
الصغيري يكتب: أما زال للسياسة من معنى؟
عندما تلبس السياسة شبحُ الحقد والكراهية
لم يسبق للسياسة أن ابتعدت عن الأخلاق بالدرجة التي عليها الآن، إذ أصبحنا نعيش أبشع تجليات الرداءة السياسية، حيث أصبح البعض يصر على انتاج الرداءة والتفاهة. ففي اليوم الأول من شهر مايو شَدَّ انتباهي وأنا أتابع احتفاليات عيد العمّال، عبر مختلف القنوات الفضائية وقنوات اليوتوب، قلت شد انتباهي زعيمين سياسيين، شاركا العمال احتفالاتهم، واحد بباريس والآخر بالدار البيضاء. فكان زعيم حركة 'فرنسا المتمرِّدة' ' France Insoumise' جون لوك ميلانشون بباريس، يستحضر نضالات الطبقة العامة في فرنسا والعالم، ويتحدث عن مفهوم العمل، وعن الأجور المستخدمة في إنتاج رأس المال، وعن الرأس المال البشري، وعن هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي؛ كما تحدث عن العنصرية، وعن الاسلاموفوبيا بفرنسا، وتحدث كذلك عن فلسطين وعن معاناة غزة. وطالب بتحسين أوضاع العمال ورفع أجورهم والحد من غلاء الأسعار. وفي نهاية كلمته طالب من الحضور بإنشاد 'نشيد الأممية'.
وفي نفس الوقت كان زعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران بالدار البيضاء يهذي ويرغي ويزبد، ويلعن ويسب ويشتم، في خطاب أقل ما يقال عنه أنه خطاب في غاية البؤس والتعاسة الباعثة على الغثيان؛ خطاب مهووس بأشباح وأطياف قسوة الشر والحقد والكراهية. فوجدت نفسي بين زعيمين سياسيين، قاسمهما المشترك أنهما ولدا في المغرب، فواحد بباريس يحلل ويشرح، والأخر بالدار البيضاء يسب ويشتم ويلعن فتحول الى سياسي حاقد منتقم، يعاني من عقدة، عنوانها الهزيمة، فعندما يُهزم السياسي الحاقد، تسيطر عليه الأنانية والحقد والكراهية، فيتجرد من مبادئه وقيمه وأخلاقه ليتحول إلى سياسي حاقد، محاولا بشتى الطرق تحويل الفعل السياسي إلى حقد سياسي، وجاعلا من هذا الحقد المؤطر الرئيسي للعملية السياسية، وهو الدافع المحفز لكل الأفعال؛ مستعملا كل الحسابات التكتيكية والمناورات من أجل 'تدمير وجود خصمه السياسي'، وهذا ما يتعارض مع الأخلاق والقيم السياسية. لا أدري لماذا كل هذا الحقد والكره؟ ولا أدري لماذا أصبحنا نُصِّر على الحقد والرداءة؟! فعندما نهدف الى الرداءة، فهي التي ستصل إلينا وتحتوينا. إننا بالفعل نعيش زمن الرداءة وللرداءة أهلها، زمن ارتفع فيه نسق خطاب الكراهية والحقد. زمن تمت فيه اغتال الثقة بين الفاعل السياسي والمواطن، زمن يتم فيه محاولة هدم المؤسسات وشيطنتها. إنه العبث السياسي الذي قد يؤدي إلى هدم الثقة في المؤسسات.
فالبعد الصراعي في السياسة هو محتمل في أي مجتمع، كما يشير إلى ذلك ' كارل شميت'، الا أن الشيء الذي يجب أن نميزه في الممارسة السياسية الهادفة، هو إقامة نظام سياسي مبني على التعايش الإنساني واحترام الآخر في شروط دائماً صراعية، وهو الأمر الذي أطلقت عليه 'شنتال موف' بــــ''الديمقراطية الصراعية'، يجب على الديمقراطية أن تملك طابعاً جدلياً صراعياً، أي أن تتوفر إمكانية الاختيار بين مشاريع مختلفة، فالصراع السياسي ضروري لحياة ديمقراطية قوية حيث يوجد رهان سياسي في المجتمعات الديمقراطية يرتبط أساسا بتقنين العداوة في صراع سياسي داخل علاقات إنسانية؛ في إطار التعددية والديموقراطية التي تفترض النظر الى الآخرين ليس باعتبارهم أعداء وإنما خصوم؛ وهكذا يمكننا القول بان غاية السياسة الديمقراطية هو تحويل الصراع بين الأعداء إلى صراع بين الخصوم؛ والخصوم يتواجهون لأنهم يتنافسون على البرامج والأفكار. وهنا تستحضرني قولة مارسيل موس: 'يجب على الأفراد أن يعرفوا كيف يعارضون دون أن يدمروا بعضهم البعض'.
أما زال للسياسة من معنى؟ وهل ما زالت السياسية مُغرية؟
لقد افترقت السياسة عن الأخلاق في الممارسة والواقع الميداني كثيرًا حتى أصبحا نقيضين، فأضحى العمل السياسي فعلًا لا أخلاقيًّا؛ فما يشهده الواقع السياسي الراهن من ممارسات سياسية لا أخلاقية، حتى أضحت العبارة القائلة 'لا أخلاق في السياسة ولا سياسة في الأخلاق' هي بحق الحاكمة للممارسة السياسية اليومية متجسدة في صورٍ وواقع في غاية البشاعة. سقط الفاعل السياسي في مستنقع الصراعات الهامشية والشخصية، مما يدل بالواضح والملموس على أن الفاعل السياسي لم يتطور في سقف تفكيره السياسي. فما وقع في احتفالات فاتح ماي بالدار البيضاء، يعتبر آفة سياسية يتمثل في تمييع الحياة السياسية بمختلف مظاهرها، وتمييع العمل الحزبي. إنه العبث السياسي الذي قد يؤدي إلى هدم الثقة في دور الفاعل السياسي. وأمام هذا النوع من الممارسات، وأمام هذه الطينة من الفاعلين السياسيين، من السهل جداً اغتيال الفعل السياسي، وتعطيل الزمن السياسي، وتجريد الفعل السياسي من أي محتوى فكري أو ايديولوجي.
والمقلق أكثر هو أن منظومتنا السياسية والأخلاقية بدأت تتعرض للانهيار، وذلك بانهيار الركن الأخلاقي في السلوك السياسي، وأصبح التعبير عن الخلاف السياسي لا يخضع لأية ضوابط أخلاقية. إن الفاعل السياسي يتحمل المسؤولية التاريخية ل 'موت الأحزاب السياسية'، باختياراته وممارساته. فالفاعل السياسي مسؤول عن هذا الاغتيال من خلال اختياراته التي يمارس بها الفعل السياسي. فعندما يكون هذا الاختيار مبني فقط على الحقد والكراهية؛ والسعي وراء تدمير خصمه السياسي بأي ثمن، يكون قد ساهم في الانحطاط الدراماتيكي للعمل الحزبي.
خلاصة القول إن ارتباط السياسة بالأخلاق كان ولا يزال منذ القدم، والنضال السياسي هو قيمة أخلاقية بحد ذاته، لذا أعتقد أن ممارسة الفعل السياسي في أي مجتمع كان، لا يمكن أن تخرج عن دائرة الأخلاق التي تحكم ذلك المجتمع، وإن حدث العكس فسنكون قد أعلنا عن موت الفعل السياسي.
يحي الصغيري: أستاذ علم الاجتماع السياسي
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 21 ساعات
- أخبارنا
بنكيران يتراجع ويعتذر لماكرون بعد نعته بـ"المدلول"!
في مشهد أثار الكثير من علامات الاستفهام، عاد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ليعتذر للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد أن كان قد وصفه في وقت سابق بـ"المدلول" خلال كلمة أثارت جدلاً واسعاً في الساحة السياسية والإعلامية. الاعتذار جاء هذه المرة من منصة حزبية، وتحديداً خلال حفل تكريم من ساهموا في إنجاح المؤتمر الوطني التاسع للبيجيدي، حيث حاول بنكيران تصحيح مسار تصريحاته السابقة التي لم تمر مرور الكرام. وبنبرة تصالحية، وجه رئيس الحكومة الأسبق رسائل لماكرون، داعياً إياه إلى اللحاق بركب الدول التي بدأت تعترف بدولة فلسطين، وقال بالحرف: "آسي ماكرون، إلا هداك الله، قم بهذه الخطوة باش يكون فمسارك شي حاجة إيجابية"، ثم استدرك مضيفاً: "سمح ليا، لا انت ولا شي أنصار ديالك، هاد الكلام ما فيه حتى شي إساءة... حنا تنحتارموك وتنحتارمو بلادك، وقلنا هاد الشي ملي كنت هنا فالبرلمان وكنعاودوه ليك دابا". ولم يفوت بنكيران الفرصة ليُذكر الرئيس الفرنسي بتاريخ بلاده في الدفاع عن حقوق الإنسان، مستحضراً اسم الجنرال شارل دوغول، الذي وصفه بأنه كان يدافع عن هذه الحقوق رغم مواقف فرنسا من إسرائيل آنذاك، قائلاً لماكرون: "كنتِ قلتِ بغيتي تعترف، فافعل يرحمك الله!". هذا الاعتذار يأتي بعد الضجة التي أحدثها بنكيران في تجمع نقابي كبير بالدار البيضاء، بمناسبة عيد العمال، حين هاجم ماكرون ووصفه بـ"المدلول"، بسبب ما اعتبره مواقف غير منصفة من القضية الفلسطينية، الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة، خصوصاً أن التصريحات صدرت عن شخصية ذات وزن سياسي في المغرب.


كش 24
منذ 3 أيام
- كش 24
بنكيران: الحكومة سقطت في أعين الناس والمواطنين
كشف عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، أن رئيس الحكومة عزيز أخنوش انتهى سياسيا، مؤكدا "إننا لا نحتاج إلى ملتمس الرقابة لإسقاط هذه الحكومة، لأنها سقطت بالفعل في أعين الناس والمواطنين". ونقل الموقع الرسمي للحزب عن بنكيران قوله خلال كلمته في حفل تكريم أعضاء اللجنة التحضيرية واللجان التنظيمية والإدارة المركزية والفريق الإعلامي، أمس، بالمقر المركزي للحزب بالرباط، "لا ترهبكم أمواله، ولا مساندة بعض رجال السلطة". وأكد أن الحزب متوكل على الله، ويستعد لخوض الاستحقاقات المقبلة بثقة وعزيمة، مضيفاً: "من أراد مساندتنا سنخوض الحملة المقبلة لكي ننتصر إن شاء الله، وليس لتكون عندنا مواقع أو امتيازات .. ولكن لأن بلدنا في حاجة إلينا". وأضاف: "نقول للمواطنين وللشعب المغربي ولجلالة الملك إننا سنخدم بلادنا".


الجريدة 24
منذ 4 أيام
- الجريدة 24
بنكيران يتهم أخنوش بإفشال ملتمس الرقابة عبر المال
في تصعيد جديد على مستوى الخطاب السياسي بين المعارضة والحكومة، وجّه عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، اتهامات مباشرة إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش، معتبرًا أن الأخير "انتهى سياسيًا"، ومشككًا في نزاهة مسار إسقاط الحكومة من خلال ملتمس الرقابة الذي كانت تعد له المعارضة داخل البرلمان. وجاءت كلمة بنكيران خلال لقاء حزبي نظمته الأمانة العامة لحزبه اليوم السبت بالمقر المركزي للحزب بالرباط، حيث بدا الأمين العام للبيجيدي في موقف هجومي صريح تجاه رئيس الحكومة، الذي قال إنه "لا يملك غير المال"، مضيفًا بعبارة لافتة: "غير مستبعد أنه أفشل ملتمس الرقابة بالمال"، في إشارة واضحة إلى اتهام مباشر باستخدام النفوذ المالي للتأثير على مواقف الفرق النيابية وإفشال مبادرات المعارضة. وجاءت كلمة بنكيران في وقت حساس سياسيا، بعدما أعلن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تعليق التنسيق مع باقي مكونات المعارضة بخصوص مبادرة ملتمس الرقابة، وهو ما فاجأ أطراف المعارضة التي عبّرت عن استنكارها لهذا القرار واعتبرته تراجعًا غير مبرر، في وقت كانت فيه المشاورات بلغت مراحل متقدمة نحو تقديم الملتمس داخل البرلمان. وفي ذات السياق، أشار بنكيران إلى أن سقوط ملتمس الرقابة، سواء تحقق أم لا، لا يُغير من حقيقة أن الحكومة الحالية في نظره "سقطت بالفعل"، مضيفًا أن استمرارها في تدبير الشأن العام ليس سوى نتيجة "حبل من الله أو حبل من الناس"، في تعبير يحمل طابعًا نقديًا لاذعًا تجاه أداء الحكومة وطريقة استمرارها في موقعها. ولم يتردد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في توجيه رسائل واضحة إلى أنصاره، دعاهم فيها إلى عدم الخوف من رئيس الحكومة أو من داعميه، مشيرًا إلى ما اعتبره دلائل ميدانية على استعمال المال السياسي، حيث قال: "لدينا الدليل، على الأقل في جماعة الدخيسة، بأن أحدهم قدم الدعم له"، في إشارة إلى شبهة تقديم دعم غير مشروع لترجيح كفة مرشحي حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقوده أخنوش. في المقابل، جاء رد الفريق الاشتراكي في البرلمان أكثر حدة، إذ حمّل بلاغ رسمي له بعض مكونات المعارضة مسؤولية ما أسماه "غياب الإرادة الصادقة" في تفعيل ملتمس الرقابة، معتبرًا أن بعض الأطراف داخل المعارضة كانت تسعى لإفشال المبادرة منذ بدايتها، من خلال جر النقاش إلى مواضيع جانبية وتفاصيل تقنية لا علاقة لها بروح الملتمس ولا الأعراف البرلمانية المتعارف عليها. البلاغ ذاته لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب إلى اتهام صريح لبعض الفاعلين داخل المعارضة بالانخراط في ما سماه "تشويشًا إعلاميًا متعمدًا" و"تضليلًا للرأي العام"، واعتبر أن الحسابات السياسوية الضيقة تغلبت في نهاية المطاف على ما وصفه بـ"التمرين الديمقراطي النبيل"، في إشارة إلى فقدان التوافق السياسي الذي كان يمكن أن يؤدي إلى قلب الموازين داخل المؤسسة التشريعية. هذه التطورات تعكس بوضوح عمق التصدعات التي تطال صفوف المعارضة، وتثير تساؤلات حقيقية حول مستقبل التنسيق بين مكوناتها، خاصة في ظل تباين الرؤى والمقاربات بشأن أدوات الضغط السياسي والتشريعي، ومدى جدوى التلويح بملتمسات الرقابة في ظل ميزان القوى الحالي داخل البرلمان. في الوقت نفسه، فتحت تصريحات بنكيران الجدل من جديد حول دور المال في السياسة، ومدى تأثيره على استقلالية القرار البرلماني، وهي نقطة طالما شكّلت أحد أبرز محاور الانتقاد الموجهة إلى الحكومة من طرف خصومها السياسيين.