
كيف يكشف الذكاء الاصطناعي أسرار الدماغ خلال المحادثات اليومية؟
تُعدّ اللغة واحدة من أعقد القدرات البشرية وأكثرها تميزًا، إذ تتطلب تناغمًا دقيقًا بين مناطق متعددة في الدماغ لتحويل الأفكار إلى كلمات، والكلمات إلى معانٍ مفهومة، وقد سعى العلماء على مدى عقود إلى كشف الآليات التي تقوم عليها هذه العملية، لكنهم غالبًا ما درسوا اللغة كمجموعة من العناصر المنفصلة وهي: الأصوات اللغوية، والقواعد، والمعاني، دون وجود نموذج موحد يجمع هذه العناصر معًا.
ولكن اليوم، وبفضل تقاطع علم الأعصاب مع الذكاء الاصطناعي، بدأنا نرى صورة أوضح لهذا اللغز المعقد، إذ طور فريق من الباحثين نهجًا مبتكرًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لاستكشاف كيفية معالجة الدماغ للكلام في أثناء المحادثات اليومية.
فمن خلال الجمع بين تسجيلات المحادثات الطبيعية في الدماغ باستخدام تقنية التخطيط الكهربائي للدماغ (ECoG)، ونماذج التعلم العميق، تمكنوا من إنشاء نظام يتنبأ بالنشاط العصبي أثناء المناقشات الواقعية، مما يفتح آفاقًا جديدة في فهمنا للغة والإدراك البشري.
وقد اعتمد الباحثون في دراستهم على نموذج الذكاء الاصطناعي (ويسبر) Whisper، الذي طورته شركة (OpenAI)، والذي يتميز بقدرته على تحويل الصوت إلى نص بدقة عالية، وقد مكن هذا النموذج الباحثين من رسم خريطة للنشاط الدماغي الذي يحدث في أثناء المحادثات بدقة تفوق النماذج التقليدية التي تعتمد على تشفير خصائص محددة لبنية اللغة، مثل: الصوتيات وأجزاء الكلام.
وبدلًا من ذلك، يعتمد نموذج (Whisper) المستخدم في الدراسة يعتمد على نهج إحصائي بحت، إذ يبدأ النموذج بتحليل ملفات صوتية مصحوبة بنصوصها المكتوبة كبيانات تدريب، ثم يستخدم الإحصاءات الناتجة عن هذا التحليل للتنبؤ بالنصوص من ملفات صوتية جديدة لم يسمعها من قبل.
وما يميز هذا النموذج هو أنه لم يُبرمج سابقًا بأي قواعد لغوية، لكن الدراسة كشفت أن الهياكل اللغوية ظهرت تلقائيًا بعد التدريب، مما يعكس قدرته على اكتشاف اللغة بنحو مستقل.
ويسلط هذا الاكتشاف الضوء على كيفية عمل النماذج اللغوية الكبيرة، التي تعتمد على تحليل كميات ضخمة من البيانات النصية والصوتية لتعلم اللغة، ولكن الفريق البحثي يركز بنحو أكبر في الرؤى التي تقدمها الدراسة حول اللغة والإدراك البشري، ويرى الباحثون أن تحديد أوجه التشابه بين كيفية تطوير النموذج لقدرات معالجة اللغة، وكيفية تطوير الأشخاص لهذه المهارات، سيفتح الباب أمام تطوير تقنيات متقدمة لتعرف الكلام ومساعدة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في التواصل.
تفاصيل الدراسة ونتائجها:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة (Nature Human Behaviour)، وشملت أربعة أشخاص مصابين بالصرع كانوا يخضعون لعمليات جراحية لزرع أقطاب كهربائية في أدمغتهم لمراقبة الدماغ لأغراض طبية، وبموافقتهم، سجل الباحثون جميع محادثاتهم طوال مدة إقامتهم في المستشفى، التي تراوحت بين عدة أيام وأسبوع، لتصل مدة التسجيلات إلى أكثر من 100 ساعة من الصوت.
وقد جُهز كل مشارك بعدد من الأقطاب الكهربائية تتراوح بين 104 و255 قطبًا كهربائيًا لرصد نشاط الدماغ، مما سمح بدراسة تفصيلية لكيفية تفاعل مناطق الدماغ المختلفة أثناء التحدث والاستماع.
وقد كشفت الدراسة عن كيفية انخراط أجزاء مختلفة من الدماغ أثناء المهام المطلوبة لإنتاج الكلام وفهمه، إذ وجد الباحثون أن مناطق معينة في الدماغ تميل إلى الارتباط ببعض المهام، مثل (التلفيف الصدغي العلوي) superior temporal gyrus، الذي يظهر نشاطًا أكثر عند التعامل مع المعلومات السمعية، و(التلفيف الجبهي السفلي) inferior frontal gyrus، الذي يكون أكثر نشاطًا لفهم معنى اللغة.
كما أظهرت الدراسة أن هذه المناطق تنشط بالتتابع، إذ يجري تنشيط المنطقة المسؤولة عن سماع الكلمات قبل المنطقة المسؤولة عن تفسيرها. ومع ذلك، لاحظ الباحثون أيضًا أن هناك مناطق تنشط في أثناء الأنشطة التي لم يكن معروفًا أنها متخصصة فيها، مما يدعم فكرة أن الدماغ يعتمد على نهج موزع في معالجة اللغة.
ربط نماذج الذكاء الاصطناعي بالوظائف الداخلية للدماغ:
استخدم الباحثون نسبة بلغت 80% من التسجيلات الصوتية ونسخها النصية المصاحبة لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي (Whisper)، وقد صُمم هذا التدريب لتمكين النموذج من التنبؤ بالنصوص المتبقية، التي تمثل نسبة 20% من البيانات الصوتية.
وبعد ذلك، حلل الفريق البحثي كيفية معالجة نموذج (Whisper) للتسجيلات الصوتية والنسخ النصية، ورسم خرائط لهذه التمثيلات لتتوافق مع النشاط الدماغي الذي سجلته الأقطاب الكهربائية المزروعة في أدمغة المشاركين. وبعد هذا التحليل الشامل، تمكن الباحثون من استخدام النموذج للتنبؤ بالنشاط الدماغي المصاحب للمحادثات التي لم يجري تضمينها في بيانات التدريب الأصلية، وقد أظهر النموذج دقة تفوق بكثير دقة النماذج التقليدية التي تعتمد على مزايا محددة لبنية اللغة.
والجدير بالذكر أن الباحثين لم يبرمجوا النموذج ليتعرف الصوتيات أو الكلمات بنحو صريح، ولكنهم اكتشفوا أن هذه الهياكل اللغوية ظهرت تلقائيًا في طريقة عمل النموذج على النصوص، ويعني ذلك أن النموذج استخرج هذه المزايا دون توجيه مباشر، مما يشير إلى قدرته على محاكاة عمليات الدماغ البشري.
آفاق مستقبلية وتحديات:
يرى خبراء مثل ليونهارد شيلباخ من مركز ميونيخ لعلوم الأعصاب أن هذه الدراسة رائدة، لأنها تظهر وجود رابط بين طريقة عمل نموذج حسابي لتحويل الصوت إلى كلام ثم إلى لغة، ووظائف الدماغ. ومع ذلك، أشار شيلباخ إلى أن هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث للتحقق من وجود أوجه تشابه حقيقية في الآليات التي تستخدمها النماذج اللغوية والدماغ لمعالجة اللغة.
ومن جانبه، أكد جاسبر بيجوش، الأستاذ المشارك في قسم اللغويات بجامعة كاليفورنيا بيركلي، أن مقارنة الدماغ بالشبكات العصبية الاصطناعية تمثل مجالًا بحثيًا بالغ الأهمية. وقال: 'إذا تمكنا من فهم آليات عمل الخلايا العصبية الاصطناعية والبيولوجية، وأوجه التشابه بينهما، فسنتمكن من إجراء تجارب ومحاكاة لا يمكن إجراؤها على الدماغ البيولوجي'.
ومن ثم، تمثل هذه الدراسة خطوة مهمة نحو سد الفجوة بين علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي، فمن خلال نمذجة اللغة البشرية باستخدام التعلم العميق، نقترب من فك شفرة نظام الاتصال المعقد في الدماغ، مما يفتح الباب أمام اختراعات جديدة في مجالات مثل واجهات الدماغ والحاسوب.
ما أهمية هذه الدراسة؟
تكمن أهمية هذه الدراسة في عدة جوانب:
فهم أعمق للإدراك البشري: تساعد الدراسة في فهم كيفية معالجة الدماغ للغة وكيفية عمل الإدراك البشري.
تساعد الدراسة في فهم كيفية معالجة الدماغ للغة وكيفية عمل الإدراك البشري. تطوير تقنيات مساعدة: يمكن أن تساعد نتائج الدراسة في تطوير تقنيات لمساعدة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في التواصل، مثل الأشخاص الذين يعانون اضطرابات الكلام أو السمع.
يمكن أن تساعد نتائج الدراسة في تطوير تقنيات لمساعدة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في التواصل، مثل الأشخاص الذين يعانون اضطرابات الكلام أو السمع. تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي: تسلط الدراسة الضوء على كيفية عمل النماذج اللغوية الكبيرة، مما يمكن أن يساعد في تحسين هذه النماذج وجعلها أكثر دقة وفعالية.
تسلط الدراسة الضوء على كيفية عمل النماذج اللغوية الكبيرة، مما يمكن أن يساعد في تحسين هذه النماذج وجعلها أكثر دقة وفعالية. ربط الذكاء الاصطناعي بوظائف الدماغ: توضح الدراسة وجود صلة بين عمل نماذج الذكاء الاصطناعي ووظائف الدماغ، مما يفتح آفاقًا جديدة في فهمنا للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإدراك البشري.
الخلاصة:
تؤكد هذه الدراسة أن اللغة ليست مجرد مجموعة من المكونات المنفصلة، بل هي نظام متكامل ومعقد، سواء في الدماغ البشري أو في نماذج الذكاء الاصطناعي، ومن خلال الاستمرار في استكشاف هذا المجال، يمكننا أن نكشف المزيد من أسرار التواصل ونفتح آفاقًا جديدة في فهم أنفسنا والعالم من حولنا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البوابة العربية للأخبار التقنية
منذ 2 ساعات
- البوابة العربية للأخبار التقنية
'ستارجيت الإمارات'.. تحالف عالمي يقود ثورة البنية التحتية للذكاء الاصطناعي من أبوظبي
في خطوة تاريخية تُعزز مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي والتعاون التكنولوجي، أطلقت مجموعة من الشركات التكنولوجية الرائدة عالميًا مشروع (ستارجيت الإمارات) Stargate UAE، ضمن مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي الأمريكي في أبوظبي، الذي تبلغ طاقته التشغيلية 5 جيجاواط، ليكون مركزًا دوليًا للبنية التحتية المتقدمة في هذا المجال. ويمثل هذا المشروع المشترك، الذي يضم عمالقة مثل: (جي 42) الإماراتية، و(OpenAI)، وأوراكل، وإنفيديا، ومجموعة سوفت بنك، وسيسكو، مجمع حوسبة ضخم متطور للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، يهدف إلى تسريع الابتكار وتعميق التعاون الدولي في هذا المجال الحيوي. تفاصيل مشروع (ستارجيت الإمارات): يُعدّ مشروع (ستارجيت الإمارات) مجمع حوسبة ضخم للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي يتميز بسعة أولية تبلغ 1 جيجاواط، وسيُقام هذا المشروع في مقر مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي الأمريكي الجديد في أبوظبي، الذي من المخطط أن تصل سعته الإجمالية إلى 5 جيجاواط. ومن المتوقع أن يسهم هذا المشروع الضخم في دفع عجلة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى عالمي، ويوفر القدرات الحاسوبية الضخمة اللازمة لتطوير ونشر حلول الذكاء الاصطناعي المتقدمة. الأطراف المشاركة وأدوارها: ستتولى شركة (جي 42) الإماراتية مسؤولية بناء مشروع (ستارجيت الإمارات) الضخم، في حين ستتولى شركتا (OpenAI) وأوراكل إدارة تشغيل المشروع. وستشارك شركة (سيسكو) بتوفير أنظمة الأمان ذات الثقة الصفرية (Zero Trust Security) وبنية الاتصال الداعمة للذكاء الاصطناعي، وستزود شركة إنفيديا المشروع بأحدث أنظمتها من طراز (Grace Blackwell GB200)، التي تُعدّ من أقوى حلول الحوسبة للذكاء الاصطناعي في العالم، لضمان أعلى مستويات الأداء. وتُسهم مجموعة سوفت بنك كشريك فاعل في المبادرة. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل أول تجمع حوسبي ضمن مشروع (ستارجيت الإمارات) بقدرة تبلغ 200 ميجاواط في عام 2026، مما يمثل خطوة أولى نحو تحقيق السعة الإجمالية المخطط لها التي تصل إلى 5 جيجاواط في مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي الأمريكي الجديد في أبوظبي. 'ستارجيت الإمارات'.. قاعدة متينة للذكاء الاصطناعي تدفع الاكتشافات والنمو الاقتصادي: يهدف مشروع (ستارجيت الإمارات) الطموح إلى توفير بنية تحتية متطورة وقدرات حوسبة فائقة على مستوى الدولة، مع التركيز في تقليل زمن معالجة البيانات بنحو كبير. وستمكّن هذه القدرات من تقديم حلول ذكاء اصطناعي تلبي المتطلبات المتزايدة لعالم يشهد نموًا متسارعًا في هذا المجال. كما يؤسس هذا المشروع قاعدة متينة للذكاء الاصطناعي، تتميز بقدرتها على التوسع والموثوقية العالية، ومن خلال هذه القاعدة، سيسرع المشروع من وتيرة الاكتشافات العلمية ويدفع عجلة الابتكار عبر العديد من القطاعات الحيوية، التي تشمل: الرعاية الصحية والطاقة والمالية والنقل. وستسهم هذه الأهداف في تعزيز النمو الاقتصادي المستقبلي والتنمية الوطنية لدولة الإمارات، مما يعزز مكانتها كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي والابتكار. شراكة إماراتية أمريكية لتسريع الذكاء الاصطناعي: يأتي مشروع (ستارجيت الإمارات) في إطار شراكة إستراتيجية جديدة بين حكومتي دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، تحت اسم (شراكة تسريع الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة ودولة الإمارات). وتهدف هذه الشراكة إلى تعزيز التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، لتطوير ذكاء اصطناعي آمن وموثوق ومسؤول يعود بفوائد طويلة الأمد على الإنسانية. وقد أُطلقت المرحلة الأولى من مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي الأمريكي في أبوظبي، الذي وُصف بأنه الأكبر من نوعه خارج الولايات المتحدة الأمريكية، والذي سيحتضن مشروع (ستارجيت الإمارات)، خلال زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للإمارات خلال شهر مايو الجاري. ويمتد هذا المجمع الجديد على مساحة تبلغ 10 أميال مربعة، مما يجعله أكبر منشأة من نوعها خارج الولايات المتحدة، وسيزوّد المجمع مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وموارد الحوسبة الإقليمية بقدرة تصل إلى 5 جيجاواط. كما سيعمل هذا المجمع باستخدام مزيج من الطاقة النووية، والطاقة الشمسية، والغاز الطبيعي لتقليل الانبعاثات الكربونية. وسيضم المجمع منتزهًا علميًا يهدف إلى تعزيز الابتكار، وتطوير المواهب، وبناء بنية تحتية مستدامة للحوسبة. وضمن هذا الإطار، ستقوم الجهات الإماراتية أيضًا بتوسيع استثماراتها في البنية التحتية الرقمية داخل الولايات المتحدة، من خلال مشاريع مثل (ستارجيت الولايات المتحدة)، تماشياً مع سياسة أمريكا أولًا للاستثمار. نقلة نوعية في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي: يمثل إطلاق مشروع (ستارجيت الإمارات) نقلة نوعية في مشهد الذكاء الاصطناعي لدولة الإمارات والمنطقة بأكملها، ويعكس طموح الإمارات المتزايد لتكون في طليعة الثورة الصناعية الرابعة. فمن خلال هذا المجمع العملاق والشراكة مع نخبة من شركات التكنولوجيا العالمية، لا تكتسب الإمارات قدرات حاسوبية ضخمة فحسب، بل ترسي أيضًا معايير جديدة للتعاون الدولي، والسيادة الرقمية، والتنمية المستدامة في مجال الذكاء الاصطناعي. كما سيُعزز هذا المشروع من قدرة الدولة على الابتكار، ودفع الاكتشافات العلمية، وتمكين التحول في قطاعات حيوية، مما يؤسس لمستقبل رقمي مزدهر ومسؤول يعود بالنفع على البشرية جمعاء.


صحيفة الخليج
منذ 21 ساعات
- صحيفة الخليج
الهندسة الرقمية.. الذكاء الاصطناعي وإعادة ترتيب موازين القوة
يبدو أن المشهد العالمي يشهد تغيراً في موازين القوة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، حيث تستخدم الشركات الكبرى الخوارزميات والبنى الرقمية لتوسيع سلطتها، وتفرض شروطها عبر احتكار البيانات واستثمار الموارد على نطاق واسع. ونجد أن عدداً محدوداً يتحكّم في توجيه هذه التكنولوجيا، ويعيد تعريف مفاهيم السيادة والمصلحة العامة. في هذا السياق، لا تُحدَّد مواقع القوة بالجغرافيا، بل بمن يمتلك البنية الرقمية. في كتابها (إمبراطورية الذكاء الاصطناعي: أحلام وكوابيس في شركة سام ألتمان «أوبن إيه آي»)، الصادر في مايو (أيار) 2025 عن دار «بينغوين برس»، تقدم الصحفية كارين هاو عرضاً موسّعاً ومفصّلاً لتاريخ وتحوّلات شركة (OpenAI)، التي تعدّ واحدة من أبرز الجهات الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير. ينتمي هذا العمل إلى حقل الصحافة الاستقصائية، ويعتمد على مصادر داخلية ومعايشة مباشرة لمسار الشركة منذ بدايتها حتى لحظة تحوّلها إلى لاعب مركزي في سباق تقني عالمي شديد التعقيد. يبدأ الكتاب من نقطة تأسيس هذه الشركة كمؤسسة غير ربحية، ترفع شعار «السلامة أولاً» في تطوير الذكاء الاصطناعي، بقيادة سام ألتمان. هذا الطموح الأخلاقي شكّل في البداية إطاراً لتصورات مثالية عن التقنية بوصفها أداة لإنقاذ العالم من المخاطر، لا العكس. لكن المؤلفة، التي بدأت تغطيتها للشركة عام 2019، ترصد كيف أخذت هذه المؤسسة، شيئاً فشيئاً، تنجرف نحو منطق السوق والربح والتوسع، مدفوعة برؤوس أموال ضخمة، أبرزها استثمارات مايكروسوفت، وما تفرضه من تسارع وتنافس لا يترك مجالاً للحياد أو التباطؤ. يُظهر الكتاب البنية الفعلية للصناعة التي باتت تهيمن على جزء كبير من المشهد العالمي. فخلف واجهة البرامج المتقدمة والواجهات اللغوية المبهرة، توجد شبكات هائلة من الموارد البشرية والمادية: مراكز بيانات تستهلك كميات هائلة من الطاقة والمياه، وعمال في دول الجنوب العالمي يُستخدمون في «تنظيف البيانات» لقاء أجور زهيدة. هذه الحقائق التي تنقلها هاو من تجارب مهندسين في وادي السيليكون، وعمال بيانات في كينيا، ونشطاء بيئيين في تشيلي، تشكل مكونات ما تسميه الكاتبة «إمبراطورية جديدة»، لا تستند إلى الاحتلال أو القوة العسكرية، بل إلى الخوارزميات والسيرفرات والبنى التحتية الرقمية. لا يُركّز الكتاب على الجانب التقني بقدر ما يحاول تفكيك البُعد السياسي والاجتماعي للذكاء الاصطناعي، فبدلاً من الانشغال بفكرة «الوعي الاصطناعي» أو «التهديد الوجودي»، تدعو هاو القارئ إلى التأمل في تبعات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وعلى البيئة، وعلى التفاوت في توزيع الثروات والمصادر. يتناول جزء مهم من الكتاب حدثاً دراماتيكياً هزّ مجتمع التكنولوجيا في 2023: إقالة سام ألتمان المفاجئة من منصبه، ثم عودته السريعة إلى قيادة «أوبن إيه آي»، تقدم هاو سرداً لما جرى خلف الكواليس، بناءً على مصادر داخل الشركة، وتستعرض كيف يعكس ذلك الحدث طبيعة السلطة داخل الشركات التقنية الكبرى، حيث تتقاطع المصالح التجارية مع الطموحات الشخصية والرؤى المتضاربة حول مستقبل التكنولوجيا. يشير الكتاب إلى أن الذكاء الاصطناعي أداة سياسية بامتياز، تُعاد من خلالها صياغة موازين القوى بين الدول والشركات والمجتمعات، ويظهر كيف أن البعد السياسي يتمثل في إظهار كيف أن امتلاك القدرة على تطوير النماذج اللغوية الضخمة، والتحكم في البنى التحتية الحاسوبية، وتحليل البيانات الهائلة، أصبح يعادل في أهميته امتلاك الموارد الطبيعية أو النفوذ العسكري، فالدول التي لا تمتلك شركات قادرة على المنافسة في هذا الميدان تجد نفسها في موقع التبعية، ويزداد اعتمادها على منصات وواجهات أجنبية تُملي عليها شروطها التقنية والثقافية والاقتصادية. إلى جانب ذلك، يعرض الكتاب كيف يتم تطويع اللغة الخطابية لشركات الذكاء الاصطناعي الكبرى لتبرير الهيمنة تحت غطاء «الابتكار» و«الصالح العام»، فالشركات التي تقود هذا القطاع تُروّج لخطابات تتحدث عن «حماية البشرية» و«منع التهديدات الوجودية»، لكنها في الوقت ذاته تُمارس ضغوطاً على الجهات التنظيمية، وتسعى إلى احتكار البيانات والنماذج، وتقاوم أحياناً الجهود الرامية إلى فرض الشفافية أو المساءلة. وهكذا، تتحول المخاوف الأخلاقية إلى أدوات لإعادة تشكيل السياسات العامة بما يخدم مصالح فئة محددة من الفاعلين الاقتصاديين.


البيان
منذ يوم واحد
- البيان
تجربة صادمة.. ماذا حدث عندما قادت الروبوتات شركة كاملة؟
في تجربة جريئة وغير مسبوقة، أجرى باحثون من جامعة كارنيغي ميلون الأمريكية محاكاة كاملة لشركة يديرها الذكاء الاصطناعي من الألف إلى الياء، دون أي تدخل بشري. الشركة الافتراضية التي حملت اسم TheAgentCompany صُممت لتكون بيئة عمل متكاملة، ضمت نظاما داخليا للاتصالات، ملفات إدارية، أدلة الموظفين، وأقساما افتراضية للموارد البشرية والدعم الفني. أما "الموظفون"، فكانوا وكلاء ذكاء اصطناعي متقدمين من تطوير شركات مثل OpenAI، وAnthropic، وGoogle، وMeta، وAmazon، وAlibaba. أداء مخيب للآمال على الرغم من الإمكانيات المتقدمة لهذه النماذج، كانت النتائج بعيدة عن التوقعات. فبحسب ما نقلته Business Insider، لم يتمكن أفضل الوكلاء أداءً، وهو Claude 3.5 Sonnet من شركة Anthropic، من إتمام سوى 24% من المهام المكلف بها بشكل كامل، وفقا لـ indiandefencereview. وارتفعت النسبة إلى 34.4% عند احتساب المهام المنجزة جزئيا. أما نموذج Google، Gemini 2.0 Flash، فلم ينجح سوى في 11.4%، فيما فشلت نماذج أخرى في تجاوز 10%. المهام التي كُلف بها الوكلاء شملت كتابة تقييمات الأداء، تحليل قواعد بيانات، واستعراض جولات افتراضية لمقار شركات، غير أن الوكلاء أخفقوا في تنفيذ حتى التعليمات البسيطة، مثل التعرف على صيغة ملفات مايكروسوفت وورد، أو التنقل ضمن مواقع إلكترونية وإغلاق النوافذ المنبثقة. أين الخلل الحقيقي؟ لم تقتصر الإخفاقات على الجانب التقني فحسب، بل ظهرت أيضا فجوات في الفهم والسلوك المنطقي. ففي موقف لافت، بدلاً من أن يبحث وكيل عن موظف في دليل الشركة الداخلي لطلب المساعدة، قام بإنشاء ملف جديد باسم الشخص المطلوب. وعلّق البروفيسور غراهام نوبيغ، أحد القائمين على الدراسة، قائلاً: "هذه النماذج قد تساعد في تسريع بعض المهام، لكنها لا تزال غير مؤهلة لتحمل المسؤولية الكاملة". وأضاف أن الأداء غالبا ما يبدأ بشكل واعد، لكنه يتدهور مع زيادة تعقيد المهمة بسبب ضعف قدرة وكلاء الذكاء الاصطناعي على المتابعة وتذكر السياق وإتمام الخطوات المتسلسلة. رغبة مستمرة ورغم هذا الأداء المحدود، تواصل كبرى الشركات إظهار اهتمام متزايد بالاعتماد على وكلاء الذكاء الاصطناعي، فقد كشف استطلاع أجرته Deloitte أن أكثر من ربع القيادات التنفيذية يدرسون إدماج هذه التقنية في أعمالهم، وبالفعل، بدأت شركات كبرى مثل Moody's وJohnson & Johnson استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية، ولكن مع رقابة بشرية مشددة. شركة Moody's، على سبيل المثال، تستخدم نماذج مدربة على بياناتها الخاصة الممتدة لعقود لتحسين التحليلات المالية، أما Johnson & Johnson، فتوظف أدوات ذكاء اصطناعي لتسريع عمليات المختبرات الكيميائية. وقال جيم سوينسون، رئيس قسم المعلومات بالشركة: "نرى هذه الأدوات كدعم قوي لموظفينا عندما نستخدمها بمسؤولية". الذكاء الاصطناعي بعيد عن الاستقلالية التجربة التي أجرتها جامعة كارنيغي ميلون تقدم رؤية واقعية لحالة الذكاء الاصطناعي في أماكن العمل، فرغم التقدم السريع في مجالات خدمة العملاء وتوليد الشيفرات، فإن الوكلاء لا يزالون يفتقرون إلى مهارات بشرية أساسية، مثل التكيف، التعاون، واتخاذ القرارات الحدسية. ويؤكد الباحث في معهد MIT، ستيفن كاسبر، أن "القدرات الحالية للنماذج مبالغ فيها إلى حد كبير"، موضحاً أن بناء نموذج يتحاور بذكاء أسهل بكثير من تدريبه على تنفيذ مهام حقيقية بدقة وفعالية. لقد كشفت TheAgentCompany، رغم كونها بيئة افتراضية، واقعاً لا يمكن إنكاره أن الذكاء الاصطناعي متقدم، لكنه لا يزال غير قادر على مجاراة الإنسان في إدارة العمل، حتى في أبسط تفاصيله.