بانديه وفيديركو مايور عن برنامج الامم المتحدة الٳنمائي، وعن أن العالم يحتاج إلى ألف مدينة، إلى ألف حكاية، تبدأ من نافذة، لا من مدن ذاهبة من دمارٍ ٳلى آخر، فتقتل الحرب في الشرق الأوسط كل ما تقع عليه تحت وطأة القنابل الٳسرائيلية والأميركية، وفي شروط سلام صارت أصعب بعد المواجهة الٳسرائيلية – الٳيرانية أخيراً، مع حفاظ ٳسرائيل على حالة من عدم الاستقرار، بل الفوضى على حدودها المجاورة والبعيدة، التي لم تكن موضع معاهدات سلام، اعتماداً على القوة فترة طويلة، ما قد يغني عن أي تسويةٍ سلمية. فكرة أن تجرّ ٳسرائيل العالم ٳلى حربٍ أبدية خاصة بها، لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلّة. هذا ما صنعه بنيامين نتنياهو في غزّة، وما يفعله في الضفة الغربية، بينما يواصل جيشه، علاوة على ذلك قصف لبنان وسورية واليمن وٳيران كما يشاء. وهذا ما حلمت به الأحزاب القومية المتطرّفة والعنصرية، والتي تشكل جزءاً من الائتلاف الحاكم الأكثر يمينية في تاريخ الدولة اليهودية. وها هو البحر الأبيض المتوسط مسرحاً لتراكم مجموعة كبيرة من الحروب والنزاعات والصراعات الحضارية الراهنة، والمناقشات حول مستقبل السلاح النووي في مآلاته الكارثية. الناس خائفون، ٳنهم في مرمى النيران، وكل العالم اليوم يخاف من العالم، والشرعية الدولية، والسلطات تتفكّك، وتتحوّل إلى عالم هشّ. كان من المفترض أن تكون المدن أوطاناً للكرامة، مراكز للإبداع، لا مسارح للرعب في ظل سلام عالمي يتدهور، وشرعيّة خانقة واقتصاد منهك في عولمة اقتصادية (مفترض أن تكون عولمة العدالة والقانون والديمقراطية)، ونخبٍ عالمية تعاني فقدان السيطرة على المشهدين، السياسي والاجتماعي. لا توجد حالياً تدخّلات مدروسة بعناية من الحكومات والخبراء لرسم استراتيجية عالمية لٳنهاء الحروب، سواء في أوكرانيا أو غزّة، أو غيرهما، ووقف ما خلفته من تهجير ونزوح، ورؤية الحدود الحقيقية للقوة العسكرية الأميركية الصلبة في العقود الأخيرة، وما تنوي الدولة اليهودية أن تفعله بقوتها، مدعومة من أميركا ومن الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستخبارات التي أثبتت تفوّقها في لبنان وٳيران. تكلفة الإفراط في استخدامات القوة باهظة جدّاً، في حين أن حل مشكلتي الجوع والفقر ومواجهة تحدّيات المناخ في العالم، لا تحتاج ٳلى حرب عالمية ثالثة، بل ٳلى ٳرادة سياسية، وكذلك التفكير في ٳعادة ٳحياء المدينة بالحقوق الممنوحة للمجتمعات المدنية وحقوق الٳنسان، وبوجود مساحة عالمية للديمقراطية ومدّها بالاستدامة والاستقرار والتنمية... هذه هي الأولوية، فيما تعكسه سياسات وقف الحرب في المنطقة (مشكورة قيادة دولة قطر) من ٳعادة الٳحساس بالتوازن السياسي في الشرق الأوسط وفي العالم. لكن لا ضمانات مع مجرى الأحداث في لغتها وتقلباتها وتحوّلاتها التي تجعل الناس تبدأ بالمطالبة بمنقذ من أمور متتابعة ومتشابهة على شكل تراجيديا دموية وسط عوالم أفرغت من كل مساءلة. ولم يأت الاقتناع بأن الدولة العبرية في حساباتها السياسية بشأن فلسطين وٳيران ودول الجوار في وضعٍ يسمح لها بٳعادة تشكيل الشرق الأوسط بشكل أعمق ولأفضل حال. تبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ظنّ العالم أنه تخلّص من القرن العشرين وجنونه، وأن العالم الجديد سيولد من المدن والنواحي السويولوجيّة والديمغرافيّة والأنثروبولوديّة والعمرانية والتنموية والبيئية بوصفها مراكز للسلام والحرية والعدالة والتضامن ومن تاريخ جديد ديمقراطي، لا من حروب الأنظمة الدينية والقومية المغلقة المرتبطة بها، والتي خلفت تداعيات عرضت ذاكرة المدينة وهويتها لمخاطر حقيقية ضاعفت من حدّتها وجسامتها النزاعات الداخلية التي احتدمت أكثر في البلدان العربية. وبلغت التحولات ذروتها في ما خلفته من دمار وتهجير وأسر ضحية البؤس والفقر والٳحباط والعزلة والٳقصاء وتصاعد الراديكالية والعنف... هي فوضى كبيرة، والموضوعات التي ترتبط فيها لا تعدّ ولا تحصى، وسببها الأساسي الظاهرة الٳسرائيلية المعزولة، وتنفيذها سياسات واسعة النطاق في الاحتلال والتوسع والعنصرية. افتُتح القرن الواحد والعشرون على مشهد البرجين في نيويورك يسقطان، ومن تحتهما، سقطت ألف مدينة أخرى لم تُبْنَ بعد. من نيويورك إلى بغداد، من الموصل إلى صنعاء والخرطوم وطرابلس الغرب، من غزّة إلى بيروت، ومن دمشق وحمص وحلب إلى طهران وشيراز وأصفهان.. المدن لم تعد مدناً، بل باتت جبهات، مواقع قصف مباشر، أهدافاً دقيقة في بيانات الحرب. وتهدّد الحرب بصورة خطيرة الهياكل الاجتماعية وٳدارتها، وكل ما يرتبط بالتنوع الأحيائي الجوهري بالقيم الٳنسانية وأنماطها، وتحرّم كرامة كل من يقيمون فيها في مدن الشرق الأوسط، (ويبدو هذا في المستقبل مع مدن أخرى قابلة للتجزئة لجهة المخاطر التي تتهدّدها). صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية والتوترات والنزاعات المرتبطة بفقدان الأمن الغذائي. كم مات في كييف وفي غزّة؟ كم بقي من جروح؟ من يحمل مفاتيح العودة؟ ومن يملك رخصة الهدم وٳعادة الٳعمار؟ ومن يملك بعدها توسيع فرص السلام في عقول الناس بمكاسب حاسمة أكثر بكثير من الحرب على المستقبل؟ المدينة التي كان يُفترض أن تكون حضناً للجميع لم ينجح العالم في حمايتها، ويكشف الوضع السائد عن فشل القوة، وكذلك النظام الاقتصادي الذي يقدم القروض والسلاح معاً. ويبدو العالم في القرن الحادي والعشرين في أقصى التفتت، وأقصى العنف. وتبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، بدأ ٳرهاب المدن الكبرى. بدأ كل ما يجري كأنه يردُّ على العالم الجديد، لا ليفنّده فقط، بل ليفجّره. والحرب أسوأ الخيارات، وكثيراً ما تكون أسهلها، مع السهولة المسؤولة عن قتل المدنيين، والسهولة المسؤولة للقادة الأيديولوجيين (وحتى الليبراليين) محبّي الحرب بحسابات أنانية قصيرة الأجل. صار يُنظر إلى المدن "أهدافاً" استراتيجية، لتُقصف بوصفها مراكز عسكرية. وكأن المدن، بدل أن تكون منارات الألفية، صارت ساحاتٍ لتصفية الحسابات بين القرنين، العشرين والواحد والعشرين. أراد العالم ألف مدينة، فأعطي ألف جبهة، وها نحن نعيش زمناً لم يعد يفرّق بين المدينة مكاناً للعيش والمدينة مكاناً للموت المتلفز.لا بوصفه صراعاً بين جيوش، بل قصة مدن تُستهدف، تُحاصر، تُهدم، تُخنق. لم تعد الحرب مجرّد مواجهة عسكرية في ساحات تقليدية، بل أصبحت حرباً على الحياة اليومية، تُشنّ على الكهرباء والماء والمستشفيات (وما أكثرها في غزّة)، على الأطفال والنساء وٳرهاب المدنيين، وعلى البيوت التي كانت مأوى فأصبحت قبوراً، على الطرق التي كانت توصل الناس بعضهم ببعض، فصارت تفصلهم بالموت، فالمدينة لم تعد محايدة، بل تحوّلت إلى جبهة، وربما إلى الضحية الأوضح. هو كلام هاملت... وليس كلام أي رجلٍ آخرعلى "تروث سوشال". هنا القوة! تغريدةٌ واحدة تُسقط بورصة، أخرى تُحيي صفقة، ثالثة تُعلن حرباً ثم تُلغيها في مشهد سياسي عالمي جديد مركّب، يعيد تشكيل العالم وجغرافيا المنطقة. صورة الخوف الكبير القائم في الشرق الأوسط مع تحدّيات السلام العبري الذي يجري تأسيسه.


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
عن غياب الأمم المتحدة
تعيد الحرب الإيرانية الإسرائيلية إلى الواجهة أزمة الأمم المتحدة وغيابها المريع عن المسرح الدولي، بعد أن أضحت مجرّد هيكل مؤسّسي من دون فاعليةٍ تُذكر، أمام تغوّل الولايات المتحدة وإصرارها على الاستفراد بقيادة النظام الدولي. وإذا كانت هذه الأزمة تعود إلى عقود، فإنها الآن تنذر بعواقب وخيمة، أمام تصاعد حدّة التوترات الجيوسياسية في العالم، واحتمال انتقال كثيرٍ منها إلى حروب إقليمية كبرى لا تبقي ولا تذر. كانت حرب الإبادة والتطهير العرقي، التي شنتها، ولا تزال، دولة الاحتلال على قطاع غزّة، امتحاناً عسيراً لمدى قدرة الأمم المتحدة على الاضطلاع بدورها الرئيس، ''حفظ السلم والأمن الدوليَّين''. ولا مبالغة في القول إن هذه الحرب القذرة أسقطت آخر ورقة توت كانت المنظمة الأممية تستُر بها عورتها، فقد كان عجزها عن وقف آلة القتل الإسرائيلية مريعاً ومخزياً، وأخفقت شبكةُ مؤسّساتها ومجالسها ووكالاتها في توفير الحد الأدنى من الحماية الدولية للفلسطينيين، مكتفيةً بتدوير كلام مكرور، على ألسنة مسؤوليها، عن ''حل الدولتين'' الذي تدرك، ومعها الغربُ، استحالة تحقّقه بسبب سياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة التي تنفذها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا في وقت لا تتورّع الولايات المتحدة عن استعمال ''حق النقض''، كلما أتيح لها ذلك، للحيلولة دون التوصل إلى وقف لإطلاق النار، بما يُنهي مأساة سكّان القطاع، في استخفاف بمجلس الأمن وبالدور الذي يُفترض أن يضطلع به. ينطبق الشيء نفسه على الجمعية العامة، فقد طالبت، قبل نحو أسبوعين، بالوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزّة، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وإعادة الفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع. هذه المطالبة، على ما فيها من توازن بادٍ، لم تجد آذاناً مُصغية لدى الولايات المتحدة. حتى ذلك الإشعاع السياسي والدبلوماسي الذي كان لها (الجمعية العامة) في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، بسبب الوزن السياسي لبعض دول العالم الثالث آنذاك، تبدّد بعد أن جرت مياه كثيرة تحت جسور السياسة الدولية خلال العقود الأربعة الفائتة. لا يقتصر الأمر على حرب الإبادة في غزّة، بل يتعداه إلى حالة توتر جيوسياسي عامة تخيم على العالم، ولا سيما في ما له صلة بالصراع الأميركي الصيني والتداعيات بعيدة المدى للحرب الروسية الأوكرانية، فضلاً عن المخاطر الجيوسياسية التي كشفت عنها المواجهة الإيرانية الإسرائيلية أخيراً. يقلّص هذا الواقع هامش المبادرة أكثر أمام المنظمة الأممية، ويحدّ من قدرتها على حل النزاعات الدولية، أو على الأقل إدارتها بأقل التكاليف الممكنة. أصبحت الأمم المتحدة أداة طيّعة في يد الدول الغربية، وأساساً الولايات المتحدة، تؤثر في قراراتها، وفق أجنداتها ومصالحها وأولوياتها في بؤر التوتر في العالم، بإفراطها في استعمال ''حقّ النقض''، بشكل ينذر بتقويض أسس العلاقات الدولية، وفتح الطريق أمام تفكّك المنظومة الأممية التي تعتبر المصدر الوحيد للشرعية الدولية (إن وُجدت أصلاً) التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. قد يكون من السابق لأوانه القول إن حلَّ منظومة الأمم المتحدة بات ضرورياً في ظل الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. لكن المؤكد أنها، بشكلها وبنيتها الحاليَّين، تُفرغ كل حديث عن احترام مبادئ الشرعية الدولية من معناه، مع وجود كيانٍ إرهابي مارقٍ، لا يتورّع عن ارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي، في انتهاكٍ صارخٍ للاتفاقيات الدولية ذات الصلة، بسبب الدعم السياسي والعسكري الذي يتلقاه من الدول الغربية. حتى دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضده أمام محكمة العدل الدولية (الهيئة القضائية الرئيسة للأمم المتحدة)، تتهمه بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزّة، أصبح يكتنفها الغموض في ظل ما يتردّد عن ضغوط هائلة يتعرّض لها قضاة المحكمة من دوائر اللوبي الصهيوني. يقتضي إصلاح الأمم المتحدة توازناً في القوة والنفوذ والهيمنة بين القوى الدولية والإقليمية المؤثرة، بشكلٍ يساعد على تشكّل نظام دولي متعدّد الأقطاب؛ نظام يضمن احترام الشرعية الدولية وحمايتها من تغوّل الغرب.