
ما بين سوريا وجنوب أفريقيا
أيام مبهجة تعيشها سوريا هذه الفترة؛ فعقب إعلان كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، انتهت أكثر من ثلاثة عشر عاماً من العزلة المالية والسياسية التي فُرضت على خلفية الحرب المدمّرة. وشُكّلت حكومة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وهو ما عُد في الأوساط الدولية مؤشراً على انطلاق صفحة جديدة لسوريا، تُبنى فيها معالم الدولة على أسس مختلفة. هذه الخطوة التاريخية فتحت الأبواب أمام عودة سوريا إلى الساحة الاقتصادية العالمية، في وقت تعاني فيه البلاد من تحديات هائلة؛ من انكماش اقتصادي تجاوز 70 في المائة منذ عام 2011، وبنية تحتية مدمرة، ومؤسسات حكومية متهالكة. لكن التاريخ علّمنا أن الفرص الجديدة تولد من بين الأنقاض، وأن لحظات التحوّل الكبرى تُبنى على إرادة التجاوز لا على إرث المعاناة. والسؤال اليوم ليس فقط ما إذا كانت سوريا ستتعافى، بل كيف ستنهض؟ وبأي طموح ستبني مستقبلها الاقتصادي؟
إن التاريخ مليء بالتجارب الإيجابية لدول ظن البعض أنها لن تقوم لها قائمة، ولعل تجربة جنوب أفريقيا تمنح بارقة أمل وإطاراً واقعياً للتفاؤل؛ ففي ثمانينات القرن الماضي، كانت البلاد ترزح تحت نظام الفصل العنصري. وكانت العقوبات الاقتصادية والسياسية التي فرضها المجتمع الدولي شديدة الوطأة؛ فانهارت الاستثمارات، وتدهور النمو، وارتفعت البطالة، ودخلت البلاد في عزلة شبه تامة، لكن مع نهاية النظام العنصري في أوائل التسعينات، بدأت جنوب أفريقيا تتغير؛ فرُفعت العقوبات الدولية، وعادت رؤوس الأموال، ودخلت البلاد مرحلة من الازدهار الاقتصادي والسياسي.
خلال العقدين التاليين، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لجنوب أفريقيا مرتين، وعادت بورصتها لتكون من بين الأقوى في الأسواق الناشئة، وارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات غير مسبوقة، وزاد معدل النمو السنوي على 3 في المائة لأكثر من عقد ونصف، وغدت مكسباً لكل تجمّع اقتصادي دولي؛ فأصبحت البلاد إحدى دول «مجموعة العشرين»، ومجموعة «بريكس»، وشريكة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. صحيح أن عديد التحديات ظلت قائمة، إلا أن التجربة أكدت أن العزلة ليست نهاية الطريق، بل قد تكون بدايته إذا أُحسن الاستفادة من لحظة التحول.
وما يحدث عادة عند رفع العقوبات الدولية، أن تنفتح الآفاق الواسعة للنمو والازدهار، وتنشط القطاعات الحيوية مثل الطاقة، والنقل، والبنية التحتية، والاتصالات، والزراعة، والصناعات التحويلية، ويعود تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتُستأنف العمليات المصرفية والتجارية، مما يعزز من استقرار العملة، وتحسن المؤشرات الاقتصادية. كما تستعيد الدولة أصولها المجمدة، وتتمكن من الوصول إلى التمويل الدولي؛ ما يدعم المشاريع الكبرى، ويُعيد تشغيل المرافق الحيوية، وتنعكس هذه التحولات إيجابياً على حياة المواطنين من خلال توفر السلع والخدمات وفرص العمل، وتترافق مع عودة العلاقات الدبلوماسية.
وسوريا اليوم أمام لحظة شبيهة بالتجربة الجنوب أفريقية، بل ربما أكثر ثراءً بالفرص إذا ما أُحسن استثمارها؛ فالدول الصديقة، لا سيما من الإقليم، لم تتأخر في التعبير عن دعمها؛ فالسعودية سعت بقيادة ولي عهدها إلى رفع العقوبات عنها، مستثمرة حسن العلاقة والشراكة مع الولايات المتحدة خلال زيارة الرئيس دونالد ترمب للرياض، ليزور بعدها بأقل من شهر وزير الخارجية السعودي سوريا مع وفد اقتصادي رفيع المستوى لتعزيز العلاقة الاقتصادية، وهي وقطر بادرتا إلى تقديم دعم مالي مباشر لموظفي القطاع العام، وسدّدتا المستحقات السورية لدى البنك الدولي، بما يفتح المجال أمام عودة دمشق إلى مؤسسات التمويل العالمية. والكويت عبّرت عن رغبة واضحة في الاستثمار في إعادة الإعمار، ليزور بعدها الرئيس السوري الكويت بدعوة من أميرها. وتركيا بدأت تحشد شركاتها للمشاركة في المشاريع التنموية داخل سوريا، خصوصاً في مجالات الطاقة والنقل والبنية التحتية.
وجانَبَ الدعم الخارجي لسوريا، روحٌ جديدة متفائلة في الداخل السوري؛ فالجيل الشاب الذي عاش في قلب المعاناة، يتطلع اليوم إلى مستقبل مختلف، مبني على الشراكة، والعمل، والانفتاح على العالم، وإذا ما تم ربط هذه التطلعات بخطط واضحة للإصلاح، وتوفير بيئة قانونية وتشريعية جاذبة للاستثمار، فإن سوريا لا تستعيد فقط ما فقدته، بل تبني اقتصاداً أكثر تنوعاً وقدرة على الصمود.
إن ما تحتاجه سوريا الآن هو أن تثبت للعالم أن اللحظة السياسية الجديدة ليست عابرة، بل هي بداية لمسار من التعافي، يقوده السوريون أنفسهم، بمساندة شركائهم الإقليميين والدوليين. والعالم، وقد بدأ يفتح أبوابه من جديد أمام دمشق، لا ينتظر منها الكمال، بل ينتظر منها أن تمضي قدماً، بشجاعة، في طريق البناء. والتاريخ لا يعيد نفسه حرفياً، لكن دروسه حاضرة بوضوح؛ فكما نجحت جنوب أفريقيا في التحول من دولة منبوذة إلى شريك عالمي، يمكن لسوريا أن تنجح في بناء قصة تعافٍ مشرفة، تنطلق من جراح الماضي نحو اقتصاد مزدهر، ومجتمع متماسك، ودولة تستعيد مكانتها بثقة وتوازن. والمستقبل المشرق لا يأتي محض الصدفة، بل هو خيارٌ يُصنع، وسوريا اليوم أقرب إليه من أي وقت مضى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرجل
منذ 24 دقائق
- الرجل
جهاز قابل للارتداء من سوني يغيّر مفهوم الحر والبرد (فيديو)
أعلنت شركة سوني رسميًّا عن إطلاق جهاز "ريون بوكيت برو"، أحدث ابتكاراتها في مجال الأجهزة القابلة للارتداء، الذي يتيح للمستخدمين تبريدًا أو تدفئة شخصية مباشرة عبر الرقبة، بتصميم نحيف وذكي يتماشى مع مختلف البيئات والملابس. ويُعد هذا الإصدار الأحدث والأكثر تطورًا ضمن سلسلة "ريون بوكيت"، ويأتي مزودًا بوحدتين حراريتين مستقلتين، ليصبح بذلك أول طراز في السلسلة يقدم تقنية حرارية مزدوجة، تتيح توزيعًا أكثر فاعلية للبرودة والحرارة. اقرأ أيضًا: إطلاق كاميرا سوني FX2 بتصميم متطور ومواصفات متقدمة أداء فائق وتبريد مزدوج يعتمد الجهاز على مروحة مطورة وآلية جديدة لتبديد الحرارة، تتيح ضعف تدفق الهواء ومساحة التبريد مقارنة بالإصدارات السابقة. كما يوفر ما يصل إلى 34 ساعة تشغيل على أدنى مستوى تبريد، في حين يسمح وضع التبريد الذكي المطوّر بتوفير تبريد فعّال لمدة تصل إلى 15 ساعة، اعتمادًا على ظروف الطقس وسلوك المستخدم. يتّسم التصميم الجديد للجهاز بأنه أكثر انسيابية وهدوءًا بنسبة ضجيج أقل بـ 50% من الطرازات السابقة، فيما يتميّز حزام الرقبة بمرونة أكبر بفضل وصلة سيليكون وأنبوب ميكانيكي محسن يمنح ثباتًا وراحة أعلى. كما زُوّد الجهاز بزرّين جانبيين للوصول المباشر إلى وظائف التشغيل، من بينها التبديل بين وضعي التبريد والتدفئة، وتعديل مستويات الحرارة، ما يتيح استخدامه بسهولة حتى دون الحاجة لربطه بالهاتف الذكي. تكنولوجيا ذكية ومخصصة يعمل "ريون بوكيت برو" من خلال مستشعرات مدمجة مدعومة بخوارزميات استشعار حراري ذكية، تراقب في الوقت الحقيقي درجة الحرارة والرطوبة وسلوك المستخدم، لضبط الأداء تلقائيًّا وتوفير تجربة حرارية مُخصّصة على مدار اليوم. سيتوفر الجهاز الجديد في عدد من أسواق الشرق الأوسط بدءًا من يونيو 2025 وسيكون سعره 899 ريالًا سعوديًا.


صحيفة سبق
منذ 25 دقائق
- صحيفة سبق
مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى 10832 نقطة
أغلق مؤشر سوق الأسهم السعودية الرئيس اليوم منخفضًا (17.66) نقطة، ليقفل عند مستوى (10832.43) نقطة, وبتداولات بلغت قيمتها (3.5) مليارات ريال. وبلغت كمية الأسهم المتداولة، (169) مليون سهم، سجلت فيها أسهم (123) شركة ارتفاعًا في قيمتها, وأغلقت أسهم (106) شركات على تراجع. وكانت أسهم شركات مجموعة سينومي ريتيل، ونسيج، والأبحاث والإعلام، وبوبا العربية، وتسهيل، الأكثر ارتفاعًا, أما أسهم شركات يو سي آي سي، وسهل، والكيميائية، وبن داود، والإعادة السعودية، الأكثر انخفاضًا في التعاملات, وتراوحت نسب الارتفاع والانخفاض ما بين (6.71%) و(3.98%). وكانت أسهم شركات أمريكانا، والصناعات الكهربائية، وأرامكو السعودية، والباحة، والأهلي، هي الأكثر نشاطًا بالكمية, وكانت أسهم شركات الراجحي، وأرامكو السعودية، والأهلي، وSTC، ويو سي آي سي، هي الأكثر نشاطًا في القيمة. وأغلق مؤشر الأسهم السعودية الموازية (نمو) اليوم مرتفعًا (65.84) نقطة ليقفل عند مستوى (27049.84) نقطة, وبتداولات بلغت قيمتها أكثر من (24) مليون ريال, وبلغت كمية الأسهم المتداولة أكثر من (3) ملايين سهم.


صحيفة سبق
منذ 25 دقائق
- صحيفة سبق
الأمير فيصل بن فرحان يتلقى اتصالاً هاتفيًا من وزيرة خارجية كندا
تلقى الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله وزير الخارجية، اتصالاً هاتفيًا اليوم، من وزيرة خارجية كندا أنيتا أناند. وجرى خلال الاتصال بحث العلاقات الثنائية بين البلدين، ومناقشة المستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية.