
الغزالي حرب يعيش في أوهام الباشوية
الدكتور أسامة الغزالي حرب اسم كبير ومفكر يستحق الانتباه، لذلك عندما يكتب علينا أن نقرأ إذا أصاب نتفق معه وندافع عن فكرته، وإذا أخطأ علينا أن نعلن اختلافنا معه، ولأنه اسم كبير فكان لا بد للمختلف معه أن يذهب إليه مستنداً إلى أفكار وقناعات وبديهيات، حتى لا يلتهمنا الاسم الكبير لمجرد فارق السن والخبرة.
وعلى ذلك، أقول إن صدمة المجتمع المصري من الفكرة التي ألقاها الغزالي وانصرف، هي صدمة كبيرة فكيف لرجل عاقل راشد مثله أن يطرح علينا إمكانية عودة ألقاب الباشوية والبهوية من جديد، وأن يتم منح تلك الألقاب لمن قدم خدمات "جليلة" للمجتمع، متجاهلاً وعن عمد أن الشعب المصري بعماله وفلاحيه وموظفيه والمهنيين في هذا المجتمع كلهم يقدمون أعمالاً جليلة ولا فرق في العطاء بين عامل نظافة يكنس الشارع يومياً ورجل أعمال يرتاد البنوك يومياً، بل ثقتي في عامل النظافة أكبر.. وهنا نسأل عن معيار الخدمة الجليلة الذي يقترحه الغزالي، جليلة من أي زاوية يا دكتور؟
نحن الآن في زمنٍ يتطلع فيه العالم إلى الأمام، وبينما الحال هكذا جاء مقالك لتسعى إلى اجترار ماض ألغته ثورة حملت آمال المصريين في العدالة والمساواة، وكأن أشباح الماضي تحاول أن تعود ومع اقتراح الغزالي حرب بإحياء ألقاب "الباشا" و"البيه" التي طواها دستور الثورة عام ١٩٥٢ نجد أن هذا الاقتراح ليس مجرد دعوة لاستعادة مسميات، بل هو استدعاء لنظام طبقي كرَّس التفرقة والاستغلال، فكيف يمكن لمجتمعٍ يناضل من أجل تماسكه أن يعيد إنتاج أدوات التقسيم؟ ناهيك من أن تاريخ هذه الألقاب صارت رمزًا للاستعمار والفساد.
الألقاب ليست مجرد كلمات، بل هي وعي جمعي يُشكّل الهوية، فـ"الباشا" و"البيه" لم يكونا لقبين شرفيين، بل أداتين لفصل المجتمع إلى سادة وعبيد طبقة ارتبطت بالنخبة الحاكمة الموالية للاستعمار العثماني والبريطاني، تمتعت بامتيازاتٍ اقتصادية وسياسية، بينما عاش الغالبية في فقرٍ مدقع، إحياء هذه الألقاب اليوم يعني إعادة تعريف المواطنة عبر انتماءاتٍ طبقية، تُحوِّل الإنسان إلى "مرتبة" اجتماعية تُورَّث، لا إلى كائنٍ حرٍّ يصنع مكانته بجهده، هنا ينتفي مبدأ تكافؤ الفرص، وتتحول الديمقراطية إلى مسرحيةٍ يملك نجومها ألقابًا من ذهب.
وتاريخ الباشوية الذي يتراوح ما بين الاستعمار والاستبداد يجعلنا نقول بصدق إن "الباشا" لم يكن لقبًا بريئًا. في القرن التاسع عشر، منحته السلطات العثمانية لملاك الأراضي الذين استغلوا الفلاحين، ثم تحالفوا مع الاحتلال البريطاني لاحقًا ليصبحوا طبقة وسطى بين المستعمر والشعب. هؤلاء هم مَنْ قاومتهم ثورة ١٩١٩، ثم ثورة ١٩٥٢ التي رأت في إلغاء الألقاب ضربةً لصالح استقلال مصر الثقافي قبل السياسي، فالباشوات لم يكونوا حُماة الوطن، بل حراسًا لمصالحهم، حتى أن البعض وصفهم بأنهم "السرطان الذي أنهك جسد الأمة".
إن إعادة هذه الألقاب ستكون بمثابة إعلانٍ بانتصار الانقسام الطبقي، خاصةً في مجتمعٍ يعاني من فجواتٍ اقتصادية حادة، فكيف لشابٍ من الصعيد أن يشعر بالانتماء إلى وطنٍ يُنادى فيه غيره بـ"البيه" بينما يُنظر إليه كـ"مواطن من الدرجة الثانية"؟. الألقاب تخلق وعيًا زائفًا بالتفوق، وتُغذي النزعات الفردية على حساب المصلحة العامة، والأخطر أنها قد تعيد إنتاج تحالفات بين المال والسلطة، كما حدث أيام الملكية، حين كانت الصفقات تُبرم في قصور الباشوات، لا في مؤسسات الدولة.
التجربة التاريخية ودروس ثورة ١٩٥٢ تقول إن ثورة يوليو لم تكن مجرد تحرك عسكري، بل هي حركة ثورية هدفت إلى هدم التراتبية الاجتماعية بإلغاء الألقاب، وأرسلت الثورة رسالةً واضحة تقول إن المواطنين سواسية. وقد نجحت الثورة بدرجة ما في خلق جيلٍ آمن بالعلم والعمل سبيلًا للترقي، لا بالنسب أو الثروة، فالمدرس والطبيب والمهندس -بلا ألقاب- أصبحوا رموزًا للطبقة الوسطى التي كانت عماد النهضة، واليوم قد نختلف على إيجابيات الثورة وسلبياتها، لكن لا يمكن إنكار أن مساواتها الرمزية ساهمت في تعزيز الاندماج الوطني.
كنت أن انتظر من الغزالي حرب أن يحافظ معنا على الأمن الاجتماعي مطالبا بعدالةٍ تُذيب الفوارق، بدلًا من استعادة شعارات الماضي، وفي ظني ان الأجندة التي تحافظ على العدالة وتتجه نحو تعزيز سياساتٍ تُحقق تلك العدالة تتجلى في ضمان تعليمٌ للجميع وجودة التعليم الحكومي لتضمن مساواة الفرص، وكذلك الضرائب التصاعدية لتقليص الفجوة بين الطبقات عبر نظام ضريبي عادل، وتعظيم ثقافة التنمية من خلال إبراز نماذج النجاح الفردي الكفؤة، لا تلك المرتبطة بالانتماءات العائلية، كل هذا لن يكون إلا من خلال قوانين صارمة قائمة على تجريم التمييز بأشكاله، ومحاسبة من يتاجرون بالنفوذ، إلى جانب ضرورة تعزيز مفهوم "المواطنة الفاعلة" حيث يساهم الجميع في البناء سيكون درعًا ضد الانقسامات.
المؤكد هو أن الوطن لا يُبنى بألقابٍ من ورق.. إن دعوة الغزالي حرب - رغم نواياه - تُعيدنا إلى مربع السؤال الأكبر أي مصر نريد؟ هل نختزل الوطن في نخبةٍ تتحكم بمصائر البسطاء، أم نصنع مجتمعًا يتسع للجميع؟ التاريخ يُعلّمنا أن الأمم التي تقدّمت هي تلك التي جعلت الكفاءة معيارًا، لا الألقاب.
ولهذا لا ينبغي أن نسمح لأشباح الماضي أن تقود مستقبلنا، فمصر التي حطمت أغلال الاستعمار بقادرة على تجاوز كل محاولات تفكيك نسيجها الاجتماعي، شرط أن نتعلم من دروس الماضي، لا أن نعيد إنتاجه.
المنزعجون من مقال الغزالي حرب في رأيهم أن هذا الاقتراح ليس مجرد استدعاء بريء لمفردات لغوية، بل هو إحياء لشبح طبقي كافحت الثورة لطمسه، فكيف يمكن لمجتمع عانى قروناً من الاستعمار والاستغلال أن يعيد إنتاج أدوات التفرقة ذاتها؟ الذي تخفيه هذه الألقاب هو تاريخٍ مظلم وهل يُعقل أن ننسى دماء الفلاحين الذين سُحِقوا تحت نعل "الباشوات".
ألقاب مثل "الباشا" و"البيه" ليست مجرد كلمات تُزين الأسماء، بل هي شاراتٍ ترمز إلى نظامٍ هرمي قائم على القهر، أعرف ذلك جيدا والدكتور الغزالي يعرفه أيضا لذلك استغرب جداً من دعوته وننتظر منه تفسيرًا أو تفاسير أو اعتذارًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البوابة
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- البوابة
الباشاوية تطل برأسها من جديد؟!
في عموده المنشور بـ"الأهرام" تحت عنوان "نداء إلى باشوات مصر"، اقترح الدكتور أسامة الغزالي حرب إعادة العمل بلقب "باشا"، ولكن بشكل جديد "منظم ومدروس"، ليمنح – بحسب وصفه – لمن يقومون بأعمال "جليلة" ذات قيمة عالية وعالمية، في مجالات الثقافة والصناعة والزراعة. وبدلاً من أن يضرب أمثلة من أهل الفكر أو العلماء أو العاملين في خدمة المجتمع، اختار الدكتور قائمة شبه كاملة من رجال المال والأعمال المعروفين، ليقترح أن يحملوا جميعًا لقب "باشا"، مثل نجيب ساويرس، وطلعت مصطفى، وأحمد أبو هشيمة، وغيرهم. وعلى الرغم من أن الاقتراح قدم في سياق غير مألوف، إلا أنه يعكس رؤية أوسع: أن المكافأة الاجتماعية يمكن أن تُمنح للثروة، لا للفكرة، وللقوة الاقتصادية، لا للعطاء المجتمعي!.. وأن الألقاب -التي تخلصنا منها مع نهاية العهد الملكي- يمكن أن تعود، لكن هذه المرة بثوب "برلماني" حديث، وبرعاية "هيئة رفيعة المستوى" على حد وصفه!. إن الأزمة هنا يا دكتور أسامة ليست فقط في الحنين إلى رموز طبقية بائدة، بل في اختزال التقدير المجتمعي في أداة شكلية، تُمنح لِمن يملك، لا لِمن يجيد أو يخلص.! والسؤال هنا هو ، هل يحتاج الوطن الآن إلى توزيع ألقاب؟ أم يحتاج إلى منظومة تضمن تكافؤ الفرص، وحماية الحقوق، وخلق بيئة إنتاج حقيقية تقوم على الكفاءة لا النفوذ؟ المجتمع المصري غني فعلا -كما يقول الدكتور- ولكن ليس فقط بأصحاب المليارات، بل أيضا بمن يكدون في صمت، من الباحثين والمعلمين والأطباء والعاملين في الأرض والمصانع والمختبرات. فهل هؤلاء أيضا مرشحون للقب "باشا"؟! أم أن الباشاوية حكر على من يظهر في الإعلانات ويتصدر بورصات العقارات؟!.. نريد الإجابة من فضلك ! والحقيقة أن هذا الاقتراح لا يبدو معزولاً عن السياق العام، بل يأتي منسجماً مع نمط متصاعد لإعادة إنتاج النخبة، وترسيخ أدوار رمزية لرجال المال، ليس فقط في الاقتصاد، بل في الفضاء الاجتماعي والسياسي أيضاً!. ففي الوقت الذي تراجعت فيه الأدوار الحقيقية للمثقفين، وتضاءل فيه حضور الكفاءات العلمية، تفتح الأبواب أمام من يملكون الثروة، ليحصلوا على رموز اجتماعية إضافية، تعزز مكانتهم وترسخ وجودهم كقوة مهيمنة، لها دورها في رسم ملامح الدولة كما يراد لها أن تكون.!! اقتراح الألقاب - مهما بدا بسيطاً أو رمزياً - يطرح تساؤلات أعمق عن نوع المجتمع الذي نريده: هل هو مجتمع يتسابق فيه الأفراد على اللقب والهيبة؟ أم على قيمة ما يقدمونه من علم، وعدالة، وإسهام حقيقي في حياة الناس؟ قد يرى البعض، منهم د.الغزالي حرب، أن هذه الألقاب تشجيع لأصحاب الثروة على التفاعل الإيجابي مع الشأن العام، لكن الأجدى -والأكثر عدالة - أن تبنى القيمة على العطاء الحقيقي، وأن تكون مكانة الإنسان نابعة مما يضيفه، لا مما يملكه.! فالجمهورية الجديدة في وطننا الغالي مصر، لكل فئات المجتمع وليس لأصحاب الألقاب والثروات فقط!.. وذلك رد متواضع من السيد: فتحي حسين ـ أفندي ـ عامر !


البوابة
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- البوابة
الغزالي حرب يعيش في أوهام الباشوية
الدكتور أسامة الغزالي حرب اسم كبير ومفكر يستحق الانتباه، لذلك عندما يكتب علينا أن نقرأ إذا أصاب نتفق معه وندافع عن فكرته، وإذا أخطأ علينا أن نعلن اختلافنا معه، ولأنه اسم كبير فكان لا بد للمختلف معه أن يذهب إليه مستنداً إلى أفكار وقناعات وبديهيات، حتى لا يلتهمنا الاسم الكبير لمجرد فارق السن والخبرة. وعلى ذلك، أقول إن صدمة المجتمع المصري من الفكرة التي ألقاها الغزالي وانصرف، هي صدمة كبيرة فكيف لرجل عاقل راشد مثله أن يطرح علينا إمكانية عودة ألقاب الباشوية والبهوية من جديد، وأن يتم منح تلك الألقاب لمن قدم خدمات "جليلة" للمجتمع، متجاهلاً وعن عمد أن الشعب المصري بعماله وفلاحيه وموظفيه والمهنيين في هذا المجتمع كلهم يقدمون أعمالاً جليلة ولا فرق في العطاء بين عامل نظافة يكنس الشارع يومياً ورجل أعمال يرتاد البنوك يومياً، بل ثقتي في عامل النظافة أكبر.. وهنا نسأل عن معيار الخدمة الجليلة الذي يقترحه الغزالي، جليلة من أي زاوية يا دكتور؟ نحن الآن في زمنٍ يتطلع فيه العالم إلى الأمام، وبينما الحال هكذا جاء مقالك لتسعى إلى اجترار ماض ألغته ثورة حملت آمال المصريين في العدالة والمساواة، وكأن أشباح الماضي تحاول أن تعود ومع اقتراح الغزالي حرب بإحياء ألقاب "الباشا" و"البيه" التي طواها دستور الثورة عام ١٩٥٢ نجد أن هذا الاقتراح ليس مجرد دعوة لاستعادة مسميات، بل هو استدعاء لنظام طبقي كرَّس التفرقة والاستغلال، فكيف يمكن لمجتمعٍ يناضل من أجل تماسكه أن يعيد إنتاج أدوات التقسيم؟ ناهيك من أن تاريخ هذه الألقاب صارت رمزًا للاستعمار والفساد. الألقاب ليست مجرد كلمات، بل هي وعي جمعي يُشكّل الهوية، فـ"الباشا" و"البيه" لم يكونا لقبين شرفيين، بل أداتين لفصل المجتمع إلى سادة وعبيد طبقة ارتبطت بالنخبة الحاكمة الموالية للاستعمار العثماني والبريطاني، تمتعت بامتيازاتٍ اقتصادية وسياسية، بينما عاش الغالبية في فقرٍ مدقع، إحياء هذه الألقاب اليوم يعني إعادة تعريف المواطنة عبر انتماءاتٍ طبقية، تُحوِّل الإنسان إلى "مرتبة" اجتماعية تُورَّث، لا إلى كائنٍ حرٍّ يصنع مكانته بجهده، هنا ينتفي مبدأ تكافؤ الفرص، وتتحول الديمقراطية إلى مسرحيةٍ يملك نجومها ألقابًا من ذهب. وتاريخ الباشوية الذي يتراوح ما بين الاستعمار والاستبداد يجعلنا نقول بصدق إن "الباشا" لم يكن لقبًا بريئًا. في القرن التاسع عشر، منحته السلطات العثمانية لملاك الأراضي الذين استغلوا الفلاحين، ثم تحالفوا مع الاحتلال البريطاني لاحقًا ليصبحوا طبقة وسطى بين المستعمر والشعب. هؤلاء هم مَنْ قاومتهم ثورة ١٩١٩، ثم ثورة ١٩٥٢ التي رأت في إلغاء الألقاب ضربةً لصالح استقلال مصر الثقافي قبل السياسي، فالباشوات لم يكونوا حُماة الوطن، بل حراسًا لمصالحهم، حتى أن البعض وصفهم بأنهم "السرطان الذي أنهك جسد الأمة". إن إعادة هذه الألقاب ستكون بمثابة إعلانٍ بانتصار الانقسام الطبقي، خاصةً في مجتمعٍ يعاني من فجواتٍ اقتصادية حادة، فكيف لشابٍ من الصعيد أن يشعر بالانتماء إلى وطنٍ يُنادى فيه غيره بـ"البيه" بينما يُنظر إليه كـ"مواطن من الدرجة الثانية"؟. الألقاب تخلق وعيًا زائفًا بالتفوق، وتُغذي النزعات الفردية على حساب المصلحة العامة، والأخطر أنها قد تعيد إنتاج تحالفات بين المال والسلطة، كما حدث أيام الملكية، حين كانت الصفقات تُبرم في قصور الباشوات، لا في مؤسسات الدولة. التجربة التاريخية ودروس ثورة ١٩٥٢ تقول إن ثورة يوليو لم تكن مجرد تحرك عسكري، بل هي حركة ثورية هدفت إلى هدم التراتبية الاجتماعية بإلغاء الألقاب، وأرسلت الثورة رسالةً واضحة تقول إن المواطنين سواسية. وقد نجحت الثورة بدرجة ما في خلق جيلٍ آمن بالعلم والعمل سبيلًا للترقي، لا بالنسب أو الثروة، فالمدرس والطبيب والمهندس -بلا ألقاب- أصبحوا رموزًا للطبقة الوسطى التي كانت عماد النهضة، واليوم قد نختلف على إيجابيات الثورة وسلبياتها، لكن لا يمكن إنكار أن مساواتها الرمزية ساهمت في تعزيز الاندماج الوطني. كنت أن انتظر من الغزالي حرب أن يحافظ معنا على الأمن الاجتماعي مطالبا بعدالةٍ تُذيب الفوارق، بدلًا من استعادة شعارات الماضي، وفي ظني ان الأجندة التي تحافظ على العدالة وتتجه نحو تعزيز سياساتٍ تُحقق تلك العدالة تتجلى في ضمان تعليمٌ للجميع وجودة التعليم الحكومي لتضمن مساواة الفرص، وكذلك الضرائب التصاعدية لتقليص الفجوة بين الطبقات عبر نظام ضريبي عادل، وتعظيم ثقافة التنمية من خلال إبراز نماذج النجاح الفردي الكفؤة، لا تلك المرتبطة بالانتماءات العائلية، كل هذا لن يكون إلا من خلال قوانين صارمة قائمة على تجريم التمييز بأشكاله، ومحاسبة من يتاجرون بالنفوذ، إلى جانب ضرورة تعزيز مفهوم "المواطنة الفاعلة" حيث يساهم الجميع في البناء سيكون درعًا ضد الانقسامات. المؤكد هو أن الوطن لا يُبنى بألقابٍ من ورق.. إن دعوة الغزالي حرب - رغم نواياه - تُعيدنا إلى مربع السؤال الأكبر أي مصر نريد؟ هل نختزل الوطن في نخبةٍ تتحكم بمصائر البسطاء، أم نصنع مجتمعًا يتسع للجميع؟ التاريخ يُعلّمنا أن الأمم التي تقدّمت هي تلك التي جعلت الكفاءة معيارًا، لا الألقاب. ولهذا لا ينبغي أن نسمح لأشباح الماضي أن تقود مستقبلنا، فمصر التي حطمت أغلال الاستعمار بقادرة على تجاوز كل محاولات تفكيك نسيجها الاجتماعي، شرط أن نتعلم من دروس الماضي، لا أن نعيد إنتاجه. المنزعجون من مقال الغزالي حرب في رأيهم أن هذا الاقتراح ليس مجرد استدعاء بريء لمفردات لغوية، بل هو إحياء لشبح طبقي كافحت الثورة لطمسه، فكيف يمكن لمجتمع عانى قروناً من الاستعمار والاستغلال أن يعيد إنتاج أدوات التفرقة ذاتها؟ الذي تخفيه هذه الألقاب هو تاريخٍ مظلم وهل يُعقل أن ننسى دماء الفلاحين الذين سُحِقوا تحت نعل "الباشوات". ألقاب مثل "الباشا" و"البيه" ليست مجرد كلمات تُزين الأسماء، بل هي شاراتٍ ترمز إلى نظامٍ هرمي قائم على القهر، أعرف ذلك جيدا والدكتور الغزالي يعرفه أيضا لذلك استغرب جداً من دعوته وننتظر منه تفسيرًا أو تفاسير أو اعتذارًا.


البوابة
١٣-٠٤-٢٠٢٥
- البوابة
جدل واسع بعد اقتراح إعادة 'الباشوية'.. مؤرخون: نكوص عن قيم الجمهورية
أثار اقتراح الدكتور أسامة الغزالي حرب، المفكر السياسي، بإعادة إحياء الألقاب المدنية القديمة مثل 'الباشا' و'البك' في مصر، جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي وبين أوساط المثقفين والمؤرخين، وسط انقسام حاد بين من يرى في الفكرة وسيلة لتكريم المتميزين، ومن يعتبرها تراجعًا خطيرًا عن مبادئ العدالة الاجتماعية التي أرستها ثورة يوليو 1952. الاقتراح الذي أشعل النقاش في مقاله المنشور مؤخرًا، دعا "الغزالي" حرب إلى إعادة منح الألقاب الملكية التي أُلغيت عقب سقوط النظام الملكي في مصر، مقترحًا إعادة 'الباشوية' بصيغة جديدة تُمنح للشخصيات العامة ورجال الأعمال الذين يسهمون بجهود مالية أو إنجازات مؤثرة لصالح الدولة، مع التأكيد على أن الهدف ليس إحياء النظام الطبقي، بل إيجاد آلية لتكريم العطاء العام، وضرب أمثلة بأسماء مثل نجيب ساويرس، ومحمد أبوالعينين، وناصف ساويرس، معتبرًا أن هؤلاء يستحقون ألقابًا شرفية تشجيعًا لمساهماتهم في الاقتصاد. واقترح "الغزالي" أيضًا إنشاء هيئة مستقلة تتولى ترشيح المستحقين وفق معايير دقيقة، على أن تُعرض الأسماء على البرلمان لاعتمادها، مشيرًا إلى أن مثل هذا النظام مطبق في دول كبرى مثل بريطانيا، التي لا تزال تمنح ألقابًا شرفية كـ'سير' و'فارس' لأشخاص ذوي تأثير كبير. ردود فعل حادة من مؤرخين ومثقفين لم تمر دعوة "الغزالي" مرور الكرام، فقد جاءت الردود من عدد من المؤرخين والنخبة الفكرية في مصر حاسمة في رفضها، ووصفت الفكرة بأنها غير مناسبة للمرحلة التي تمر بها البلاد والمنطقة. الدكتور عبدالرحيم علي رئيس تحرير ومجلس إدارة البوابة نيوز، قال على صفحته الشخصية فيسبوك: "إلى أسامة الغزالي حرب ومن على شاكلته.. لن يحدث ما تفكر فيه أنت وأسيادك ما دام فينا قلب ينبض.. وما دام هؤلاء الباشوات الحقيقيون يسكنون قلوبنا.. ويا أفندم نادهم أنت.. يا باشا ويا بيه.. مش لازم الشعب كله يناديهم بالألقاب دي بقانون يسن". ونال تصريح "عبدالرحيم" إعجاب وتأييد رواد مواقع التواصل الاجتماعي وأن شهداء مصر ومن يضحون بأرواحهم من أجلها هم من يستحقون لقب بشوات وغيرها من التعليقات التي ترفض مقترح "الغزالي" بشدة. وأعرب الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، عن اندهاشه من طرح الفكرة في توقيت 'يغلي فيه العالم بالأزمات'، واعتبرها 'هزلًا في وقت الجد'، مؤكدًا أن العودة لرموز النظام الإقطاعي لا تتماشى مع التحديات الحالية التي تستلزم التفكير في حلول واقعية وليس رمزية. أما الدكتور عاصم الدسوقي، المؤرخ وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، فقد ذهب إلى أن هذا الاقتراح يُعد ارتدادًا عن مسار استغرق عقودًا لتحقيق المساواة والعدالة، مشيرًا إلى أن النظام الطبقي قبل 1952 لم يكن قائمًا فقط على التفاوت بين الفقراء والأغنياء، بل كان طبقيًا داخل الطبقة الواحدة أيضًا، حيث فُرضت الألقاب بناء على القرب من القصر الملكي أو عبر التبرعات والمجاملات السياسية. الدسوقي استحضر مثالًا شهيرًا للفنانة أم كلثوم، التي نالت لقب 'صاحبة العصمة' من الملك فاروق بعد تحريف كلمات أغنية خلال حفل حضره الملك، ما يعكس – حسب قوله – كيف كانت الألقاب تُمنح في أجواء من التبجيل والنفاق، وليس على أساس الإنجاز الحقيقي. تاريخ الألقاب في مصر.. من الهيبة إلى النسيان لقب 'الباشا' لم يكن مجرد مجاملة لفظية، بل كان يحمل وزنًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا في مصر منذ عهد محمد علي باشا وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت تُمنح هذه الألقاب من الباب العالي في الدولة العثمانية، ثم السلطان، ثم الملك بعد إعلان المملكة المصرية عام 1922، وقد جرى تنظيم منح هذه الألقاب رسميًا بقرار ملكي في عهد فؤاد الأول، حيث قُسمت إلى درجات متفاوتة منها 'الرياسة' و'الامتياز' و'الباشوية'، بحسب الراتب والمكانة الوظيفية، إلى أن جاء قرار إلغائها في أعقاب ثورة يوليو، وتم استبدالها بلقب 'المحترم' في جميع المخاطبات الرسمية. دستور يمنع الألقاب.. لكن استخدامها مستمر ورغم المنع الدستوري الصريح لإنشاء أو إعادة الرتب المدنية، والذي أُدرج منذ دستور 1956 وحتى آخر نسخة للدستور عام 2014 (المادة 26)، إلا أن استخدام الألقاب مثل 'باشا' و'بيه' ما زال قائمًا في الأحاديث العامة وبعض المؤسسات، كنوع من التعبير عن التقدير أو السلطة، خاصة عند مخاطبة رجال المال أو المسؤولين السابقين. بين النية والتوقيت.. هل يُعيد الجدل تعريف معنى التكريم؟ يرى البعض أن اقتراح الغزالي حرب قد يحمل نية لتحفيز الأغنياء على خدمة الصالح العام، إلا أن توقيته وسياقه أُسقطا عليه ظلالًا من الشك والرفض، خصوصًا في ظل ما تعانيه مصر من أزمات اقتصادية تتطلب خططًا هيكلية لا عبارات بروتوكولية، فيما علق رواد مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا على اقتراح "الغزالي" رافضين ما اثاره تماما "الغزالي" وان اللقب سيعطى لمن يستحق بالمال حتى لو متهمين في قضايا اخرى، وان هذا اللقب يعود بمصر للوراء في زمن التكنولوجيا والتقدم الذي يشهده العالم كيف يمكن تطبيق مقترح لا فائدة منه بدلا من مواكبة الدول المتقدمة". ومن ضمن التعليقات على المقترح انه رغم تطبيقها مقابل المال لن تحل الازمات الاقتصادية في مصر والخروج من تلك الأزمة يحتاج لافكار وحلول من خبراء ومن يحب ان يقول لقب "باشا" لاي شخص يقول مثلما يريد ولا يقترح هذا القرار على دولة بالكامل ويعطي القرارات للمسؤولين في الدولة، ويبقى السؤال: هل يعود الجدل حول 'الباشوية' اليوم ليكشف فجوة أعمق في تعريفنا للمكانة الاجتماعية والتقدير؟ أم أنه مجرد صدى لفكرة غير قابلة للتطبيق في مجتمعٍ ثار قبل أكثر من سبعين عامًا لإسقاطها؟